جمال الدين عبد العزيز
New member
- إنضم
- 08/02/2009
- المشاركات
- 174
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
إنّ التأمّل والتدقيق في تلويحات العلماء ليكشفان - بصورة واضحة جلية - أن في أغوار التأريخ السحيق علوما عظيمة قد انعجمت ومعارف جليلة قد اندرست ؛ ورغم هذا الانعجام والاندراس إلا أن أضواء الآثار الشاهدة لا زالت تنبئ بأن جهودا جبارة قد كانت وأعمالا متميّزة قد وجدت ؛ وإن كانت هذه الآثار تأبى أن تتجلى سافرة الوجه بادية الصفحة ؛ إذ لا تعدو هذه الآثار أن تمثّل تنبيها على مكان الخبيء ليطلب وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج ، ومن هذه العلوم التي اجتهد فيها الأقدمون فاندرست - علم جليل من علوم القرآن قد أشاد العلماء به ونوّهوا بمكانته الرفيعة ، وهذا العلم الجليل قد اشتمل على رؤى متباينة ومناهج مختلفة ، وهذا الاختلاف بين المناهج إنما يرجع إلى تعدّد جوانب هذا العلم وتكاثر موضوعاته من جهة ، وإلى تباين خصائص الناظرين واختلاف بيئاتهم الفكرية من جهة أخرى ؛ وهذا التباين بين الناظرين والدارسين قد حال - وبصورة مباشرة - دون وجود رؤية متكاملة تجمع أطراف هذا العلم وتلم أشتاته.
وهذا العلم العظيم الشأن الذي نوّه العلماء بمكانته الرفيعة قد عرف عندهم بـ"علم المناسبة" أو"التناسب" ، والتناسب في اللغة هو : التقارب والتناسق والمشاكلة والترابط والتعلّق والانسجام ، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن العظيم بصيغ متعددة في قوله تعالى:)وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا( وقوله : ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا (وقوله : ) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ( والمراد بالتناسب ودراسته هنا هو: تلمس أوجه الترابط والانسجام في القرآن العظيم ، ومعلوم أن لفظ "قرآن" ابتداء يدل - في لغة العرب - على الضم والجمع والتأليف الذي يشير إشارة جلية إلى التقارب والتناسب والترابط والتعلّق والانسجام ؛ ولهذا يقول الجرجاني" إنما كان قرآناً وكلام الله عزّ وجلّ بالنظم الذي هو عليه "وقال تعالى : )كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ( ومن معاني الإحكام الإحكام في النظم والرصف والتأليف. ولا شك أن التناسب والانسجام ضد الاختلاف والتفاوت والاضطراب والتنافر ؛ ولهذا يقول الله تعالى ): أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا( ولكن وبمفهوم المخالفة - كما يقول الأصوليون - فإن القرآن لما كان من عند الله فقد وجدوا فيه تناسقاً وتناسباً وانسجاماً عجيباً , ولأجل ذلك كانت قضية التناسب هذه قضية جوهرية في القرآن ؛ لأنه منزّه عن الاختلاف والتضادّ والتفاوت ، ومن هنا كانت لهذه القضية أهميتها التي يمكن أن تكمن في أمور كثيرة جدًا ؛ منها الآتي:
1- إن التناسب والانسجام من أهم السمات التي يتحقّق بتحقّقها الجمال وينتفي بانتفائها ؛ إذ لابد لكل عمل بديع وصنعة مستحسنة من وجود آصرة تجمع المختلف منها والمؤتلف والمتشابه والمتباين , ولا ريب أن النظم المحكم والرصف المتفرّد والبناء المتلاحم من أهم الخصائص التي تكشف عن جمال القرآن العظيم ؛ ومعلوم أن أهم محاسن الكلام - أن يرتبط بعضه ببعض وتلتئم أجزاؤه وتتفق مبانيه وتتناسب أطرافه وتنسجم مكوّناته ؛ ويغدو سلس النظام خفيفا على اللسان حتى لكأنه بأسره كلمة واحدة ؛ فيسلم بذلك من التفرّق والتنافر والتباين والاختلاف .
2- ذهب كثير من العلماء إلى أن تلّمس التناسب ودراسة أوجه التعلّق والارتباط في القرآن من العلوم الشريفة التي تتكشف بتكشفها لطائف التنزيل وأسراره ؛ يقول الإمام الرازي : "أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط "ويقول أبو بكر بن العربي: " ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني - علم عظيم لم يتعرّض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ، ثم فتح الله عزَّ وجلّ لنا فيه ، فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه" وهذا العلم الذي هو علم دقيق المسالك خفي المدارك - يكشف للناظر المتأمّل اللطائف والأسرار التي عليها رتّب الله كتابه.
3- إن التناسب يجعل الكلام آخذاً بعضه بأعناق بعض ؛ بحيث لا يختلف ولا يضطرب ولا يتضادّ ولا يتعارض ولا يتفاوت بشكل من الأشكال ؛ فيقوى بذلك الارتباط ويصير حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء ، وفي ذلك من عظمة الكلام ما لا يخفى .
4- إن الصفة الجوهرية التي حولها حام دارسو الإعجاز - على اختلاف مدارسهم وتعدّد رؤاهم وتباين أبعادهم - هي مسألة التناسب والنظم والضمّ والانسجام والتآلف ؛ ويذهب الجرجاني إلى أن من أهم وجوه الإعجاز والمزيّة موقع الأجزاء بعضها من بعض ؛ واستعمال بعضها مع بعض ؛ ويقول الرازي : "إن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه - فهو أيضاً بسبب ترتيبه ونظم آياته " وهذه الصفة الجوهرية في القرآن لا تكاد تخفى على كل من تدبّره ولو تدبّراً يسيراً ؛ يقول سيد قطب : "والتناسق المطلق الشامل هو الظاهرة التي لا يخطئها كل من تدبّر القرآن أبداً ، ومستوياتها ومجالاتها مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها ... تتجلّى هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف أو ظاهرة التناسق - ابتداء من التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية ... والكمال في الأداء بلا تغيّر ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى ... وتتجلّى هذه الظاهرة بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله " ولا يقصر سيد قطب التناسب المطلق والتناسق الشامل على الكتاب العزيز فحسب ؛ بل يجعله أمراً منهجياً ينتظم الدين وحقائقه كلها ؛ يقول : "هنالك التناسق الشامل العجيب في طبيعة الدين وحقائقه ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته ، إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات ؛ إنما يبدو تصميماً واحداً متداخلاً متراكباً متعاشقاً " .
هذا وقد تناولت كتب علوم القرآن تاريخ هذا العلم بشكل غريب ؛ إذ حصرت نشأته وبداية التصنيف فيه في فترات متأخرة ، وتشهد كتب البلاغة والإعجاز القرآني بخلاف ذلك , ولعل سبب هذا الإغفال أن كتب علوم القرآن قد حصرت هذا التناسب في نطاق شديد الضيق لا يتناول الأبعاد الأخرى منه ، وهذا أمر منهجي لا يمكن تجاوزه . وقد ذكرت تلك الكتب أن هذا العلم الجليل قد نشأ على يد الشيخ أبي بكر النيسابوري ت 324هـ ؛ يقول أبو الحسن الشهرباني : "أول من أظهر ببغداد علم المناسبة – ولم نكن سمعناه من غيره – هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري ، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب ، وكان يقول – وهو على الكرسي إذا قرئت عليه آية - : لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه ؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة ؟ وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة "كما ذكرت تلك الكتب أن أول من أفرد هذا العلم بالتصنيف أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي ت 708 هـ وهو صاحب "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن " . وذلك كله فيه نظر ؛ للأسباب الآتية :
1- إن الصحابة وسلف الأمة بما لهم من فطرة سليمة قد كانوا يدركون أسرار هذا العلم ولطائفه ؛ يقول البقاعي : "وقد كان أفاضل السلف يعرفون هذا بما في سليقتهم من أفانين العربية ودقيق مناهج الفكر البشرية ولطيف النوازع العقلية ، ثم تناقص هذا العلم حتى انعجم على الناس إلى حد الغرابة كغيره من الفنون " ثم يضرب البقاعي لذلك أمثلة من نماذج الصحابة ، ويبدو أن أبا بكر النيساوبوري – الذي يقال أنه أول من تكلم في هذا العلم - لم يتأت له هذا العلم من جهة الابتكار أو الاكتشاف ؛ وإنما وجد نماذج اقتدى بها ونسج على منوالها ؛ إذ "كان أحفظ الناس للفقهيات واختلاف الصحابة "؛ يقول عنه الدارقطني : "ما رأيت أحفظ من أبي بكر النيسابوري "ويقول عنه أيضاً : "لم نر مثله في مشايخنا ولم نر أحفظ منه للأسانيد والمتون " وقد هاجر النيسابوري - رحمه الله - في طلب العلم إلى العراق ومصر والشام و الحجاز، ولا شك أن لحفظ النيسابوري وجمعه للعلم من البلدان المختلفة أثر واضح في إظهار هذا العلم .
2- لم يكن ابن الزبير - هذا العالم المتأخر - هو أول من صنف في التناسب، ولا شك أن الذين زعموا ذلك لم يراعوا كافة أشكال التناسب ؛ بل حصروا هذا العلم في شكل واحد هو ترتيب السور وضربوا صفحاً عن التناسب بين المفردات والتناسب بين الجمل والآيات وغيرها ، وإلا فإن النظم - الذي هو إيجاد المناسبة وإقامة الروابط بين المفردات في التركيب بصورة معينة - يعدّ أهم أنواع التناسب التي اهتم بها العلماء وأقدمها.
وهذا العلم العظيم الشأن الذي نوّه العلماء بمكانته الرفيعة قد عرف عندهم بـ"علم المناسبة" أو"التناسب" ، والتناسب في اللغة هو : التقارب والتناسق والمشاكلة والترابط والتعلّق والانسجام ، وقد ورد هذا اللفظ في القرآن العظيم بصيغ متعددة في قوله تعالى:)وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا( وقوله : ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا (وقوله : ) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ( والمراد بالتناسب ودراسته هنا هو: تلمس أوجه الترابط والانسجام في القرآن العظيم ، ومعلوم أن لفظ "قرآن" ابتداء يدل - في لغة العرب - على الضم والجمع والتأليف الذي يشير إشارة جلية إلى التقارب والتناسب والترابط والتعلّق والانسجام ؛ ولهذا يقول الجرجاني" إنما كان قرآناً وكلام الله عزّ وجلّ بالنظم الذي هو عليه "وقال تعالى : )كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ( ومن معاني الإحكام الإحكام في النظم والرصف والتأليف. ولا شك أن التناسب والانسجام ضد الاختلاف والتفاوت والاضطراب والتنافر ؛ ولهذا يقول الله تعالى ): أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا( ولكن وبمفهوم المخالفة - كما يقول الأصوليون - فإن القرآن لما كان من عند الله فقد وجدوا فيه تناسقاً وتناسباً وانسجاماً عجيباً , ولأجل ذلك كانت قضية التناسب هذه قضية جوهرية في القرآن ؛ لأنه منزّه عن الاختلاف والتضادّ والتفاوت ، ومن هنا كانت لهذه القضية أهميتها التي يمكن أن تكمن في أمور كثيرة جدًا ؛ منها الآتي:
1- إن التناسب والانسجام من أهم السمات التي يتحقّق بتحقّقها الجمال وينتفي بانتفائها ؛ إذ لابد لكل عمل بديع وصنعة مستحسنة من وجود آصرة تجمع المختلف منها والمؤتلف والمتشابه والمتباين , ولا ريب أن النظم المحكم والرصف المتفرّد والبناء المتلاحم من أهم الخصائص التي تكشف عن جمال القرآن العظيم ؛ ومعلوم أن أهم محاسن الكلام - أن يرتبط بعضه ببعض وتلتئم أجزاؤه وتتفق مبانيه وتتناسب أطرافه وتنسجم مكوّناته ؛ ويغدو سلس النظام خفيفا على اللسان حتى لكأنه بأسره كلمة واحدة ؛ فيسلم بذلك من التفرّق والتنافر والتباين والاختلاف .
2- ذهب كثير من العلماء إلى أن تلّمس التناسب ودراسة أوجه التعلّق والارتباط في القرآن من العلوم الشريفة التي تتكشف بتكشفها لطائف التنزيل وأسراره ؛ يقول الإمام الرازي : "أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط "ويقول أبو بكر بن العربي: " ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني - علم عظيم لم يتعرّض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ، ثم فتح الله عزَّ وجلّ لنا فيه ، فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه" وهذا العلم الذي هو علم دقيق المسالك خفي المدارك - يكشف للناظر المتأمّل اللطائف والأسرار التي عليها رتّب الله كتابه.
3- إن التناسب يجعل الكلام آخذاً بعضه بأعناق بعض ؛ بحيث لا يختلف ولا يضطرب ولا يتضادّ ولا يتعارض ولا يتفاوت بشكل من الأشكال ؛ فيقوى بذلك الارتباط ويصير حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء ، وفي ذلك من عظمة الكلام ما لا يخفى .
4- إن الصفة الجوهرية التي حولها حام دارسو الإعجاز - على اختلاف مدارسهم وتعدّد رؤاهم وتباين أبعادهم - هي مسألة التناسب والنظم والضمّ والانسجام والتآلف ؛ ويذهب الجرجاني إلى أن من أهم وجوه الإعجاز والمزيّة موقع الأجزاء بعضها من بعض ؛ واستعمال بعضها مع بعض ؛ ويقول الرازي : "إن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه - فهو أيضاً بسبب ترتيبه ونظم آياته " وهذه الصفة الجوهرية في القرآن لا تكاد تخفى على كل من تدبّره ولو تدبّراً يسيراً ؛ يقول سيد قطب : "والتناسق المطلق الشامل هو الظاهرة التي لا يخطئها كل من تدبّر القرآن أبداً ، ومستوياتها ومجالاتها مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها ... تتجلّى هذه الظاهرة - ظاهرة عدم الاختلاف أو ظاهرة التناسق - ابتداء من التعبير القرآني من ناحية الأداء وطرائقه الفنية ... والكمال في الأداء بلا تغيّر ولا اختلاف من مستوى إلى مستوى ... وتتجلّى هذه الظاهرة بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله " ولا يقصر سيد قطب التناسب المطلق والتناسق الشامل على الكتاب العزيز فحسب ؛ بل يجعله أمراً منهجياً ينتظم الدين وحقائقه كلها ؛ يقول : "هنالك التناسق الشامل العجيب في طبيعة الدين وحقائقه ومشهد التكامل الجميل الدقيق في منهجه للعمل وطريقته ، إن هذا الدين لا يعود مجموعة معتقدات وعبادات وشرائع وتوجيهات ؛ إنما يبدو تصميماً واحداً متداخلاً متراكباً متعاشقاً " .
هذا وقد تناولت كتب علوم القرآن تاريخ هذا العلم بشكل غريب ؛ إذ حصرت نشأته وبداية التصنيف فيه في فترات متأخرة ، وتشهد كتب البلاغة والإعجاز القرآني بخلاف ذلك , ولعل سبب هذا الإغفال أن كتب علوم القرآن قد حصرت هذا التناسب في نطاق شديد الضيق لا يتناول الأبعاد الأخرى منه ، وهذا أمر منهجي لا يمكن تجاوزه . وقد ذكرت تلك الكتب أن هذا العلم الجليل قد نشأ على يد الشيخ أبي بكر النيسابوري ت 324هـ ؛ يقول أبو الحسن الشهرباني : "أول من أظهر ببغداد علم المناسبة – ولم نكن سمعناه من غيره – هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري ، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب ، وكان يقول – وهو على الكرسي إذا قرئت عليه آية - : لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه ؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة ؟ وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة "كما ذكرت تلك الكتب أن أول من أفرد هذا العلم بالتصنيف أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي ت 708 هـ وهو صاحب "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن " . وذلك كله فيه نظر ؛ للأسباب الآتية :
1- إن الصحابة وسلف الأمة بما لهم من فطرة سليمة قد كانوا يدركون أسرار هذا العلم ولطائفه ؛ يقول البقاعي : "وقد كان أفاضل السلف يعرفون هذا بما في سليقتهم من أفانين العربية ودقيق مناهج الفكر البشرية ولطيف النوازع العقلية ، ثم تناقص هذا العلم حتى انعجم على الناس إلى حد الغرابة كغيره من الفنون " ثم يضرب البقاعي لذلك أمثلة من نماذج الصحابة ، ويبدو أن أبا بكر النيساوبوري – الذي يقال أنه أول من تكلم في هذا العلم - لم يتأت له هذا العلم من جهة الابتكار أو الاكتشاف ؛ وإنما وجد نماذج اقتدى بها ونسج على منوالها ؛ إذ "كان أحفظ الناس للفقهيات واختلاف الصحابة "؛ يقول عنه الدارقطني : "ما رأيت أحفظ من أبي بكر النيسابوري "ويقول عنه أيضاً : "لم نر مثله في مشايخنا ولم نر أحفظ منه للأسانيد والمتون " وقد هاجر النيسابوري - رحمه الله - في طلب العلم إلى العراق ومصر والشام و الحجاز، ولا شك أن لحفظ النيسابوري وجمعه للعلم من البلدان المختلفة أثر واضح في إظهار هذا العلم .
2- لم يكن ابن الزبير - هذا العالم المتأخر - هو أول من صنف في التناسب، ولا شك أن الذين زعموا ذلك لم يراعوا كافة أشكال التناسب ؛ بل حصروا هذا العلم في شكل واحد هو ترتيب السور وضربوا صفحاً عن التناسب بين المفردات والتناسب بين الجمل والآيات وغيرها ، وإلا فإن النظم - الذي هو إيجاد المناسبة وإقامة الروابط بين المفردات في التركيب بصورة معينة - يعدّ أهم أنواع التناسب التي اهتم بها العلماء وأقدمها.