محمود عبد الصمد الجيار
New member
بسم1
اختيار المحتوى وتنظيمه
اختيار المحتوى وتنظيمه
تتكامل المصادر التي عرضنا لها فيما سبق كي نصل إلى العمل الملموس في تعليم اللغة، وهو عمل له عناصر مختلفة أيضًا تتآزر جميعها في إقامة أساس علمي لتعليم اللغة.
والذي لا شك فيه أن أهمَّ عنصر ينهض عليه تعليم اللغة، ويؤثر في
كل العناصر اللاحقة، ويشكل «الثمرة» النهائية هو اختيار محتوى المقرر الدراسي.
أشرنا –آنفًا– إلى أنه يستحيل تعليم «كل» اللغة، وأن «الاختيار» – لذلك – مبدأ جوهري، ومن أجل الاختيار أدركنا ضرورة «المقارنة» داخل اللغة
أو خارجها. ولا يصنع الناس ذلك كي ينتهي الأمر بأن يكون الاختيار «عشوائيًّا» أو «ذاتيًّا» أو حسب «الصدفة»، وإنما كي تحكم اختيارهم «معايير» علمية تجعله «محكومًا» بضوابط يمكن الاحتكام إليها في فحص ما نختاره. صحيح أن التجربة العملية تثبت أن «الاختيار» يصعب أن يكون موضوعيًّا موضوعية كاملة، إذ يستحيل استبعاد «حدس» الذين يختارون و«خبرتهم». ومع ذلك فإنَّ الأمر يظل في حدود السعي الدائب نحو «ضبط» العمل و«التحكم» فيه.
وسوف نشير إلى بعض هذه المعايير عند اختيار المواد اللغوية.
نود أن نلفت إلى أن اختيار محتوى المقرر الدراسي يتأثر بعوامل كثيرة، أهمها:
1- الأهداف:
وهي أهم العوامل التي تؤثر في الاختيار على الإطلاق، وغني عن القول أن الأهداف في تعليم اللغة الأولى تختلف عنها في تعليم اللغة الأجنبية. و«الأهداف» مصطلح علمي يفترق عن الغايات العامة التي تحدد عند التخطيط لتعليم لغوي ما؛ فالأهداف تتصل مباشرة بالعمل التعليمي، ولابد أن تكون محددة تحديدًا واضحًا عند اختيار النمط اللغوي وعند اختيار كل مادة من هذا النمط، والأغلب أن الأهداف تتوزع إلى أهداف «تعليمية»، وأخرى «سلوكية»، وثالثة «أدائية»، وكل منها يؤثر تأثيرًا مباشرًا على اختيار المحتوى؛ ففي تعليم اللغة الأجنبية مثلًا يختلف الأمر بين مقرر يهدُف إلى تعليم اللغة لأغراض عامة، وآخر يهدف إلى تعليمها لأغراض خاصة؛ ففي الأول لا بد أن يكون الاختيار من مجال واسع من التنوع والتعدد، وأن يكون مكونًا في معظمه من العناصر اللغوية العامة التي تمثل أساس اللغة، وهو ما يطلق عليه «النواة العامة» أو المشتركة Common core. وأما الثاني فيركز على الأنماط الخاصة بأغراضه. وثمة فرق كبير بين مقرر عام، وآخر لتعليم لغة الطب أو الهندسة أو الفلسفة أو غيرها. والأهداف السلوكية والأدائية تحدد لنا «واجبات» معينة لا بد أن يتقنها المتعلم، ومن ثمَّ فإن اختيار محتوى المقرر يجب أن يؤدي إلى تحقيق هذه الأهداف[SUP]([/SUP][1][SUP])[/SUP].
2- مستوى المقرر:
في تعليم اللغة الأولى يمثل هذا العامل أهمية خاصة؛ إذ إن اختيار المحتوى وفق المستوى تترتب عليه نتائج خطيرة كما نلحظ في العالم العربي على ما سنعرض له؛ فلا شكَّ أن محتوًى يقدَّم على مستوى المدرسة المتوسطة والمدرسة الثانوية، وهو في المدرسة الابتدائية يختلف في الصف الأول عن الصف الخامس، وذلك وفق معايير كثيرة؛ منها القدرات المعرفية، والبيئة اللغوية، والمواد الأخرى المصاحبة، وهكذا.
وفي تعليم اللغة الأجنبية يختلف الأمر أيضًا بين مقرر يقدم للأطفال وآخر يقدم للكبار، وفي هذا المستوى الثاني – حيث يغلب أن يكون تعليم لغة أجنبية – جرت العادة على تقسيم المستويات إلى مستوى مبتدئ، وآخر متوسط، وثالث متقدم. والأغلب أن المستوى المبتدئ يتطلب اختيار المحتوى من «النواة العامة» المشتركة التي تمثل العناصر الأساسية في اللغة، وكلما تقدم المستوى تعددت فرص الاختيار وتوسعت.
3- الوقت:
إن أي مقرر لابُدَّ أن ينفذ على «جدول» زمني، وهو في اللغة الأولى يختلف عن اللغة الأجنبية؛ إذ تمتد المقررات في الأول على سنوات تتجاوز العشر في أغلب الأحوال، لكن كل مقرر من هذه المقررات له زمنه المحدد، قد يكون فصلًا دراسيًّا واحدًا، وقد يكون فصلين. أما في اللغة الأجنبية فهناك المقرر الذي ينفذ على مدى شهرين مع ساعات كثيرة في الأسبوع، وهو ما يعرف بالمقرر المكثف، وهذا المقرر نفسه قد ينفذ على سنتين مع ساعات قليلة في الأسبوع. وقد ظهر أن المحتوى هنا يختلف عنه هناك؛ لأن عامل الوقت أساسي في إتقان المهارات التي تحددها الأهداف.
قد تكون هناك عوامل أخرى تؤثر على اختيار محتوى المقرر؛ منها «نوع المدرسة» التي يقدم فيها تعليم اللغة؛ فلا شكَّ أن مدرسة تتبع جامعة دينية كالمعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أو المعاهد الدينية التابعة للأزهر لابُدَّ أن يختلف فيها محتوى مقرر تعليم اللغة عن المدارس الأخرى، كذلك فإن محتوى المقرر الذي يقدم في مدرسة تعلم الأطفال لغة أجنبية إلى جانب اللغة الأولى يختلف عنه في مدرسة لا تعلم إلَّا اللغة الأولى، وكذلك يختلف الأمر بين المدارس الفنية «الصناعية والزراعية والتجارية» عن المدارس العامة. وثمة رأي يقرر أن محتوى المقرر في تعليم اللغة في المدارس الابتدائية يجب ألا يكون واحدًا على مستوى الدولة الواحدة، وإنما يجب أن يتنوع بتنوع البيئات؛ فالمحتوى الذي يقدم في مدرسة ابتدائية في العاصمة أو في المدن الكبرى يجب أن يكون غير المقرر الذي يقدم في مدرسة في الريف أو في البادية، وهذا رأي نراه جديرًا بالنظر في المراحل الأولى في المدرسة الابتدائية على وجه الخصوص؛ لأن المحيط اللغوي يختلف من بيئة لأخرى، وقد أثبتت التجربة أن توحيد اختيار المواد اللغوية في هذه المدرسة لا يؤدي إلى تحقيق أهداف المقرر إذ يصطدم الأطفال بكلمات عن أشياء غير موجودة في البيئة فلا يستطيعون تصور مدلولاتها المحسوسة في الأغلب، ويؤثر هذا بعد ذلك على تتابع المحتوى.
هذه أهم العوامل التي تؤثر في اختيار محتوى المقرر، وهي كما ترى عوامل لا تتصل باللغة، ولا بخصائص المتعلمين، ولذلك تسمى «عوامل خارجية». وغني عن القول أن هذه العوامل لا تُؤخذ واحدًا واحدًا، وإنما هي تتناسق جميعًا عند عملية الاختيار؛ إذ كل واحد منها يؤثر في الآخر ويتكامل معها. أما العوامل الأخرى «الداخلية» فسوف نشير إليها عند الحديث عن اختيار المواد اللغوية.
│
واختيار محتوى المقرر يتضمن ضربين من الاختيار:
1- اختيار النمط اللغوي.
2- اختيار مفردات المواد اللغوية، أو الأشكال اللغوية.
أولاً: اختيار النمط اللغوي:
عرضنا فيما مضى للتنوع اللغوي كما يهتم به علم اللغة الاجتماعي. وكل شكل من أشكال التنوع يمثل «نمطًا» لغويًّا، إضافة إلى معايير أخرى، والأنماط التي لا مناص منها في اختيار المحتوى هي:
اللهجة:
وقد أشرنا سابقًا إلى اللهجات الإقليمية واللهجات الاجتماعية. وعند اختيار المحتوى –خاصة في تعليم اللغة الأجنبية– يظهر السؤال عن نوع اللهجة التي تكون موضع الاختيار. والاتجاه الغالب أن المقرر الذي يوضع لأغراض عامة يختار محتواه من «النمط» الفصيح العام الذي يستعمل عادة في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة. لكن المقرر الذي يوضع لأغراض خاصة، كتعليم العربية للأطباء الأجانب الذين يعملون في البلاد العربية لابد أن يختار محتواه من اللهجات المستعملة؛ لأن الهدف هنا سلامة الاتصال اللغوي بين الطبيب والمريض الذي يعبر عن نفسه بلهجته بطبيعة الحال. وفي بعض اللغات كتعليم الفرنسية لغة أجنبية يتحدثون دائمًا عن لهجة سوقية وأخرى عامة، وهم لا يغفلون الأولى عند اختيار المحتوى بل يرونها عنصرًا ضروريًّا في التعليم؛ لأن المتعلم لا بد أن يواجهها في الاتصال اللغوي.
ومهما يكن من أمر فإن الشأن في تعليم العربية مختلف، ومن ثم فإن اختيار النمط العربي له معاييره الخاصة التي يجب أن نراعيها، وسوف نعرض لذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
اللغة الخاصة:
وهي التي أشرنا إليها سابقًا من أن كل مجال لغوي له لغته الخاصة؛ تختلف في مجال عن آخر على مستوى المعجم في الأغلب، وعلى مستوى البنية النحوية في بعض الأحيان؛ فالمعجم المستعمل في لغة القانون مختلف عنه في لغة الطب أو لغة الفلسفة أو لغة الفقه، وكذلك تختلف أشكال البنية النحوية. ولا شكَّ أن هذا النمط معيار أساسي في اختيار محتوى المقرر في تعليم اللغة لأغراض خاصة.
نوع الأسلوب الكلامي:
ولا نقصد به هنا ما أشرنا إليه من خصائص «علم الأسلوب العام»، وإنما نعني به ما نعرفه من تنوع في أساليب الأداء الكلامي؛ فهناك الأسلوب «الرسمي» العام، وهناك الأسلوب العاطفي «الحميم» الذي بين الأصدقاء، والأسلوب «الاستعلامي»، والأسلوب «الاستشاري»، والأسلوب «المتشكك» ... وهكذا، وإن كان بعضهم يرى حصرها جميعًا في أسلوب «رسمي» وآخر غير رسمي[SUP]([/SUP][2][SUP])[/SUP]. واختيار محتوى المقرر لابد أن يُراعي هذا التنوع أيضًا مع الاتجاه الغالب في المراحل الأولى إلى الأسلوب الرسمي العام.
بعد ذلك نأتي إلى شكل الأداء اللغوي؛ أهو مكتوب أم منطوق؟ ويكاد يكون الاختيار في معظم المقررات مبنيًّا على اللغة «المكتوبة» كما هو الأمر في تعليم العربية في العالم العربي، وهو نقص كبير جدًّا؛ لأن إغفال المستوى «المنطوق» في الاختيار يؤدي إلى خلل كبير في تعليم اللغة وبخاصة على الأداء الاستقبالي.
ثانيًا: اختيار مفردات المواد اللغوية:
يبدأ اختيار المحتوى إذن من اختيار «النمط»، وحين يتم ذلك ننتقل إلى الخطوة التالية، وهي اختيار مفردات المواد اللغوية؛ ما تلك المواد؟ وما حجمها؟ وليس من شك أن الاختيار من نمط يختلف عنه من نمط آخر، مع تأكيد أهمية العوامل الخارجية التي أشرنا إليها.
وبدهي أن مدى الاختيار ليس واحدًا في «مستويات» النمط، يحكم
ذلك معيار دقيق؛ هو «حجم» فصائل المستوى، ودرجة «الشيوع» في عناصره؛
إذ كلما كثرت الفصائل واختلفت درجة الشيوع فيها كان مدى الاختيار واسعًا، والعكس صحيح. ومن الطبيعي إذن أن يكون الاختيار محدودًا
جدًّا على المستوى الصوتي؛ لأن العناصر الصوتية في كل لغة، وفي كل نمط، محدودة جدًّا، ودرجة شيوعها عالية جدًّا، ومن ثمَّ فلا يكاد يكون هناك
مجال للاختيار، ونحن لا نستطيع أن نعلِّم أصواتًا من اللغة، ونترك أصواتًا أخرى.
وكذلك الحال على المستوى الصرفي، يضيق مجال الاختيار فيه وإن يكن مختلفًا عن المستوى الصوتي؛ لقلة الفصائل الصرفية من ناحية، وارتفاع درجة الشيوع في معظمها من ناحية أخرى. ليست كل الصيغ الفعلية في العربية مثلًا متساوية الشيوع، وثمة صيغ ينخفض شيوعها انخفاضًا واضحًا؛ فليس هناك ما يدعو إلى اختيارها في المحتوى كصيغة افعوعل «اخشوشن»، وافعالَّ «اخْضارَّ» وهناك صيغ كثيرة أيضًا في جموع التكسير يجب إسقاطها عند الاختيار.
أما الاختيار الحقيقي فيكون على مستوى «المعجم» وعلى مستوى
«النحو».
المعجم:
ونقصد به اختيار «الكلمات» في محتوى المقرر، وليس من شكٍّ في أن معجم أية لغة يشتمل على عدد هائل من الكلمات؛ فالاختيار مسألة حتمية، وهو لا يمكن أن يكون نافعًا في التعليم إلَّا إذا كان مستندًا إلى معايير موضوعية، وقد توصل الذين سبقونا في هذا المجال إلى المعايير الآتية:
1- الشيوع:
وهو أهم معيار في اختيار الكلمات؛ إذ كلما كانت الكلمة أكثر استعمالًا كانت أنفع وأصلح في تعليم اللغة. وقد جرت دراسات الشيوع –في الأغلب– على مستوى الكلمات.
ولكي نصل إلى حقائق مقبولة عن شيوع الكلمات لابدّ من «عينة» لغوية كبيرة جدًّا، ولا تتساوى هذه العينة – بطبيعة الحال – بين تعليم اللغة لأبنائها وتعليمها لغة أجنبية، كما أن أهداف المقرر لابد أن تكون واضحة جدًّا حتى تكون العينة ممثلة لها، وبعد ذلك يبدأ التحليل الكمي؛ إما على أساس «صيغة الكلمة»؛ أي أن تكون كل صيغة «وحدة» في ذاتها يجري عليها الإحصاء؛ مثلًا:
«فتح – يفتح – افتح – افتتح – انفتح – استفتح – فاتح – فتَّاح –
مفتوح – افتتاح...» كل واحدة منها تعد «وحدة» في ذاتها. وإما على أساس اتخاذ «المدخل» المعجمي «وحدة» تنتظم هذه الصيغ جميعها تحت «فتح».
وبعد إجراء التحليل الإحصائي لشيوع الكلمات يمكننا أن نقرر «الكلمات» التي تختار في المقرر، وقد ثبت أن العدد المطلوب لبناء مقرر في تعليم اللغة قليل جدًّا، يكفي للاستعمال في كثير من الموضوعات. فقد دلَّت إحصائيات الشيوع التي أجريت في لغات كثيرة أن الأَلْف كلمة الأكثر شيوعًا تمثل 94% من النص، وأن المائة كلمة الأكثر شيوعًا تمثل 74% منه. وهذا برهان على ضرورة الأخذ بهذا المنهج قبل اختيار المحتوى وإلَّا فإن المتعلم يستنفد جهده في تعلم كلمات كثيرة لا يحتاج إلى استعمالها إلَّا نادرًا، على حين يجهل الكلمات التي يحتاجها دائمًا.
2- التوزيع:
وهو المعيار الثاني الذي يكمل معيار الشيوع، ويقصد به مدى استعمال الكلمة في المجالات المختلفة؛ إذ إن هناك كلمات لها انتشار واسع في غير مجال، ومثل هذه الكلمات أنفع في تعليم اللغة لا جدال؛ لأن المتعلم يستطيع أن يستعمل الكلمة الواحدة في غير موضوع؛ كلمة «فتح» مثلًا لها درجة مرتفعة في التوزيع، تقول: «فتح الباب – وفتح المسلمون بلادًا كثيرة – وفتح عينه على
كذا – وفتح قلبه للناس – وفتح حسابًا في مصرف – وفتح عليه النار... وهكذا».
3- قابلية الاستدعاء:
هناك كلمات في اللغة يسهل عليك أن تتذكرها دون عناء، ويسهل عليك أن «تستدعيها» حين يخطر على بالك موضوع ما، أو تُذكر أمامك مسألةٌ ما. وقد أجريت تجارب كثيرة على الأطفال ثبت منها أنهم يستدعون كلمات معينة –في سرعة هائلة– ويستعملونها استعمالًا صحيحًا.
ويحدث كثيرًا أنك حين تتحدث في موضوع ما تقول:
أريد أن أقول ... أن أقول ... ولا تستطيع أن تمسك بالكلمة التي تريدها فعلًا، وتطلب من مستمعك أن يعينك على تذكرها، وقد لا تنجح، والأغلب أنك تتذكرها فجأة بعد فترة قد تطول أو تقصر. ومعنى ذلك أن هذه الكلمة «مخزونة» في ذاكرتك، لكنها ليست من الكلمات التي يسهل استدعاؤها
أو تذكرها. ولا شك أنَّ النوع الأول هو الأنفع والأصلح في اختيار كلمات المحتوى في تعليم اللغة.
4- المعيار النفسي والتعليمي:
لا تصلح معايير الشيوع وحدها في اختيار الكلمات، بل لابد من الاحتكام إلى المعايير النفسية والتعليمية، مثل قابلية الكلمة للتعلم Learnability بألا يصعب على المتعلم أن يتعلمها، وقابليتها للتعليم Teachability بألَّا يصعب على المعلم تعليمها في يسر، ويرجع ذلك –في الأغلب– بجانب المعايير السابقة، إلى طول الكلمة أو قصرها، واطرادها أو شذوذها، والعلاقة بين اللغة الأجنبية واللغة الأولى. كذلك لا ينبغي أن نغفل عن خصائص المتعلم التي أشرنا إليها فيما سبق.
وقد عرفت اللغات المتقدمة جهودًا متلاحقة في إجراء دراسات الشيوع على الكلمات مما أثمر ما يعرف بـ«قوائم الكلمات» Word lists[SUP]([/SUP][3][SUP])[/SUP]، كانت أساسًا ضروريًّا لاختيار كلمات المحتوى في مقررات تعليم اللغة.
ولا تجري هذه القوائم على منهج واحد في الاختيار، إذ تختلف فيما بينها في النظر إلى المعايير التي عرضنا لها، ومهما يكن من أمر فإن إنجاز قوائم للكلمات يقتضي إجراءات فنية معينة[SUP]([/SUP][4][SUP])[/SUP].
النحو:
يظن بعض الناس أن النحو «كلّه» يجب أن يعلَّم، وهذا غير صحيح؛ إذ لابد من الاختيار وفق معايير موضوعية هي نفسها المعايير التي عرضنا لها في اختيار الكلمات؛ إذ ليست كل البنى النحوية متساوية من حيث الشيوع، ولا من حيث التوزيع، ولا من حيث قابلية التعلم والتعليم. هناك بنى بسيطة، وأخرى مركبة، وهناك بنى مركزية لا يستغني عنها الاستعمال اللغوي، وأخرى هامشية... وهكذا. ولا يتم الاختيار إلَّا بعد دراسات إحصائية كتلك التي رأيناها في الكلمات، يبدأ بعدها وضع قوائم للبنى النحوية الأساسية Basic structure lists تكون مصدرًا لاختيار المحتوى النحوي في المقرر التعليمي. وقد عرفت اللغات المتقدمة عددًا من هذه القوائم[SUP]([/SUP][5][SUP])[/SUP]؛ اختلفت في تطبيق المعايير السابقة، واختلفت بعد ذلك في مدخل الاختيار. ولقد كان المدخل اللغوي هو الغالب على هذه القوائم، لكن الاتجاه السائد الآن اعتماد المدخل الوظيفي بربط البنى النحوية بالأحداث الاتصالية التي تبينها أهداف المقرر. ونود أن نلفت إلى أن إنجاز قوائم للبنى النحوية ليس أمرًا هينًا؛ إذ تعترضه صعوبات أهمها تحديد «وحدة» الحصر في البنية النحوية على نحو الخلاف اليسير الذي رأيناه في الكلمات، وكذلك طريقة التحليل النحوي.
ومهما يكن من أمر فإن قوائم البنى النحوية لا غنى عنها في اختيار المحتوى في تعليم اللغة.
النصوص:
ولا نزاع في أن اختيار النصوص يمثل بعد ذلك عصَب اختيار المحتوى اللغوي، وهو يختلف – بطبيعة الحال – بين تعليم اللغة لأبنائها وتعليمها لغة أجنبية؛ ففي المقرر الأول نلجأ إلى النصوص الأصلية، وإن كنا لا نستبعد «تبسيط» النص في مراحل تعليمية معنية، وأن تكون النصوص شاملة لثقافة الأمة وتراثها ومجالات الحياة فيها. أما في المقرر الثاني فالأغلب اختيار النصوص التي «تهم» المتعلم، والنصوص التي تيسر له فهم المجتمع الذي يتعلم لغته. ونطبق هنا معايير اختيار الكلمات والنحو بالإضافة إلى معايير أخرى؛ منها أهمية الموضوع، وصعوبة النص، وأسلوب الكاتب، ومعرفة المتعلم.
ولا يمكن تصور محتوى لمقرر في تعليم اللغة إذن دون اختيار، ونود أن نلفت إلى أنه لا توجد نظرية شاملة عن المقرر؛ فالسعي الإنساني يتواصل من أجل التقدم، وتعليم اللغة نشاط «عملي» يتجدد كل يوم، وهو يفرز تجارب وخبرات جديدة، ويكشف عن مشكلات لم تكن معروفة، ويقترح حلولًا كانت غائبة، ولكل لغة خصائصها، ولكل تعليم أهدافه. على أن ذلك كله لا يعني إلَّا شيئًا واحدًا هو ألا يكون الاختيار عشوائيًّا أو ذاتيًّا أو حسبما تسوق الصدفة، وإنما يجب أن يكون وفق «منهج» علمي يتخذ معايير موضوعية، وتتكامل فيه مجالات التخصص.
│
قلنا إن اختيار محتوى المقرر يمثل عصب تعليم اللغة، لكن ذلك لا يعني أن الأمر يتوقف عند ذلك؛ بل إن اختيار المحتوى يقتضي إجراءات علمية أخرى تمكن من نفخ الروح في هذا المحتوى كي يكون مقررًا صالحًا للتعليم، وذلك «بتنظيمه» و«تدريجه»، وتحديد إجراءات التعليم، والوسائل التعليمية، وطريقة التقويم وغير ذلك.
وتنظيم المحتوى هو ما نود أن نلفت إلى خطوطه العامة هنا تاركين المسائل الخاصة بالإجراءات التعليمية لأهل الاختصاص في علوم التربية.
والعوامل التي تؤثر في تنظيم المحتوى هي التي تؤثر في اختياره، خاصة الأهداف، والوقت المخصص للمقرر، والمستوى التعليمي الذي يخصص له المقرر.
وعملية التنظيم تعني في المقام الأول مصطلح «التدريج» Gradation؛ فلا مناص من وضع مفردات المقرر بحيث ننتقل فيها من درجة إلى درجة.
والذي لا شكَّ فيه أن تعليم اللغة من أكثر المواد التعليمية «تتابعًا» بمعنى أن ما سوف نتعلمه غدًا يتوقف على ما نتعلمه اليوم، خاصة في المراحل الأولى.
ويدور نقاش واسع حول نمطين من التدريج في تعليم اللغة هما: التدريج الطولي، والتدريج الدوري.
1- التدريج الطولي Linear gradation:
وهذا هو النمط الذي كان سائدًا في تعليم اللغة في معظم بلاد العالم إلى عهد قريب، ومنهجه ينهض على تقديم كل «مفردة» من مفردات المحتوى دفعة واحدة، بحيث يقدمها تقديمًا مفصلًا، لا يترك منها جزئية إلَّا أتى عليها. والهدف من ذلك أن يتقن المتعلم كل مفردة قبل أن ينتقل إلى غيرها. فإذا قدمنا درس «الضمائر» مثلًا على هذا النسق قدمنا كل شيء عن الضمائر؛ من كونها ضمائر منفصلة، ومتصلة، وفي موضع رفع، ونصب، وجر، وفي حالة النداء، والنعت، والتوكيد، والعطف ... إلخ.
والذي لا شك فيه أن هذا النوع، من التدريج يفضي إلى خلل كبير في تعليم اللغة، وقد ظهرت اعتراضات قوية على تطبيقه لأسباب واضحة أهمها؛ أن تقديم المفردة دفعة واحدة يؤدي إلى دراستها دراسة مكثفة لكنها تسقط في النسيان والتجاهل بعد ذلك، وصحيح أن معظم المقررات تشتمل على وحدات للمراجعة لكنها لا تستطيع أن تعالج هذا الخلل، ومنها أنها تؤدي إلى البطء الشديد في تعليم اللغة؛ لأنَّ كل مفردة تُعرض وحدها هذا العرض المفصل، ولذلك أخطاره الشديدة على المتعلم الذي يجد نفسه –خاصة في المراحل الأولى– غير قادر على استعمال ما يتعلمه، ومن ثمَّ تعتريه حالة طبيعية من الإحباط مما يؤثر –لا شك– تأثيرًا سلبيًّا قويًّا لا يميز –بطبيعته– بين استعمال المادة اللغوية في الأداء الإنتاجي والإنتاج الاستقبالي، وفي ذلك أيضًا خطر جلي على المتعلم الذي يسعى إلى أن تكون لديه القدرة على الأداء كتابة أو كلامًا
أو قراءةً أو استماعًا.
2- التدريج الدوري Cyclic gradation:
وهو على نقيض التدريج الطولي؛ إذ ينهض على مبدأ مستقى من النظرية اللغوية التي تقرر أن اللغة «نظام من الأنظمة» أو هي «شبكة» من العلاقات، وأنك لا تستطيع أن تعرف «شيئًا» ما من اللغة إلَّا بعد أن تعرف العلاقات التي تربطه بالأشياء الأخرى، وهكذا فإن «المفردة» هنا لا تقدم دفعة واحدة، ولا تعرض عرضًا شاملًا، وإنما يقدم منها جانب واحد، مع جوانب أخرى لمفردات أخرى، ثم تعود إليها بتقديم جانب ثان، ثم ثالث، وهكذا. وبذلك «يألف» المتعلم المفردة، ويتدرج من عناصرها الأساسية إلى الفرعية، وتظهر له علاقاتها بغيرها. فالضمائر مثلًا يقدم منها ضمائر المفرد المنفصلة، ثم ضمائر الجمع المنفصلة، فضمائر المفرد في حالة النصب، وضمائر الجمع في حالة النصب... وهكذا، توزع على أبواب المقرر، وقد لا تنتهي في مستوى واحد. والذي لا شك فيه أن التدريج الدوري أكثر ملاءمة لتعليم اللغة من التدريج الطولي؛ لأنه يتيح فرصة طبيعية لمراجعة المادة في «سياقات» مختلفة، وهذا مهم جدًّا في الاستعمال اللغوي، وهو يجعل تعليم اللغة أسرع حين يجد المتعلم نفسه قادرًا على استعمال ما يتعلمه، وفي ذلك تقوية لدافعيته لتعلم اللغة.
لقد انتهى الآن هذا النقاش برفض التدريج الطولي وتفضيل التدريج الدوري، لكن النقاش انتقل إلى المفاضلة بين ثلاثة أنماط أخرى من التدريج؛ هي التدريج النحوي، والتدريج الموقفي، والتدريج الوظيفي.
1- التدريج النحوي Grammatical gradation:
وقد كان هذا النمط أساسًا لمعظم المقررات إلى عهدٍ قريبٍ؛ إذ إن الاعتقاد كان سائدًا بأن إتقان «قواعد» اللغة هو العنصر الجوهري في إتقان اللغة، وعلى ذلك كانت المقررات تُنظَّم مُدرَّجة على أساس الفصائل الصرفية والنحوية، حتى إن وحدات المقرر تسمى في الأغلب بفصيلة نحوية معنية؛ فوحدة عن اسم الفاعل، وأخرى عن اسم المفعول، وثالثة عن المفعول المطلق، ورابعة عن التعجب.... وهكذا. ومن الواضح أن هذا النمط يحمل عيوبًا وضاحة؛ أهمها أنه يركز على قواعد «اللغة»، وليس على قواعد «الاستعمال»، وتعليم اللغة يهدف أولًا إلى إتقان «الاتصال»، والتركيز على القواعد اللغوية يؤدي إلى أن يكون المقرر ناقصًا من حيث المعجم اللغوي، مما يجعل المتعلم غير قادر على استعمال ما يتعلمه. وليس معنى ذلك أن الترتيب النحوي يجب أن يستبعد استبعادًا تامًّا، لكن لا بد من التأكيد أن الدقة اللغوية لا تقتضي «القبول» النحوي فقط، وإنما تقتضي «الملاءمة» أيضًا.
2- التدريج الموقفيSituational gradation :
وقد انتشر هذا النمط بعد أن ظهرت عيوب التدريج النحوي؛ فالفصائل ليست أساس التدريج هنا، وإنما «المواقف»، وهو مصطلح يعني «البيئة» الطبيعية التي يجري فيها الاستعمال اللغوي، ومن هنا رأينا وحدات المقرر تسمى بأسماء هذه المواقف؛ «في المطعم»، و«مكتب البريد»، و«في المطار» ... وهكذا. والحق أن هذا النمط لم يسلم كذلك من النقد؛ إذ تبين أن هذه المواقف لم تكن غير إطار للتدريج النحوي الذي ظل مسيطرًا بسبب التدريبات الآلية الكثيرة التي تشتمل عليها كل وحدة؛ ثم إن سيطرة «البيئة» الطبيعية على الدرس أفقد تعليم اللغة عنصرًا مهمًّا من أهم عناصره، وهو الاستعمال اللغوي الشامل؛ ذلك أن «البيئة» وحدها لا تحدد قواعد الاستعمال؛ بل إن هناك عوامل أخرى كثيرة أشرنا إليها فيما سبق عن المشاركين في الحدث الكلامي وأدوارهم الاجتماعية والنفسية. ثم إن المتعلم يفاجأ بمواقف لم يسبق له أن درس بيئتها فيقع في الاضطراب، يضاف إلى ذلك كله صعوبة التوصل إلى معيار عن ترتيب هذه البيئات.
3- التدريج الوظيفي Functional gradation:
ويجعل هذا النمط «الوقائع» الاتصالية أساس التدريج في المحتوى، وهو بذلك يشتمل على شواهد من الاستعمال اللغوي الواقعي، وفي الوقت نفسه لا يغض الطرْف عن الأسس النحوية والموقفية. وهذا النمط لا بد أن ينبني على التدريج الدوري؛ حيث تتدرج القواعد الوظيفية على حلقات المقرر، بسيطة أول الأمر، ثم تتوسط، وتتركب في الحلقات التالية في شبكة من علاقات الوظائف، ويقتضي ذلك أن تأتي قواعد النحو في تلافيف الوظائف اللغوية؛ فيساعد ذلك على وضع اللغة في إطار طبيعي غير مصطنع. ونود أن نلفت أيضًا إلى أن اختيار هذا النمط ليس بالأمر اليسير؛ إذ يصعب إيجاد معايير واضحة عن ترتيب الوظائف اللغوية، لكن المهم في الأمر كله أن المقصود بالنمط هو الوصول إلى القدرة الاتصالية عند المتعلم، ومن ثم فالأفضل أن نجد نوعًا من التكامل بين الأنماط النحوية والموقفية والوظيفية. ويبدو أن الاتجاه العام نحو جعل التدريج النحوي أغلب في المراحل الأولى من تعليم اللغة، ثم التدرج في استعمال التدريج الوظيفي إلى أن يكون مسيطرًا في المراحل المتقدمة.
([1]) عن الأهداف والغايات وأهميتها في تعليم اللغة تجد عرضًا متصلًا في:
-Roberts, R., Aims and objectives in language teaching, English Language Teaching, 26, 1972, 227-9.
-Steiner, F., Performing with objectives, Rowley,Mass. 1975.
([2]) عن الأساليب انظر:
-Joos, M., The five cloks, New York 1961.
- Turner, G., Stylistics. Harmondsworth 1973.
([3]) من أشهر هذه القوائم:
1- Bongers, H., Three thousand-word English, Amsterdam, 1947.
2- West, M., A general service list of English Words, London 1953.
3- West, M., H. Hoffmann, Englischer Mindestwortschatz, Munchen 1974.
4- Gougenheim. G., Dictionnaire fondamental de la langue Francaise, Paris 1958.
([4]) انظر في هذا:
Mackey, W., Language teaching analysis, London, 1965.
([5]) من هذه القوائم:
1-Palmer, H., Specimens of English construction Patterns,Tokyo 1935.
2-Fries, C., The structure of English, New York 1952.