محمد الربيعة
New member
- إنضم
- 18/04/2003
- المشاركات
- 116
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
علم الناسخ والمنسوخ من علوم التفسير المهمة. وله صلة بالسياق.
وقبل أن نبين علاقته بالسياق لابد أن نعرض للمحة موجزة عنه:
فالنسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي. والناسخ هو الحكم الرافع للحكم. والمنسوخ هو الحكم المرتفع ([1]).
ومعرفته من أهم ما يجب على المفسر،
قال الزركشي: "قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وقد قال علي بن أبي طالب لقاص: (أتعرف الناسخ والمنسوخ؟) قال: الله أعلم. قال: (هلكت وأهلكت) "([2]).
وقد عنى العلماء بعلم الناسخ والمنسوخ في القرآن، وألفوا في هذا الفن كتباً مستقلة([3]).
وللنسخ في القرآن حكم عظيمة: منها ما ذكره مكي بن أبي طالب في بيان علة النسخ في القرآن فقال: "وذلك منه تعالى لما فيه من الصلاح لعباده، فهو يأمرهم بأمر في وقت لما فيه صلاحهم في ذلك الوقت، وقد علم أنه يزيلهم عن ذلك في وقت آخر، لما علم فيه من صلاحهم في ذلك الوقت الثاني.... ولأجل ما أراد الله من النسخ للرفق بعباده والصلاح لهم أنزل القرآن شيئاً بعد شيء، ولم ينزله جملة واحدة؛ لأنه لو نزل جملة واحدة لم يجز أن يكون فيه ناسخ ومنسوخ؛ إذ غير جائز أن يقول في وقت واحد افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا لذلك الشيء بعينه" ([4]).
الصلة بين السياق والناسخ والمنسوخ:
السياق من أهم ما يميز وقوع النسخ في الآية من عدمه، بل هو من أعظم ما يقرر مقصود الآية حتى مع نسخها، فإن بقاء الآية بعد نسخها لابد وأن يكون لغرض مقصود، وتكون دالة على حكم معين بعد النسخ.
وسأوضح ذلك بالأمثلة:
المثال الأول: في تقرير السياق للنسخ في الآية:
في قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]. الآية صريحة في فرضية الوصية؛ لأن قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ} صريح في ذلك، وقد اختلف المفسرون في بقاء حكم الآية أو نسخه، على أقوال:
القول الأول: أن الحكم بها كان واجباً، عمل به في وقت، ثم نَسخ منها بآية المواريث الوصية للورثة دون من لا يرث من الوالدين والأقربين.
القول الثاني: أنها منسوخة بآيات المواريث، فلا وصية واجبة لأحد على أحد، ولكن يبقى وجوب الوصية عاما لمن عليه حقوق أو ديون، والندب والاستحباب فيها لغير الورثة، إعمالاً للآية والأحاديث..
القول الثالث: أنها محكمة، وتكون الوصية للوالدين والأقربين واجبة، ويجمع للوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.
القول الرابع: أنها محكمة، ولكنها وصية بالميراث المقدر، والمعنى: كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين ([5]).
الراجح الذي يؤيده السياق القول الثاني، وهو أنها منسوخة بآيات المواريث، ولكن يبقى وجوب الوصية عاما لمن عليه حقوق أو ديون، والندب والاستحباب فيها عاماً لغير الورثة، إعمالاً للآية والأحاديث.
ودلالة السياق على ذلك ظاهرة من وجوه:
أولاً: أن سياق الآية في بيان الحقوق الواجبة قبل الموت، وقد بينت آيات النساء حقوق الوراثة، فتكون الآية منسوخة في حق الوراثة، ويبقى الوجوب في الحقوق الواجبة غير الميراث، ويبقى الوصية لغير الورثة وهي بين الوجوب والاستحباب، والاستحباب أقرب؛ إذ لا دليل من عمل النبي × والصحابة على وجوب الوصية لغير الورثة.
قال ابن عطية: "قال ابن عمر وابن عباس وابن زيد: الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندباً" ([6]).
وقال شيخ الإسلام: "والوصية للوالدين و الأقربين منسوخة بآية المواريث كما اتفق على ذلك السلف" ([7]).
ثانياً: أن الآية مجملة في تعيين حق الوالدين والأقربين، وآيات المواريث في النساء مفصلة، فتكون آيات المواريث تفسيراً لهذه الآية.
ثالثاً: أن قوله تعالى: { بِالْمَعْرُوفِ} فيه دلالة على النسخ من جهة أنه جعل فرض التقدير إلى الموصي، ولما أنه قد يقع من الموصي إجحاف أو ميل أو قصد مضارة كما تدل عليه الآية التي بعدها، تولى الله تعالى بيان ذلك الحق ببيان مقادير الميراث على وجه تيقن به أنه الصواب، وأن فيه الحكمة البالغة، والمراعاة الكاملة لأولى الناس فيها، وحدها بمقادير لا يمكن تغييرها مراعاة للضعفاء الذين كان من عادة أهل الجاهلية تركهم أو الإجحاف في حقهم. فتحول الحكم من جهة الإيصاء الذي هو بيد الموصي إلى الميراث الذي قدره الله تعالى عدلاً ورحمة.
قال الرازي: "لما نزلت آية المواريث.. بيّن أن ما تقدم كان واصلاً إليهم بعطية الموصي، فأما الآن فالله تعالى قدّر لكل ذي حق حقه، وأن عطية الله أولى من عطية الموصي" ([8]).
فعليه يكون حكم الآية في الفرضية منقولا للمواريث، ويبقى حكم فرضيتها ووجوبها في إنفاذها وتقديمها مطلقاً. كما تدل عليه الآيات بعدها ويدل عليه قوله تعالى: في آيات المواريث { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء11] وكل ذلك دال بمفهومه على استحبابها لغير الورثة.
وأما كون الوصية ندباً فيما سوى ذلك فظاهر من وجوه:
أولاً: أن بقاء التلاوة ونسخ الحكم دال على رفع الفرض وبقاء الندب؛ إذ لا بد من فائدة من بقاء التلاوة.
ثانياُ: يدل عليه الوصية بذوي القربى وتقديمهم في آية البر وغيرها من الآيات.
ثالثاً: أن القول بوجوب الوصية لغير الورثة من الأقرباء رغم دلالة الآية عليه إلا أنه لم يكن من عمل النبي × والصحابة، وهو خلاف قول الجمهور.
قال الألوسي: "إن الوجوب صار منسوخاً في حق الكافة، وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون، وإليه ذهب الأكثرون" ([9]).
رابعاً: قوله تعالى: { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فخص المتقين، ولو كانت عامة لقال المؤمنين. وإن كان هذا له تخريج ظاهر ([10]).
المثال الثاني: في تقرير السياق لعدم وقوع النسخ في الآية.
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة 240]. فهذه الآية من الآيات التي أشكلت على كثير من المفسرين، وقد اختلفوا في حكمها والعمل بها على قولين:
القول الأول: أنها منسوخة بالآية السابقة، وهي قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة 234]، وهو قول أكثر المفسرين.
القول الثاني: أن الآية محكمة وأنها تدل على حكم زائد على حكم الآية الأولى، فالآية الأولى تضمنت حكم تحديد العدة بأربعة أشهر وعشراً، وهذه الآية تضمنت الوصية بالسكنى بتمام الحول. فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها بعد العدة، وإن شاءت خرجت. فلا تعارض بينهما، وهذا قول مجاهد([11]).
وبالتأمل في السياق يترجح القول الثاني لوجوه:
أولاً: أن غرض الآية ظاهر في كونها في الوصية للمتوفى عنها زوجها في المتعة بالسكنى بعد بيان حكم المتعة للمطلقة.
ثانياً: السياق اللفظي: وهو أن الآيات قبلها وبعدها في المتعة للمطلقات، فتكون هذه في المتعة، ويؤيده صريحاً قوله تعالى: { مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} ولم يقل (تربصاً إلى الحول)، والمعنى: جعل الله لهن ذلك متاعاً ([12]). كما يؤيده ورود آية المتعة للمطلقات بعدها مباشرة معطوفة عليها. وإذا تقرر ذلك كانت الآية مختلفة في الحكم عن الآية الأولى؛ إذ الأولى في العدة وهذه في متعة السكنى.
ثالثاً: أن القول بنسخ الآية السابقة لها، يشكل عليه كون موضع الآية بعدها، والأصل أن الناسخ يكون متأخراً عن المنسوخ في النزول والتلاوة، وهو وإن كان جائزاً في التلاوة إلا أن القول به يعد من سوء الترتيب، وتنزيه كلام الله واجب بقدر الإمكان([13]).
رابعاً: أن القائلين بالنسخ يلزمهم القول بنسخ السكنى الثابت في الآية، وهو ثابت في حديث فريعة، فكيف يكون منسوخاً في الآية؛ ولهذا اختلفوا في وجوبه.
قال الرازي: "القائلون بأن هذه الآية منسوخة لابد وأن يختلف قولهم بسبب هذه المسألة، وذلك لأن هذه الآية توجب النفقة والسكنى، وأما وجوب النفقة فقد صار منسوخاً، أما وجوب السكنى فهل صار منسوخاً أم لا" ([14]).
وهذا القول رجحه ابن تيمية وابن كثير وغيرهما، قال ابن كثير: "وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس بن تيمية"([15]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) انظر: ((البرهان في علوم القرآن)) (2/30) ، ((مباحث في علوم القرآن للقطان)) (ص232).
([2]) ((البرهان في علوم القرآن)) (2/29).
([3]) ومن ذلك: الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس. والناسخ والمنسوخ لعبد القاهر البغدادي. والناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة. ونواسخ القرآن لابن الجوزي.
([4]) ((الإيضاح)) (ص55).
([5]) ((جامع البيان)) (2/124) ، ((المحرر الوجيز)) (1/248) ، ((مفاتيح الغيب)) (5/67).
([6]) ((المحرر الوجيز)) (1/248)
([7]) ((مجموع الفتاوى)) (17/198).
([8]) ((مفاتيح الغيب)) (5/65).
([9]) ((روح المعاني)) (1/617).
([10]) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1م/2ج/267).
([11]) انظر: ((جامع البيان)) (2/592) ، ((المحرر الوجيز)) (1/ 326) ، ((مفاتيح الغيب)) (6/134) ، ((الجامع لأحكام القرآن)) (2/3/226).
([12]) انظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) (2/3/228) قال القرطبي: (متعوهن متاعاً، أو جعل الله لهن ذلك متاعاً لدلالة الكلام عليه).
([13]) انظر: ((اللباب في علوم الكتاب)) (4/343).
([14]) ((مفاتيح الغيب)) (2/136).
([15]) ((تفسير القرآن العظيم)) (1/659).
وقبل أن نبين علاقته بالسياق لابد أن نعرض للمحة موجزة عنه:
فالنسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي. والناسخ هو الحكم الرافع للحكم. والمنسوخ هو الحكم المرتفع ([1]).
ومعرفته من أهم ما يجب على المفسر،
قال الزركشي: "قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وقد قال علي بن أبي طالب لقاص: (أتعرف الناسخ والمنسوخ؟) قال: الله أعلم. قال: (هلكت وأهلكت) "([2]).
وقد عنى العلماء بعلم الناسخ والمنسوخ في القرآن، وألفوا في هذا الفن كتباً مستقلة([3]).
وللنسخ في القرآن حكم عظيمة: منها ما ذكره مكي بن أبي طالب في بيان علة النسخ في القرآن فقال: "وذلك منه تعالى لما فيه من الصلاح لعباده، فهو يأمرهم بأمر في وقت لما فيه صلاحهم في ذلك الوقت، وقد علم أنه يزيلهم عن ذلك في وقت آخر، لما علم فيه من صلاحهم في ذلك الوقت الثاني.... ولأجل ما أراد الله من النسخ للرفق بعباده والصلاح لهم أنزل القرآن شيئاً بعد شيء، ولم ينزله جملة واحدة؛ لأنه لو نزل جملة واحدة لم يجز أن يكون فيه ناسخ ومنسوخ؛ إذ غير جائز أن يقول في وقت واحد افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا لذلك الشيء بعينه" ([4]).
الصلة بين السياق والناسخ والمنسوخ:
السياق من أهم ما يميز وقوع النسخ في الآية من عدمه، بل هو من أعظم ما يقرر مقصود الآية حتى مع نسخها، فإن بقاء الآية بعد نسخها لابد وأن يكون لغرض مقصود، وتكون دالة على حكم معين بعد النسخ.
وسأوضح ذلك بالأمثلة:
المثال الأول: في تقرير السياق للنسخ في الآية:
في قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]. الآية صريحة في فرضية الوصية؛ لأن قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ} صريح في ذلك، وقد اختلف المفسرون في بقاء حكم الآية أو نسخه، على أقوال:
القول الأول: أن الحكم بها كان واجباً، عمل به في وقت، ثم نَسخ منها بآية المواريث الوصية للورثة دون من لا يرث من الوالدين والأقربين.
القول الثاني: أنها منسوخة بآيات المواريث، فلا وصية واجبة لأحد على أحد، ولكن يبقى وجوب الوصية عاما لمن عليه حقوق أو ديون، والندب والاستحباب فيها لغير الورثة، إعمالاً للآية والأحاديث..
القول الثالث: أنها محكمة، وتكون الوصية للوالدين والأقربين واجبة، ويجمع للوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.
القول الرابع: أنها محكمة، ولكنها وصية بالميراث المقدر، والمعنى: كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين ([5]).
الراجح الذي يؤيده السياق القول الثاني، وهو أنها منسوخة بآيات المواريث، ولكن يبقى وجوب الوصية عاما لمن عليه حقوق أو ديون، والندب والاستحباب فيها عاماً لغير الورثة، إعمالاً للآية والأحاديث.
ودلالة السياق على ذلك ظاهرة من وجوه:
أولاً: أن سياق الآية في بيان الحقوق الواجبة قبل الموت، وقد بينت آيات النساء حقوق الوراثة، فتكون الآية منسوخة في حق الوراثة، ويبقى الوجوب في الحقوق الواجبة غير الميراث، ويبقى الوصية لغير الورثة وهي بين الوجوب والاستحباب، والاستحباب أقرب؛ إذ لا دليل من عمل النبي × والصحابة على وجوب الوصية لغير الورثة.
قال ابن عطية: "قال ابن عمر وابن عباس وابن زيد: الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندباً" ([6]).
وقال شيخ الإسلام: "والوصية للوالدين و الأقربين منسوخة بآية المواريث كما اتفق على ذلك السلف" ([7]).
ثانياً: أن الآية مجملة في تعيين حق الوالدين والأقربين، وآيات المواريث في النساء مفصلة، فتكون آيات المواريث تفسيراً لهذه الآية.
ثالثاً: أن قوله تعالى: { بِالْمَعْرُوفِ} فيه دلالة على النسخ من جهة أنه جعل فرض التقدير إلى الموصي، ولما أنه قد يقع من الموصي إجحاف أو ميل أو قصد مضارة كما تدل عليه الآية التي بعدها، تولى الله تعالى بيان ذلك الحق ببيان مقادير الميراث على وجه تيقن به أنه الصواب، وأن فيه الحكمة البالغة، والمراعاة الكاملة لأولى الناس فيها، وحدها بمقادير لا يمكن تغييرها مراعاة للضعفاء الذين كان من عادة أهل الجاهلية تركهم أو الإجحاف في حقهم. فتحول الحكم من جهة الإيصاء الذي هو بيد الموصي إلى الميراث الذي قدره الله تعالى عدلاً ورحمة.
قال الرازي: "لما نزلت آية المواريث.. بيّن أن ما تقدم كان واصلاً إليهم بعطية الموصي، فأما الآن فالله تعالى قدّر لكل ذي حق حقه، وأن عطية الله أولى من عطية الموصي" ([8]).
فعليه يكون حكم الآية في الفرضية منقولا للمواريث، ويبقى حكم فرضيتها ووجوبها في إنفاذها وتقديمها مطلقاً. كما تدل عليه الآيات بعدها ويدل عليه قوله تعالى: في آيات المواريث { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء11] وكل ذلك دال بمفهومه على استحبابها لغير الورثة.
وأما كون الوصية ندباً فيما سوى ذلك فظاهر من وجوه:
أولاً: أن بقاء التلاوة ونسخ الحكم دال على رفع الفرض وبقاء الندب؛ إذ لا بد من فائدة من بقاء التلاوة.
ثانياُ: يدل عليه الوصية بذوي القربى وتقديمهم في آية البر وغيرها من الآيات.
ثالثاً: أن القول بوجوب الوصية لغير الورثة من الأقرباء رغم دلالة الآية عليه إلا أنه لم يكن من عمل النبي × والصحابة، وهو خلاف قول الجمهور.
قال الألوسي: "إن الوجوب صار منسوخاً في حق الكافة، وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون، وإليه ذهب الأكثرون" ([9]).
رابعاً: قوله تعالى: { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فخص المتقين، ولو كانت عامة لقال المؤمنين. وإن كان هذا له تخريج ظاهر ([10]).
المثال الثاني: في تقرير السياق لعدم وقوع النسخ في الآية.
قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة 240]. فهذه الآية من الآيات التي أشكلت على كثير من المفسرين، وقد اختلفوا في حكمها والعمل بها على قولين:
القول الأول: أنها منسوخة بالآية السابقة، وهي قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة 234]، وهو قول أكثر المفسرين.
القول الثاني: أن الآية محكمة وأنها تدل على حكم زائد على حكم الآية الأولى، فالآية الأولى تضمنت حكم تحديد العدة بأربعة أشهر وعشراً، وهذه الآية تضمنت الوصية بالسكنى بتمام الحول. فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها بعد العدة، وإن شاءت خرجت. فلا تعارض بينهما، وهذا قول مجاهد([11]).
وبالتأمل في السياق يترجح القول الثاني لوجوه:
أولاً: أن غرض الآية ظاهر في كونها في الوصية للمتوفى عنها زوجها في المتعة بالسكنى بعد بيان حكم المتعة للمطلقة.
ثانياً: السياق اللفظي: وهو أن الآيات قبلها وبعدها في المتعة للمطلقات، فتكون هذه في المتعة، ويؤيده صريحاً قوله تعالى: { مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} ولم يقل (تربصاً إلى الحول)، والمعنى: جعل الله لهن ذلك متاعاً ([12]). كما يؤيده ورود آية المتعة للمطلقات بعدها مباشرة معطوفة عليها. وإذا تقرر ذلك كانت الآية مختلفة في الحكم عن الآية الأولى؛ إذ الأولى في العدة وهذه في متعة السكنى.
ثالثاً: أن القول بنسخ الآية السابقة لها، يشكل عليه كون موضع الآية بعدها، والأصل أن الناسخ يكون متأخراً عن المنسوخ في النزول والتلاوة، وهو وإن كان جائزاً في التلاوة إلا أن القول به يعد من سوء الترتيب، وتنزيه كلام الله واجب بقدر الإمكان([13]).
رابعاً: أن القائلين بالنسخ يلزمهم القول بنسخ السكنى الثابت في الآية، وهو ثابت في حديث فريعة، فكيف يكون منسوخاً في الآية؛ ولهذا اختلفوا في وجوبه.
قال الرازي: "القائلون بأن هذه الآية منسوخة لابد وأن يختلف قولهم بسبب هذه المسألة، وذلك لأن هذه الآية توجب النفقة والسكنى، وأما وجوب النفقة فقد صار منسوخاً، أما وجوب السكنى فهل صار منسوخاً أم لا" ([14]).
وهذا القول رجحه ابن تيمية وابن كثير وغيرهما، قال ابن كثير: "وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس بن تيمية"([15]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) انظر: ((البرهان في علوم القرآن)) (2/30) ، ((مباحث في علوم القرآن للقطان)) (ص232).
([2]) ((البرهان في علوم القرآن)) (2/29).
([3]) ومن ذلك: الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس. والناسخ والمنسوخ لعبد القاهر البغدادي. والناسخ والمنسوخ لهبة الله بن سلامة. ونواسخ القرآن لابن الجوزي.
([4]) ((الإيضاح)) (ص55).
([5]) ((جامع البيان)) (2/124) ، ((المحرر الوجيز)) (1/248) ، ((مفاتيح الغيب)) (5/67).
([6]) ((المحرر الوجيز)) (1/248)
([7]) ((مجموع الفتاوى)) (17/198).
([8]) ((مفاتيح الغيب)) (5/65).
([9]) ((روح المعاني)) (1/617).
([10]) ((الجامع لأحكام القرآن)) (1م/2ج/267).
([11]) انظر: ((جامع البيان)) (2/592) ، ((المحرر الوجيز)) (1/ 326) ، ((مفاتيح الغيب)) (6/134) ، ((الجامع لأحكام القرآن)) (2/3/226).
([12]) انظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) (2/3/228) قال القرطبي: (متعوهن متاعاً، أو جعل الله لهن ذلك متاعاً لدلالة الكلام عليه).
([13]) انظر: ((اللباب في علوم الكتاب)) (4/343).
([14]) ((مفاتيح الغيب)) (2/136).
([15]) ((تفسير القرآن العظيم)) (1/659).