علم اللغة والنقد الأدبي.. "علم الأسلوب".. للدكتور عبده الراجحي

إنضم
12/11/2011
المشاركات
99
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
الإسكندرية
بسم الله الرحمن الرحيم
علم اللغة والنقد الأدبي
«علم الأسلوب»
[نشر هذا البحث في مجلة «فصول»، المجلد الأول، الجزء الثاني].
منذ القديم والدرس اللغوي متصل بالنص الأدبي، كان كذلك في الشرق، وكان كذلك في الغرب. واللغويون المحدثون يأخذون على الدرس القديم، أومايسمونه «النحو التقليدي»، أنه يصدر أولا عن «المعنى»، وأنه ينبني على نصوص مختارا اختيارا دقيقا بحيث تمثل «المستوى العالي» من الأداء اللغوي.
والذى لا شك فيه عندنا أن الدرس اللغوي عند العرب صدر -في نشأته- عن اتصال بالنصوص الفنية، وبخاصة في صورتها القرآنية، وفي صورتها الشعرية، ومن هنا كان الانتقاد الحديث الذي يوجه إليه من أنه لا يمثل العربية، وإنما يمثل جانبا معينا منها؛ في المستوى، وفي الزمان، وفي المكان.
على أننا نشير إلى أن العرب القدماء أفردوا درسا لغويا خاصا للتعليق على النصوص الأدبية كالذي قدمه «القراء» في«معاني القرآن»، أو ما قدمه أصحاب الاحتجاج للقراءات «كحجة» أبي علي الفارسي، و«محتسب» ابن جني، أو ما قدموه من شرح لغوي للشعر كشرح «بانت سعاد» أو شرح ابن جني لديوان المتنبي. ولكن هذه الأعمال كلها لم تكن تصدر عن نظرية واضحة أو منهج محدد، وإنما هي ملاحظات لغوية جزئية يسوق إليها النص حسبما كان وينقلها الخالف عن السالف دون أن تقدم شيئا جديدا إلا أن يكون تطبيقا حيا لما تحتويه كتب النحو والصرف والبلاغة.
وحين بدأت النهضة اللغوية الحديثة في الغرب في القرن الماضي فيما يعرف بالفيلولوجيا philology ظلت الآصرة قوية بين البحث اللغوي والأدب، لأن الفيلولوجيا لم تكن تنظر إلى اللغة على أنها غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لفهم «الثقافة»، ومن ثم كان تركيزهم على النصوص الأدبية القديمة تحقيقا وتفسيرا، مما دعا واحدا من كبارهم هو جريم jacob Grimm أن يلفتهم إلى أن النصوص الأدبية المكتوبة لا تمثل إلا جزاء يسيرا من اللغة، وأن عليهم أن يهتموا بدراسة اللهجات والآداب الشعبية.
وظل الأمر كذلك إلى أن ظهر علم اللغة الحديث Linguistics أوائل هذا القرن، وحين نادى دي سوسير بأن «موضوع علم اللغة الصحيح والوحيد هو اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها»[De Saussure: Course in General Linguistics, Translated by Wade Biskin, London 1964, p. 232.]
وعلم اللغة ينهض في جوهره على أساسين؛ أولهما أنه علم Science ، وثانيهما أنه مستقل Autonomous ولعل السبب الأول فى هذين الأساسين أن أصحابه أرادوا أن يبعدوه عن كثير من العلوم، وأولها النقد الأدبي الذي يرونه «إنسانيا» «تقييميا»، وكان دي سوسير قد دعا إلى التفريق بين La langue «اللغة المعينة» و La Parole «لغة الفرد»، منتهيا إلى أن علم اللغة يدرس اللغة المعينة التي تمثل الخصائص «الجمعية» للمجتمع، ولا ينبغي أن يلتفت إلى «لغة الفرد» لأنها تصدر عن «وعي» ولأنها لذلك تتصف «بالاختيار» الحر. وقد أكد بلو مفيلد بعد ذلك أن دراسة «المعنى» هي «أضعف» نقطة في علم اللغة، وكل أولئك كان جديرا أن يؤدي إلى قطيعة بين الدرس اللغوي والدرس اللغوي النقدي، ولئن كان علم اللغة يتميز بالدقة، و«الموضوعية» فإنه فقد «إنسانيته» واستحال إلى «وصف» محض، غارق في المصطلحات والرموز الفنية التي تبدو غريبة على غير المتخصص، وقد تبدو غير ذات نفع محقق في التطبيق الواقعي، على أن علم اللغة قد عاد إلى شيء من هذه «الإنسانية» في السنوات الأخيرة حين دعا تشومسكي Chomsky وأتباعه من التحويليين إلى نبذ الوصف «السطحي» والعودة إلى التفسير «العقلي» للغة باعتبارها أهم ما يميز الإنسان، وباعتبارها خلاقة creative تتكون من عناصر محدودة ولكنها تنتج تركيبات وجملا لا نهاية لها، ومن ثم فهي لا تخضع للتفسير الآليMechanical explanation اقتداء برأي ديكارت.
وإذا كان الأمر كذلك فإن علم اللغة ينبغي أن يدرس في ضوء «الطبيعة البشرية» التي تؤكد أن «قدرة» الإنسان على اللغة برهان على أن هناك جانبين مهمين هما «الكفاءةCompetence » و«الأداءPerformance »، وهذان الجانبان كانا سببا في نشأة مصطلحي «البنية العميقةDeep Structure » و«بنية السطح Surface Structure » وهما مصطلحان يمثلان ركيزة البحث اللغوي الآن عند التحويليين، وقد كانا دافعا إلى الاستعانة بمباحث «العقل» ومباحث «علم النفس» مما له أثر فيما نحن بصدده الآن.
ولكن إذا كان اللغويون قد سعوا جاهدين في أن يبتعدوا بعملهم عن ميدان النقد الأدبي فإنهم عادوا بهذا العلم إليه من باب آخر، عادوا ليستخدموا «أدواتهم» اللغوية في تناول النص الأدبي، وهو ما يعرف الآن بعلم الأسلوب؟
فما هذا العلم؟ وما المنهج الذي ينهجه في معالجة الأدب؟
ولعلي أشير -بدءا- إلى أننا من الأسف- مضطرون دائما أن نقدم الخطوط العامة للمنهج على هيئة دراسة أولية، لأننا لا نزال متخلفين -في الدرس العربي- تخلفا شديدا عن مسايرة التطور المتلاحق في البحث اللغوي الحديث بحيث تكاد تغيب الأسس الضرورية عن عامة الباحثين الناشئين.
وعلم الأسلوب هو الذي يطلق عيه في الإنجليزيةStylistics وفي الفرنسيةLa Stylistique وفي الألمانيةDie Stylitik ، والباحث في الأسلوبStylistician هو الذي يطبق منهجه على النصوص الأدبية.
يرى اللغويون أن النقد الأدبي درس «تقييمي» يقوم على «الانطباعات الذاتية»، وعلى «الحدس»، ومن ثم فهو يقدم -في رأيهم- مقاييس موضوعية، للعمل الأدبي، من أجل ذلك يقدمون «علم الأسلوب» كي يكون الخطوة الأولى أمام الناقد، تضع بين يديه المادة اللغوية في العمل الأدبي مصنفه تصنيفا علميا لعلها تساعده على فهم العمل فهما أقرب إلى الموضوعية. ومعنى ذلك أن علم اللغة يطبق «فنون» البحث اللغوي على النص الأدبي وبخاصة فيما يعرف «بمستويات التحليل» على ما يظهر في العرض التالي.
علم الأسلوب إذن فرع من علم اللغة، لكنه يفترق عنه افتراقا جوهريا لأن مادة الدرس فيهما مختلفة، ولأن هدف الدرس مختلف فيهما أيضا. علم اللغة يقصد اللغة العامة التي لا تميزها خصائص فردية، أي إنه يقصد اللغة ذات الشكل «العادي» وذات الأنماط العادية مما يستخدمه المجتمع منطوقا في التوصيل في حياته اليومية. ونظرية تشومسكي الجديدة لا تختلف عن النظريات الوصفية السابقة في تحديد المستوى اللغوي لأنها تتوجه عنده إلى الإنسان صاحب اللغة Native Speaker أو ما يسميه بالمتكلم السامع المثالي Jdeal Speaker Hearer في مجتمع لغوي متجانس يعرف لغته معرفة كاملة. وهدف علم اللغة هو أن «يصف» اللغة ويبين «كيف» تعمل، وهو لذلك يتحرك من «الخاص» إلى«العام»، ومن «الجزئي» إلى«الكلي»، دون أن يلقي بالا إلى الاختلافات النوعية بين الأفراد.
والحق أن علم اللغة -بإصراره على الطبيعة العلمية- قد أحال اللغة إلى شيء كالماء لا طعم له ولا رائحة. وهنا تبدو قيمة علم الأسلوب. وليس من همنا هنا أن نشير إلى الاختلاف الشديد على تعريف «الأسلوب» باختلاف المتناولين له، ولكن الذي يهمنا هو ما يقصده اللغويون حين يعالجونه في هذا العلم. «الأسلوب» هو شكل من أشكال «التنوع» في اللغة، فإذا كانت اللغة التي يدرسها علم اللغة هي الأنماط العامة العادية فإن ذلك ينفي أن هذه اللغة ذاتها تنتظم «تنوعات»Variations مختلفة على معايير مختلفة من المكان والاجتماع والأفراد. وعلم الأسلوب يقصد بعضا من هذه التنوعات وبخاصة على مستواها الفردي.
ولغة الأدب هي نمط من أنماط «الأسلوب» لأنها «تنوع» لغوي فردي، والبون شاسع بين الكتابة الأدبية واللغة العادية، لأن اللغة العادية «تلقائية» لا تصدر عن «وعي» ) ولا عن «اختيار»، وهي تشكل معظم النشاط اللغوي الإنساني، أما الكتابة الأدبية فهي لغة فردية خاصة، تصدر عن اختيار واع، ومن ثم كانت خروجا عن النمط العادي Deviation from the norm ومن هنا أيضا كان قول القائلين بأن الأسلوب هو الرجل، أو بأن الأسلوب كبصمات الإنسان. على أن هذا الخروج عن النمط العادى ينبغي ألا يؤخذ ضربة لازب، لأن اللغة العادية التي يدرسها علم اللغة إنما تقدم العناصر العامة في لغة الحياة، ولا تنفصل عنها لغة الأدب، لكنها تقيم معها «علاقة خاصة» باستخدام عناصرها نفسها لبناء هياكل جديدة خاصة بها، مضيفة إلى اللغة قواعد جديدة في الصوت وفي الكلمة وفي تركيب الكلام. أي إن لغة الأدب -بمعنى آخر- تكشف عن «الطاقات» التعبيرية «الكامنة» في اللغة العادية، والتي لا تظهر إلا باستخدام «الفرد» لها استخدام متميزا، وعلم الأسلوب يهدف إلى دراسة هذه «الكوامن» التعبيرية من دراسته للغة أديب معين. ولعل هذا الجانب يؤكد الصفة التي أكدها تشومسكي بأن اللغة خلاقة Creative تتكون من عناصر محدودة وتنتج أو «تولد» أنماطا لا نهاية لها.
ومعنى ذلك أن علم اللغة يدرس «ما» يقال في اللغة، أما علم الأسلوب فيدرس «كيف» يقال ما في اللغة، أو أن «الأسلوب» هو ما «يتركه» علم اللغة. وإذا كان علم اللغة «وصفيا»، وإذا كان النقد الأدبي «تقييميا» على ما يقول اللغويون.. فإن علم الأسلوب «وصفي» «تقييمي».
· اتجاهات علم الأسلوب:
ومن هذا الفهم لمعنى «الأسلوب» تتفرع اتجاهات العلم الذي يدرسه ثلاثة اتجاهات:
1- إتجاه يدرس الأسس النظرية لبحث الأسلوب، وهو ما يمكن أن يسمى «علم الأسلوب» العام General Stylistics ، يقدم فيه أصحابه القوانين العامة التي تحكم الدرس الأسلوبي دون أن يكون ذلك مرتبطا بلغة معينة وهو بذلك يضارع علم اللغة العام General Linguistics ، أي إنه علم غير تطبيقي، وقد ظهرت فيه حتى الآن بحوث غير قليلة على نحو ما قدمه هاليداي Halliday وأولمانUllmann وغيرهما.
2- إتجاه يدرس الخصائص الأسلوب في لغة معينة، يهدف إلى بحث «الطاقات التعبيرية» في هذه اللغة سواء في لغة الكتابة أم في غيرها، وهو بهذا يعد عملا تطبيقيا عاما يتناول «التنوعات» اللغوية على غير أساس فردي، كذلك البحث القيم الذي قدمه David Crystal وDerek Davy عن الأسلوب الإنجليزي، حين تناولا الخصائص الأسلوبية للغة غير الأدبية، فقدما لغة المحادثة، ولغة المعلقين الرياضيين، ولغة الدين، ولغة التقارير الصفحية، ولغة الوثائق القانونية. ومن ذلك أيضا ما قدمه Leech عن لغة الشعر الإنجليزي، وما قدمه Lodge عن لغة القصة. ومن الواضح أن الغرض من هذا الإتجاه تقديم المحيط الأسلوبي العام لتنوع لغوي محدد على أساس الموقف الكلامى أو على أساس النمط الأدبي، وأصحابه يطبقون ما يقرره علم الأسلوب العام من مستويات التحليل على أساس الصوت والكلمة والتركيب.
3- أما الاتجاه الثالث فهو الذي يدرس لغة شخص واحد كما يمثلها إنتاجه الأدبي، وهذا هو الاتجاه الغالب في علم الأسلوب، وإليه تتجه معظم الرسائل الجامعية المتخصصة. وهو يخضع لغة الأديب لأنواع من التحليل يحاول بها أن يصل إلى معايير موضوعية تعين الناقد على التفسير؛ على أن هناك ثلاثة اتجاهات أيضا فى التحليل اللغوي للنص.
(أ‌) اتجاه نفسي يصدر عن إيمان بأن «الأسلوب هو الرجل»، وهو يرى أن دراسة الأسلوب لا تكون صحيحة إلا في إطار دلالتها على خصائص المؤلف النفسية، ومن أشهر المحاولات في هذا الاتجاه ما قدمه العالم النمساوي Leo Spitzer الذي قدم دراسات تطبيقية على عدد من الأدباء متأثرا بآراء فرويد في التحليل النفسي، وقد توصل هو إلى طريقته الخاضرة في تحليل الأسلوب فيما أسماه «الدائرة الفيلولوجية Philological Circle » وهو يشير فيها إلى منهجه على النحو التالي:
«إن ما يجب أن نعمله هو أن نبدأ من السطح إلى مركز الحياة الداخلي للعمل الفني، وذلك بأن نلاحظ، أولا، التفصيلات الظاهرة التي تظهر على سطح عمل معين، ثم تصنف هذه التفصيلات إلى مجموعات ونبحث عن طريقة تكاملها في الصدور عن مبدإ خلاق يكون كامنا في «نفس» الفنان، وأخيرا نعود على بدء بأن نبحث هذا «الشكل الداخلي» عند الفنان وانتظامه كل الظواهر الأسلوبية التي لاحظناها أولا».[Quoted from his Linguistics and Literary History in Ullmann: Languade and style, p. 122. ]
ومعنى ذلك أننا أمام ثلاث مراحل في التحليل؛ أولها أن يظل الدارس يقرأ العمل الفني من أجل أن يتوحد مع جو هذا العمل حتى يلتقي بخاصة أسلوبية تكون غالبة عليه. وثانيها أن يبحث عن تفسير نفسي لهذه الخاصة. وثالثها أن يحاول البحث عن الشواهد الأخرى التي تفهم على ضوء هذا العامل النفسي.
واللغويون في أغلب الأمر يرفضون هذا الاتجاه، ويرونه غير بعيد مما يأخذونه على النقد الأدبي باعتباره ذاتيا وحدسيا، ولم ينكر شبتزر ذلك، بل أكد أن اتجاهه يعتمد على «الذكاء» و«الخبرة» و«الايمان».
وينكر عدد آخر من اللغويين أن تكون الخصائص الأسلوبية استجابة لملامح عميقة في عقل المؤلف أكثر من كونها «سلوكا» لغويا يكشف عن «عادات» لغوية فحسب.
(ب‌) اتجاه وظيفي Functional يرى أن العمل الفني لا ينبغي أن يحلل على مستويات جزئية، وإنما على أساس «السياق» وهو مصطلح أخذ طريقة إلى الاستقرار في الدرس اللغوى عند فيرث وأتباعه. ودراسة الأسلوب هنا تقرر أن كل كلمة إنما هي جزء في جملة، وأن كل جملة جزء في فقرة، وأن كل فقرة جزء في موضوع. وعلى الباحث أن يدرس وظيفة كل هذه الأجزاء في «سياق» العمل الفني، ويمكن أن تتسع دوائر البحث في السياق من البحث في قصيدة واحدة أو في قصة إلى البحث في ديوان كامل، أو في أعمال فنية في فترة زمنية محددة، وإلى البحث في أعمال المؤلف كلها، أو في فن برمته حتى إنه يمكن الوصول إلى الخصائص الأسلوبية لثقافة بذاتها. وهذا اتجاه يتبعه كثير من الباحثين في الأسلوب لكنه يكاد ينتهي إلى «إجراءات» تتكرر تكرارا مملا عند تصنيف الظواهر الأسلوبية حتى ينتظمها سياق خاص.
(جـ) اتجاه إحصائي Statistical وهذا هو الاتجاه المسيطر الآن على الدرس الأسلوبي، وهو يصدر عن اقتناع بأنه من المهم جدا أن نقف على درجة حدوث ظاهرة لغوية معينة في أسلوب شخصي معين وقوفا دقيقا، لا تكفي فيه الملاحظة السريعة، ولا يجزئ عنه الإحساس الصادر عن التقاط الظواهر. ولذلك يقتضي علم الأسلوب أن يدرس الباحثون فيه أصول علم الإحصاء دراسة كافية تمكنهم من إستخدام وسائله في رصد الظواهر. والذي يقرأ الآن بعض الدراسات الأسلوبية مما يطبق الإحصاء تطبيقا غالبا سوف يصطدم بأجزاء كبيرة منها تملؤها «الجداول» الإحصائية والأرقام، مع التقدم الآن إلى الاستعانة بالحاسبات الآلية، مما يضفي على العمل طابعا غريبا، ومما يشعر دراسي الأدب على العموم أن هذا الاتجاه يستعمل لغة غير مفهومة لأنها لغة غير التي ألفوها في تناول العمل الأدبي. وكأن اللغويين لم يكتفوا بما أدخلوه في الدرس اللغوي من مصطلحات التحليل العلمي وفنونه حتى يطبقوا ذلك على نصوص الأدب، وقديما دفع بعض الناس أبا جعفر النحاس في النيل حيث لقي حتفه وقد كان يحدث نفسه ببعض مسائل النحو لأنهم سمعوه يتحدث لغة غير مفهومة فظنوه يستخدم وسائل السحر أو لغة الشياطين. وينضاف إلى هذه الطبيعة الغربية في تناول النص الأدبي أن الإحصاء في ذاته يحمل أوجها من النقص نشير إلى بعضها فما يلي:
1- أن الإحصاء يقتضي جهدا كبيرا قد يكون غير مطلوب في أحيان كثيرة، إذ إن رصد بعض الظواهر تكفيه الملاحظة «بالعين المجردة» كما يقولون.
2- أن غلبة العمل الإحصائي تحمل في طياتها خطر سيطرة «الكم» على «الكيف» مما يفقد دراسة الأسلوب هدفها الأساسي.
3- أن الافتتان بالأرقام يوهم بدقة المنهج، ولكنها قد تكون دقة مخادعة عند تناول الأعمال الأدبية، لأن كثيرا من الظواهر يتدخل تداخلا عضويا بحيث يصعب إحصاء واحدة منها إحصاء منفردا، وقد أشار أولمان إلى الدراسة التي قدمها جراهام Graham عن الصور عندProust حيث أحصى هذه الصور في )4578( صورة ذاكرا أن الاستعارات والتشبيهات عند هذا الكاتب تتداخل وتتكامل بحيث يكون ضربا من العبث أن نبحث عن تحديد «رقمي» دقيق لها. [Language and Style, op. cit. p. 119.]
4- أن الإحصاء بهذا التفتيت الرقمي يفضي إلى خطر آخر هو فقدان السبيل إلى فهم تأثير «السياق» في العمل الأدبي، وهو مطلب مهم جدا على ما ذكرناه آنفا.
5- أن الدقة الإحصائية لا تجدي نفعا في «الإمساك» ببعض المسائل الغامضة أو النسبية أو المرنة كالنغمات العاطفية والإيقاع الرقيق أو المركب وغيرها.
ومع كل ما ذكرناه من أوجه النقص في الاتجاه الإحصائي مما يجعل عددا من الباحثين يعزف عنه فإنه لا يعدم جوانب مفيدة في دراسة النصوص الأدبية نذكرمنها ما يلي:
1- أن الإحصاء يقدم المادة الأدبية التي يدرسها الباحث تقديما دقيقا، والدقة في ذاتها مطلب علمي أصيل.
2- أن التحليل الإحصائي يساعد أحيانا على حل مشكلات أدبية خالصة، فهو قد يساعدنا، إلى جانب شواهد أخرى في «توثيق» النصوص الأدبية، حين نحاول نسبة أعمال معينة إلى مؤلف معين، وقد تساعدنا على فهم «التطور التاريخي» في كتاباته.
3- ليس من شك في أن ورود ظاهرة معينة مرة واحدة، أو خمسين مرة، أو ثلاثمائة مرة لابد أن يكون ذا دلالات مختلفة، ومن ثم فإن الإحصاء يفضي بنا إلى البحث عن هذه الدلالات.
4- أن التحليل الإحصائي يكشف في كثير من الأحيان عن «مقاييس» محددة في توزيع العناصر الأسلوبية عند مؤلف معين بحيث يمكن أن تؤدي إلى أسئلة تفيد في التفسير الجمالي.
ومهما يكن من أمر فلا يجد الباحثون بأسا من الاستعانة بالاتجاهات الثلاثة: النفسية، والوظيفية، والإحصائية، وَفْق ما تقتضيه الحال.
*مستويات التحليل:
على أن أهم ما يطبقه علم الأسلوب داخل هذه الاتجاهات أنه يستخدم مستويات التحليل اللغوي، وهي:
1- تحليل الأصوات.
2- تحليل التركيب.
3- تحليل الألفاظ.
أولا- الأصوات:
والتحليل الصوتي في علم الأسلوب Phonostylistics يقتضي -أولاً- معرفة الخصائص الصوتية في اللغة العادية، وبعد ذلك يتوجه إلى رصد الظواهر الخارجة عن النمط والبحث في دلالتها فيما يفيد دراسة الأسلوب. والأغلب أننا لا نحلل النص الأدبي تحليلا صوتيا يتتبع كل التفصيلات التي ينتظمها علم الأصوات، فنحن هنا لا نهتم اهتماما كبيرا بالأصوات الصامتة Consonants -مثلا- إلا أن تكون لبعضها درجة واضحة من الكثرة تقتضي الالتفات والتفسير. أما الجوانب المهمة الأخرى التي يركز عليها التحليل الصوتي للأسلوب فتكاد تنحصر فيما يلي:
الوقف:
وهو ظاهرة صوتية مهمة جدا لأنها ترتبط بالمعنى ارتباطا مباشرا، ومن المعروف أن العرب القدماء اهتموا بها اهتماما واضحا في قراءة النص القرآني حتى إنهم أفردوا لها كتبا متخصصة درسوا فيها أنواع الوقف؛ من واجب، وجائز، وممتنع، وحسن، وقبيح، وغير ذلك، ورسم المصحف يشمل كما نعلم رموزا تحدد أنواع الوقف للقارئ.
والأمر في ذلك مفهوم لأنه يتصل بالقراءة التي هي في أساسها أصل من أصول التشريع. على أن القدماء لم يلتفتوا إلى هذه الظاهرة عند تناولهم للشعر ولم يرد عنهم ما يفيد انتفاعهم بها في شروحهم الكثيرة التي وصلت إلينا. والحق أن وجود الشعر القديم مكتوبا أيدينا حرمنا من رصد هذه الظاهرة فيه، وليس بمستساغ لدينا أن الشعر العربي بأوزانه المعروفة بحدودها في التفعلية والشطر والبيت يغني عن ملاحظة «الوقف» فيه، وليس بمستساغ عندنا أيضا أن أبا تمام والبحتري والمتنبي كانوا ينشدون شعرهم فلا «يقفون» إلا عند آخر الشطر أو آخر البيت، ولا نشك في أنه لو أتيحت لنا فرصة سماعهم أو قراءة وصف لطريقة إنشادهم لكان لدرس «الوزن» الشعري شأن آخر.
الوزن:
دراسة «الوقف» إذن تقود إلى دراسة «الوزن» وتكشف عما يمكن أن ينتظمه من «تنوعات» فردية ذات دلالات خاصة، والحق أن ذلك قد يكون أكثر وضوحا في دراسة «الشعر» الذي لا تتساوى فيه أبيات القصيدة الواحدة، ويؤدي الوقف دورا أساسيا، لكن ذلك مفيد في دراسة الشعر التقليدي، وقد قدم علماء الأسلوب الغربيون دراسات كثيرة حللوا فيها أنماط الوقف على أنواع كثيرة من الشعر، مشيرين إلى أنه ليس مقصورا على ما يعرف «بحدود» الكلمات أو حدود الأبيات، بل قد يكون وقفا داخليا لا مناص منه في فهم الشعر وفي فهم الوزن الذي ينتظم فيه، ومن هذا الوقف الداخلي ما قدموه من دراستهم لشعر شكسبير في مثل الأبيات الآتية التي تلحظ فيها أهمية الوقف وضرورية غير مرتبط بنهاية الأبيات. [quoted from Act I of the Winter’s Tale, in Turner, Stylistics, Penguin, 1973, p. 77.]
Is whispering nothing?
Is leaning cheek to cheek? Is meating noses?
Kissing with inside lip? Stopping the career Of laughter with a sigh (a note infallible Of breaking honesty)? Horsing foot on foot? Skulling in corners? wishing clocks more swift? Hours, minutes? noon, midnight? And all eyes Blind with the pin and wed, but theirs, theirs only.
النبر، والمقطع:
ودراسة الوزن تقودنا إلى ضرورة دراسة «النبر» Stress ، وهي دراسة لم تحظ حتى الآن باهتمام في الدرس العربي رغم أهميتها في اختلاف «المعنى» وتنويعه، وهي ذات أهمية خاصة في دراسة «المقطع» في اللغة وعلى الأخص فيما يتصل بالشعر، ولا نحسب أن القدماء كانوا غافلين عن هذه الظاهرة لأن حديثهم عن التفعيلة وما تتكون منه من أسباب وأوتاد وفواصل وما يطرأ عليها من زحافات وعلل لا يبتعد كثيرا عن دراسة المقطع، وقد كان جديرا بالمتابعة والتطوير؛ لكننا وقفنا عند الذي رصدوه وقرروه.
وتأتي بعد ذلك دراسة «التنغيم» Intonation ودراسة «القافية»، وكل أولئك كما هو ظاهر ليس صورة كاملة لما يقدمه علم الأصوات العام، ولكنه يركز على الظواهر التي يمكن أن تفيد عند رصدها وتصنيفها، في فهم أسلوب معين.
وغني عن البيان أن ذلك ليس مقصورا على الشعر وحده، لأن الأسلوب النثري ينتظم أنماطا كثيرة من الوقف والنبر والمقطع والتنغيم.
ثانيا- التركيب:
وقد احتفل علماء العربية بدراسة الجملة فقدموا أنماطها وأركانها ودلالتها الحقيقية والمجازية وطبقوا ذلك على كثير من النصوص وبخاصة على القرآن الكريم.
وعلم الأسلوب يرى في دراسة «التركيب» عنصرا مهما جدا في بحث الخصائص المميزة لمؤلف معين، وهو في الأغلب يتوجه إلى بحث العناصر الآتية:
1- دراسة طول الجملة وقصرها.
2- دراسة أركان التركيب وبخاصة المبتدأ أو الخبر، والفعل، والفاعل، والعلاقة بين الصفة والموصوف، والإضافة، والصلة، وغير ذلك.
3- دراسة «الروابط» كبحث استعمال المؤلف للواو،أو الفاء، أو ثم، أو إذن، أو أما، أو إما، ودلالة كل ذلك على خصائص الأسلوب.
4- دراسة «ترتيب» التركيب، وهو من أهم عناصر البحث في الأسلوب، لأن تقديم عنصر أو تأخيره يؤدي في الأغلب إلى تغيير في الدلالة، ولأن الأديب لا يلتزم دائما بقواعد الترتيب العامة التي يرصدها اللغويون في اللغة العادية. وقد لاحظ الدارسون أن Keats يميل إلى تغيير كبير في ترتيب الجمل، من نحو:
»Much have I travell’d in the realms of goldمثل: «
Yet did I never breathe its pure serene.
»Then felt I like some watcher of the skies« ومثل:
[Ibid, p. 77.]
5- دراسة «الفضائل النحوية» كالتذكير، والتأنيث، والتعريف، والتنكير، والعدد.
6- دراسة الصيغ الفعلية، وتركيباتها، والزمن، وتتابعه.
7- دراسة البناء للمعلوم، والبناء للمجهول.
8- يميل علماء الأسلوب إلى استخدام طريقة النحو التحويلي في بحث «البنية العميقة» لتركيبات مؤلف معين، لأنها تساعد -أولا- على فهم كثيرة من المسائل الغامضة في النص، وتساعد -ثانيا- على معرفة ما أضافة هذا المؤلف إلى أساليب اللغة في التركيب. انظر مثلا إلى الجملة الآتية في قصة من قصص James Joycy :
»Gazing up into the darkness, I saw myself as a creature driven and derided by vanity«.
يمكن تحليلها على «البنية العميقة» دون أن تفقد شيئا من المضمون على النحو التالي:
»I gazed up into the darkness. I saw myself as a creature- The creature was driven by Vanity«.
على أن دراسة التركيب عند الأسلوبيين لا تقتصر على بحث جزء الجملة أو الجملة، وإنما يتعداها إلى بحث الفقرة والموضع ثم العمل الفني كاملا.
ثالثا- الألفاظ:
وهو من أهم عناصر التحليل الأسلوبي لما له من تأثير جوهري على المعاني، ونحن نركز هنا على ما يلي:
1- دراسة الكلمة وتركيباتها وبخاصة بحث «المورفيمات» التي يستخدمها المؤلف.
2- الصيغ الاشتقاقية وتأثيرها على الفكرة.
3- «المصاحبات» اللغويةCollocations إذ إن هناك ألفاظا معينة في اللغة لا نكاد ننطقها إلا وتستصحب معها ألفاظا أخرى معينة، ولابد من رصد هذه المصاحبات فى موضوع معين عند مؤلف معين.
4- دراسة المجاز على أن يكون ذلك مجازا أصيلا بمعنى ألا نجري وراء كل ما نلحظ من أركان التشبيه أوالاستعارة لأن كثيرا منها يتحول مع الزمن ومع الاستعمال إلى مجاز «ميت» أو مجاز «نائم»، فنحن حين نتحدث الآن مثلا عن «ميدان دراسة الأسلوب» و«أدواتها»، و«أهدافها»، وعن« إلقاء الضوء على الملامح المميزة لمؤلف معين» لا نتحدث حديثا مجازيا لأن هذه الألفاظ فقدت طبيعتها الاستعارية فقدانا كاملا أو غير كامل وفق ما يشير إليه السياق.
وبعد، فهذه مستويات التحليل التي يتبعها دارسوا الأسلوب اللغويين، وهم يطبقون طريقتهم في التحليل اللغوي، ويستخدمون الإحصاء على ما بيناه، وذلك في ظنهم يقدم معايير موضعية يمكن للناقد الأدبي أن يعتمد عليها في الوصول إلى موضوعية التفسير.
ولنا بعد ذلك ملاحظتان:
الملاحظة الأولى:
أن عددا كبيرا من الباحثين اللغويين الناشئين بدأ يتجه إلى علم الأسلوب في إعداد الرسائل الجامعية المتخصصة، وتلك ظاهرة طيبة تتيح لهم فرصة الاتصال بالتحليل اللغوي الحديث من ناحية، وتجعلهم يتصلون بالنصوص الأدبية من ناحية أخرى بما يبعد عن أعمالهم «جفاف» العلم الذى يلح عليه الدرس اللغوي الحديث. لكن الملاحظ أن معظم هذه الرسائل يقع في شيئين:
أولهما: غياب المنهج حتى ليختلط الأمر على أصحابها بين البحث اللغوي والبحث في تاريخ الأدب أوالنقد وهم يركزون في الأغلب على مبحث الألفاظ، لكن على منهج غير علمي يمكن أن يسمى تجاوزا درسا فيلولوجيا، لأنهم يبذلون أغلب الجهد في محاولة تتبع ألفاظ المؤلف وتطورها من مدلولاتها «المادية» إلى مدلولات «مجردة» معتمدين في ذلك على المعاجم العربية القديمة، وكل ذلك غير جائز لأن مادة المعاجم التي بين أيدينا لا تصلح في دراسة تطور الألفاظ ومدلولاتها، ومثل هذا العمل ينبغي أن يعتمد على النصوص وعلى الاستعمال، وهو مطلب غير يسير.
وثانيهما: أن الباحثين الذين يتصلون بالدرس اللغوي الحديث ومناهجه يطبقون على بحث الأسلوب طريقة الإحصاء تطبيقا شاملا بحيث ينتهي العمل العلمي دون أن تجد لهذا الجهد نفعا فيما تحتاجه النصوص من تفسير.
والملاحظة الثانية: أن الدراسات القديمة كانت تتميز بوجود «البلاغة» في أشكالها القديمة، وأن هذه البلاغة فقدت مكانها في الدرس الحديث، فهل يؤدي «علم الأسلوب» إلى نشأة ما يمكن أن نسميه «البلاغة الجديدة»؟ وهل يؤدي ذلك كله ما يمكن أن نطلق عليه «النقد الشامل»؟
 
عودة
أعلى