علم أصول الفقه بين القطع والظن

إنضم
19/12/2011
المشاركات
1
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
المدينة المنورة

يعد علم أصول الفقه من الخواص التي امتازت بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم، ويعتبر شاهداً أصيلا على نضج عقليتها ونبوغها العلمي والمعرفي، فهو من العلوم التي أبدعها العقل المسلم واختص بها دون سواه، ولذلك عُدُّ من أشرف العلوم الشرعية، ويكفي هذا العلم قوة وشرفاً أنه يجمع بين العقل والنقل، قال الغزالي يرحمه اللّه: >وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع،واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقول، ولا هو مبنى على محض التقليد الذي لايشهد له العقل بالتأييد والتسديد وقد ارتبطت بهذا العلم >علم أصول الفقه< إشكاليات كثيرة بعضها من صلبه، وبعضها من ملحه لا من صلبه، وبعضها ليست من صلبه ولا من ملحه ، ومن المسائل التي تعد من صلبه مسألة القطع والظن في مسائله ومباحثه وهي التي سنخصص هذه الدراسة لمناقشتها وتسليط الضوء عليها·

أولاً: القطع والظن في أحكام الشرع وأدلته
لم ترتبط إشكالية القطع والظن بعلم أصول الفقه فحسب، بل تجاوزته لترتبط بأحكام الشرع وأدلته بصفة عامة·· ففي نصوص الشرع ماهو ظني الثبوت، ظني الدلالة معا، ومنها: ماهو ظني الثبوت، قطعي الدلالة،ومنها : ماهو قطعي الثبوت، ظني الدلالة، ومنها : ماهو قطعي الثبوت، قطعي الدلالة معا
وقد قسم الإمام الشاطبي الأدلة الشرعية من حيث كونها قطعية أو ظنية إلى أربعة أقسام، فصلها كما يلي:
- القسم الأول:الأدلة القطعية وهي التي لا تفتقر إلى بيان، كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل وأشباه ذلك·
- القسم الثاني: الأدلة الظنية الراجعة إلى أصول قطعية، ومثالها عام أخبار الآحاد، فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى: >وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم< >4< النحل 44،· ومثالها كذلك ماجاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج·· ومنه أيضا قوله عليه الصلاة والسلام:>لاضرر ولا ضرار ، فإنه داخل تحت أصل قطعي لأن الضرر والضرار مثبوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات وقواعد كليات·
- القسم الثالث: الأدلة الظنية المعارضة لأصل قطعي أو التي لا يشهد لها أصل قطعي، فهذه مردودة بلا إشكال، والدليل على ذلك أمرين:
- أنها مخالفة لأصول الشريعة، ومخالفة أصولها لا يصح لأنه ليس منها وما ليس من الشريعة، كيف يعد منها؟!
- أنه ليس له ما يشهد بصحته وماهو كذلك متساقط في الاعتبار·
- القسم الرابع: الأدلة الظنية التي لايشهد لها أصل قطعي ولا تعارض أصلا قطعيا فهي في محل نظر·>6<·
ثانياً: قطعية أصول الفقه وظنيته عند الأصوليين:
انقسم الأصوليون في هذا الموضوع إلى مذهبين·· مذهب يقول أصحابه بقطعية أصول الفقه، ومذهب يقول أصحابه بظنيته·· وفيما يأتي بيان لآراء وحجج كل مذهب·
1- مذهب القائلين بقطعية علم أصول الفقه·
ذهب أهل هذا المذهب إلى القول: إن علم أصول الفقه مطالبه ومباحثه قطعية، ولذلك لم يجز أصحاب هذا المذهب التقليد في هذا العلم·· كما أن المخطئ فيه عندهم ملوم غير معذور، ومن القائلين بهذا القول الإمام أبو اسحاق الشاطبي حيث قرر في الموافقات: >إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان ذلك فهو قطعي ويستدل >الشاطبي< على قوله بما يلي من الحجج - بالاستقراء الكلي لأدلة الشريعة، فهذا الاستقراء أفاد أن أصول الفقه قطعية لا ظنية·
- أنها ترجع إلى أصول عقلية وهي قطعية، والمؤلف من القطعيات قطعي وذلك أصول الفقه·
- أن أصول الفقه لو كانت ظنية لم تكن راجعة إلى أمر عقلي، اذ الظن لا يقبل في العقليات، ولا في كلي شرعي لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات·· إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصول الشريعة لأنه الكلي الأول، وذلك غير جائز عادة·
- انه لو جاز جعل الظني أصلا في أصول الفقه لجاز جعله أصلا في أصول الدين وليس كذلك باتفاق، فكذلك هنا لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في كونها كليات معتبرة في كل ملة وهي داخلة في حفظ الدين من الضرورات·
5- أن الأًصل لابد أن يكون مقطوعاً به >لأنه إن كان مظنونا تطرق إليه احتمال الاختلاف·
وبناء على هذه الحجج قرر >الشاطبي< يرحمه الله مايلي من المقدمات:
>أن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي
->أن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية، لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة بهومن العلماء الذين سبقوا الإمام الشاطبي في السير وفق هذا المسلك إمام الحرمين الجويني، قال يرحمة اللّه: >فإن قيل فما هو أصول الفقه؟ قلنا: هي أدلته، وأدلة الفقه هي الأدلة السبعة، وأقسامها نص الكتاب، ونص السنَّة المتواترة، والإجماع، ومستند جميعها قول اللّه سبحانه وتعالى، ومن هذه الجهة نستمد أصول الفقه من الكلام ·· فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول، وليست قواطع، قلنا: حظ الأصولي إبانة القطع في العمل بها، ولكنه لابد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به<
2- مذهب القائلين بعدم قطعية علم أصول الفقه
يذهب أصحاب هذا المذهب إلى القول:إن مسائل هذا العلم فيها ماهو ظني، وفيها ماهو قطعي·· فهي إذن ليست قطعية بإطلاق كما أنها ليست ظنية بإطلاق·
ومن القائلين بهذا القول العلامة التونسي الشيخ >الطاهر بن عاشور< يرحمه الله، فقد بين ذلك في معرض رده على >الشاطبي< قال يرحمه اللّه: >حاول أبو اسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من كتاب >الموافقات< الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية فلم يأت بطائل< ، وقال أيضاً:>أبو اسحاق الشاطبي< حاول في المقدمة الأولى من كتابه عنوان التعريف طريقة أخرى، لإثبات كون أصول الفقه قطعية وهي طريقة لا يوصل منها إلا قوله:(الدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي·· وأعني بالكليات: >الضروريات والحاجيات والتحسينيات) ثم ذهب يستدل على ذلك بمقدمات خطابية وسفسطائية أكثرها مدخول، ومخلوط غير منخول·>
وقد سلك الدكتور >عبد المجيد النجار< (من المعاصرين) مسلك أصحاب هذا المذهب·· فقال يرحمه الله منتقدا >الشاطبي<: >لقد خصص الإمام الشاطبي المقدمة الأولى من مقدمة الموافقات للاستدلال على أن أصول الفقه في الدين قطعية لاظنية، وذهب في ذلك إلى أن هذه الأصول تضافرت على بيانها كثرة من الأدلة، لئن كانت ظنية بالنظر إاليها إفرادا، فإن اجتماعها وتضافرها يبلغ إلى درجة القطع في دلالتها على مدلولاتها من الأصول، وليست المقاصد بخارجة عن هذا الحكم، فهي من أصول الفقه، بل قطعيتها أبين من قطعية غيرها، وهذا التعميم الذي يجعل كل المقاصد عند >الشاطبي< قطيعة سواء ما كان راجعا إلى المقاصد العالية أو إلى المقاصد القريبة يجعل هذا الحكم الجازم يداخله الضعف، فيما يتعلق الأمر بالمقاصد التي هي علل الاحكام، التي قامت عليها آحادها، فإن بعض تلك العلل لا تخفى ظنيتها، وهو ما أدى إلى اختلاف الفقهاء في تقديرها·
وقد كان هذا الضعف محلظا للإمام ابن عاشور
وقد استند من قال بظنية علم أصول الفقه على حجج أهمها: الخلاف الملاحظ في الأدلة الشرعية، قال الدكتور >يوسف القرضاوي< مبينا هذه الحجة:>فهناك من الأدلة ماهو مختلف فيه بين مثبت بإطلاق، وناف بإطلاق، وقائل بالتفصيل، مثل اختلافهم في المصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستصحاب وغيرها، مما هو معلوم لكل دارس للأصول، والقياس وهو من الأدلة الأربعة الأساسية لدى المذاهب المتبوعة ، فيه نزاع وكلام طويل الذيول من الظاهرية وغيرهم، حتى الإجماع لا يخلو من كلام في إمكانه، ووقوعه، والعلم به، وحجيته، هذا بالاضافة الى أن القواعد والقوانين التي وضعها أئمة هذا العلم لضبط الفهم والاستنباط من المصدرين الأساسين الكتاب والسنة، لم تسلم من الخلاف وتعارض وجهات النظر، كما يتضح ذلك في مسائل العام والخاص والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والناسخ والمنسوخ وغيرها·
وإذا كان مثل هذا الخلاف واقعاً في أصول الفقه، فلا نستطيع أن نوافق الإمام >الشاطبي< على اعتبار كل مسائل الأصول قطعية، فالقطعي لا يسع مثل هذا الخلاف ولا يحتمله ثالثا: تحرير محل النزاع ومحاولة رفع الإشكال·
ذهب كثير من العلماء المحررين إلى أن الخلاف في هذه المسألة لفظي فقط وهو قول >الشاطبي< نفسه، قال الدكتور >فريد الأنصاري<:>وقد حكى الشاطبي الخلاف الحاصل في قطعية أصول الفقه، مشيرا الى ا نه خلاف اصطلاحي في الحقيقة، متعلق بمعنى القطع من ناحية، وبمعنى الأصول من ناحية أخرى وبالنظر الى معنى هذا الأخير - أي الأصول عند الأصوليين - تبين أن فريقا يجعل (الأصول) أدلة، وفريقا آخر يجعلها (القوانين) وأما >الشاطبي< فهو يجمع بينهما< >17<·
فالإمام الجويني يرى أن الأوصل هي الأدلة القطعية فقط·· قال يرحمه الله: >فإن قيل: ما أصول الفقه؟ قلنا: هي أدلته وأدلة الفقه هي الأدلة السبعة وأقسامها: نص الكتاب، ونص السنَّة المتواترة، والإجماع، ومستند جميعها قول اللّه سبحانه وتعالى، ومن هذه الجهة نستمد أصول الفقه من الكلام·· فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يلفى إلا في الأصول، وليست قواطع، قلنا حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها، ولكن لابد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبط الدليل به فالأصول عند >الجويني<- حسب هذا النص - هي الأدلة القطعية، أما دون ذلك فهو ليس منها·
أما عند >المازري<، فالأصول هي قواعد العلم وقوانيه وكلياته التي تعالج القضايا والمسائل المختلفة، قال فيما نقله عنه >الشاطبي< :>وعندي انه لا وجه للتحاشي عن عد هذا الفن من الأصول، وان كان ظنيا، على طريقة القاضي، في أن الأصول هي أصول العلم، لأن تلك الظنيات قوانين كليات وضعت لا لأنفسها، ولكن ليعرض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر··<بينما يجمع أبو اسحاق يرحمه الله في أصول الفقه بين >الأدلة< وبين >أصول العلم< أو >القوانين الكلية< وهو ما قرره الدكتور >فريد الأنصاري<: >فالأصول التي يبحث لها >الشاطبي< عن القطع، هي ذات صورتين: إما أن تكون أدلة نصية، كالكتاب والسنة من حيث إنهما قوانين كلية، أي معاني مستقرأة ومن نصوص الشريعة، وآحادها الظنية الدلالة أو الثبوت أو هما معنى، استقراء يؤدي الى القطع بثبوت ذلك المعنى وشمولية الحكمة في الشرع وهذا هو معنى القطع المعتمد لديه بالقصد الأول ·
 
عودة
أعلى