محمود عبد الصمد الجيار
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
على سبيل التقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
أما بعد..
* فمن أعجب العجب في حياتنا العربية المعاصرة أن «مشكلةً ما» قد تنشأ، وتظل تنمو وتتضخم، ثم لا يكون منا إلا أن نعايشها المعايشة الودودة، لأننا أهل «أُلْفة» وأصحاب «عِشْرة»، وتسودنا في نهاية الأمر حالة مستَتِبَّة من «الطُّمأنينة»، ومن «السَّكينة»: يحسُدنا عليهما غيرُنا من خلق الله تعالى.
ولسنا نغالي حين نقول إن مشكلة «تعليم العربية» الآن تمثل عَرَضًا بارزا من «أعراض» السلوك العربي المعاصر، لأسباب كثيرة؛ منها أن «اللغة» كانت «جوهر» الثقافة العربية القديمة وأن «الفنّ القولي» واحد من إنجازاتها الكبرى، ومنها أن إتقان «الفصحى» كان شرطا واجبا من شروط القبول الاجتماعي والسياسي والمِهَني، ولم يكن ذلك مقصورا على المتخصصين في العربية بل كان أمرا شائعا بين أهل السياسة والطب والعلم والقانون. ومنها أن هذه المشكلة الآن ليست خاصة ببلد عربي واحد بل هي عامة في البلاد العربية دون استثناء.
ولا يستطيع أحد أن يُماري في حقيقة هذه «المشكلة»، بل لعلنا من طول «إِلْفِنا» لها حَسِبناها من الأمور الطبيعية، فنحن لا نستنكر أن نرى كِبار القوم لا يُحسنون نطق جملة بَلْهَ كتابتها، ولا يجد أحد منهم غَضاضَةً في أن يفتخر بأنه لا يستطيع الكلام «بالنحوي» –بفتح الحاء–، تسمع هذا من أساتذة في الفلسفة والاجتماع والاقتصاد والتربية والعلوم التجريبية وغيرها.
ثم إن المتخرجين في «تخصص» العربية ليسوا بأفضل من ذلك، لا تكاد ألسنتهم تستقيم بنطق جملة عربية، ثم ندفع بهم إلى التعليم العامّ ليعلموا أولادنا «العربية»، وهكذا نؤسس –بهمة ونشاط– دائرة مغلقة تكون فيها العِلَّة معلولا، ثم لا نملِك في نهاية الأمر إلا أن نردد هذه «التوصيات» المكرورة التي تصدر كل حين عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وغيره من مؤسسات.
ولم يعد من المقبول أن «نُعَلِّق» مشكلة تعليم العربية على «الازدواج اللُّغويّ»، أو على دعوى «صعوبة العربية»، فهي لغة «طبيعية» شأنها شأن اللغات الأخرى «الطبيعية» لكن «جوهر القضية» أن تعليم اللغة «علمٌ» Science، وقد أجرؤ على التأكيد بأنه واحد من علوم «المستقبل»، لأنه منذ أخذ «يتخلَّق» وتتضح معالمه في العقود الثلاثة الأخيرة، راد مجالات لم يكن لنا بها عهد من قبل، والأغلب أن «محاولاتِه» سوف تغير كثيرا مما ظنناه حقائق مستقرة عن «الأنظمة اللُّغوية».
وبَدِيهِيّ أن تعليم اللغة «علم تطبيقي»، والعلوم التطبيقية –في جوهرها– تُمثّل «جِسْرًا» قويًا بين عدد غير قليل من العلوم التي تتصل «بالموضوع» بسببٍ ما، ولعل تعليم اللغة من أكثر هذه العلوم وضوحا في هذا الجانب، ذلك أن تعليم اللغة شبكة مُعَقَّدَة أشد التعقيد تتداخل فيها عناصر مختلفة تنتمي إلى حقول علمية متنوعة.
ومن المستقر منهجيًّا بين دارسي اللغة أن علم اللغة Linguistics ظل يؤكد منذ دي سوسير مزاعمه القوية بأنه علم «مستقل» autonomous لكن هذا الاستقلال أصبح الآن موضع شك حقيقي بعد دخول البحث اللُّغويّ مجالات «النص» و«الخطاب» و«الاتصال» وغيرها، على أن «تعليم اللغة» باعتباره علما تطبيقيا هو الذي شرع يَهُزُّ أركان التصورات المستقرة هزّا عنيفا، ذلك أنه تأكد أن البحث «العِلِّيَّ» Cause-effect الذي يبحث عن عنصر واحد «يسبب» ظاهرةً ما لا يصلح في الكشف عن ظواهر تعليم اللغة وتعلمها، ومن هنا رَادَ مناهج أخرى كثيرة، في طليعتها المنهج «التَّرَابُطِيُّ» Corrolational الذي يؤكد أن عنصرًا واحدًا أو عناصرَ معينةً لا يمكن أن تكون سببا وحيدا في ظاهرةٍ ما، لكن غاية الأمر أن نبحث عن «العَلاقة» بين هذه العناصر وهذه الظاهرة، ونُطِيل السعي دائما في البحث عن العناصر الأخرى التي نحن على يقين –نظريًّا– من وجودها لكنها لم تدخل بعدُ تحت قدراتنا العلمية والعملية.
هذا واقع الحال في «السياق» العلمي الحقيقي في «تعليم اللغة»، لكننا قد نجتزئ هنا بالإشارة إلى ما هو معروف شائع بين الباحثين في معظم أنحاء العالم، وهو أن تعليم اللغة «علمٌ» يستند إلى أربعة علوم ضرورية:
1- علم اللغة.
2- علم اللغة الاجتماعي.
3- علم اللغة النفسي.
4- علم التربية.
يقدم علم اللغة «الوصف» العلمي للنظام اللُّغوي، ويعرض علم اللغة الاجتماعي «للتنوع» و«للتغير» في اللغة، ولِعَلاقة اللغة «بالثقافة»، ويتناول علم اللغة النفسي السلوك الفردي للكلام وبخاصة في قضية «الاكتساب» و«الأداء»، ثم يقدم علم التربية «إجراءات» التعليم.
ومن المعروف أن هذه العلوم قد تطورت في العُقود الأخيرة تطورا جوهريا، كتطور علم اللغة البنائي إلى علم اللغة التحويلي التوليدي، وعلم النفس السلوكي إلى علم النفس المعرفي، وعدم اقتصار التربية على «التعليم» وانغماسها في «التعلم».
كل ذلك يحدث في العالم «المتقدم» حدوثا طبيعيا ولا يتوقف سعي الناس عن المحاولة والتجريب، على أن المحاولات كلها تكاد تؤكد أنه لا يوجد علم واحد يمكن الاستناد إليه في تعليم اللغة بل لا بد من «التكامل» القوي بين هذه العلوم في سبيل الطموح إلى تعليم لُغوي صالح، وهو طُمُوح غير قريب التحقيق.
أين تعليمُ العربية من ذلك كلِّه؟
الإجابة عن هذا السؤال مُجمَع عليها، إذ لا صلة لنا بهذا الذي يجري في العالم من «تَكْرِيس» للعلم في هذا المجال. ضع يدك حيث شئت على أية ناحية من نواحي تعليم العربية تجد هذا الكلام صادقا كل الصدق. نعم، قد نجد أفرادا هنا وهناك يهتمون، لكنهم جميعا يعملون في «جُزُر معزولة»، وقد نجد مؤتمرات تُعقد، وندوات تُقام، وتوصيات تُعلن، ثم ينفض السَّامِر ويعود الوضع إلى «ما هو عليه» بل إلى أسوأ مما هو عليه في أغلب الأحيان...
* أؤكد أن ثَمَّةَ مبدأين:
الأول: أنه لا تنمية، ولا تقدم، ولا تحقيق للذات دون تعليم صحيح.
الثاني: أنه لا تعليم صحيح في بلادنا دون تعليم حقيقي للغة العربية.
وهذان المبدآن «كُلِّيَّان» Universal ينطبقان على البشر جميعا، لا يرتكنان إلى شيء من العاطفة أو الانتماء القومي والثقافي، بل يستندان إلى نتائج ودراسات علمية تؤكد أن «المعرفة» لا تكون إلا إذا «سَكَنَتْ» لغة أصحابها...
* لِنُذَكِّرْ قومنا –دائما– أن التنمية لا تتحقق بالتخطيط الاقتصادي والسياسي فحسب، بل يستحيل وجودها ما لم تقم على قاعدة لغوية «مَكِينة»...
* ليس هناك عائق أمام ازدهار العربية في العالم المعاصر إلا شيء واحد، هو أن ندرك أنه لا طريق إلا طريق «العلم».. ولا علم إلا «بإخلاص»...
:(عبده الراجحي)
- هل ما زال «عقد» المؤتمرات، و«إقامة» الندوات، و«إعداد» البحوث، و«إصدار» المؤلفات: (الغاية)، دون العمل الجماعي الجاد الملموس (؟).
- هل ما زلنا «نَنْعَم» في ذلك «التَّقاعُس» (؟).
- هل «أدركْنا» أن «تعليم» العربية «يجب» أن يكون همّنا الأول، لا تشغلنا عنه شاغلة، ولا يلفتنا عنه لافت؛ وأنه لا طريق إلا طريق «العلم».. ولا علم إلا بإخلاص (؟).
- «المنهج العلمي»: كيف هو؛ بل: أين هو (؟).
- هل «الوضع» ما زال على ما هو عليه (؟).
محمود عبد الصمد الجيار
الإسكندرية، الأول من أكتوبر «تشرين الأول» 2013م.
الخامس والعشرون من ذي القعدة 1434هـ.
مقدمة طبعة بيروت
نحمد الله تعالى، ونستعينه، ونستهديه، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد ظهر هذا الكتاب منذ خمسة عشر عامًا بهدف التعريف الموجز
بعلم اللغة التطبيقي وأهميته لتعليم العربية، ولقد كنت أرى –ولا أزال– أن
هذا العلم واحد من علوم المستقبل، سوف تفضي بحوثه إلى تغير كبير
في نظرتنا إلى اللغة وفي تصوراتنا عن طبيعتها، وقد أثبتت السنوات القليلة الماضية صحة هذا الرأي؛ فالدراسات الكثيرة التي أخذت تتوجه نحو
«الطفل» واكتسابه اللغة اكتشفت مجالات للبحث العلمي لم تكن تخطر لأحد على بال.
وفي السنوات العشر الأخيرة ظل عدد من المهتمين – قد أحسب
نفسي منهم– يصرخ في كل مؤتمر، وفي كل مناسبة، لينبه العالم العربي إلى
الأخذ بمنهج «العلم» في تعليم «العربية» التي نؤمن أنه لن يحدث تقدم في المجتمعات العربية بدونها، ومع ذلك ظل «الموضوع» –كما يقولون– على ما هو عليه.
شهد علم اللغة التطبيقي في السنوات الأخيرة إضافات علمية جوهرية فتحت آفاقًا كثيرة في تعليم اللغات.
كان من الواجب أن أشير إلى بعضها في هذه الطبعة، غير أني آثرت أن يظل الكتاب على الصورة التي صدر بها، شاهدًا على ما ابتغيناه، وشاهدًا على «التقاعس» الذي لا نزال ننعم فيه.
والله من وراء القصد.
عبده الراجحي
بيروت، في الخامس والعشرين من المحرم 1425هـ.
السادس عشر من آذار (مارس) 2004 م.
مقدمة طبعة «الرياض»
نحمد الله تعالى، ونستعينه، ونستهديه، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد.
فإن تعليم العربية يجب أن يكون همّنا الأول، لا تشغلنا عنه شاغلة، ولا يلفتنا عنه لافت. وهو فرض لا يسوغ لنا أن نبحث له عن تعليل؛ فالفرض فرض وكفى، والتعليل الذي يساق أدنى من جوهر الفرض على كل حال.
ولقد عاشت العربية قرونًا ممتدة، يتعلمها أبناؤها، ويعلمونها غيرهم، في تجربة تاريخية فريدة، ولا بد أن ذلك قد أثمر منهجًا في تعليمها لم نسع نحن إلى معرفة أصوله الحقيقية حتى الآن.
وما من شك في أن البلاد العربية تعرف للغتها مكانتها، وتبذل جهودًا غير منكورة في تعليمها والحفاظ عليها. لكن الذي لا شك فيه أيضًا أن تعليم العربية في الجيل الحاضر يعاني «أزمة» حقيقية، وما ينبغي لنا أن نتغافل عن هذه الحقيقة، أو أن نماري فيها. وهذه الأزمة ليست خاصة ببيئة بذاتها، وإنما لها الآن من الشيوع في العالم العربي ما نعرف. وما ينبغي أن يكون علينا من حرج في الاعتراف بذلك؛ لأن الاعتراف أول خطوة في طريق العلاج. وإنما الحرج أن نستكين إلى ما يروّجه بعضهم من أن «العربية» نفسها هي سبب هذه الأزمة، وتلك مغالطة لا تتصل «بالعلم» بسبب؛ فالعربية لغة طبيعية كأية لغة طبيعية، والأمر فيما نحن فيه أمر «تعليم» وليس أمر اللغة في ذاتها.
وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، كان من واجبنا أن نبحث «المشكلة»، وأن نجهد ما وسعنا الجهد في الوصول إلى «حلّ» لها. ومن ذلك ما يفرضه الواجب من النظر فيما بين أيدينا؛ نراجعه، ونختبره، ونتخلى عما لا ينفع منه. ومن ذلك أن نتعلم من غيرنا ممن سبقونا في العصر الحاضر إلى خدمة لغاتهم، وقد سبقنا إلى ذلك كثيرون.
ونحن الآن في عصر «العلم»؛ لا يجري فيه شيء إلا على منهج من العلم، وما يسوغ لنا أن نتنكب طريقًا يفضي إلى الخير.
وتعليم اللغة الآن «علم» له أصوله وله مناهجه، أفضت إليه جهود متتابعة من البحث الدائب عند الأمم المتقدمة، وهو يرود كل يوم مجالًا جديدًا، ويكشف كل حين عن جانب كان مجهولًا، ونشهد الآن تأثيره البالغ على تعليم اللغات لأبنائها ولغير الناطقين بها.
و«علم اللغة التطبيقي» علم متعدد الجوانب، يستثمر نتائج علوم أخرى كثيرة تتصل باللغة من جهة ما؛ لأنه يدرك أن تعليم اللغة يخضع لعوامل كثيرة؛ لغوية، ونفسية، واجتماعية، وتربوية.
ويهدف هذا الكتاب إلى تقديم هذا العلم إلى قراء العربية، وقد قصدنا قصدًا أن يأتي الكتاب موجزًا أشد الإيجاز، ملتزمًا بالخطوط العامة لهذا العلم، مبتعدًا عن الجزئيات الفنية، وهي ضرورية لمن يعمل في هذا الحقل، وهي كثيرة أيضًا في كل مجال من مجالاته، لكنا أردنا أن تكون «القضية» العامة ظاهرة ظهورًا واضحًا، لا تخطئها العين، ولا تستهلكها متاهات البحوث الجزئية المفصلة.
وقد اقتضانا هذا النهج أن نجعل الكتاب في سبعة فصول؛ خصصنا الأول والثاني منها للتعريف بعلم اللغة التطبيقي ومصادره العلمية، وقدمنا في الفصول الثلاثة التالية أهم أساليبه الفنية، وهي: المقارنة الداخلية، والتحليل التقابلي وتحليل الأخطاء، واختيار المحتوى وتنظيمه، ثم نظرنا في الفصلين الأخيرين في تعليم العربية لأبنائها ولغيرهم في ضوء هذا الذي قدمناه أولا.
ولقد أفضنا –إلى حدٍّ ما– في الحديث عن تعليم العربية لأبنائها؛ لأنا نراه أولى بالعناية، ولأن وضعه الحالي يستدعي التحرك العاجل، وإلّا فإن تأثيره سوف ينسحب على كل جوانب الحياة. ثم إن من لا يحسن تعليم لغته لأبنائها لا يستطيع أن يعلمها غيرهم.
وبعدُ؛ فإني أشكر إخواني طلاب الدراسات العليا بمعهد تعليم العربية بالرياض في العامين 1408، 1409 هـ. لمتابعتهم الصابرة لهذه الموضوعات، ولمناقشاتهم الواعية التي أفدت منها كثيرًا.
والله نسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
والله من وراء القصد.
الرياض في 26 من شوال 1409 هـ
31 من مايو 1989 م
عبده الراجحي
لا جدال في أن دراسة اللغة في الغرب لم تشهد تغيرًا في الجوهر كالذي شهدته في القرن العشرين؛ ففي أوائله ظهر «علم اللغة» Linguistics باعتباره منهجًا جديدًا يدرس اللغة على أساس «علمي». ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا العلم «نموذجًا» لكثير من العلوم التي تنتمي إلى ما كان يعرف من قبل بالدراسات الإنسانية. ولقد شغل علم اللغة هذه المكانة لأنه نجح –حقًّا– في تطوير نظريات متماسكة، وفي استثمار مناهج العلم التجريبي في دراسة الظواهر اللغوية.
ويبدو أن البداية العلمية الصحيحة لعلم اللغة قد مكنته من النمو الطبيعي في فترة زمنية قصيرة إلى حدٍّ ما؛ فثبتت أركان «النظرية»، وتنوعت طرائق «الوصف» اللغوي بتنوع الاتجاهات والمدارس.
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن «علم اللغة» ينهض على دِعامتين؛ نظرية Linguistics theory، ووصف لغوي description Linguistics؛ تقدم النظرية الإطار المعرفي العام عن اللغة وعن طبيعتها، ويقدم الوصف المعالجة العلمية لظواهر اللغة على مستوى الأصوات والصرف والنحو والدَّلالة، على تنوع – كما ذكرنا – في الاتجاهات والمدارس.
ومن المعروف أن التطور في علم اللغة قد أفضى به إلى أن يتفرع إلى منهجين متمايزين:
علم اللغة البنائي Linguistics Structural وعلم اللغة التحويلي التوليدي Linguistics Transformational generative لكن المهم أنهما ظلَّا في قلب المنهج «العلمي»، ونحن نذكر هذا التمايز لأننا سنحتاج إلى الإشارة إليهما في كثير من مسائل هذا الكتاب.
ولا مراء في أن علم اللغة قد فتح آفاقًا جديدة للبحث لم تكن معروفة من قبل، وكانت من نتائجه أن ارتاد العلماء مجالات في النشاط اللغوي الإنساني كانت مجهولة أو كالمجهولة؛ علوم لغوية فرعية كثيرة؛ منها «علم اللغة التطبيقي» Linguistics Applied الذي هو موضوع هذا الكتاب.
ظهور المصطلح:
لا شكَّ أن نتائج الدراسة اللغوية قد وجدت مَن يضعها موضع التطبيق منذ قرون، لكن «علم اللغة التطبيقي» لم يظهر باعتباره ميدانًا مستقلًّا إلَّا منذ نحو ثلاثين عامًا. على أن هذا المصطلح ظهر حوالي 1946 م. حين صار موضوعًا مستقلًّا في معهد تعليم اللغة الإنجليزية بجامعة ميتشجان، وقد كان هذا المعهد متخصصًا في تعليم الإنجليزية لغةً أجنبيةً تحت إشراف العالِمَين البارِزَينِ تشارلز فريز Charles Fries وروبرت لادو Robert Lado، وقد شرع هذا المعهد يصدر مجلته المشهورة «تَعَلُّم اللغة – مجلة علم اللغة التطبيقي» Language Learning, Journal of Aopplied Linguistics ثم أُسست مدرسة علم اللغة التطبيقي Linguistics Schoole of Applied في جامعة إدنبره 1958 م. وهي من أشهر الجامعات تخصصًا في هذا المجال، ولها مقرر خاص يحمل اسم الجامعة في هذا العلم.
وقد بدأ العلم الوليد ينتشر في كثير من جامعات العالم لحاجة الناس إليه، وتأسس «الاتحاد الدولي لعلم اللغة التطبيقي» AILAِ سنة 1964 م. Association Interationale de Linguistiquee وينتسب إليه أكثر من خمس وعشرين جمعية وطنية لعلم اللغة التطبيقي في أنحاء العالم، وينظم هذا الاتحاد مؤتمرًا عالميًّا كل ثلاث سنوات تعرض فيها ما يجد من بحوث في مجال هذا العلم.
۞ معناه ومجالاته:
منذ ظهور علم اللغة التطبيقي والباحثون مختلفون بشأنه؛ فليس ثمة اتفاق على تحديد قاطع لمعناه، ولا لطبيعته؛ يظهر ذلك في أمرين: مجالات هذا العلم، والمصطلح الذي استقر عليه.
أما الأمر الأول فيظهر واضحًا من المؤتمرات الكثيرة التي عقدت تحت مصطلح «علم اللغة التطبيقي»؛ إذ إن هذه المؤتمرات تضم عددًا كبيرًا من المجالات من مثل: «تعلُّم اللغة الأولى وتعليمها – تعليم اللغة الأجنبية – التعدد اللغوي – التخطيط اللغوي – علم اللغة الاجتماعي – علم اللغة النفسي – علاج أمراض الكلام – الترجمة – المعجم – علم اللغة التقابلي – علم اللغة الحاسبي– أنظمة الكتابة ...» ([1]).
ومن الواضح أن عددًا من هذه المجالات قد أصبح الآن علومًا مستقلة، خاصة علم اللغة الاجتماعي Sociolinguistics وعلم اللغة النفسي Psycholinguistics. على أن هذه المجالات ذاتها تشير إلى الصبغة العامة لهذا العلم، فهي في معظمها تدل على وجود «مشكلة» ما تتطلب «حلًّا»؛ فالتعدد اللغوي مشكلة، والتخطيط اللغوي مشكلة، وأمراض الكلام مشكلة، وتعليم اللغة مشكلة ... وهكذا.
ومع هذه المجالات الكثيرة التي نراها في مؤتمرات «علم اللغة التطبيقي» فإنَّ مجالًا واحدًا يكاد يغلب على هذا العلم، هو مجال «تعلُّم اللغة» سواء لأبنائها أم لغير الناطقين بها؛ أي باعتبارها لغةً أولى أو لغةً أجنبية، وإن تكن معظم بحوث علم اللغة التطبيقي تتجه إلى تعليم اللغة الأجنبية. وقد دعا ذلك بعض الباحثين إلى اقتراح مصطلح آخر حتى يكون مقصورًا على تعليم اللغة الأجنبية، وذلك كصنيع ولكنز Wilkins في اقتراح تسميته «الدراسة العلمية لتعليم اللغة الأجنبية»([2])، أو اقتراح ماكاي Mackey تسميته: علم تعليم اللغة Language Didactics ([3])، أو دعوة سبولسكي Spolsky تسميته: علم اللغة التعليمي Linguistic Educational([4]). وقد انتشر في ألمانيا مصطلح آخر هو تعليم اللغة وبحث التعليم([5]): Sprachlehr-und Lernforschung ومع كل هذه الاقتراحات لم يفلح واحد من المصطلحات البديلة أن يحل محل المصطلح الذي استقر لهذه الدراسة، وهو «علم اللغة التطبيقي». وبه تأخذ جامعات العالم الآن.
وهذا المصطلح ذاته يمثل الأمر الثاني الذي يفضي إلى الاختلاف في تحديد المقصود بهذا العلم؛ ذلك أنه مكوَّن – كما هو واضح – من جزئين: «علم اللغة»، و«تطبيقي»، ومن ثم يتصور كثيرون أنه «تطبيق» «لعلم اللغة»، وهو تصور غير صحيح. وقد ساعد على هذا التصور ما كان سائدًا من أن «علم اللغة» يمثل العنصر الوحيد في علم اللغة التطبيقي، ومنه جاءت التسمية.
أشرنا من قبل إلى أن «علم اللغة» يعني: دراسة اللغة على منهج «علمي»، وأنه ينهض على دعامتين: نظرية لغوية، ووصف للغة. ومعنى ذلك أن «الوصف» هو الذي يقابل «النظرية»، وليس «علم اللغة التطبيقي» – على ذلك – مقابلًا «لعلم اللغة النظري».
إن العلوم «التطبيقية» جميعها تتوجه إلى أهداف خارج الحدود الحقيقية «للعلوم» نفسها، وهذا يسري كذلك على «علم اللغة التطبيقي»، حتى إن علماء اللغة يرفضون انتماء هذا العلم إلى ميدانهم، بل يسخرون من كونه علمًا أصلًا، ويذكر ستريفنز Strevens أنه حين تقدم للتعيين أستاذًا في علم اللغة التطبيقي في جامعة ليدز عرضت عليه اللجنة لقب أستاذ «الإنجليزية المعاصرة»؛ لأنها رأت أن علم اللغة التطبيقي اسم لا يلائم كرسي الأستاذية، ويراه عدد من اللغويين ميدانًا غائمًا، وغير دقيق، بل يستنكرون التسمية نفسها([6]).
ولئن كان المصطلح سببًا في الاختلاف في تحديد هذا العلم إنه لم يمنع من انتشاره انتشارًا واسعًا، بل صار وافدًا علميًّا جديدًا يُقبل عليه الدارسون في كل مكان ويضعونه في الواقع العلمي الملموس.
ما طبيعة هذا العلم إذن، وما حدوده، ومجالاته؟
يرى بعضهم أنه علم «مستقل» في ذاته، له إطاره المعرفي الخاص، وله منهج ينبع من «داخله»، ومن ثَمَّ فهو في حاجة إلى «نظرية» مستقلة عن العلوم الأخرى. ومعنى ذلك أن علم اللغة التطبيقي ليس سلسلة من «الأساليب» و«الإجراءات» و«العمليات».
على أن الاتجاه الغالب يرى أنه علم «وسيط»، يمثل «جسرًا» يربط العلوم التي تعالج النشاط اللغوي الإنساني كعلوم اللغة والنفس والاجتماع والتربية، أو هو «النقطة» التي تلتقي عندها هذه العلوم وأشباهها حين يكون الأمر خاصًّا باللغة، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يستند إلى قاعدة «علمية» باستناده إلى الأسس النظرية في هذه العلوم.
على أنه لا يوصف بأنه «علمي» محض؛ لأنه – في حقيقته– يهدف إلى البحث عن حل «لمشكلةٍ» لغويةٍ ما كما أشرنا عند الحديث عن مجالاته الكثيرة؛ من أجل ذلك يعرفه كوردرCorder بأنه استعمال ما توافر لدينا عن «طبيعة» اللغة من أجل تحسين كفاءة عمل عملي ما تكون اللغة العنصر الأساسي فيه([7]).
ومع ذلك فإن علم اللغة التطبيقي يكاد ينحصر الآن في تعلم اللغة وتعليمها لأهلها ولغير الناطقين بها، ومن ثَمَّ فإنه ميدان «علمي» «تعليمي» في آن واحد([8]).
وخلاصة الأمر أن علم اللغة التطبيقي ليس تطبيقًا «لعلم اللغة»، وليست له «نظرية» في ذاته، وإنما هو ميدان تلتقي فيه علوم مختلفة حين تتصدى لمعالجة اللغة الإنسانية، أو هو علم ذو أنظمة علمية متعددة يستثمر نتائجها في تحديد «المشكلات» اللغوية، وفي وضع الحلول لها. وإذا كان علم اللغة لا يمثل «العنصر الوحيد» في ميداننا؛ لأنه يستقي من علوم أخرى، فلا شكَّ أنه يمثل «أهم عنصر» فيه.
ويبدو أنه لا يمكن تصور «تعليم لغوي» حقيقي دون الاستعانة بعلم اللغة التطبيقي؛ ذلك لأنه كما يرى كوردر – بحق – يهتم بمجموع العملية التعليمية للغة؛ بمعنى أنه هو الذي يهيمن على التخطيط وعلى اتخاذ القرارات المطلوبة باعتباره «علمًا» يستهدي قواعد العلم من الوصف، والضبط، والتنظيم.
إن تعليم اللغة ليس ذلك الذي يجري في قاعة الدرس؛ ذلك آخر المطاف في عملية كاملة؛ فالمدرس يستخدم كتبًا مقررة، وأجهزة ووسائل تعليمية، ويعمل وفق أسلوب معين، وجدول زمني محدد، ويقوّم تلاميذه باختبارات يصممها آخرون. إن قبل ذلك عملًا كاملًا ينهض به علم اللغة التطبيقي خاصة فيما يتصل بالقرارات التي تتخذ على مستويات؛ أولها المستوى السياسي الذي يقرر أولًا:
أَتُدرَّس اللغات الأجنبية؟
وأية لغة؟
وما الميزانية لتنفيذ ذلك؟
وهذا المستوى لا شأن لعلم اللغة التطبيقي به إلَّا في بعض البلاد ذات المشكلات اللغوية كالحال في بعض البُلدان الإفريقية والآسيوية حين يقتضي الأمر اتخاذ قرار سياسي عن تعليم اللغة ، الاستعانة بدراسات علم اللغة الاجتماعي، عن توزيع اللغات ووظائفها في المجتمع والدور الذي تؤديه في الحياة السياسية والاقتصادية. ويمكن تصور ذلك أيضًا في أقطار المغرب العربي كما حدث بشأن قرارات «التعريب»، وتعليم الفرنسية لغةً «ثانية» ثم نقلها في مرحلة تالية إلى لغة «أجنبية» وإدخال لغات أجنبية أخرى إلى جوارها.
ثم يأتي المستوى الثاني، وهو المستوى الإداري الذي يتصدى – بعد القرار السياسي بتعليم لغة ما – لقضايا من مثل:
ما الأهداف من تعليم لغة معينة؟
وإلى مَنْ نقدم هذه اللغة؟
وما المدة اللازمة لتعليمها؟
وهذه جوانب لا يمكن اتخاذ قرار فيها دون علم اللغة التطبيقي، خاصة فيما يتصل بـ «المقررات» التعليمية التي لا يمكن أن توضع إلَّا بناء على دراسات علمية على ما سيظهر حين نعرض لها في فصلها الخاص.
أما المستوى الثالث والأخير فهو الذي يتصل بما يجري في حجرة الدراسة، وهذا المستوى يستند في الأغلب إلى علم النفس، وإلى علم التربية، ولا نستبعد علم اللغة كذلك([9]).
وحيث إن «تعليم اللغة» يكاد يكون أكثر المشكلات تداولًا بين الناس، فإن علم اللغة التطبيقي يركز على هذا الجانب، وبخاصة في تعليم اللغة الأجنبية. ولأنه ميدان «عملي» فإنه يتميز بعدد من الأساليب والإجراءات على ما سيظهر في الفصول التالية.
ونحن نأخذ بهذا التعريف الأخير، ولا نقصره على تعلم اللغة الأجنبية، بل نمده إلى تعليم اللغة الأولى، ومن ثم نراه ضروريًّا لتعليم العربية لأبنائها ولغير الناطقين بها على السواء.
([1]) Crystal, D, Direction in applied Linguistics Academic press,1981pp.1-24.
([2]) Wilkins D, Linguistics in Language teacging. London 1972, p197.
([3]) Mackey, W., Lenguage didactics and applied linguistics, in: Oller and Richards, Focus on the learner: pragmatic perspecrtives for the Language teacher, Rowley, Mass. 1973.
([4]) Spolsky, B., Educational linguistics. An Introduction, Rowly, Mass. 1978.
([5]) Bauch, k., Vorwort, Zeitscrift fur Literaturwissenschatt und Linguistik 13, 1974, PP 7-12.
([6]) Kaplan, Rober (eds.), On the scope og applied linguisuistics, Mass, 1980 PP. 21-27.
([7]) Corder, S., Problems and solutions in applied linguistics, in: Qvistgaard et al., Applied linguistics. Problems and solutions, Heidelberg 1974, P. 5.
([8]) Els, T., and others, Applied linguistics and the learning and teaching of foreign languages, Edward Arnold, London, 1984 P,7.
([9]) Corder, S., Introducing applied linguistics, Penguin 1974, PP.11-14.
على سبيل التقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
أما بعد..
* فمن أعجب العجب في حياتنا العربية المعاصرة أن «مشكلةً ما» قد تنشأ، وتظل تنمو وتتضخم، ثم لا يكون منا إلا أن نعايشها المعايشة الودودة، لأننا أهل «أُلْفة» وأصحاب «عِشْرة»، وتسودنا في نهاية الأمر حالة مستَتِبَّة من «الطُّمأنينة»، ومن «السَّكينة»: يحسُدنا عليهما غيرُنا من خلق الله تعالى.
ولسنا نغالي حين نقول إن مشكلة «تعليم العربية» الآن تمثل عَرَضًا بارزا من «أعراض» السلوك العربي المعاصر، لأسباب كثيرة؛ منها أن «اللغة» كانت «جوهر» الثقافة العربية القديمة وأن «الفنّ القولي» واحد من إنجازاتها الكبرى، ومنها أن إتقان «الفصحى» كان شرطا واجبا من شروط القبول الاجتماعي والسياسي والمِهَني، ولم يكن ذلك مقصورا على المتخصصين في العربية بل كان أمرا شائعا بين أهل السياسة والطب والعلم والقانون. ومنها أن هذه المشكلة الآن ليست خاصة ببلد عربي واحد بل هي عامة في البلاد العربية دون استثناء.
ولا يستطيع أحد أن يُماري في حقيقة هذه «المشكلة»، بل لعلنا من طول «إِلْفِنا» لها حَسِبناها من الأمور الطبيعية، فنحن لا نستنكر أن نرى كِبار القوم لا يُحسنون نطق جملة بَلْهَ كتابتها، ولا يجد أحد منهم غَضاضَةً في أن يفتخر بأنه لا يستطيع الكلام «بالنحوي» –بفتح الحاء–، تسمع هذا من أساتذة في الفلسفة والاجتماع والاقتصاد والتربية والعلوم التجريبية وغيرها.
ثم إن المتخرجين في «تخصص» العربية ليسوا بأفضل من ذلك، لا تكاد ألسنتهم تستقيم بنطق جملة عربية، ثم ندفع بهم إلى التعليم العامّ ليعلموا أولادنا «العربية»، وهكذا نؤسس –بهمة ونشاط– دائرة مغلقة تكون فيها العِلَّة معلولا، ثم لا نملِك في نهاية الأمر إلا أن نردد هذه «التوصيات» المكرورة التي تصدر كل حين عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وغيره من مؤسسات.
ولم يعد من المقبول أن «نُعَلِّق» مشكلة تعليم العربية على «الازدواج اللُّغويّ»، أو على دعوى «صعوبة العربية»، فهي لغة «طبيعية» شأنها شأن اللغات الأخرى «الطبيعية» لكن «جوهر القضية» أن تعليم اللغة «علمٌ» Science، وقد أجرؤ على التأكيد بأنه واحد من علوم «المستقبل»، لأنه منذ أخذ «يتخلَّق» وتتضح معالمه في العقود الثلاثة الأخيرة، راد مجالات لم يكن لنا بها عهد من قبل، والأغلب أن «محاولاتِه» سوف تغير كثيرا مما ظنناه حقائق مستقرة عن «الأنظمة اللُّغوية».
وبَدِيهِيّ أن تعليم اللغة «علم تطبيقي»، والعلوم التطبيقية –في جوهرها– تُمثّل «جِسْرًا» قويًا بين عدد غير قليل من العلوم التي تتصل «بالموضوع» بسببٍ ما، ولعل تعليم اللغة من أكثر هذه العلوم وضوحا في هذا الجانب، ذلك أن تعليم اللغة شبكة مُعَقَّدَة أشد التعقيد تتداخل فيها عناصر مختلفة تنتمي إلى حقول علمية متنوعة.
ومن المستقر منهجيًّا بين دارسي اللغة أن علم اللغة Linguistics ظل يؤكد منذ دي سوسير مزاعمه القوية بأنه علم «مستقل» autonomous لكن هذا الاستقلال أصبح الآن موضع شك حقيقي بعد دخول البحث اللُّغويّ مجالات «النص» و«الخطاب» و«الاتصال» وغيرها، على أن «تعليم اللغة» باعتباره علما تطبيقيا هو الذي شرع يَهُزُّ أركان التصورات المستقرة هزّا عنيفا، ذلك أنه تأكد أن البحث «العِلِّيَّ» Cause-effect الذي يبحث عن عنصر واحد «يسبب» ظاهرةً ما لا يصلح في الكشف عن ظواهر تعليم اللغة وتعلمها، ومن هنا رَادَ مناهج أخرى كثيرة، في طليعتها المنهج «التَّرَابُطِيُّ» Corrolational الذي يؤكد أن عنصرًا واحدًا أو عناصرَ معينةً لا يمكن أن تكون سببا وحيدا في ظاهرةٍ ما، لكن غاية الأمر أن نبحث عن «العَلاقة» بين هذه العناصر وهذه الظاهرة، ونُطِيل السعي دائما في البحث عن العناصر الأخرى التي نحن على يقين –نظريًّا– من وجودها لكنها لم تدخل بعدُ تحت قدراتنا العلمية والعملية.
هذا واقع الحال في «السياق» العلمي الحقيقي في «تعليم اللغة»، لكننا قد نجتزئ هنا بالإشارة إلى ما هو معروف شائع بين الباحثين في معظم أنحاء العالم، وهو أن تعليم اللغة «علمٌ» يستند إلى أربعة علوم ضرورية:
1- علم اللغة.
2- علم اللغة الاجتماعي.
3- علم اللغة النفسي.
4- علم التربية.
يقدم علم اللغة «الوصف» العلمي للنظام اللُّغوي، ويعرض علم اللغة الاجتماعي «للتنوع» و«للتغير» في اللغة، ولِعَلاقة اللغة «بالثقافة»، ويتناول علم اللغة النفسي السلوك الفردي للكلام وبخاصة في قضية «الاكتساب» و«الأداء»، ثم يقدم علم التربية «إجراءات» التعليم.
ومن المعروف أن هذه العلوم قد تطورت في العُقود الأخيرة تطورا جوهريا، كتطور علم اللغة البنائي إلى علم اللغة التحويلي التوليدي، وعلم النفس السلوكي إلى علم النفس المعرفي، وعدم اقتصار التربية على «التعليم» وانغماسها في «التعلم».
كل ذلك يحدث في العالم «المتقدم» حدوثا طبيعيا ولا يتوقف سعي الناس عن المحاولة والتجريب، على أن المحاولات كلها تكاد تؤكد أنه لا يوجد علم واحد يمكن الاستناد إليه في تعليم اللغة بل لا بد من «التكامل» القوي بين هذه العلوم في سبيل الطموح إلى تعليم لُغوي صالح، وهو طُمُوح غير قريب التحقيق.
أين تعليمُ العربية من ذلك كلِّه؟
الإجابة عن هذا السؤال مُجمَع عليها، إذ لا صلة لنا بهذا الذي يجري في العالم من «تَكْرِيس» للعلم في هذا المجال. ضع يدك حيث شئت على أية ناحية من نواحي تعليم العربية تجد هذا الكلام صادقا كل الصدق. نعم، قد نجد أفرادا هنا وهناك يهتمون، لكنهم جميعا يعملون في «جُزُر معزولة»، وقد نجد مؤتمرات تُعقد، وندوات تُقام، وتوصيات تُعلن، ثم ينفض السَّامِر ويعود الوضع إلى «ما هو عليه» بل إلى أسوأ مما هو عليه في أغلب الأحيان...
* أؤكد أن ثَمَّةَ مبدأين:
الأول: أنه لا تنمية، ولا تقدم، ولا تحقيق للذات دون تعليم صحيح.
الثاني: أنه لا تعليم صحيح في بلادنا دون تعليم حقيقي للغة العربية.
وهذان المبدآن «كُلِّيَّان» Universal ينطبقان على البشر جميعا، لا يرتكنان إلى شيء من العاطفة أو الانتماء القومي والثقافي، بل يستندان إلى نتائج ودراسات علمية تؤكد أن «المعرفة» لا تكون إلا إذا «سَكَنَتْ» لغة أصحابها...
* لِنُذَكِّرْ قومنا –دائما– أن التنمية لا تتحقق بالتخطيط الاقتصادي والسياسي فحسب، بل يستحيل وجودها ما لم تقم على قاعدة لغوية «مَكِينة»...
* ليس هناك عائق أمام ازدهار العربية في العالم المعاصر إلا شيء واحد، هو أن ندرك أنه لا طريق إلا طريق «العلم».. ولا علم إلا «بإخلاص»...
:(عبده الراجحي)
- هل ما زال «عقد» المؤتمرات، و«إقامة» الندوات، و«إعداد» البحوث، و«إصدار» المؤلفات: (الغاية)، دون العمل الجماعي الجاد الملموس (؟).
- هل ما زلنا «نَنْعَم» في ذلك «التَّقاعُس» (؟).
- هل «أدركْنا» أن «تعليم» العربية «يجب» أن يكون همّنا الأول، لا تشغلنا عنه شاغلة، ولا يلفتنا عنه لافت؛ وأنه لا طريق إلا طريق «العلم».. ولا علم إلا بإخلاص (؟).
- «المنهج العلمي»: كيف هو؛ بل: أين هو (؟).
- هل «الوضع» ما زال على ما هو عليه (؟).
محمود عبد الصمد الجيار
الإسكندرية، الأول من أكتوبر «تشرين الأول» 2013م.
الخامس والعشرون من ذي القعدة 1434هـ.
مقدمة طبعة بيروت
نحمد الله تعالى، ونستعينه، ونستهديه، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فقد ظهر هذا الكتاب منذ خمسة عشر عامًا بهدف التعريف الموجز
بعلم اللغة التطبيقي وأهميته لتعليم العربية، ولقد كنت أرى –ولا أزال– أن
هذا العلم واحد من علوم المستقبل، سوف تفضي بحوثه إلى تغير كبير
في نظرتنا إلى اللغة وفي تصوراتنا عن طبيعتها، وقد أثبتت السنوات القليلة الماضية صحة هذا الرأي؛ فالدراسات الكثيرة التي أخذت تتوجه نحو
«الطفل» واكتسابه اللغة اكتشفت مجالات للبحث العلمي لم تكن تخطر لأحد على بال.
وفي السنوات العشر الأخيرة ظل عدد من المهتمين – قد أحسب
نفسي منهم– يصرخ في كل مؤتمر، وفي كل مناسبة، لينبه العالم العربي إلى
الأخذ بمنهج «العلم» في تعليم «العربية» التي نؤمن أنه لن يحدث تقدم في المجتمعات العربية بدونها، ومع ذلك ظل «الموضوع» –كما يقولون– على ما هو عليه.
شهد علم اللغة التطبيقي في السنوات الأخيرة إضافات علمية جوهرية فتحت آفاقًا كثيرة في تعليم اللغات.
كان من الواجب أن أشير إلى بعضها في هذه الطبعة، غير أني آثرت أن يظل الكتاب على الصورة التي صدر بها، شاهدًا على ما ابتغيناه، وشاهدًا على «التقاعس» الذي لا نزال ننعم فيه.
والله من وراء القصد.
عبده الراجحي
بيروت، في الخامس والعشرين من المحرم 1425هـ.
السادس عشر من آذار (مارس) 2004 م.
مقدمة طبعة «الرياض»
نحمد الله تعالى، ونستعينه، ونستهديه، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
وبعد.
فإن تعليم العربية يجب أن يكون همّنا الأول، لا تشغلنا عنه شاغلة، ولا يلفتنا عنه لافت. وهو فرض لا يسوغ لنا أن نبحث له عن تعليل؛ فالفرض فرض وكفى، والتعليل الذي يساق أدنى من جوهر الفرض على كل حال.
ولقد عاشت العربية قرونًا ممتدة، يتعلمها أبناؤها، ويعلمونها غيرهم، في تجربة تاريخية فريدة، ولا بد أن ذلك قد أثمر منهجًا في تعليمها لم نسع نحن إلى معرفة أصوله الحقيقية حتى الآن.
وما من شك في أن البلاد العربية تعرف للغتها مكانتها، وتبذل جهودًا غير منكورة في تعليمها والحفاظ عليها. لكن الذي لا شك فيه أيضًا أن تعليم العربية في الجيل الحاضر يعاني «أزمة» حقيقية، وما ينبغي لنا أن نتغافل عن هذه الحقيقة، أو أن نماري فيها. وهذه الأزمة ليست خاصة ببيئة بذاتها، وإنما لها الآن من الشيوع في العالم العربي ما نعرف. وما ينبغي أن يكون علينا من حرج في الاعتراف بذلك؛ لأن الاعتراف أول خطوة في طريق العلاج. وإنما الحرج أن نستكين إلى ما يروّجه بعضهم من أن «العربية» نفسها هي سبب هذه الأزمة، وتلك مغالطة لا تتصل «بالعلم» بسبب؛ فالعربية لغة طبيعية كأية لغة طبيعية، والأمر فيما نحن فيه أمر «تعليم» وليس أمر اللغة في ذاتها.
وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، كان من واجبنا أن نبحث «المشكلة»، وأن نجهد ما وسعنا الجهد في الوصول إلى «حلّ» لها. ومن ذلك ما يفرضه الواجب من النظر فيما بين أيدينا؛ نراجعه، ونختبره، ونتخلى عما لا ينفع منه. ومن ذلك أن نتعلم من غيرنا ممن سبقونا في العصر الحاضر إلى خدمة لغاتهم، وقد سبقنا إلى ذلك كثيرون.
ونحن الآن في عصر «العلم»؛ لا يجري فيه شيء إلا على منهج من العلم، وما يسوغ لنا أن نتنكب طريقًا يفضي إلى الخير.
وتعليم اللغة الآن «علم» له أصوله وله مناهجه، أفضت إليه جهود متتابعة من البحث الدائب عند الأمم المتقدمة، وهو يرود كل يوم مجالًا جديدًا، ويكشف كل حين عن جانب كان مجهولًا، ونشهد الآن تأثيره البالغ على تعليم اللغات لأبنائها ولغير الناطقين بها.
و«علم اللغة التطبيقي» علم متعدد الجوانب، يستثمر نتائج علوم أخرى كثيرة تتصل باللغة من جهة ما؛ لأنه يدرك أن تعليم اللغة يخضع لعوامل كثيرة؛ لغوية، ونفسية، واجتماعية، وتربوية.
ويهدف هذا الكتاب إلى تقديم هذا العلم إلى قراء العربية، وقد قصدنا قصدًا أن يأتي الكتاب موجزًا أشد الإيجاز، ملتزمًا بالخطوط العامة لهذا العلم، مبتعدًا عن الجزئيات الفنية، وهي ضرورية لمن يعمل في هذا الحقل، وهي كثيرة أيضًا في كل مجال من مجالاته، لكنا أردنا أن تكون «القضية» العامة ظاهرة ظهورًا واضحًا، لا تخطئها العين، ولا تستهلكها متاهات البحوث الجزئية المفصلة.
وقد اقتضانا هذا النهج أن نجعل الكتاب في سبعة فصول؛ خصصنا الأول والثاني منها للتعريف بعلم اللغة التطبيقي ومصادره العلمية، وقدمنا في الفصول الثلاثة التالية أهم أساليبه الفنية، وهي: المقارنة الداخلية، والتحليل التقابلي وتحليل الأخطاء، واختيار المحتوى وتنظيمه، ثم نظرنا في الفصلين الأخيرين في تعليم العربية لأبنائها ولغيرهم في ضوء هذا الذي قدمناه أولا.
ولقد أفضنا –إلى حدٍّ ما– في الحديث عن تعليم العربية لأبنائها؛ لأنا نراه أولى بالعناية، ولأن وضعه الحالي يستدعي التحرك العاجل، وإلّا فإن تأثيره سوف ينسحب على كل جوانب الحياة. ثم إن من لا يحسن تعليم لغته لأبنائها لا يستطيع أن يعلمها غيرهم.
وبعدُ؛ فإني أشكر إخواني طلاب الدراسات العليا بمعهد تعليم العربية بالرياض في العامين 1408، 1409 هـ. لمتابعتهم الصابرة لهذه الموضوعات، ولمناقشاتهم الواعية التي أفدت منها كثيرًا.
والله نسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
والله من وراء القصد.
الرياض في 26 من شوال 1409 هـ
31 من مايو 1989 م
عبده الراجحي
علم اللغة التطبيقي
المصطلح والمعنى
الفصل الأول: علم اللغة التطبيقي: المصطلح والمعنىالمصطلح والمعنى
لا جدال في أن دراسة اللغة في الغرب لم تشهد تغيرًا في الجوهر كالذي شهدته في القرن العشرين؛ ففي أوائله ظهر «علم اللغة» Linguistics باعتباره منهجًا جديدًا يدرس اللغة على أساس «علمي». ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا العلم «نموذجًا» لكثير من العلوم التي تنتمي إلى ما كان يعرف من قبل بالدراسات الإنسانية. ولقد شغل علم اللغة هذه المكانة لأنه نجح –حقًّا– في تطوير نظريات متماسكة، وفي استثمار مناهج العلم التجريبي في دراسة الظواهر اللغوية.
ويبدو أن البداية العلمية الصحيحة لعلم اللغة قد مكنته من النمو الطبيعي في فترة زمنية قصيرة إلى حدٍّ ما؛ فثبتت أركان «النظرية»، وتنوعت طرائق «الوصف» اللغوي بتنوع الاتجاهات والمدارس.
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن «علم اللغة» ينهض على دِعامتين؛ نظرية Linguistics theory، ووصف لغوي description Linguistics؛ تقدم النظرية الإطار المعرفي العام عن اللغة وعن طبيعتها، ويقدم الوصف المعالجة العلمية لظواهر اللغة على مستوى الأصوات والصرف والنحو والدَّلالة، على تنوع – كما ذكرنا – في الاتجاهات والمدارس.
ومن المعروف أن التطور في علم اللغة قد أفضى به إلى أن يتفرع إلى منهجين متمايزين:
علم اللغة البنائي Linguistics Structural وعلم اللغة التحويلي التوليدي Linguistics Transformational generative لكن المهم أنهما ظلَّا في قلب المنهج «العلمي»، ونحن نذكر هذا التمايز لأننا سنحتاج إلى الإشارة إليهما في كثير من مسائل هذا الكتاب.
ولا مراء في أن علم اللغة قد فتح آفاقًا جديدة للبحث لم تكن معروفة من قبل، وكانت من نتائجه أن ارتاد العلماء مجالات في النشاط اللغوي الإنساني كانت مجهولة أو كالمجهولة؛ علوم لغوية فرعية كثيرة؛ منها «علم اللغة التطبيقي» Linguistics Applied الذي هو موضوع هذا الكتاب.
ظهور المصطلح:
لا شكَّ أن نتائج الدراسة اللغوية قد وجدت مَن يضعها موضع التطبيق منذ قرون، لكن «علم اللغة التطبيقي» لم يظهر باعتباره ميدانًا مستقلًّا إلَّا منذ نحو ثلاثين عامًا. على أن هذا المصطلح ظهر حوالي 1946 م. حين صار موضوعًا مستقلًّا في معهد تعليم اللغة الإنجليزية بجامعة ميتشجان، وقد كان هذا المعهد متخصصًا في تعليم الإنجليزية لغةً أجنبيةً تحت إشراف العالِمَين البارِزَينِ تشارلز فريز Charles Fries وروبرت لادو Robert Lado، وقد شرع هذا المعهد يصدر مجلته المشهورة «تَعَلُّم اللغة – مجلة علم اللغة التطبيقي» Language Learning, Journal of Aopplied Linguistics ثم أُسست مدرسة علم اللغة التطبيقي Linguistics Schoole of Applied في جامعة إدنبره 1958 م. وهي من أشهر الجامعات تخصصًا في هذا المجال، ولها مقرر خاص يحمل اسم الجامعة في هذا العلم.
وقد بدأ العلم الوليد ينتشر في كثير من جامعات العالم لحاجة الناس إليه، وتأسس «الاتحاد الدولي لعلم اللغة التطبيقي» AILAِ سنة 1964 م. Association Interationale de Linguistiquee وينتسب إليه أكثر من خمس وعشرين جمعية وطنية لعلم اللغة التطبيقي في أنحاء العالم، وينظم هذا الاتحاد مؤتمرًا عالميًّا كل ثلاث سنوات تعرض فيها ما يجد من بحوث في مجال هذا العلم.
۞ معناه ومجالاته:
منذ ظهور علم اللغة التطبيقي والباحثون مختلفون بشأنه؛ فليس ثمة اتفاق على تحديد قاطع لمعناه، ولا لطبيعته؛ يظهر ذلك في أمرين: مجالات هذا العلم، والمصطلح الذي استقر عليه.
أما الأمر الأول فيظهر واضحًا من المؤتمرات الكثيرة التي عقدت تحت مصطلح «علم اللغة التطبيقي»؛ إذ إن هذه المؤتمرات تضم عددًا كبيرًا من المجالات من مثل: «تعلُّم اللغة الأولى وتعليمها – تعليم اللغة الأجنبية – التعدد اللغوي – التخطيط اللغوي – علم اللغة الاجتماعي – علم اللغة النفسي – علاج أمراض الكلام – الترجمة – المعجم – علم اللغة التقابلي – علم اللغة الحاسبي– أنظمة الكتابة ...» ([1]).
ومن الواضح أن عددًا من هذه المجالات قد أصبح الآن علومًا مستقلة، خاصة علم اللغة الاجتماعي Sociolinguistics وعلم اللغة النفسي Psycholinguistics. على أن هذه المجالات ذاتها تشير إلى الصبغة العامة لهذا العلم، فهي في معظمها تدل على وجود «مشكلة» ما تتطلب «حلًّا»؛ فالتعدد اللغوي مشكلة، والتخطيط اللغوي مشكلة، وأمراض الكلام مشكلة، وتعليم اللغة مشكلة ... وهكذا.
ومع هذه المجالات الكثيرة التي نراها في مؤتمرات «علم اللغة التطبيقي» فإنَّ مجالًا واحدًا يكاد يغلب على هذا العلم، هو مجال «تعلُّم اللغة» سواء لأبنائها أم لغير الناطقين بها؛ أي باعتبارها لغةً أولى أو لغةً أجنبية، وإن تكن معظم بحوث علم اللغة التطبيقي تتجه إلى تعليم اللغة الأجنبية. وقد دعا ذلك بعض الباحثين إلى اقتراح مصطلح آخر حتى يكون مقصورًا على تعليم اللغة الأجنبية، وذلك كصنيع ولكنز Wilkins في اقتراح تسميته «الدراسة العلمية لتعليم اللغة الأجنبية»([2])، أو اقتراح ماكاي Mackey تسميته: علم تعليم اللغة Language Didactics ([3])، أو دعوة سبولسكي Spolsky تسميته: علم اللغة التعليمي Linguistic Educational([4]). وقد انتشر في ألمانيا مصطلح آخر هو تعليم اللغة وبحث التعليم([5]): Sprachlehr-und Lernforschung ومع كل هذه الاقتراحات لم يفلح واحد من المصطلحات البديلة أن يحل محل المصطلح الذي استقر لهذه الدراسة، وهو «علم اللغة التطبيقي». وبه تأخذ جامعات العالم الآن.
وهذا المصطلح ذاته يمثل الأمر الثاني الذي يفضي إلى الاختلاف في تحديد المقصود بهذا العلم؛ ذلك أنه مكوَّن – كما هو واضح – من جزئين: «علم اللغة»، و«تطبيقي»، ومن ثم يتصور كثيرون أنه «تطبيق» «لعلم اللغة»، وهو تصور غير صحيح. وقد ساعد على هذا التصور ما كان سائدًا من أن «علم اللغة» يمثل العنصر الوحيد في علم اللغة التطبيقي، ومنه جاءت التسمية.
أشرنا من قبل إلى أن «علم اللغة» يعني: دراسة اللغة على منهج «علمي»، وأنه ينهض على دعامتين: نظرية لغوية، ووصف للغة. ومعنى ذلك أن «الوصف» هو الذي يقابل «النظرية»، وليس «علم اللغة التطبيقي» – على ذلك – مقابلًا «لعلم اللغة النظري».
إن العلوم «التطبيقية» جميعها تتوجه إلى أهداف خارج الحدود الحقيقية «للعلوم» نفسها، وهذا يسري كذلك على «علم اللغة التطبيقي»، حتى إن علماء اللغة يرفضون انتماء هذا العلم إلى ميدانهم، بل يسخرون من كونه علمًا أصلًا، ويذكر ستريفنز Strevens أنه حين تقدم للتعيين أستاذًا في علم اللغة التطبيقي في جامعة ليدز عرضت عليه اللجنة لقب أستاذ «الإنجليزية المعاصرة»؛ لأنها رأت أن علم اللغة التطبيقي اسم لا يلائم كرسي الأستاذية، ويراه عدد من اللغويين ميدانًا غائمًا، وغير دقيق، بل يستنكرون التسمية نفسها([6]).
ولئن كان المصطلح سببًا في الاختلاف في تحديد هذا العلم إنه لم يمنع من انتشاره انتشارًا واسعًا، بل صار وافدًا علميًّا جديدًا يُقبل عليه الدارسون في كل مكان ويضعونه في الواقع العلمي الملموس.
ما طبيعة هذا العلم إذن، وما حدوده، ومجالاته؟
يرى بعضهم أنه علم «مستقل» في ذاته، له إطاره المعرفي الخاص، وله منهج ينبع من «داخله»، ومن ثَمَّ فهو في حاجة إلى «نظرية» مستقلة عن العلوم الأخرى. ومعنى ذلك أن علم اللغة التطبيقي ليس سلسلة من «الأساليب» و«الإجراءات» و«العمليات».
على أن الاتجاه الغالب يرى أنه علم «وسيط»، يمثل «جسرًا» يربط العلوم التي تعالج النشاط اللغوي الإنساني كعلوم اللغة والنفس والاجتماع والتربية، أو هو «النقطة» التي تلتقي عندها هذه العلوم وأشباهها حين يكون الأمر خاصًّا باللغة، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يستند إلى قاعدة «علمية» باستناده إلى الأسس النظرية في هذه العلوم.
على أنه لا يوصف بأنه «علمي» محض؛ لأنه – في حقيقته– يهدف إلى البحث عن حل «لمشكلةٍ» لغويةٍ ما كما أشرنا عند الحديث عن مجالاته الكثيرة؛ من أجل ذلك يعرفه كوردرCorder بأنه استعمال ما توافر لدينا عن «طبيعة» اللغة من أجل تحسين كفاءة عمل عملي ما تكون اللغة العنصر الأساسي فيه([7]).
ومع ذلك فإن علم اللغة التطبيقي يكاد ينحصر الآن في تعلم اللغة وتعليمها لأهلها ولغير الناطقين بها، ومن ثَمَّ فإنه ميدان «علمي» «تعليمي» في آن واحد([8]).
وخلاصة الأمر أن علم اللغة التطبيقي ليس تطبيقًا «لعلم اللغة»، وليست له «نظرية» في ذاته، وإنما هو ميدان تلتقي فيه علوم مختلفة حين تتصدى لمعالجة اللغة الإنسانية، أو هو علم ذو أنظمة علمية متعددة يستثمر نتائجها في تحديد «المشكلات» اللغوية، وفي وضع الحلول لها. وإذا كان علم اللغة لا يمثل «العنصر الوحيد» في ميداننا؛ لأنه يستقي من علوم أخرى، فلا شكَّ أنه يمثل «أهم عنصر» فيه.
ويبدو أنه لا يمكن تصور «تعليم لغوي» حقيقي دون الاستعانة بعلم اللغة التطبيقي؛ ذلك لأنه كما يرى كوردر – بحق – يهتم بمجموع العملية التعليمية للغة؛ بمعنى أنه هو الذي يهيمن على التخطيط وعلى اتخاذ القرارات المطلوبة باعتباره «علمًا» يستهدي قواعد العلم من الوصف، والضبط، والتنظيم.
إن تعليم اللغة ليس ذلك الذي يجري في قاعة الدرس؛ ذلك آخر المطاف في عملية كاملة؛ فالمدرس يستخدم كتبًا مقررة، وأجهزة ووسائل تعليمية، ويعمل وفق أسلوب معين، وجدول زمني محدد، ويقوّم تلاميذه باختبارات يصممها آخرون. إن قبل ذلك عملًا كاملًا ينهض به علم اللغة التطبيقي خاصة فيما يتصل بالقرارات التي تتخذ على مستويات؛ أولها المستوى السياسي الذي يقرر أولًا:
أَتُدرَّس اللغات الأجنبية؟
وأية لغة؟
وما الميزانية لتنفيذ ذلك؟
وهذا المستوى لا شأن لعلم اللغة التطبيقي به إلَّا في بعض البلاد ذات المشكلات اللغوية كالحال في بعض البُلدان الإفريقية والآسيوية حين يقتضي الأمر اتخاذ قرار سياسي عن تعليم اللغة ، الاستعانة بدراسات علم اللغة الاجتماعي، عن توزيع اللغات ووظائفها في المجتمع والدور الذي تؤديه في الحياة السياسية والاقتصادية. ويمكن تصور ذلك أيضًا في أقطار المغرب العربي كما حدث بشأن قرارات «التعريب»، وتعليم الفرنسية لغةً «ثانية» ثم نقلها في مرحلة تالية إلى لغة «أجنبية» وإدخال لغات أجنبية أخرى إلى جوارها.
ثم يأتي المستوى الثاني، وهو المستوى الإداري الذي يتصدى – بعد القرار السياسي بتعليم لغة ما – لقضايا من مثل:
ما الأهداف من تعليم لغة معينة؟
وإلى مَنْ نقدم هذه اللغة؟
وما المدة اللازمة لتعليمها؟
وهذه جوانب لا يمكن اتخاذ قرار فيها دون علم اللغة التطبيقي، خاصة فيما يتصل بـ «المقررات» التعليمية التي لا يمكن أن توضع إلَّا بناء على دراسات علمية على ما سيظهر حين نعرض لها في فصلها الخاص.
أما المستوى الثالث والأخير فهو الذي يتصل بما يجري في حجرة الدراسة، وهذا المستوى يستند في الأغلب إلى علم النفس، وإلى علم التربية، ولا نستبعد علم اللغة كذلك([9]).
وحيث إن «تعليم اللغة» يكاد يكون أكثر المشكلات تداولًا بين الناس، فإن علم اللغة التطبيقي يركز على هذا الجانب، وبخاصة في تعليم اللغة الأجنبية. ولأنه ميدان «عملي» فإنه يتميز بعدد من الأساليب والإجراءات على ما سيظهر في الفصول التالية.
ونحن نأخذ بهذا التعريف الأخير، ولا نقصره على تعلم اللغة الأجنبية، بل نمده إلى تعليم اللغة الأولى، ومن ثم نراه ضروريًّا لتعليم العربية لأبنائها ولغير الناطقين بها على السواء.
([1]) Crystal, D, Direction in applied Linguistics Academic press,1981pp.1-24.
([2]) Wilkins D, Linguistics in Language teacging. London 1972, p197.
([3]) Mackey, W., Lenguage didactics and applied linguistics, in: Oller and Richards, Focus on the learner: pragmatic perspecrtives for the Language teacher, Rowley, Mass. 1973.
([4]) Spolsky, B., Educational linguistics. An Introduction, Rowly, Mass. 1978.
([5]) Bauch, k., Vorwort, Zeitscrift fur Literaturwissenschatt und Linguistik 13, 1974, PP 7-12.
([6]) Kaplan, Rober (eds.), On the scope og applied linguisuistics, Mass, 1980 PP. 21-27.
([7]) Corder, S., Problems and solutions in applied linguistics, in: Qvistgaard et al., Applied linguistics. Problems and solutions, Heidelberg 1974, P. 5.
([8]) Els, T., and others, Applied linguistics and the learning and teaching of foreign languages, Edward Arnold, London, 1984 P,7.
([9]) Corder, S., Introducing applied linguistics, Penguin 1974, PP.11-14.