علم السياق القرآني[6]( قواعد وضوابط في السياق )

إنضم
18/04/2003
المشاركات
116
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
لما كان السياق أصلا عظيماً في تفسير كلام الله تعالى وبيان معناه، فقد توجه بعض الدارسين لاستخلاص القواعد والضوابط المتعلقة بالسياق من كلام المفسرين والعلماء المحققين ليكون منهجاً ثابتاً يجب مراعاته في تفسير كلام الله تعالى، ومن الكتب التي اعتنت بجمع قواعد التفسير، ومن ضمنها قواعد السياق ما يلي:.

1- (قواعد التفسير) للدكتور خالد السبت. وقد عنى بجمع كل مايمكن إلحاقه بالتفسير من القواعد.

2- (قواعد الترجيح عند المفسرين) للدكتور حسين الحربي. وقد عنى بكل ما يتعلق بالترجيح في التفسير من القواعد.

3- (دلالة السياق القرآني وأثرها في التفسير من خلال تفسير ابن جرير) للشيخ عبد الحكيم القاسم. وقد عنى باستخلاص قواعد التفسير المتعلقة بالسياق من خلال تفسير ابن جرير.

وسأعرض في هذه الحلقة - بإذن الله - لأهم ما يتعلق بالسياق من القواعد مما ذكره أصحاب الكتب السابقة أو مما استخلصته خلال دراستي لسورة البقرة:

وسأقسم القواعد إلى أقسام:

القسم الأول: القواعد والضوابط العامة في السياق:

أولاً: أن السياق القرآني أصل معتبر في تفسير كلام الله تعالى.

هذه القاعدة هي أساس قواعد السياق، فأول ما يجب اعتباره في السياق أمران:

1- أنه ثابت جار في كلام الله تعالى؛ إذ لا يخلو كلام من سياق يدل على مراد المتكلم. وهذا أمر متفق عليه.

قال الزركشي: "دلالة السياق أنكرها بعضهم، ومن جهل شيئاً أنكره، وقال بعضهم: إنها متفق عليها في مجاري كلام الله تعالى"([1]).

2- أنه من أعظم وأول ما يجب اعتباره في التفسير كما تقرر في مبحث منزلة السياق بين قرائن الترجيح. وقد قرر ذلك العلماء.

قال الزركشي: "ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز"([2]).

وقال السيوطي في الإتقان: "على المفسر مراعاة التأليف والغرض الذي سيق له"([3]).

ثانياً: أن السياق يرشد إلى المسلك الصحيح الذي يوصل إلى فهم مراد الله تعالى في كلامه.

وهذه القاعدة من أهم القواعد المتعلقة بالسياق، وهي تبين منزلة السياق في الوصول للمعنى الصحيح الذي هو مراد الله تعالى في كلامه، وذلك لأن السياق هو الذي يجعل الكلام متناسقاً منتظماً، وهذا هو المتوافق مع كتاب الله المحكم المعجز الذي انتظمت سوره وآياته وجمله. وتفسير كلام الله على وجه يراعي انتظامه أعظم مسلك في تفسيره، وأدعى إلى الوصول لمراد الله فيه، وبضد ذلك فإن الإعراض عن السياق يجعل الكلام متنافراً منقطعة أجزاؤه مما يجعل كلام الله متنافراً، وهو الذي يوقع في الخطأ في التفسير.

قال ابن القيم رحمه الله: "السياق يرشد إلى تبيين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته"([4]).

ثالثاً: أن تعيين السياق مبني على الاجتهاد والعلم بأصوله وقواعده.
السياق - كما تقرر - ثابت أصلاً في كلام الله تعالى، لكن تعيينه يختلف بحسب فهم المفسر له وقدرته على الوصول إليه بقرائن السياق المعتبرة وأركانه، فالبحث عن السياق هو بحث عن قرينة، والقرينة موجودة علمها من علمها وجهلها من جهلها([5])، ولذا تجد الاختلاف بين المفسرين على تعيين السياق في الآية الواحدة.

وهذه القاعدة مهمة تبين لنا أنه لا يجب اعتبار السياق وتعيينه إلا بدليل ظاهر، كأن يكون السياق ظاهراً في الآية كقوله تعالى: +وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ" [الطارق 1-3] فالسياق هنا ظاهر متعين في بيان المراد بالطارق وأنه النجم الثاقب.

قال ابن دقيق العيد: "ودلالة السياق لا يقام عليها دليل، وذلك لو فهم المقصود من الكلام، وطولب بالدليل عليه لعسر فالناظر يرجع إلى ذوقه"([6]).

رابعاً: لا يجوز صرف الكلام عن سياقه إلا بحجة يجب التسليم لها.
صرف الكلام عن سياقه الذي ورد لأجله لا يجوز، لكونه مخالفاً لمراد المتكلم، إلا أن يرد دليل صحيح يدل على صرف الكلام عما دل عليه السياق، كأن يثبت في الآية نسخ.

وقد قرر هذه القاعدة ابن جرير واعتمد عليها في تفسيره، فقال في تقريرها: "فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل، أو خبر عن الرسول × تقوم به حجة، فأما الدعاوى، فلا تتعذر على أحد"([7]).

خامساً: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب([8])..
هذه القاعدة الأصولية تعتبر قاعدة في السياق من جهة أنه لا عبرة بخصوص السياق الذي نزلت فيه الآية، وإنما العبرة بسياقها العام وهو ما دل عليه غرضها وحكمها العام، ولهذا جاءت ألفاظ القرآن عامة.

قال شيخ الإسلام: "والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنما تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه"([9]).

فإذا كانت الآية نازلة في سبب معين فإن هذا يبين المعنى المراد لكنه لا يعني بحال قصر الحكم في الآية على خصوص سببها.

فخصوص السبب عمدة في فهم المعنى، وعموم اللفظ عمدة في حكم الآية، إلا أن ما نزلت الآية بخصوصه قطعية الدخول في معنى الآية إذ هي الأصل فيها، لكن الآية تشمل غيره من جهة القياس على وصفه.

قال السرخسي: "وقال بعضهم: النص يكون مختصاً بالسبب الذي كان السياق له، فلا يثبت به ماهو موجب الظاهر، وليس كذلك عندنا، فإن العبرة لعموم الخطاب لا لخصوص السبب، فيكون النص ظاهراً لصيغة الخطاب، نصاً باعتبار القرينة التي كان السياق لأجلها"([10]).

وقال السيوطي: "إن صورة السبب قطعية الدخول في العام، وقد تتنزل الآيات على الأسباب الخاصة، وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامة رعاية لنظم القرآن وحسن السياق"([11]).

وضرب لذلك مثلاً بقوله تعالى: +وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى" [الليل 17-18] فإنها نازلة في أبي بكر الصديق بالإجماع ([12])، ومع كونها فيه ثناء عليه إلا أن الصيغة العامة التي وردت فيها تفيد أن هذا الحكم ليس مقصوراً عليه.

ولهذا فإنه كثيراً ما تكون الآيات نازلة بحال معين أو حدث خاص أو شخص مقصود، إلا أنها تأتي بصيغة العموم فتعم غيره من جهة الوصف؛ لأن القرآن عام في حكمه، إلا أنه يجب اعتبار ما نزلت فيه الآية في بيان المعنى ابتداءً؛ لأنه المحدد للوصف وللغرض من الآية.

قال السعدي: "قاعدة: وتدبر هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب الله تعالى؛ إذا كان السياق في قصة معينة، أو على شيء معين، وأراد الله أن يحكم على ذلك المعين بحكم لا يختص به، ذكر الحكم وعلقه على الوصف العام، ليكون أعم، وتندرج فيه الصورة التي سيق الكلام لأجلها، ليندفع الإيهام باختصاص الحكم بذلك المعين"([13]).
وقد بقيت القواعد الخاصة بالسياق ، سأفردها في المشاركة القادمة بإذن الله




--------------------------------------------------------------------------------

([1]) ((البحر المحيط في أصول الفقه)) (6/52).ط وزارة الشؤون الإسلامية بالكويت، تحرير د. عبدالستار أبو غدة.

([2]) ((البرهان في علوم القرآن)) (1/36).

([3]) ((الإتقان في علوم القرآن)) (1/185).

([4]) ((بدائع الفوائد)) (4/9).

([5]) ((أثر السياق في النظام النحوي)) (ص94).

([6]) ((إحكام الأحكام)) (2/130).

([7]) ((جامع البيان)) (4/356).

([8]) انظر: ((القواعد والفوائد الأصولية)) (ص241) ، ((مجموع الفتاوى)) (31/44).

([9]) ((مجموع الفتاوى)) (13/338).

([10]) ((أصول السرخسي)) (1/164).

([11]) ((الاتقان)) (1/65).

([12]) انظر: ((أسباب النزول للواحدي)) (ص721).

([13]) ((تيسير الكريم الرحمن)) (1/682).
 
القسم الثاني: القواعد المتعلقة بترجيح السياق.
أولاً: أن القول المعتبر في التفسير هو الموافق للسياق.
تقرر أن السياق القرآني أصل معتبر في كلام الله تعالى، وأنه هو الدال على المعنى الصحيح، وعليه فإن القول الذي يتوافق مع السياق هو القول المعتبر والراجح.

وهذه القاعدة من أهم قواعد الترجيح في التفسير.

وقد اعتبر السلف والعلماء هذه القاعدة في تفسيرهم، ومن ذلك:

ما قاله صاحب رسالة دلالة السياق عند ابن جرير في تقرير القواعد المعتبرة عند ابن جرير: "يختار من المعاني ما اتسق وانتظم معه الكلام" ([1])، وأورد لذلك أمثلة من تفسير ابن جرير ([2]).

وقد قرر هذه القاعدة شيخ الإسلام أتم تقرير في معرض رده على نفاة الصفات الذين يؤولون الصفات استدلالاً بنصوص أخرى دل سياقها على معنى آخر، كتأويل إتيانه تعالى بإتيان عذابه استدلالاً بقوله تعالى: +فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا" [الحشر 2] فقال: "لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة، جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أن يضاف إلى الله تعالى - إضافة صفة - من آيات الصفات كقوله تعالى: +فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ" [الزمر 56] وهذا يقع فيه طوائف من المثبة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط، فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية" ([3]).

وقد قرر صاحب قواعد الترجيح عند المفسرين هذه القاعدة بقوله: "قاعدة: القول الذي تؤيده قرائن في السياق مرجح على ما خالفه". وأورد الأمثلة والأقوال الدالة عليها([4]).

ثانياً: بجب حمل كلام الله على المعاني والأوجه اللائقة بالسياق والموافقة لأسلوب القرآن.

هذه القاعدة تعني أنه يجب حمل كلام الله تعالى على المعاني والأوجه اللغوية والإعرابية والبلاغية اللائقة بسياق الآية والموافقة لأسلوب القرآن، دون الأوجه القاصرة عنه، وليس كل ما ثبت في اللغة صح حمل آيات التنزيل عليه([5])، إذ القرآن هو أعظم الكلام، فلا بد من حمله على أكمل الوجوه وأعظمها، ولا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي والإعرابي ([6]).

قال العز بن عبد السلام: "وعلى الجملة فالقاعدة في ذلك أن يحمل القرآن على أصح المعاني، وأفصح الأقوال، فلا يحمل على معنى ضعيف، ولا على لفظ ركيك"([7]).

ثالثاً: كل تفسير خارج عن دلالات الألفاظ والسياق باطل مردود.

هذه القاعدة نتيجة للقاعدة التي قبلها، فإذا ورد تفسير خرج بمعاني كتاب الله تعالى عما تدل عليه ألفاظه وسياقه ولم يدلّ اللفظ على هذا المعنى بأي نوع من الدلالة: مطابقة، أو تضمناً أو التزاماً، أو مفهوماً، أو موافقاً، أو مفهوماً مخالفاً، فهو مردود([8]).

وهذه القاعدة متقررة عن سلف الأمة وعلمائها.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن هذا القرآن كلام الله عز وجل فضعوه على مواضعه، ولا تتبعوا فيه أهواءكم) ([9]).

قال السيوطي بعد ما أورد تفسير ابن عباس: "ففيه الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ، كما يفعله الباطنية، والاتحادية، والملاحدة، وغلاة المتصوفة"([10]).

وقال شيخ الإسلام في كلام فصل في هذه القاعدة: "وأما النوع الثاني من سببي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان... والقائلون بالجهتين المتقدم ذكرهما قسمان:

أحدهما: قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها

والثاني: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به.

فالأولون: راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز عندهم أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به وسياق الكلام، ثم هؤلاء كثيراً ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة كما يغلط في ذلك الذين قبلهم، كما أن الأولين كثيراً ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن كما يغلط بذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق.

والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل به، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلاً فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقاً فيكون خطؤهم فيه في الدليل لا في المدلول. فالذين أخطئوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم: تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه..."([11]).

رابعاً: حمل كلام الله على الغالب من عرفه ومعهود استعماله أولى من الخروج به عن ذلك ([12]).

وعرف القرآن ومعهود استعماله مما يتضمنه السياق من جهة أن القرآن وارد على أسلوب منتظم مؤتلف، ومن جهة أن ذلك داخل في السياق القرآني، فالأولى أن يرجح القول الذي يوافق عادة القرآن ومعهود استعماله وسياقه العام، إلا أن يدل دليل من سياق الآية أو دليل آخر على معنى آخر مستقل.

قال شيخ الإسلام: "إذا كان في وجوب شيء نزاع بين العلماء، ولفظ الشارع قد اطرد في معنى، لم يجز أن ينقض الأصل المعروف من كلام الله ورسوله بقول فيه نزاع بين العلماء"([13]).

وقال الشنقيطي: "ومن أنواع البيان المذكور في هذا الكتاب المبارك الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن، فغلبته فيه دليل على عدم خروجه من معنى الآية"([14]).

ومن أمثلة ذلك ماذكره شيخ الإسلام في بيان رده على من جعل السراح والفراق صريحاً في الطلاق مستدلاً بغالب استعمال القرآن: "الوجه الثاني: وهو القاصم: أن هذه الألفاظ أكثر ما جاءت في القرآن في غير الطلاق"([15]).

خامساً: توحيد مرجع الضمائر في السياق الواحد أولى من تفريقها ([16]).

إذا جاءت ضمائر متعددة في سياق واحد، واحتملت في مرجعها أقوالاً متعددة، فتوحيد مرجعها وإعادتها إلى شيء واحد أولى وأحسن؛ لأنسجام النظم، واتساق السياق

وقد اعتمد هذه القاعدة أئمة اللغة من المفسرين كابن جرير، والزمخشري، وابن عطية، وأبي حيان وغيرهم ([17]).

قال الزمخشري في ترجيحه لعود الضمير إلى موسى دون التابوت في قوله تعالى: +فاقذفيه في اليمّ"[طه 39]: "والضمائر كلها راجعة إلى موسى، ورجوع بعضها إليه، وبعضها إلى التابوت فيه هجنة، لما يؤدي إليه من تنافر النظم... ومراعاته أهم ما يجب على المفسر"([18]).

وقال أبوحيان: "وتناسق الضمائر لشيء واحد أوضح"([19]).

وقال الزركشي: "إذا اجتمع ضمائر، فحيث أمكن عودها لواحد فهو أولى من عودها لمختلف"([20]).

سادساً: القول بالاستقلال مقدم على القول بالإضمار، إلا أن يدل السياق على الحذف ([21]).

الأصل في كلام الله تعالى أن يكون كاملاً لا يحتاج إلى تقدير، إلا أن يدل السياق على الحذف؛ لأن الإضمار والحذف والتقدير خلاف الأصل([22]).

قال أبو حيان: "متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار كان أولى من أن يسلك به الإضمار والافتقار، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه، وأبعدها عن التكلف، وأسوغها في لسان العرب"([23]).

ولا يقال بالحذف في كلام الله تعالى إلا بدليل من السياق يدل عليه.

قال ابن جزي في معرض ذكره لأوجه الترجيح التي قررها: "الحادي عشر: تقديم الاستقلال على الإضمار إلا أن يدل دليل على الإضمار"([24]).

وقال ابن عاشور: "إنك تجد في كثير من تراكيب القرآن حذفاً، ولكن لا تعثر على حذف يخلو الكلام من دليل عليه من لفظ أو سياق"([25]).

ومثال ذلك قوله تعالى: +وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ" [النساء 171] فإن الحذف هنا ظاهر لدلالة رفع +ثَلاَثَةٌ" بعد القول.

قال ابن جرير: "ورفعت الثلاثة بمحذوف دل عليه الظاهر، وهو (هم)، ومعنى الكلام: ولا تقولوا هم ثلاثة"([26]).

فنجد أن ابن جرير استدل على وجود الحذف بالسياق، وقدره بحسب سياق الآية

وقال أبو علي الفارسي([27]) وغيره التقدير: هو ثالث ثلاثة، لموافقته لما ظهر في القرآن في قوله تعالى: +لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ" ([28]).[المائدة 73] وهذا أولى

سابعاً: جميع حذوف القرآن لا تقدر إلا على أكمل الوجوه اللائقة بالسياق.

إذا دل السياق على حذف في الآية، فإنه لا يقدر إلا أفصح التقديرات وأنسبها للسياق والغرض، أو مادل عليه سياق آية أخرى.

قال العز بن عبد السلام: "جميع حذوف القرآن من المفاعيل والموصوفات وغيرها لايقدر إلا أفصحها وأشدها موافقة للغرض؛ لأن العرب لايقدرون إلا مالو لفظوا به لكان أحسن وأنسب لذلك الكلام" ([29]).

وقال أيضاً: "لا يقدر فيه من المحذوفات إلا أحسنها وأشدها موافقة وملاءمة للسياق"([30]).

ثامناً: حمل اللفظ على معنى جديد أولى من حمله على التأكيد، إلا أن يدل السياق على التأكيد.

إذا احتمل اللفظ في السياق بين أن يكون مفيداً معنى جديدا لم يسبق في الكلام، أو يكون مؤكداً للفظ أو جملة سابقة، فحمله على الإفادة أولى من الإعادة إلا أن يدل السياق على كونه تأكيداً.

قال مكي بن أبي طالب: "حمل اللفظين على فائدتين، ومعنيين أولى من حملهما على التكرار بمعنى واحد"([31]).

وقال الشنقيطي: "إن المقرر في الأصول أنه إذا دار الكلام بين التأكيد والتأسيس معاً، وجب حمله على التأسيس، ولا يجوز حمله على التأكيد إلا لدليل يجب الرجوع إليه"([32]).

وقد ذكر صاحب قواعد الترجيح هذه القاعدة من غير أن يذكر رجحان التأكيد حال دلالة السياق عليه، فقال: "قاعدة: إذا دار الكلام بين التأسيس والتأكيد فحمله على التأسيس أولى"([33]).





--------------------------------------------------------------------------------

([1]) ((دلالة السياق القرآني وأثرها في التفسير)) (ص219).

([2]) ((دلالة السياق القرآني وأثرها في التفسير)) (ص220-221).

([3]) ((مجموع الفتاوى)) (6/ 14).

([4]) انظر: ((قواعد الترجيح عند المفسرين)) (1/299).

([5]) انظر: ((قواعد الترجيح عند المفسرين)) (2/635).

([6]) انظر: ((أثر السياق في النظام النحوي)) (197).

([7]) ((الإشارة إلى الإيجاز)) (ص220).

([8]) انظر: ((قواعد الترجيح عند المفسرين)) (2/349).

([9]) أخرجه الإمام أحمد في الزهد (ص46). وانظر: ((الدر المنثور)) (7/330).

([10]) ((الإكليل في استنباط التنزيل)) (ص352).

([11]) ((مجموع الفتاوى)) (13/355).

([12]) انظر: ((قواعد السياق عند المفسرين)) (1/172).

([13]) ((مجموع الفتاوى)) (7/35).

([14]) ((أضواء البيان)) (1/51).

([15]) ((مجموع الفتاوى)) (15/450).

([16]) انظر: ((قواعد الترجيح عند المفسرين)) (2/ 613).

([17]) انظر: المصدر السابق (2/ 613).

([18]) ((الكشاف)) (2/536).

([19]) ((البحر المحيط)) (8/189).

([20]) ((البرهان في علوم القرآن)) (4/35).

([21]) انظر: ((قواعد الترجيح عند المفسرين)) (2/424).

([22]) انظر: ((مغني اللبيب)) (2/599).

([23]) ((البحر المحيط)) (1/ 61).

([24]) ((التسهيل)) (1/9).

([25]) ((التحرير والتنوير)) (1/122).

([26]) ((جامع البيان)) (6/37).

([27]) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي صنف كتبا عجيبة حسنة لم يسبق إلى مثلها مات سنة 377هـ ((الموسوعة الميسرة)) (1/642)

([28]) انظر: ((البحر المحيط)) (4/144).

([29]) ((الإشارة إلى الإيجاز)) (ص4).

([30]) ((الإشارة إلى الإيجاز)) (ص2).

([31]) ((الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه)) (ص219).

([32]) ((أضواء البيان)) (3/355).

([33]) ((قواعد الترجيح عند المفسرين)) (2/473).
 
جزاكم الله خيرا على هذا الموضوع الماتع ونفع بكم وجعله في ميزان حسناتكم
 
رسالة دكتوراه في السياق

رسالة دكتوراه في السياق

من أجود ما قرأت في السياق رسالة دكتوراه للدكتور المثنى عبد الفتاح بعوان: "السياق القرآني وأثره في الترجيح الدلالي" وقد قدمت هذه الرسالة لقسم أصول الدين في كلية الشريعة / جامعة اليرموك - الأردن
إيميل الباحث
[email protected]
 
أشكر لك أخي زهير إشارتك ، وقد سمعت عن هذا الرسالة في فترة البحث ، فلم أجد سبيلاًَ للوصول إليها ، ولعلي أن أتواصل مع الباحث ، ولك مني الشكر والدعاء .
 
جزاك الله خيرا

أود أن أستفسر عن قاعدة : حمل اللفظ على معنى جديد أولى من حمله على التأكيد، إلا أن يدل السياق على التأكيد.

هل نص علي الاستثناء أحد من العلماء أم هو مفهوم كلامهم في أهمية السياق ؟
كما أحب أن تلقي الضوء على تعارض دلالة السياق مع تعارض دلالة قاعدة تفسيرية أو ترجيحية أخرى أيها يقدم ؟ فهذا المبحث بحاجة لمزيد إيضاح وتقعيد .
 
عودة
أعلى