علم السياق القرآني [8] ( صلة السياق ببعض علوم القرآن)

إنضم
18/04/2003
المشاركات
116
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
السياق مرتبط بالتفسير ارتباطاً وثيقاً بل هو أصل فيه كما قررت سابقاً، ولهذا فلابد من ارتباط بين السياق وبين العلوم المتعلقة بالتفسير.
وأعرض هنا لبعض الجوانب الرئيسة من علوم التفسير مما له صلة وثيقة بالسياق من خلال المطالب التالية:

أولاَ : الموضوعات المتعلقة بالنزول.
من أعظم ما يرتبط بالسياق من علوم التفسير العلوم المتعلقة بتنزيله، وهي: أسباب النزول، ومعرفة المكي والمدني، ومعرفة أحوال المخاطبين حال النزول، وعموم الأحوال التي نزلت فيها الآية، ويمكن أن نسميها بـ (ملابسات النزول)

وأسباب النزول هي ألصق هذه الموضوعات بالسياق وأجمعها، وهي على الصحيح أعم من أن تكون أثراً منقولاً في دواوين السنة، بل إنه يدخل فيها عموم أحوال التنزيل، وهذا ماسلكه كثير من المفسرين ([1]).

ولهذا يمكن تعريف أسباب النزول بأنها: (ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبينة لحكمة أيام وقوعه) ([2]).

وأسباب النزول بهذا المعنى العام طريق مهم لفهم كلام الله تعالى، ولا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على الأحوال التي نزلت فيها.

قال شيخ الإسلام: "ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب"([3]).

وقال السيوطي: "قال الواحدي:لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، وقال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن"([4]).

وللعلماء عناية خاصة بأسباب النزول في القديم([5]) والحديث([6]).

الصلة بين السياق وعلم أسباب النزول:
أسباب النزول بما تشمله من أحوال التنزيل لها أثر بالغ في معرفة السياق وتحديده، ولذا اعتبرت من عناصر السياق وأركانه، حيث ذكرنا أن من عناصر السياق الأحوال والأسباب التي نزلت فيها الآية. وفي مقابل ذلك فإن السياق يبين السبب الصحيح للآية.

قال الشاطبي موضحاً فائدة أسباب النزول بمعناها العام المرتبط بالسياق وتلازم الصلة بين السياق وأحوال التنزيل: "معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:

أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حاله، وبحسب مخاطبيه، وبحسب غير ذلك.. ومعرفة الأسباب رافعة كل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب ولا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال.

وينشأ عن هذا الوجه: الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع.. "([7]). وهذا كلام فصل في هذا الباب.

وقال ابن عاشور مؤكداً أهمية أسباب النزول بمعناها العام في معرفة السياق":ومنها - أي أسباب النزول - ما ينبه المفسر إلى إدراك خصوصيات بلاغية تتبع مقتضى المقامات، فإن من أسباب النزول ما يعين على تصوير مقام الكلام"([8]).

أمثلة تؤكد الصلة:

يحسن بنا أن نعرض لبعض الأمثلة الدالة على أهمية معرفة أحوال التنزيل وأسبابه وأثرها في تحديد السياق ومعرفته وبيان المعنى، وأثر السياق في تحديد سبب النزول.

المثال الأول: في أثر السياق والأحوال التي نزلت فيها الآية لتحديد السياق ومعرفة المعنى المقصود.

وهو ما أخرجه البخاري: (أن مروان بن الحكم قال لبوابه: يا رافع؛ إذهب إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا، لنعذبن جميعًا !، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت في أهل الكتاب! ثم تلا ابن عباس: { وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ" إلى قوله: +أن يحمدوا بما لم يفعلوا}[آل عمران 178]. قال ابن عباس: سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه، فاستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه)([9]).

فهذا المثال يبين أثر الحال الذي نزلت فيه الآية ومن نزلت فيه، ويزيل الإشكال الوارد فيها. وقد استدل على نزولها في اليهود بالسياق وهو الآية السابقة لها. وهذا يؤكد الصلة بينهما وأن كلا منهما مبين للآخر.

المثال الثاني: في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا}[البقرة104] فإن الآية لايمكن معرفة سياقها ومعناها إلا بمعرفة الحال التي نزلت فيه، وهو أن اليهود كانوا يقولونها للنبي × ويقصدون بها الاستهزاءً والطعن كما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} هو قول كانت اليهود تقوله استهزاءً، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم([10]).

والعلاقة بين أسباب النزول والسياق علاقة مشتركة، فكما أن أسباب النزول تعين على معرفة السياق، فإن السياق وسيلة مؤثرة في بيان الأصح من أسباب النزول.

ومن أمثلة ذلك: ما أورده ابن جرير في قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} الآية [آل عمران 31]. حيث قال: "اختلف أهل التأويل في السبب الذي نزلت فيه هذه الآية.. وأولى القولين بتأويل الآية قول محمد بن جعفر بن الزبير - يعني أنها نزلت في وفد نجران - لأنه لم يجر لغير وفد نجران في هذه السورة، ولا قبل هذه الآية ذكر قوم ادعوا أنهم يحبون الله، ولا أنهم يعظمونه"([11]).

ومن العلوم المتعلقة بالنزول: علم المكي والمدني.
وقد ذكر السيوطي ضابطه فقال: "اعلم أن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة: أشهرها أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها سواء نزل بمكة أم بالمدينة عام الفتح أو عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار"([12]).

وهو علم مهم معين على معرفة المعنى وتحديد السياق، قال السيوطي: "قال أبو القاسم النيسابوري في كتاب التنبيه على فضل علوم القرآن: من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته"([13]).

والمكي والمدني له صلة بالسياق ظاهرة، من وجوه:

أولاً: أن للسور المكية أغراضاً تختلف عن أغراض السورة المدنية فمن أغراض المكي التوحيد وأركان الإيمان، ومجادلة المشركين، ومن أغراض السور المدنية بيان وتفصيل أحكام الإسلام وحدوده. فمثلاً سورة الحج سورة مكية، غرضها إقامة التوحيد لله وإظهار أدلته ولهذا جاء فيها الحج ببيان أصول التوحيد فيه، وسورة البقرة سورة مدنية غرضها تقرير أصول أحكام الشريعة، ولهذا جاء فيها ذكر الحج ببيان أصول أحكامه.

وهذا ظاهر الدلالة والأثر في السياق؛ إذ أن معرفة المكي من المدني يؤكد سياق السورة ويحدده، ويبين الغرض المقصود منها.

ثانياً: أن للآيات المكية خصائص أسلوبية ليست للآيات المدنية، فمن خصائص الآيات المكية أنها متضمنة للوعيد والتهديد غالباً، فتجد مثلاً كلمة +كلا" الرادعة الزاجرة، وكلمة {الصاخة} التي تشعر بالوعيد والتهديد، ومن خصائص الآيات المدنية أن ألفاظها متضمنة للوعد والترغيب غالباً، ولذا تجد في افتتاحها بنداءات الإيمان، وخواتمها بأسماء الرحمن.

وهذا يؤثر في معرفة السياق من جهة معرفة غرض الآية وما تتضمنته من الوعد والوعيد، والمخاطب فيها من مؤمن وكافر.







- الحواشي ----
([1]) انظر: (جامع البيان)) (4/33) ، ((تفسير ابن كثير)) (1/390) ، ((التحرير والتنوير)) (2/197)، (2/ 359) ، ومن الشواهد على ذلك ما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: +واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً" [آل عمران 103] قال ابن كثير: (وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه قدكان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية... فلما جاء الإسلام صاروا إخواناً متحابين) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/390).
([2]) انظر: ((مناهل العرفان)) (1/99) ، ((أسباب النزول وأثره في بيان النصوص)) (26).
([3]) ((مجموع الفتاوى)) (13/339).
([4]) ((الإتقان)) (1/93).
([5]) من المؤلفات في القديم: أسباب النزول لعلي بن المديني، وأسباب النزول للواحدي، والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي..
([6]) من المؤلفات في الحديث: الصحيح المسند من أسباب النزول للوادعي، وأسباب النزول عن الصحابة والتابعين للقاضي، وأسباب النزول القرآني لغازي عناية، وأسباب النزول وأثرها في بيان النصوص لعماد الدين الرشيد.
([7]) ((الموافقات)) (4/146).
([8]) ((التحرير والتنوير)) (1/47).
([9]) أخرجه البخاري (6/50) رقم(4568). انظر: ((أسباب النزول للواحدي)) (1/268).
([10]) انظر: ((جامع البيان)) (1/515).
([11]) ((جامع البيان)) (5/426).وانظر: أيضاً ((جامع البيان)) (4/615) (6/459) (7/636).
([12]) ((الاتقان)) (1/8).
([13]) ((الاتقان)) (1/5).
 
جزاك الله خيراً على هذا الموضوع الذي يلقي الضوء على أهمية سياق الحال أو المقام في تفسير القرآن ولكنك أخي استعملت كلمة السياق مطلقة في معنيين :السياق المقامي والسياق اللغوي وهذا يشكل على القارئ ؛وذلك عندما قلت:( فكما أن أسباب النزول تعين على معرفة السياق، فإن السياق وسيلة مؤثرة في بيان الأصح من أسباب النزول)فالسياق الأولى هي سياق مقامي ،والسياق الثانية هي السياق اللغوي فإذا كنت محقة في تخميني لقصدك بكلمة السياق فأنا أميل إلى أن كلمة (السياق)عندما تطلق يتبادر للذهن السياق اللغوي أو نقيدها ونعرفها بالإضافة مثل السياق العاطفي ،السياق المقامي ،السياق الثقافي وغيرها مما أفرزته النظريات الحديثة في علم الدلالة .
 
السلام عليكم :هل يمكن اعتبار دلالة السياق قطعية أم ظنية؟؛ بمعنى أنه لايُحتاح إلى الإستدلال على المعنى المستفاد من خلال السياق بأدلة أخرى أم أنها تبقى ظنية اجتهادية.
 
إن جاز لي الاجتهاد في هذا الموضوع أقول مما لا شك فيه أن السياق اللغوي دلالته قطعية فلا مرجح لدلالة لفظ على أخرى إلا من السياق اللغوي وعلى مثل هذا تدور كتب الأشباه والنظائر في القرآن الكريم وإلا فما الذي يجعل نفس اللفظ يحمل معنى في سياق ويحمل غيره في سياق آخر ،أما عن السياق المقامي والثقافي والعاطفي فلا يرقى لدرجة القطعية إلا بقرينة وكلامي مبني على الملاحظة لا على بحث متكامل.
 
لو رجعت إلى كتاب شيخنا فضل حسن عباس رحمه الله تعالى لوقفت على آراء للشيخ في أثر السياق في فهم سبب النزول
 
عودة
أعلى