محمد الربيعة
New member
- إنضم
- 18/04/2003
- المشاركات
- 116
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
تأصيل علم مقاصد السور ، وأدلته من الكتاب والسنة وأقوال السلف.
العلم بمقاصد السور لم ينص عليه الأوائل، وإنما اعتبره الصحابة والتابعون –بالاستقراء والممارسة في تفسيرهم ، ولم يُنص على هذا العلم بهذا الاسم إلا عند المتأخرين، وذلك شأن جميع العلوم، فإن العلوم كانت ممارسة عند السلف، ولكن التسمية جاءت متأخرة ، فعلم النحو مثلاً كان ممارسا ولم يكون موجودا ، وعلم البلاغة كان ممارساً ولم يكن موجوداً ، وهكذا في علوم القرآن في أنحاء شتى، ومصطلح الحديث وعلوم أخرى.
قال البقاعي في كتابه مصاعد النظر مؤكداً ذلك : " وقد كان أفاضل السلف يعرفون هذا ، بما في سليقتهم من أفانين العربية ، ودقيق منهاج الفكر البشرية ، ولطيف أساليب النوازع العقلية ، ثم تناقص العلم حتى انعجم على الناس ، وصار حد الغرابة كغيره من الفنون " ([1]) .
وبالتأمل في الكتاب والسنة وتفاسير السلف والآثار الواردة عنهم نجد أصل هذا العلم ظاهراً:
فبالتأمل في القرآن نجد ما يدل على هذا العلم من وجوه :
أولاً : بناء القرآن على مقاصد عامة ترجع إليها جميع معاني سوره وآياته .
إذا كان القرآن مبنياً على مقاصد أساسية ، ترجع سوره وآياته إليه ، فلابد أن تكون هذه السورة هادية إلى هذه المقاصد ، ودالة عليها ، وإذا كان كذلك فلابد أن يكون لكل سورة جهة مخصوصة في الدلالة على المقصد الأساسي ، فهذا دليل واضح على اختصاص كل سورة بمقصد معين .
قال الغزالي : " وسر الكتاب حاصل في دعوة العباد إلى ربهم المعبود ، ولذلك انحصرت سوره في ستة أنواع : ثلاثة مهمة : تناولت معرفة الله تعالى ، ومعرفة الصراط ، والمآل ، وثلاثة متمة : تناولت أحوال الأولياء والأعداء وسبل الطاعة " ([2]) .
ثانياً : تقسيم القرآن إلى سور وآيات
لاشك أن لتقسيم القرآن على السور والآيات دلالة ظاهرة على مقاصد السور ، و تقسيم القرآن إلى سور محددة كل سورة تتميز باسمها وافتتاحيتها ومضمونها دال على انتظامها على مقصد مخصوص تهدي إليه جميع آياتها.
قال صاحب الكشاف في فوائد تفصيل القرآن وتقطيعه سورا : " فإن قلت : ما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً؟ قلت : ليست الفائدة في ذلك واحدة ... ومنها : أن التفصيل بحسب تلاحق الأشكال والنظائر ، وملائمة بعضها لبعض ، وبذلك تتلاحق المعاني والنظم "([3]).
كما أن تعريف السورة بهذه الكلمة (سورة) يعني أنها بمثابة سور يحيط بموضوع معين ، وهذا يعني أن كل سورة ذات محور يدور حوله موضوعها أو مواضيعها ([4]) .
ويؤكد ذلك البقاعي فيقول : " السورة : تمام جملة من المسموع يحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة " ([5]) .
ويقول ابن عاشور : " السورة قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية ، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة " ([6]) .
ويؤكد انتظام السورة على مقصد معين يجمع آياتها ومعانيها أن الله تعالى قد تحدى العرب بسور القرآن في ثلاثة مواضع ، ولولا أن هذه السورة مبنية بناء محكماً في لفظها ومعناها لما نص عليها في التحدي ، فهذا التحدي دال على كمال هذه السورة من جميع الوجوه ، ومن أعظمها انتظامها في مقصد واحد مع تفاوت موضوعاتها وقصصها . ولا يقل انتظمها من جهة المعنى عن انتظامها من جهة اللفظ ، بل هما متلازمان إذ أن بناء اللفظ في الكلام مبني على المعنى .
قال ابن عاشور : " وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن ؛ لأن من جملة وجوه الإعجاز أموراً لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض ،وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة ، فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض ، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام " ([7]) .
وقال الدكتور زياد خليل : " وقد ظهر اليوم بُعد جديد للتحدي بسورة من مثله ، إذ لا يتوقف ذلك على مجرد دقّة النظم في السورة من جزالة في أسلوبها وفصاحة في ألفاظها وجمال في تركيبها ، بل كذلك في وحدة موضوعها " ([8]) .
ثالثاً : أن هذا القرآن أنزل محكماً.
من أعظم دلائل مقاصد السور أن كتاب الله محكم كما قال تعالى : ﭽ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﭼ [ هود : 1] . قال ابن كثير : " أما قوله: { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } أي: هي محكمة في لفظها، مفصلة في معناها، فهو كامل صورة ومعنى. هذا معنى ما روي عن مجاهد، وقتادة، واختاره ابن جرير" ([9]) ..
ولا شك أن من إحكامه تقسيمه على هذه السور والآيات ، وهذه السور على معاني ومباني منتظمة ، فهو كالكون في نظامه وانتظامه ، وكل شيء في الكون له حكمة أرادها الله . والقرآن أعظم إحكاماً من الكون ، كيف وهو كلام الله تعالى الحكيم الخبير .
رابعاً : ظهور الفرق بين السور المكية والمدنية
من أعظم دلائل مقاصد السور ، أن كل مرحلة من المرحلتين المكية والمدنية ، تميزت بمقاصد معينة ، وظهر الفرق بين سورهما ، مما يدل دلالة ظاهرة على أن للسور خاصة في المعنى ، وإذا كانت السور المكية مختلفة في مقاصدها عن السور المدنية ، فإن هذا يؤكد تميز كل سورة بمقصد معين .
قال د. زياد خليل :" ولو تعمقنا في النظر في آيات كل سورة مكية ، ودرسنا آياتها على ضوء واقع التنزيل ، والظروف التي مرت بها الحركة الدعوية في مكة ، لوجدنا كل سورة متميزة عن غيرها ، وإن تكررت موضوعات العقيدة فيها " ([10]) .
خامساً : نزول القرآن حسب الأحوال والأحداث .
كان نزول القرآن منجماً حسب ما تقتضيه الحوادث والنوازل وما يتناسب مع الظروف والأحوال ، وما يتواكب مع المراحل التي مرت بها الدعوة ، ثم جاء ترتيبه في المصحف حسب ماكان في اللوح المحفوظ ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه آية أو آيات قال : (( ضعوا هذه الآية في مكان كذا من سورة كذا)) ([11]) .
وهذا دليل ظاهر على مقاصد السور من حيث أن هذا التنجيم كان لحكم عظيمة منها أن تنزل السور أو الآيات لغرض معين حسب ما يقتضيه الحدث والحال ، وهذا مؤكد لتضمن السور للمقاصد . ويشهد لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة بوضع الآية أو الآيات في الموضع الخاص بها من السورة ، وما ذلك إلا دليل على انتظام المعاني في السورة وبنائها على مقصد واحد .
سادساً : تسمية السور .
من أعظم الدلائل على مقاصد السور وضع أسماء للسور بما يرمز لمعانيها الدالة على المقصد منها . وأسماء السور توقيفية على قول الجمهور . قال السيوطي في الإتقان : " ثبت أن جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار " ([12]) .
وقد أبان هذا الأمر البقاعي بالتجربة فقال : " وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل السورة مترجم عن مقصودها ، لأن اسم كل شيء تظهر المناسبة بينه وبين مسماه الدال إجمالاً على تفصيل ما فيه" ([13]) .
وإن كنّا لا نستطيع الجزم بأن كل سورة دالة على مقصودها ، إلا أننا نستطيع بالتأمل في غالب السور أن نجد العلاقة بين الاسم والمضمون .
ويؤكد ذلك جلياً تسمية بعض السور :
انظر مثلاً سورة الفاتحة فقد سميت بأم القرآن ، وأم الكتاب و الأساس ، وكل هذه التسميات دالة على معنى واحد وهو أنها تضمنت مقاصد القرآن كله ، فهي أساسه .
وانظراً أيضاً إلى سورة الإخلاص ، فإنه لم يرد لفظ الإخلاص فيها ، سوى أن آياتها تدل عليه ، فهو إذاً مقصدها . والمقصد حقيقة هو ما تهدي إليه معاني السورة وترجع إليه .
فنجد أن أسماء السورتين دال على مقصدها ومضمونها ، وهكذا .
إشكال وجوابه :
قد يرد على هذا الدليل إشكال وهو تعدد أسماء السورة الواحدة ، وهذا يعارض كونه دالاً على المقصد . والجواب على هذا من وجهين :
أولاً : أنه إذا كانت الأسماء الواردة في السورة توقيفية فإنها تدل على تضمن السورة لعدة أغراض ، فمثلاً سورة الفاتحة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تسميتها ( فاتحة الكتاب وهو أشهرها ، وأم الكتاب وأم القرآن ، السبع المثاني ، والقرآن العظيم ، الحمد ، الصلاة )
وبالتـأمل نجد أن كل اسم دال على غرض من أغراضها ، وإنما اشتملت على عدة أغراض لكونها أعظم سورة من القرآن .
وبالنظر والتأمل الثاقب في هذه الأسماء جميعاً نجد أنه يجمعها غرض واحد هو وصف الله بالكمال المطلق الموجب للتوجه إليه بالعبادة والسؤال ، وهذا الغرض دال على جميع الأسماء ، فإن هذا هو سر كونها جمعت مقاصد القرآن كله إذ أن جميعه راجع إلى تحقيق العبودية لله .
ثانياً : أنه إذا كانت الأسماء المتعددة في السورة مروية عن السلف ، فإنها قد تكون دالة على الغرض من جهة ، أو تكون دالة على لفظ أو معنى وارد في السورة .
فمثلاً سورة الفاتحة وورد عن السلف والمفسرين في تسميتها غير ماثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أسماء منها ( الرقية ، والشفاء والشافية ، والأساس ، والوافية ، الكافية ، والكنز ،والشكر ، الثناء ، التفويض ، الدعاء ، النور ، تعليم المسألة ، السؤال ) ([14]) .
وهذه الأسماء إما أنها مستدل بها من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لها ، أو أنها مأخوذة من المعاني التي تدل عليها السورة وهي دالة على الغرض .
وحين نتأمل في هذه الأسماء نجدها كلها راجعة إلى مضمونها وغرضها وهو إثبات الحمد لله الذي هو الإحاطة بصفات الكمال ، والشكر الذي هو تعظيم المنعم ، وهي عين الدعاء فإنّه التوجه إلى المدعو أعظم توجه وأعظم مجامعها الصلاة. فهي وصف لله بالكمال المطلق الموجب لاختصاصه بالعبودية والسؤال .
ومثله أيضاً سورة الكافرون ، فإنها سميت بالكافرون ، وسميت بالمقشقشة ، والإخلاص . وبالتأمل في الرابط بين هذه الأسماء نجد أنها راجعة إلى غرض واحد وهو تحقيق التوحيد العملي ، والبراءة من الشرك .
إشكال آخر وجوابه
قد يرد على هذا الدليل أيضاً إشكال آخر ، وهو تسمية بعض السور بأسماء الأنبياء أو القصص التي وردت فيها مع تضمنها لأسماء أنبياء آخرين أو قصص أخرى ، مثل سورة يونس وهود .
والجواب على هذا ظاهر من وجهين:
أولاً : أن تكون تسميتها من باب أن هذه السورة انفردت بهذا الاسم أو القصة أو الحرف ، أو تكرر ذكره فيها . كالبقرة ، ويونس ، وهو د ، و ق ، وص . وهذا لا ينافي المناسبة بين الاسم والمضمون ، بل إن مراعاة المضمون أولى من مراعاة مجرد الذكر أو التكرار .
ثانياً : أنه يمكن بالتأمل الثاقب أن نجد مناسبة ظاهرة بين الاسم والغرض .
فالبقرة وإن كانت القصة لم تذكر في غير هذه السورة ، إلا إننا نجد سبباً أعظم دلالة من هذا السبب ، ألا وهو كون القصة دالة على حال بني إسرائيل مع أوامر الله تعالى وتعنتهم وتشددهم وتمنعهم من تلقي أمر الله تعالى ، وهذا في غاية المناسبة لسورة البقرة التي تضمنت تربية المؤمنين على تلقي شريعة الله تعالى ولذلك تضمنت السورة كليات الشريعة وأصولها، فكأن الاسم شعار للمؤمنين ليحذروا من التشبه بأصحاب البقرة
قال الزركشي : " : وتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها ، وعجيب الحكمة فيها " ([15]) . .
وفي سورة يونس نجد أن السورة تركز على الموعظة والدعوة بالترغيب ولذلك افتتحت بالتذكير بآيات الله تعالى وحال المكذبين بها ، وتخلل ذلك عرض للطف الله تعالى بأوليائه ، وعباده المؤمنين والتائبين ، وتضمنت الموعظة بالقرآن كما قال تعالى { ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} [ يونس : 57] ، ولذلك تضمنت قصة قوم يونس الذين آمنوا بعد ما دعاهم يونس وهددهم بالعذاب فكشف الله عنهم العذاب ، فهذه القصة هي النموذج الإيجابي للغرض الذي تركز عليه السورة.
أما سورة هود فإنها تركز على الدعوة بالترهيب ، ولذلك جاءت آياتها متضمنة للوعيد والتغليظ والتهديد كما في قوله : { [هو د: 2] وقوله : { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } إلى قوله { وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } [ هو: 3-4] ، وأشدّه ما ظهر في قصة قوم هود حين قال الله تعالى { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود } [ هود : 59-60] ولم يعذب الله تعالى قوماً أشد من عذاب قوم هود . ويؤكد هذا الغرض قوله صلى الله عليه وسلم : ((شيبتنى هود وأخواتها)) ([16]) .
وأما سورة ق وص فإنهما أكثر الحروف تكرراً في السورتين ، وبالتأمل في علاقة هذه الحروف بموضونهما نجد ذلك ظاهراً فسورة ص أكثر ماورد فيها الخصومات ، وسورة ق تكرر فيها لفظ القرآن والحق والقلب مرتين ، وبينهما علاقة في بيان الحق بالقرآن لمن كان له قلب .
فظهر بذلك جليلاً أن لاسم السورة أثر في مضمونها وغرضها . لكن ذلك يحتاج لتأمل دقيق ، وبصيرة نافذة . والله أعلم .
--------------------------------------------------------------------------------
([1])(( مصاعد النظر)) (ص154) .
([2])(( جواهر القرآن)) (ص17).
([3])(( الكشاف)) (1/58).
([4])(( بيان النظم في القرآن الكريم )) (ص10).
([5])((نظم الدرر)) (1/62).
([6])(( التحرير والتنوير)) (1/162).
([7]) المصدر السابق (1/163).
([8])(( منهجية البحث في التفسير الموضوعي)) (115).
([9])(( تفسير ابن كثير)) ( 4/303).
([10])(( منهجية البحث في التفسير الموضوعي )) (102 ).
([11]) رواه أحمد في المسند 1/57، وأبو داود 1/268ح786 ، والترمذي 5/272ح3086.
([12]) (( الإتقان في علوم القرآن )) (1/52 ) .
([13])(( نظم الدرر )) (1/142 ).
([14])(( أسماء القرآن الكريم )) (ص147).
([15])(( البرهان في علوم القرآن)) (1/270).
([16]) أخرجه الطبرانى في المعجم الكبير 5/427رقم 5672، أبو يعلى 2/355رقم 845 قال الهيثمى (7/37) : رجاله رجال الصحيح .
العلم بمقاصد السور لم ينص عليه الأوائل، وإنما اعتبره الصحابة والتابعون –بالاستقراء والممارسة في تفسيرهم ، ولم يُنص على هذا العلم بهذا الاسم إلا عند المتأخرين، وذلك شأن جميع العلوم، فإن العلوم كانت ممارسة عند السلف، ولكن التسمية جاءت متأخرة ، فعلم النحو مثلاً كان ممارسا ولم يكون موجودا ، وعلم البلاغة كان ممارساً ولم يكن موجوداً ، وهكذا في علوم القرآن في أنحاء شتى، ومصطلح الحديث وعلوم أخرى.
قال البقاعي في كتابه مصاعد النظر مؤكداً ذلك : " وقد كان أفاضل السلف يعرفون هذا ، بما في سليقتهم من أفانين العربية ، ودقيق منهاج الفكر البشرية ، ولطيف أساليب النوازع العقلية ، ثم تناقص العلم حتى انعجم على الناس ، وصار حد الغرابة كغيره من الفنون " ([1]) .
وبالتأمل في الكتاب والسنة وتفاسير السلف والآثار الواردة عنهم نجد أصل هذا العلم ظاهراً:
فبالتأمل في القرآن نجد ما يدل على هذا العلم من وجوه :
أولاً : بناء القرآن على مقاصد عامة ترجع إليها جميع معاني سوره وآياته .
إذا كان القرآن مبنياً على مقاصد أساسية ، ترجع سوره وآياته إليه ، فلابد أن تكون هذه السورة هادية إلى هذه المقاصد ، ودالة عليها ، وإذا كان كذلك فلابد أن يكون لكل سورة جهة مخصوصة في الدلالة على المقصد الأساسي ، فهذا دليل واضح على اختصاص كل سورة بمقصد معين .
قال الغزالي : " وسر الكتاب حاصل في دعوة العباد إلى ربهم المعبود ، ولذلك انحصرت سوره في ستة أنواع : ثلاثة مهمة : تناولت معرفة الله تعالى ، ومعرفة الصراط ، والمآل ، وثلاثة متمة : تناولت أحوال الأولياء والأعداء وسبل الطاعة " ([2]) .
ثانياً : تقسيم القرآن إلى سور وآيات
لاشك أن لتقسيم القرآن على السور والآيات دلالة ظاهرة على مقاصد السور ، و تقسيم القرآن إلى سور محددة كل سورة تتميز باسمها وافتتاحيتها ومضمونها دال على انتظامها على مقصد مخصوص تهدي إليه جميع آياتها.
قال صاحب الكشاف في فوائد تفصيل القرآن وتقطيعه سورا : " فإن قلت : ما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً؟ قلت : ليست الفائدة في ذلك واحدة ... ومنها : أن التفصيل بحسب تلاحق الأشكال والنظائر ، وملائمة بعضها لبعض ، وبذلك تتلاحق المعاني والنظم "([3]).
كما أن تعريف السورة بهذه الكلمة (سورة) يعني أنها بمثابة سور يحيط بموضوع معين ، وهذا يعني أن كل سورة ذات محور يدور حوله موضوعها أو مواضيعها ([4]) .
ويؤكد ذلك البقاعي فيقول : " السورة : تمام جملة من المسموع يحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة " ([5]) .
ويقول ابن عاشور : " السورة قطعة من القرآن معينة بمبدأ ونهاية ، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة " ([6]) .
ويؤكد انتظام السورة على مقصد معين يجمع آياتها ومعانيها أن الله تعالى قد تحدى العرب بسور القرآن في ثلاثة مواضع ، ولولا أن هذه السورة مبنية بناء محكماً في لفظها ومعناها لما نص عليها في التحدي ، فهذا التحدي دال على كمال هذه السورة من جميع الوجوه ، ومن أعظمها انتظامها في مقصد واحد مع تفاوت موضوعاتها وقصصها . ولا يقل انتظمها من جهة المعنى عن انتظامها من جهة اللفظ ، بل هما متلازمان إذ أن بناء اللفظ في الكلام مبني على المعنى .
قال ابن عاشور : " وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن ؛ لأن من جملة وجوه الإعجاز أموراً لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض ،وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة ، فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض ، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام " ([7]) .
وقال الدكتور زياد خليل : " وقد ظهر اليوم بُعد جديد للتحدي بسورة من مثله ، إذ لا يتوقف ذلك على مجرد دقّة النظم في السورة من جزالة في أسلوبها وفصاحة في ألفاظها وجمال في تركيبها ، بل كذلك في وحدة موضوعها " ([8]) .
ثالثاً : أن هذا القرآن أنزل محكماً.
من أعظم دلائل مقاصد السور أن كتاب الله محكم كما قال تعالى : ﭽ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﭼ [ هود : 1] . قال ابن كثير : " أما قوله: { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } أي: هي محكمة في لفظها، مفصلة في معناها، فهو كامل صورة ومعنى. هذا معنى ما روي عن مجاهد، وقتادة، واختاره ابن جرير" ([9]) ..
ولا شك أن من إحكامه تقسيمه على هذه السور والآيات ، وهذه السور على معاني ومباني منتظمة ، فهو كالكون في نظامه وانتظامه ، وكل شيء في الكون له حكمة أرادها الله . والقرآن أعظم إحكاماً من الكون ، كيف وهو كلام الله تعالى الحكيم الخبير .
رابعاً : ظهور الفرق بين السور المكية والمدنية
من أعظم دلائل مقاصد السور ، أن كل مرحلة من المرحلتين المكية والمدنية ، تميزت بمقاصد معينة ، وظهر الفرق بين سورهما ، مما يدل دلالة ظاهرة على أن للسور خاصة في المعنى ، وإذا كانت السور المكية مختلفة في مقاصدها عن السور المدنية ، فإن هذا يؤكد تميز كل سورة بمقصد معين .
قال د. زياد خليل :" ولو تعمقنا في النظر في آيات كل سورة مكية ، ودرسنا آياتها على ضوء واقع التنزيل ، والظروف التي مرت بها الحركة الدعوية في مكة ، لوجدنا كل سورة متميزة عن غيرها ، وإن تكررت موضوعات العقيدة فيها " ([10]) .
خامساً : نزول القرآن حسب الأحوال والأحداث .
كان نزول القرآن منجماً حسب ما تقتضيه الحوادث والنوازل وما يتناسب مع الظروف والأحوال ، وما يتواكب مع المراحل التي مرت بها الدعوة ، ثم جاء ترتيبه في المصحف حسب ماكان في اللوح المحفوظ ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه آية أو آيات قال : (( ضعوا هذه الآية في مكان كذا من سورة كذا)) ([11]) .
وهذا دليل ظاهر على مقاصد السور من حيث أن هذا التنجيم كان لحكم عظيمة منها أن تنزل السور أو الآيات لغرض معين حسب ما يقتضيه الحدث والحال ، وهذا مؤكد لتضمن السور للمقاصد . ويشهد لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الصحابة بوضع الآية أو الآيات في الموضع الخاص بها من السورة ، وما ذلك إلا دليل على انتظام المعاني في السورة وبنائها على مقصد واحد .
سادساً : تسمية السور .
من أعظم الدلائل على مقاصد السور وضع أسماء للسور بما يرمز لمعانيها الدالة على المقصد منها . وأسماء السور توقيفية على قول الجمهور . قال السيوطي في الإتقان : " ثبت أن جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار " ([12]) .
وقد أبان هذا الأمر البقاعي بالتجربة فقال : " وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عمل هذا الكتاب أن اسم كل السورة مترجم عن مقصودها ، لأن اسم كل شيء تظهر المناسبة بينه وبين مسماه الدال إجمالاً على تفصيل ما فيه" ([13]) .
وإن كنّا لا نستطيع الجزم بأن كل سورة دالة على مقصودها ، إلا أننا نستطيع بالتأمل في غالب السور أن نجد العلاقة بين الاسم والمضمون .
ويؤكد ذلك جلياً تسمية بعض السور :
انظر مثلاً سورة الفاتحة فقد سميت بأم القرآن ، وأم الكتاب و الأساس ، وكل هذه التسميات دالة على معنى واحد وهو أنها تضمنت مقاصد القرآن كله ، فهي أساسه .
وانظراً أيضاً إلى سورة الإخلاص ، فإنه لم يرد لفظ الإخلاص فيها ، سوى أن آياتها تدل عليه ، فهو إذاً مقصدها . والمقصد حقيقة هو ما تهدي إليه معاني السورة وترجع إليه .
فنجد أن أسماء السورتين دال على مقصدها ومضمونها ، وهكذا .
إشكال وجوابه :
قد يرد على هذا الدليل إشكال وهو تعدد أسماء السورة الواحدة ، وهذا يعارض كونه دالاً على المقصد . والجواب على هذا من وجهين :
أولاً : أنه إذا كانت الأسماء الواردة في السورة توقيفية فإنها تدل على تضمن السورة لعدة أغراض ، فمثلاً سورة الفاتحة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تسميتها ( فاتحة الكتاب وهو أشهرها ، وأم الكتاب وأم القرآن ، السبع المثاني ، والقرآن العظيم ، الحمد ، الصلاة )
وبالتـأمل نجد أن كل اسم دال على غرض من أغراضها ، وإنما اشتملت على عدة أغراض لكونها أعظم سورة من القرآن .
وبالنظر والتأمل الثاقب في هذه الأسماء جميعاً نجد أنه يجمعها غرض واحد هو وصف الله بالكمال المطلق الموجب للتوجه إليه بالعبادة والسؤال ، وهذا الغرض دال على جميع الأسماء ، فإن هذا هو سر كونها جمعت مقاصد القرآن كله إذ أن جميعه راجع إلى تحقيق العبودية لله .
ثانياً : أنه إذا كانت الأسماء المتعددة في السورة مروية عن السلف ، فإنها قد تكون دالة على الغرض من جهة ، أو تكون دالة على لفظ أو معنى وارد في السورة .
فمثلاً سورة الفاتحة وورد عن السلف والمفسرين في تسميتها غير ماثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أسماء منها ( الرقية ، والشفاء والشافية ، والأساس ، والوافية ، الكافية ، والكنز ،والشكر ، الثناء ، التفويض ، الدعاء ، النور ، تعليم المسألة ، السؤال ) ([14]) .
وهذه الأسماء إما أنها مستدل بها من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لها ، أو أنها مأخوذة من المعاني التي تدل عليها السورة وهي دالة على الغرض .
وحين نتأمل في هذه الأسماء نجدها كلها راجعة إلى مضمونها وغرضها وهو إثبات الحمد لله الذي هو الإحاطة بصفات الكمال ، والشكر الذي هو تعظيم المنعم ، وهي عين الدعاء فإنّه التوجه إلى المدعو أعظم توجه وأعظم مجامعها الصلاة. فهي وصف لله بالكمال المطلق الموجب لاختصاصه بالعبودية والسؤال .
ومثله أيضاً سورة الكافرون ، فإنها سميت بالكافرون ، وسميت بالمقشقشة ، والإخلاص . وبالتأمل في الرابط بين هذه الأسماء نجد أنها راجعة إلى غرض واحد وهو تحقيق التوحيد العملي ، والبراءة من الشرك .
إشكال آخر وجوابه
قد يرد على هذا الدليل أيضاً إشكال آخر ، وهو تسمية بعض السور بأسماء الأنبياء أو القصص التي وردت فيها مع تضمنها لأسماء أنبياء آخرين أو قصص أخرى ، مثل سورة يونس وهود .
والجواب على هذا ظاهر من وجهين:
أولاً : أن تكون تسميتها من باب أن هذه السورة انفردت بهذا الاسم أو القصة أو الحرف ، أو تكرر ذكره فيها . كالبقرة ، ويونس ، وهو د ، و ق ، وص . وهذا لا ينافي المناسبة بين الاسم والمضمون ، بل إن مراعاة المضمون أولى من مراعاة مجرد الذكر أو التكرار .
ثانياً : أنه يمكن بالتأمل الثاقب أن نجد مناسبة ظاهرة بين الاسم والغرض .
فالبقرة وإن كانت القصة لم تذكر في غير هذه السورة ، إلا إننا نجد سبباً أعظم دلالة من هذا السبب ، ألا وهو كون القصة دالة على حال بني إسرائيل مع أوامر الله تعالى وتعنتهم وتشددهم وتمنعهم من تلقي أمر الله تعالى ، وهذا في غاية المناسبة لسورة البقرة التي تضمنت تربية المؤمنين على تلقي شريعة الله تعالى ولذلك تضمنت السورة كليات الشريعة وأصولها، فكأن الاسم شعار للمؤمنين ليحذروا من التشبه بأصحاب البقرة
قال الزركشي : " : وتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها ، وعجيب الحكمة فيها " ([15]) . .
وفي سورة يونس نجد أن السورة تركز على الموعظة والدعوة بالترغيب ولذلك افتتحت بالتذكير بآيات الله تعالى وحال المكذبين بها ، وتخلل ذلك عرض للطف الله تعالى بأوليائه ، وعباده المؤمنين والتائبين ، وتضمنت الموعظة بالقرآن كما قال تعالى { ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم} [ يونس : 57] ، ولذلك تضمنت قصة قوم يونس الذين آمنوا بعد ما دعاهم يونس وهددهم بالعذاب فكشف الله عنهم العذاب ، فهذه القصة هي النموذج الإيجابي للغرض الذي تركز عليه السورة.
أما سورة هود فإنها تركز على الدعوة بالترهيب ، ولذلك جاءت آياتها متضمنة للوعيد والتغليظ والتهديد كما في قوله : { [هو د: 2] وقوله : { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } إلى قوله { وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } [ هو: 3-4] ، وأشدّه ما ظهر في قصة قوم هود حين قال الله تعالى { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود } [ هود : 59-60] ولم يعذب الله تعالى قوماً أشد من عذاب قوم هود . ويؤكد هذا الغرض قوله صلى الله عليه وسلم : ((شيبتنى هود وأخواتها)) ([16]) .
وأما سورة ق وص فإنهما أكثر الحروف تكرراً في السورتين ، وبالتأمل في علاقة هذه الحروف بموضونهما نجد ذلك ظاهراً فسورة ص أكثر ماورد فيها الخصومات ، وسورة ق تكرر فيها لفظ القرآن والحق والقلب مرتين ، وبينهما علاقة في بيان الحق بالقرآن لمن كان له قلب .
فظهر بذلك جليلاً أن لاسم السورة أثر في مضمونها وغرضها . لكن ذلك يحتاج لتأمل دقيق ، وبصيرة نافذة . والله أعلم .
--------------------------------------------------------------------------------
([1])(( مصاعد النظر)) (ص154) .
([2])(( جواهر القرآن)) (ص17).
([3])(( الكشاف)) (1/58).
([4])(( بيان النظم في القرآن الكريم )) (ص10).
([5])((نظم الدرر)) (1/62).
([6])(( التحرير والتنوير)) (1/162).
([7]) المصدر السابق (1/163).
([8])(( منهجية البحث في التفسير الموضوعي)) (115).
([9])(( تفسير ابن كثير)) ( 4/303).
([10])(( منهجية البحث في التفسير الموضوعي )) (102 ).
([11]) رواه أحمد في المسند 1/57، وأبو داود 1/268ح786 ، والترمذي 5/272ح3086.
([12]) (( الإتقان في علوم القرآن )) (1/52 ) .
([13])(( نظم الدرر )) (1/142 ).
([14])(( أسماء القرآن الكريم )) (ص147).
([15])(( البرهان في علوم القرآن)) (1/270).
([16]) أخرجه الطبرانى في المعجم الكبير 5/427رقم 5672، أبو يعلى 2/355رقم 845 قال الهيثمى (7/37) : رجاله رجال الصحيح .