يحيى الشهري
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
(الاستعـــــــاذة)
[1] حديث: استب رجلان عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فغضب أحدهما فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد"، فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقال: تعوذ بالله من الشيطان، فقال: أترى بي بأسا ؟ أمجنون أنا ؟ اذهب.
الحديث أورده ابن كثير في تفسيره (1/15)، (2/279)، والقرطبي في الجامع (1/88)، والسيوطي في الدر المنثور (7/327 ـ 328)، والشوكاني في فتح القدير (4/517).
وأورده الأستاذ الفاضل حكمت بشير في كتابه القيم الصحيح المسبور (1/67) والسياق له.
طرق الحديث:
ورد من ثلاث طرق: عن أبي بن كعب، وسليمان بن صرد، ومعاذ بن جبل.
1 ـ فأما حديث أبي بن كعب، فلفظه: تلاحا رجلان عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فتصدَّع أنف أحدهما غضبًا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إني لأعلم شيئًا لو قاله ذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
وفيه اختلاف سيأتي بيانه وتخريجه في حديث معاذ.
2 ـ وأما حديث سليمان بن صرد: فلفظه: استب رجلان عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه، فنظر إليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقام إلى الرجل رجلٌ ممَّن سمع النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: أتدري ما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آنفًا، قال: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقال له الرجل: أمجنونا تراني؟!.
أخرجه البخاري برقمي (5701) (5764) ومسلم برقم (2610) واللفظ له. وهو أصح الأحاديث.
وقد أورده الحاكم في المستدرك (2/478/ برقم 3649) في تفسير سورة السجدة: أبو البختري عبدالله بن محمد بن شاكر، عن أبي أسامة، حدثنا الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن سليمان بن صرد (رضي الله عنه)، قال: استب رجلان قرب النبي (صلى الله عليه وسلم) فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، فقال الرجل: أمجنون تراني ؟ [فتلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)].
وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد".
وأخرجه البيهقي في الشعب برقم (8283): من طريق الحاكم به.
والحديث رواه نصر بن علي الجهضمي عند مسلم (2610)، ورواه علي بن المديني عند البخاري في الأدب المفرد برقم (1319): كلاهما عن أبي أسامة، ولم يذكرا هذه الزيادة.
ورواه كذلك حفص بن غياث عند البخاري برقم (5701)، ومسلم برقم (2610)، وجرير بن عبدالحميد عند البخاري برقم (5764)، وأبو معاوية عند مسلم برقم (2610)، وموسى بن أعين عند الطبراني في الكبير برقم (6488): أربعتهم عن الأعمش ليس عند أحد منهم تلك الزيادة.
فظهر أن التفرد من قبل أبي البختري هذا.. قال ابن أبي حاتم في الجرح (5/162): "سمعت منه مع أبى وهو صدوق ، قال: سئل أبى عنه، فقال: شيخ".
وقال ابن حبان في الثقات (8/367): " مستقيم الحديث".
وقال الدارقطني: "صدوق ثقة". سؤالات الحاكم برقم (117).
قلت: ولم يذكر ابن حجر هذه الزيادة عند شرحه لهذا الحديث، رغم أنه لهج بذكر الزوائد والاختلاف في شرحه.. وهذه في نظري علة في الحديث.
3 ـ وأما حديث معاذ بن جبل: فلفظه: استب رجلان عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فغضب أحدهما فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب غضبه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
يرويه عبدالملك بن عُمير، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عنه. واختلف عليه فيه:
وقد بوب علىهذا الاختلاف النسائي في الكبرى (6: 104) بقوله: (ما يقول إذا غضب وذكرُ الاختلاف على عبد الملك بن عمير في خبر أبي بن كعب).
(أ) ـ وأورده من رواية سفيان (يعني الثوري) عنه به برقم (10221)، ومن طريقه الضياء في المختارة (3: 436/ برقم 1237): واللفظ له.
(ب) ـ ومن رواية زائدة (وهو ابن قدامة) عنه به برقم (10222) نحوه.
(ج) ـ ومن رواية يزيد يعني ابن زياد عنه، فجعله من رواية ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب برقم (10223) ومن طريقه الضياء في المختارة (3: 436/ برقم 1236): نحوه. اهـ.
ونزيد فنقول: وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقمي (25383)، (29582)، وأحمد في مسنده برقم (22139)، وعبد بن حميد في مسنده ـ كما في المنتخب ـ برقم (11)، والطبراني في الكبير (20: 141): من حديثه (كذلك).
وأخرجه أحمد في مسنده برقم (22164)، والترمذي في الجامع برقم (3452)، والطبراني في الكبير (20: 141): من حديث سفيان به.
وله وجهان آخران .. من رواية جرير بن عبدالحميد، وعبيدالله بن عمر.
(د) ـ فرواية جرير: أخرجها أبوداود الطيالسي في مسنده برقم (570)، وأبو داود السجستاني في السنن برقم (4780)، ومن طريقه الخطابي في غريبه (1: 142): من حديث جرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل بلفظ: استب رجلان عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فغضب أحدهما غضبًا شديدًا حتى خُيِّل إليَّ أنَّ أنفه يتمزَّع من شدَّة غضبه، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجده من الغضب، فقال ما هي يا رسول الله ؟ قال: يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم".
قال: فجعل معاذ يأمره فأبى ومحكَ، وجعل يزدادُ غضبًا.
وهذا اللفظ مجوَّد.. وهو للسجستاني، أما الطيالسي فاختصره.
(هـ) ـ ورواية عبيدالله بن عمر: أخرجها أحمد في المسند برقم (22142)، والطبراني في الكبير (20: 140/ برقم 286): من رواية عمرو بن خالد الحراني، ثنا عبيد الله بن عمر، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: انتسب رجلان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وعنده رجلان فغضب أحدهما، حتى جعل يتمزغ من الغضب، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): إني لأعلم كلمة لو قالها لأذهبت الذي به من الغضب، فدنوت منه، فقلت: يا نبي الله ! ما هي يا نبي الله ؟ وأحببت أن أعلم أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم"، فدنوت من الرجل، فقلتها له، فلم يقلها، فلم يزدد إلا غضبًا.
وقال الترمذي: "وهذا حديث مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى، لم يسمع من معاذ بن جبل، مات معاذ في خلافة عمر بن الخطاب، وقتل عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي ليلى غلامٌ ابن ست سنين.
وهكذا روى شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى". اهـ.
قال الدارقطني في (الأفراد) ـ كما في أطرافه لابن القيسراني برقم (604) ـ : " تفرد به زياد بن أبي الجعد، عن عبدالملك بن عمير، عن ابن أبي ليلى، وكذلك رواه الفضل بن موسى السيناني، عن يزيد.
وخالفهما عمرو بن عبدالغفار الفُقيمي فرواه، عن يزيد، عن عبدالرحمن بن عابس بن ربيعة النخعي، عن ابن أبي ليلى، عن أبي.
وهو غريبٌ من حديث عبدالرحمن بن عابس.
تفرد به عمرو بن عبدالغفار، عن عن يزيد بن زياد". اهـ.
وقال في العلل (6: 57): " يرويه عبد الملك بن عمير واختلف عنه، فرواه الثوري، وإسرائيل، وزائدة، وجرير: عن عبد الملك عن بن أبي ليلى عن معاذ. خالفه يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن عبد الملك، عن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب. والصحيح قول من قال عن معاذ ".
وأورده ابن حجر في الأمالي المطلقة (ص184) من طريق يزيد به.
وقال: "هذا حديث حسن. أخرجه النسائي في الكبرى: عن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن يزيد بن زياد ـ وهو ابن أبي الجعد ـ فوقع لنا عاليًا.
وأخرجه من رواية سفيان الثوري، وزائدة بن قدامة.
وكذا أخرجه أحمد من روايتهما.
والترمذي: من رواية الثوري.
وأبو داود: من رواية جرير.
كلهم عن عبد الملك بن عمير، لكن قالوا: في روايتهم عن معاذ بن جبل بدل أبي بن كعب .. قال الترمذي: هذا منقطع؛ لأن عبد الرحمن لم يدرك معاذًا، وهو كما قال؛ لأن مولد عبد الرحمن بالمدينة قبل وفاة معاذ بدمشق بسنة واحدة.
وقال الدارقطني في (الأفراد): تفرد به يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن عبد الملك بن عمير.
وقال في (العلل): رواه الحفاظ عن عبد الملك عن عبد الرحمن عن معاذ وهو الصواب.
قلت: ويزيد بن زياد ثقة ، فلعل الاضطراب فيه من عبد الملك بن عمير.
وللحديث شاهد في الصحيحين من حديث سليمان بن صرد، وسياقه أتم ". اهـ.
ونقله ابن كثيرفي تفسيره (1: 15) وقال: "قال الترمذي: مرسل يعني أن عبد الرحمن بن ليلى لم يلق معاذ بن جبل، فإنه مات قبل سنة عشرين.
(قال): وقد يكون عبد الرحمن بن ليلى سمعه من أبي بن كعب ـ كما تقدم ـ وبلغه عن معاذ بن جبل، فإن هذه القصَّة شهدها غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم". اهـ.
قلت: بهذا وقفنا (ولم نبعد) على دليل ما سطرناه في التمهيد، من تنكب بعض متأخري الأئمة والمعاصرين طريقة أهل الحديث في التعليل والترجيح!! فهذا ابن كثير يحاول الجمع بين روايتي ابن أبي ليلى: عن أُبي ومعاذ (رضي الله عنهما).. وهذا ابن حجر حسنها كذلك، مع أنه أقر كلام الدارقطني وحمل الاضطراب على عبدالملك بن عمير. وفي هذا ما فيه !!.
وأخرجه عبد بن حميد في مسنده ـ المنتخب ـ برقم (179)، وعبدالله بن أحمد في زوائده على المسند برقم (21216)، والبيهقي في الشعب برقم (5133) : من حديث عبد الله بن نمير، ثنا يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، قال: انتسب، أو قال: استب رجلان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، أنا فلان بن فلان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): انتسب، أو قال: استب رجلان على عهد موسى، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان إلى تسعة، ما أنت لا أم لك ؟! قال: أنا فلان بن فلان، ابن الإسلام فأوحى الله إليه: يا موسى هذان المنتسبان ـ أو قال المتسابان ـ أما أنت أيها المعتزي أو المنتسب إلى تسعة أباء في النار، فأنت عاشرهم في النار، وأما أنت أيها المنتسب إلى اثنين فأنت ثالثهما في الجنة.
وقد اختلف على عبدالملك فيه (كذلك).
فأخرجه الطبراني في الكبير (20: 140): من حديث عثمان بن أبي شيبة.
وأخرجه البيهقي في الشعب برقم (5134): من حديث إسحاق بن إبراهيم الحنظلي.
كلاهما عن جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: انتسب رجلان في بني اسرائيل ـ على عهد موسى عليه السلام ـ أحدهما كافر والآخر مسلم، فانتسب الكافر إلى تسعة أباء، فقال المسلم: أنا فلان بن فلان وبرئت ممن سواهم، فخرج منادي موسى ينادي: أيها المنتسبان قد قُضى بينكما، ثم قال: أيها الكافر أما أنت فانتسبت إلى تسعة أباء كفار، وأنت عاشرهم في النار، وأما أنت أيها المسلم فقصرت على أبوين مسلمين وبرئت ممن سواهم، فأنت من أهل الإسلام، وبرئت ممن سواهم. واللفظ للبيهقي.
والحديث أورده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1270)، وقال: " أخرجه أحمد ، وعنه الضياء في المختارة، والبيهقي في شعب الإيمان: من طريق يزيد بن أبي زياد (الآنفة) .. وقال: " هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير يزيد بن أبي الجعد، وهو ثقة.
وخالفه جرير، فقال: عن عبدالملك بن عمير، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فذكره.
ورجاله ثقات أيضًا، لكن أشار البيهقي إلى ترجيح الأول. والله أعلم".اهـ.
قلت: هذا اللفظ مختلف كأنه حديث آخر! وليس فيه الشاهد، وإشارة البيهقي تتمثل في إيراده لرواية ابن نمير عن يزيد... ثم قوله عقبها: وقيل: عن عبدالرحمن عن معاذ.. ثم ساق بسنده رواية إسحاق بن راهوية عن جرير.
وكأن الخلل دخل على عبدالملك بن عمير من هذا الوجه .. خلط بين المتنين!. والله أعلم.
فما حال عبدالملك هذا؟ .
قال أحمد: مضطرب الحديث جدًا مع قلة حديثه، ما أرى له خمسمئة حديث، وقد غلط في كثيرٍ منها.
وقال عبد الله بن أحمد: سئل أبي عن عبد الملك بن عمير وعاصم بن أبي النجود، فقال: عاصم أقل اختلافًا عندي وقدم عاصمًا.
وقال ابن معين: مخلط.
قال أبو حاتم: ليس بحافظ وهو صالح تغير حفظه قبل موته.
وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه.
ووثقه العجلي.
وقال النسائي وغيره: ليس به بأس.
ودافع عنه الذهبي في الميزان (2: 660)، فقال: "لم يورده ابن عدي ولا العقيلي ولا ابن حبان، وقد ذكروا من هو أقوى حفظًا منه وأما ابن الجوزي فذكره فحكى الجرح وما ذكر التوثيق، والرجل من نظراء السبيعي أبي إسحاق وسعيد المقبري، لما وقعوا في هزم الشيخوخة نقص حفظهم وساءت أذهانهم ولم يختلطوا، وحديثهم في كتب الإسلام كلها، وكان عبد الملك ممن جاوز المائة ومات في آخر سنة ست وثلاثين ومئة". اهـ.
وقال ابن حجر في هدي الساري (ص422): " إنما عيب عليه أنه تغير حفظه لكبر سنة، لأنه عاش مئة وثلاث سنين، ولم يذكره ابن عدي في الكامل ولا ابن حبان".
قلت: لم يستوعب العقيلي وابن حبان وابن عدي الرواة الضعفاء، بل عليهم فوات، وما ذكروا من سوء حفظه وخلطه ظاهر في روايته لهذا الحديث.
وقد ذكره سبط ابن العجمي في كتابه الاغتباط بمن رمي بالاختلاط برقم (66)، والعلائي في المختلطين برقم (30). ولم يذكره ابن الكيال في (الكواكب النيرات) وإن كان استدركه محقق الكتاب في ملحقه.
وكل الاختلاف والاضطراب في الإسناد والمتن إنما هو في رواية يزيد بن أبي زياد عنه خاصة، فإما أن يكون سمع هذا الحديث من عبدالملك أكثر من مرة !! وإما أن يكون هذا من قبله وإن كان ثقة ! فالثقة قد يهم.
وفقد رواه عنه هاشم بن البريد عند أبي يعلى ، ومن طريقه الضياء في المختارة (3: 436 / برقم 1236).
ورواه الفضل بن موسى عند النسائي في الكبرى (6: 104/ برقم10223)، ومن طريقه الضياء في المختارة (3: 437/ برقم 1238).
ورواه عبدالله بن نمير عند عبد بن حميد برقم (179)، وعبدالله بن أحمد في زوائده على المسند برقم (21216)، والبيهقي في الشعب برقم (5133)، فجعلوه ثلاثتهم من حديث أبي بن كعب.
اتفقا الأوليان على اللفظ، وخالف الثالث (كما سبق) فلم يذكر الشاهد من اللفظ النبوي، وإن كان أشار إلى القصة! .. وبقية السياق لحديث آخر. اختلف فيه كذلك!.
فهل سماع يزيد بن أبي زيد عن عبدالملك بآخر رمق؟!.. هذا الظاهر (والله أعلم).
وللقصة الثانية شاهد عن عمر بن الخطاب: أخرجه البيهقي في الشعب برقم (5131): وفيه قصة بين سعد وسلمان رضي الله عنهم أجمعين.
غريب الحديث:
1 ـ قوله: في رواية أُبي (فتصدَّع أنف أحدهما غضبًا)، وفي رواية معاذ: (خُيِّل إلي أن أنفه يتمزَّع من شدة غضبه)، فقوله (يتمزَّع): هذا الحرف مما ذكر في تصحيفات المحدثين، فقال أبو عبيد: "ليس يتمزع بشيء، ولكني أحسبه (يترمع) من شدة الغضب، وهو أن تراه كأنه يرعد من شدة الغضب". غريب الحديث (2: 464)، وانظر النهاية (2: 264) (4: 325)، وتصحيفات المحدثين (1: 385).
قال الأزهري: " إن صح يتمزع فإن معناه يتشقق، يقال: مزعت الشيء إذا قسمته، قال وأنا أحسبه يترمع، وهو أن تراه كأنه يرعد من شدة الغضب". لسان العرب (8: 134).
وقد أنكر هذا الخطابي فقال في غريبه (1: 142): " ولست أدري لم أنكر الصواب واختار غيره، وإنما هو يتمزع كذلك رواه الأثبات" .
قال ابن حجر: " يتمزع بالزاي والعين المهملة أي يتقطع، وهي مبالغة في الكناية من شدَّة غضبه". الأمالي المطلقة (ص184).
2 ـ وقوله في رواية معاذ (محك): المحك اللجاج وقد محك يمحك وأمحكه غيره. النهاية (4: 303).
وقال ابن منظور في اللسان (10: 486): " محك المحك المشارة والمنازعة في الكلام و المحك التمادي في اللجاجة عند المساومة والغضب ونحو ذلك و المماحكة الملاجة وقد محك يمحك و محك محكا و محكا فهو ماحك ومحك و أمحكه غيره ". اهـ.
لطائف الحديث:
1 ـ القصة تذكر في أسباب ورود الحديث، فهي سبب لبيان هذا الدعاء عند الغضب.. كما في البيان والتعريف للحسيني (1: 285).
2 ـ يدخل هذا الحديث في المبهمات من ثلاثة أوجه.
الوجه الأول: قوله (استب رجلان)، قال ابن حجر: " لم أعرف أسماءهما". الفتح (10: 467).
الوجه الثاني: في تعيين المأمور .. قال ابن حجر: "وأخلق بهذا المأمور أن يكون كافرًا أو منافقًا، أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السيئ، وقيل: إنه كان من جفاة الأعراب، وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون، ولم يعلم أن الغضب نوع من شر الشيطان، ولهذا يخرج به عن صورته، ويزين إفساد ما له كتقطيع ثوبه وكسر آنيته أو الأقدام على من أغضبه، ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال". الفتح (10: 467).
وقال النووي: " هذا كلام من لم يفقه في دين الله ولم يعرف أن الغضب نزغ من نزغات الشيطان، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالمجانين، ولعله كان من جفاة العرب، أو يقال: لعله كان كافراً أو منافقاً أو شدة الغضب أخرجته عن حيز الاعتدال بحيث زجر الناصح له". نقله العيني في العمدة (22: 125)، وهو في شرح مسلم للنووي (16: 163) بنحوه.
وقال الحافظ في مقدمة الفتح (ص332): " فيه ثلاثة أبهموا لم أعرف أسماءهم". اهـ.
الوجه الثالث: قوله في رواية سليمان بن صرد: (فقام إلى الرجل رجلٌ ممَّن سمع النبي صلى الله عليه وسلم)، وقع تصريح معاذ بأنه هو في بعض طرق الحديث كما سبق.
حرر في (17/ محرم/1425هـ).. وإلى لقاء قريب بإذن الله (تعالى).
(الاستعـــــــاذة)
[1] حديث: استب رجلان عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فغضب أحدهما فاشتد غضبه حتى انتفخ وجهه وتغير، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد"، فانطلق إليه الرجل فأخبره بقول النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقال: تعوذ بالله من الشيطان، فقال: أترى بي بأسا ؟ أمجنون أنا ؟ اذهب.
الحديث أورده ابن كثير في تفسيره (1/15)، (2/279)، والقرطبي في الجامع (1/88)، والسيوطي في الدر المنثور (7/327 ـ 328)، والشوكاني في فتح القدير (4/517).
وأورده الأستاذ الفاضل حكمت بشير في كتابه القيم الصحيح المسبور (1/67) والسياق له.
طرق الحديث:
ورد من ثلاث طرق: عن أبي بن كعب، وسليمان بن صرد، ومعاذ بن جبل.
1 ـ فأما حديث أبي بن كعب، فلفظه: تلاحا رجلان عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فتصدَّع أنف أحدهما غضبًا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إني لأعلم شيئًا لو قاله ذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
وفيه اختلاف سيأتي بيانه وتخريجه في حديث معاذ.
2 ـ وأما حديث سليمان بن صرد: فلفظه: استب رجلان عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه، فنظر إليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقام إلى الرجل رجلٌ ممَّن سمع النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: أتدري ما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آنفًا، قال: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقال له الرجل: أمجنونا تراني؟!.
أخرجه البخاري برقمي (5701) (5764) ومسلم برقم (2610) واللفظ له. وهو أصح الأحاديث.
وقد أورده الحاكم في المستدرك (2/478/ برقم 3649) في تفسير سورة السجدة: أبو البختري عبدالله بن محمد بن شاكر، عن أبي أسامة، حدثنا الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن سليمان بن صرد (رضي الله عنه)، قال: استب رجلان قرب النبي (صلى الله عليه وسلم) فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، فقال الرجل: أمجنون تراني ؟ [فتلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)].
وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد".
وأخرجه البيهقي في الشعب برقم (8283): من طريق الحاكم به.
والحديث رواه نصر بن علي الجهضمي عند مسلم (2610)، ورواه علي بن المديني عند البخاري في الأدب المفرد برقم (1319): كلاهما عن أبي أسامة، ولم يذكرا هذه الزيادة.
ورواه كذلك حفص بن غياث عند البخاري برقم (5701)، ومسلم برقم (2610)، وجرير بن عبدالحميد عند البخاري برقم (5764)، وأبو معاوية عند مسلم برقم (2610)، وموسى بن أعين عند الطبراني في الكبير برقم (6488): أربعتهم عن الأعمش ليس عند أحد منهم تلك الزيادة.
فظهر أن التفرد من قبل أبي البختري هذا.. قال ابن أبي حاتم في الجرح (5/162): "سمعت منه مع أبى وهو صدوق ، قال: سئل أبى عنه، فقال: شيخ".
وقال ابن حبان في الثقات (8/367): " مستقيم الحديث".
وقال الدارقطني: "صدوق ثقة". سؤالات الحاكم برقم (117).
قلت: ولم يذكر ابن حجر هذه الزيادة عند شرحه لهذا الحديث، رغم أنه لهج بذكر الزوائد والاختلاف في شرحه.. وهذه في نظري علة في الحديث.
3 ـ وأما حديث معاذ بن جبل: فلفظه: استب رجلان عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فغضب أحدهما فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب غضبه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
يرويه عبدالملك بن عُمير، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عنه. واختلف عليه فيه:
وقد بوب علىهذا الاختلاف النسائي في الكبرى (6: 104) بقوله: (ما يقول إذا غضب وذكرُ الاختلاف على عبد الملك بن عمير في خبر أبي بن كعب).
(أ) ـ وأورده من رواية سفيان (يعني الثوري) عنه به برقم (10221)، ومن طريقه الضياء في المختارة (3: 436/ برقم 1237): واللفظ له.
(ب) ـ ومن رواية زائدة (وهو ابن قدامة) عنه به برقم (10222) نحوه.
(ج) ـ ومن رواية يزيد يعني ابن زياد عنه، فجعله من رواية ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب برقم (10223) ومن طريقه الضياء في المختارة (3: 436/ برقم 1236): نحوه. اهـ.
ونزيد فنقول: وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقمي (25383)، (29582)، وأحمد في مسنده برقم (22139)، وعبد بن حميد في مسنده ـ كما في المنتخب ـ برقم (11)، والطبراني في الكبير (20: 141): من حديثه (كذلك).
وأخرجه أحمد في مسنده برقم (22164)، والترمذي في الجامع برقم (3452)، والطبراني في الكبير (20: 141): من حديث سفيان به.
وله وجهان آخران .. من رواية جرير بن عبدالحميد، وعبيدالله بن عمر.
(د) ـ فرواية جرير: أخرجها أبوداود الطيالسي في مسنده برقم (570)، وأبو داود السجستاني في السنن برقم (4780)، ومن طريقه الخطابي في غريبه (1: 142): من حديث جرير بن عبد الحميد، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل بلفظ: استب رجلان عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فغضب أحدهما غضبًا شديدًا حتى خُيِّل إليَّ أنَّ أنفه يتمزَّع من شدَّة غضبه، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجده من الغضب، فقال ما هي يا رسول الله ؟ قال: يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم".
قال: فجعل معاذ يأمره فأبى ومحكَ، وجعل يزدادُ غضبًا.
وهذا اللفظ مجوَّد.. وهو للسجستاني، أما الطيالسي فاختصره.
(هـ) ـ ورواية عبيدالله بن عمر: أخرجها أحمد في المسند برقم (22142)، والطبراني في الكبير (20: 140/ برقم 286): من رواية عمرو بن خالد الحراني، ثنا عبيد الله بن عمر، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: انتسب رجلان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وعنده رجلان فغضب أحدهما، حتى جعل يتمزغ من الغضب، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): إني لأعلم كلمة لو قالها لأذهبت الذي به من الغضب، فدنوت منه، فقلت: يا نبي الله ! ما هي يا نبي الله ؟ وأحببت أن أعلم أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم"، فدنوت من الرجل، فقلتها له، فلم يقلها، فلم يزدد إلا غضبًا.
وقال الترمذي: "وهذا حديث مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى، لم يسمع من معاذ بن جبل، مات معاذ في خلافة عمر بن الخطاب، وقتل عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي ليلى غلامٌ ابن ست سنين.
وهكذا روى شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى". اهـ.
قال الدارقطني في (الأفراد) ـ كما في أطرافه لابن القيسراني برقم (604) ـ : " تفرد به زياد بن أبي الجعد، عن عبدالملك بن عمير، عن ابن أبي ليلى، وكذلك رواه الفضل بن موسى السيناني، عن يزيد.
وخالفهما عمرو بن عبدالغفار الفُقيمي فرواه، عن يزيد، عن عبدالرحمن بن عابس بن ربيعة النخعي، عن ابن أبي ليلى، عن أبي.
وهو غريبٌ من حديث عبدالرحمن بن عابس.
تفرد به عمرو بن عبدالغفار، عن عن يزيد بن زياد". اهـ.
وقال في العلل (6: 57): " يرويه عبد الملك بن عمير واختلف عنه، فرواه الثوري، وإسرائيل، وزائدة، وجرير: عن عبد الملك عن بن أبي ليلى عن معاذ. خالفه يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن عبد الملك، عن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب. والصحيح قول من قال عن معاذ ".
وأورده ابن حجر في الأمالي المطلقة (ص184) من طريق يزيد به.
وقال: "هذا حديث حسن. أخرجه النسائي في الكبرى: عن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن يزيد بن زياد ـ وهو ابن أبي الجعد ـ فوقع لنا عاليًا.
وأخرجه من رواية سفيان الثوري، وزائدة بن قدامة.
وكذا أخرجه أحمد من روايتهما.
والترمذي: من رواية الثوري.
وأبو داود: من رواية جرير.
كلهم عن عبد الملك بن عمير، لكن قالوا: في روايتهم عن معاذ بن جبل بدل أبي بن كعب .. قال الترمذي: هذا منقطع؛ لأن عبد الرحمن لم يدرك معاذًا، وهو كما قال؛ لأن مولد عبد الرحمن بالمدينة قبل وفاة معاذ بدمشق بسنة واحدة.
وقال الدارقطني في (الأفراد): تفرد به يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن عبد الملك بن عمير.
وقال في (العلل): رواه الحفاظ عن عبد الملك عن عبد الرحمن عن معاذ وهو الصواب.
قلت: ويزيد بن زياد ثقة ، فلعل الاضطراب فيه من عبد الملك بن عمير.
وللحديث شاهد في الصحيحين من حديث سليمان بن صرد، وسياقه أتم ". اهـ.
ونقله ابن كثيرفي تفسيره (1: 15) وقال: "قال الترمذي: مرسل يعني أن عبد الرحمن بن ليلى لم يلق معاذ بن جبل، فإنه مات قبل سنة عشرين.
(قال): وقد يكون عبد الرحمن بن ليلى سمعه من أبي بن كعب ـ كما تقدم ـ وبلغه عن معاذ بن جبل، فإن هذه القصَّة شهدها غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم". اهـ.
قلت: بهذا وقفنا (ولم نبعد) على دليل ما سطرناه في التمهيد، من تنكب بعض متأخري الأئمة والمعاصرين طريقة أهل الحديث في التعليل والترجيح!! فهذا ابن كثير يحاول الجمع بين روايتي ابن أبي ليلى: عن أُبي ومعاذ (رضي الله عنهما).. وهذا ابن حجر حسنها كذلك، مع أنه أقر كلام الدارقطني وحمل الاضطراب على عبدالملك بن عمير. وفي هذا ما فيه !!.
وأخرجه عبد بن حميد في مسنده ـ المنتخب ـ برقم (179)، وعبدالله بن أحمد في زوائده على المسند برقم (21216)، والبيهقي في الشعب برقم (5133) : من حديث عبد الله بن نمير، ثنا يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، قال: انتسب، أو قال: استب رجلان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، أنا فلان بن فلان، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): انتسب، أو قال: استب رجلان على عهد موسى، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان إلى تسعة، ما أنت لا أم لك ؟! قال: أنا فلان بن فلان، ابن الإسلام فأوحى الله إليه: يا موسى هذان المنتسبان ـ أو قال المتسابان ـ أما أنت أيها المعتزي أو المنتسب إلى تسعة أباء في النار، فأنت عاشرهم في النار، وأما أنت أيها المنتسب إلى اثنين فأنت ثالثهما في الجنة.
وقد اختلف على عبدالملك فيه (كذلك).
فأخرجه الطبراني في الكبير (20: 140): من حديث عثمان بن أبي شيبة.
وأخرجه البيهقي في الشعب برقم (5134): من حديث إسحاق بن إبراهيم الحنظلي.
كلاهما عن جرير، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: انتسب رجلان في بني اسرائيل ـ على عهد موسى عليه السلام ـ أحدهما كافر والآخر مسلم، فانتسب الكافر إلى تسعة أباء، فقال المسلم: أنا فلان بن فلان وبرئت ممن سواهم، فخرج منادي موسى ينادي: أيها المنتسبان قد قُضى بينكما، ثم قال: أيها الكافر أما أنت فانتسبت إلى تسعة أباء كفار، وأنت عاشرهم في النار، وأما أنت أيها المسلم فقصرت على أبوين مسلمين وبرئت ممن سواهم، فأنت من أهل الإسلام، وبرئت ممن سواهم. واللفظ للبيهقي.
والحديث أورده الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1270)، وقال: " أخرجه أحمد ، وعنه الضياء في المختارة، والبيهقي في شعب الإيمان: من طريق يزيد بن أبي زياد (الآنفة) .. وقال: " هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير يزيد بن أبي الجعد، وهو ثقة.
وخالفه جرير، فقال: عن عبدالملك بن عمير، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فذكره.
ورجاله ثقات أيضًا، لكن أشار البيهقي إلى ترجيح الأول. والله أعلم".اهـ.
قلت: هذا اللفظ مختلف كأنه حديث آخر! وليس فيه الشاهد، وإشارة البيهقي تتمثل في إيراده لرواية ابن نمير عن يزيد... ثم قوله عقبها: وقيل: عن عبدالرحمن عن معاذ.. ثم ساق بسنده رواية إسحاق بن راهوية عن جرير.
وكأن الخلل دخل على عبدالملك بن عمير من هذا الوجه .. خلط بين المتنين!. والله أعلم.
فما حال عبدالملك هذا؟ .
قال أحمد: مضطرب الحديث جدًا مع قلة حديثه، ما أرى له خمسمئة حديث، وقد غلط في كثيرٍ منها.
وقال عبد الله بن أحمد: سئل أبي عن عبد الملك بن عمير وعاصم بن أبي النجود، فقال: عاصم أقل اختلافًا عندي وقدم عاصمًا.
وقال ابن معين: مخلط.
قال أبو حاتم: ليس بحافظ وهو صالح تغير حفظه قبل موته.
وقال ابن خراش: كان شعبة لا يرضاه.
ووثقه العجلي.
وقال النسائي وغيره: ليس به بأس.
ودافع عنه الذهبي في الميزان (2: 660)، فقال: "لم يورده ابن عدي ولا العقيلي ولا ابن حبان، وقد ذكروا من هو أقوى حفظًا منه وأما ابن الجوزي فذكره فحكى الجرح وما ذكر التوثيق، والرجل من نظراء السبيعي أبي إسحاق وسعيد المقبري، لما وقعوا في هزم الشيخوخة نقص حفظهم وساءت أذهانهم ولم يختلطوا، وحديثهم في كتب الإسلام كلها، وكان عبد الملك ممن جاوز المائة ومات في آخر سنة ست وثلاثين ومئة". اهـ.
وقال ابن حجر في هدي الساري (ص422): " إنما عيب عليه أنه تغير حفظه لكبر سنة، لأنه عاش مئة وثلاث سنين، ولم يذكره ابن عدي في الكامل ولا ابن حبان".
قلت: لم يستوعب العقيلي وابن حبان وابن عدي الرواة الضعفاء، بل عليهم فوات، وما ذكروا من سوء حفظه وخلطه ظاهر في روايته لهذا الحديث.
وقد ذكره سبط ابن العجمي في كتابه الاغتباط بمن رمي بالاختلاط برقم (66)، والعلائي في المختلطين برقم (30). ولم يذكره ابن الكيال في (الكواكب النيرات) وإن كان استدركه محقق الكتاب في ملحقه.
وكل الاختلاف والاضطراب في الإسناد والمتن إنما هو في رواية يزيد بن أبي زياد عنه خاصة، فإما أن يكون سمع هذا الحديث من عبدالملك أكثر من مرة !! وإما أن يكون هذا من قبله وإن كان ثقة ! فالثقة قد يهم.
وفقد رواه عنه هاشم بن البريد عند أبي يعلى ، ومن طريقه الضياء في المختارة (3: 436 / برقم 1236).
ورواه الفضل بن موسى عند النسائي في الكبرى (6: 104/ برقم10223)، ومن طريقه الضياء في المختارة (3: 437/ برقم 1238).
ورواه عبدالله بن نمير عند عبد بن حميد برقم (179)، وعبدالله بن أحمد في زوائده على المسند برقم (21216)، والبيهقي في الشعب برقم (5133)، فجعلوه ثلاثتهم من حديث أبي بن كعب.
اتفقا الأوليان على اللفظ، وخالف الثالث (كما سبق) فلم يذكر الشاهد من اللفظ النبوي، وإن كان أشار إلى القصة! .. وبقية السياق لحديث آخر. اختلف فيه كذلك!.
فهل سماع يزيد بن أبي زيد عن عبدالملك بآخر رمق؟!.. هذا الظاهر (والله أعلم).
وللقصة الثانية شاهد عن عمر بن الخطاب: أخرجه البيهقي في الشعب برقم (5131): وفيه قصة بين سعد وسلمان رضي الله عنهم أجمعين.
غريب الحديث:
1 ـ قوله: في رواية أُبي (فتصدَّع أنف أحدهما غضبًا)، وفي رواية معاذ: (خُيِّل إلي أن أنفه يتمزَّع من شدة غضبه)، فقوله (يتمزَّع): هذا الحرف مما ذكر في تصحيفات المحدثين، فقال أبو عبيد: "ليس يتمزع بشيء، ولكني أحسبه (يترمع) من شدة الغضب، وهو أن تراه كأنه يرعد من شدة الغضب". غريب الحديث (2: 464)، وانظر النهاية (2: 264) (4: 325)، وتصحيفات المحدثين (1: 385).
قال الأزهري: " إن صح يتمزع فإن معناه يتشقق، يقال: مزعت الشيء إذا قسمته، قال وأنا أحسبه يترمع، وهو أن تراه كأنه يرعد من شدة الغضب". لسان العرب (8: 134).
وقد أنكر هذا الخطابي فقال في غريبه (1: 142): " ولست أدري لم أنكر الصواب واختار غيره، وإنما هو يتمزع كذلك رواه الأثبات" .
قال ابن حجر: " يتمزع بالزاي والعين المهملة أي يتقطع، وهي مبالغة في الكناية من شدَّة غضبه". الأمالي المطلقة (ص184).
2 ـ وقوله في رواية معاذ (محك): المحك اللجاج وقد محك يمحك وأمحكه غيره. النهاية (4: 303).
وقال ابن منظور في اللسان (10: 486): " محك المحك المشارة والمنازعة في الكلام و المحك التمادي في اللجاجة عند المساومة والغضب ونحو ذلك و المماحكة الملاجة وقد محك يمحك و محك محكا و محكا فهو ماحك ومحك و أمحكه غيره ". اهـ.
لطائف الحديث:
1 ـ القصة تذكر في أسباب ورود الحديث، فهي سبب لبيان هذا الدعاء عند الغضب.. كما في البيان والتعريف للحسيني (1: 285).
2 ـ يدخل هذا الحديث في المبهمات من ثلاثة أوجه.
الوجه الأول: قوله (استب رجلان)، قال ابن حجر: " لم أعرف أسماءهما". الفتح (10: 467).
الوجه الثاني: في تعيين المأمور .. قال ابن حجر: "وأخلق بهذا المأمور أن يكون كافرًا أو منافقًا، أو كان غلب عليه الغضب حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج الغضب بهذا الجواب السيئ، وقيل: إنه كان من جفاة الأعراب، وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان إلا من به جنون، ولم يعلم أن الغضب نوع من شر الشيطان، ولهذا يخرج به عن صورته، ويزين إفساد ما له كتقطيع ثوبه وكسر آنيته أو الأقدام على من أغضبه، ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال". الفتح (10: 467).
وقال النووي: " هذا كلام من لم يفقه في دين الله ولم يعرف أن الغضب نزغ من نزغات الشيطان، وتوهم أن الاستعاذة مختصة بالمجانين، ولعله كان من جفاة العرب، أو يقال: لعله كان كافراً أو منافقاً أو شدة الغضب أخرجته عن حيز الاعتدال بحيث زجر الناصح له". نقله العيني في العمدة (22: 125)، وهو في شرح مسلم للنووي (16: 163) بنحوه.
وقال الحافظ في مقدمة الفتح (ص332): " فيه ثلاثة أبهموا لم أعرف أسماءهم". اهـ.
الوجه الثالث: قوله في رواية سليمان بن صرد: (فقام إلى الرجل رجلٌ ممَّن سمع النبي صلى الله عليه وسلم)، وقع تصريح معاذ بأنه هو في بعض طرق الحديث كما سبق.
حرر في (17/ محرم/1425هـ).. وإلى لقاء قريب بإذن الله (تعالى).