د. محمد بن جميل المطري
Member
علة حديث: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة)
قال الإمام الترمذي (2919) حدثنا الحسن بن عرفة قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن بَحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مُرَّة الحضرمي عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه أيضًا أبو داود (1333) والنسائي (1663) وصححه ابن حبان (734) والألباني في صحيح سنن أبي داود (5/ 78) وشعيب الأرناؤوط في تحقيق سنن أبي داود وحسنه مقبل الوادعي في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين (4667).
قلت: كلهم رووا الحديث من طريق خالد بن معدان عن كثير بن مرة، وخالد بن معدان مدلس، ولم أجده صرح بالسماع من شيخه في جميع طرق هذا الحديث التي اطلعت عليها، قال الحافظ ابن حجر في طبقات المدلسين (ص: 31): "خالد بن معدان الشامي الثقة المشهور قال الذهبي: كان يُرسل ويدلس".
وقد أشار الإمام البخاري في كتابه التاريخ الكبير (3/ 176) إلى أنه لم يسمع من كثير بن مرة فقال رحمه الله: "خالد بن معدان الكلاعي. قال عمرو بن علي: مات سنة ثلاث ومئة، الشامي. سمع أبا أمامة، وعمير بن الأسود، وجبير بن نفير، والمقدام، وعن كثير بن مرة".
فتأمل كيف فرَّق البخاري بين من ثبت سماع خالد بن معدان منهم، وهم أبو أمامة وعمير بن الأسود وجبير بن نفير، ومن لم يثبت سماعه منه وهو كثير بن مرة، فلم يعطف البخاري كثير بن مرة على قوله: سمع، بل قال: وعن كثير بن مرة، أي: أنه لم يثبت عند البخاري سماعه منه في أي حديث، وهذه علة قادحة لهذا الحديث الذي استغربه الترمذي، ومعلوم أن الترمذي إذا حسن حديثًا ولم يصححه فغالبًا يكون فيه ضعف، كما أشار الترمذي إلى ذلك في كتابه العلل الصغير (ص: 758)، ويُنظر رسالتي: معنى تحسين الترمذي للحديث.
وقد وجدت متابعات لخالد بن معدان، لكنها لا تصح، ولا يتقوى بها الحديث:
المتابعة الأولى: روى الطبراني في مسند الشاميين (1209) من طريق زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذي يسر بالقرآن كالذي يسر بالصدقة، والذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة)، فهذه متابعة تامة لخالد بن معدان إن كان سليمان بن موسى سمعه من كثير بن مرة ولم يخطئ فيه، فسليمان مع إمامته وفقهه فيه ضعف، قال عنه النسائي: ليس بالقوي، وقال البخاري: عنده مناكير، وقال ابن حجر: صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخولط قبل موته بقليل، وقال العلائي في جامع التحصيل (ص: 190): "قال الغلابي: لم يدرك سليمان بن موسى كثير بن مرة"، فهذه المتابعة لا تقوي الحديث.
المتابعة الثانية: روى الروياني (267) من طريق عبد الله بن وهب قال: حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن كثير بن مرة عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)، وعبد الله بن لهيعة ضعيف، وبعض العلماء يصحح ما رواه عنه العبادلة كعبد الله بن وهب، كما في هذا الحديث، ويزيد بن أبي حبيب ثقة لكنه يرسل كما في ترجمته، فقد يكون أرسل الحديث عن كثير بن مرة من غير أن يسمعه منه، لا سيما وكثير بن مرة الحضرمي شامي حمصي، ويزيدُ بن أبي حبيب مصري، وهو غير مشهور بالرواية عن كثير بن مرة، ولعله لم يرو عنه غير هذا الحديث الواحد، كما يظهر ذلك عند البحث في مروياته في كتاب تحفة الأشراف للمزي وفي المكتبة الشاملة، والله أعلم.
فتبين بهذا أن الرواة الثلاثة: خالد بن معدان وسليمان بن موسى ويزيد بن أبي حبيب المصري لم يثبت سماعهم هذا الحديث من كثير بن مرة، ولم يروه عن كثير بن مرة الحمصي أصحابه المعروفون بالرواية عنه، وهذا مما يدل على ضعف الحديث، والله أعلم.
المتابعة الثالثة: قال الحافظ المزي في كتابه تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف (7/ 315): "رواه ثابت بن ثوبان عن مكحول عن عقبة بن عامر"، قلت: هذه متابعة قاصرة لخالد بن معدان، لكن هذه الرواية لا تصح، مكحول الشامي لم يسمع من عقبة بن عامر، قال الإمام الترمذي في سننه (4/ 662): "مكحول قد سمع من واثلة بن الأسقع وأنس بن مالك وأبي هند الداري، ويقال: إنه لم يسمع من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هؤلاء الثلاثة"، وقال العلائي في جامع التحصيل (ص: 285): "مكحول الفقيه الشامي كثير الإرسال جدًا، ... قال أبو حاتم: سألت أبا مسهر هل سمع مكحول من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما صح عندي إلا أنس بن مالك، قلت: واثلة بن الأسقع، فأنكره، وقال ابن معين: سمع مكحول من واثلة بن الأسقع ومن فضالة بن عبيد ومن أنس رضي الله عنهم".
تنبيه: روى الحديث الحاكم في المستدرك (2038) من طريق سعيد بن أبي مريم قال: أنبأنا يحيى بن أيوب عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة الحضرمي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)، وجَعلُ هذا الحديث عن معاذ بن جبل خطأ، فكل من روى هذا الحديث بهذا الإسناد ذكره عن عقبة بن عامر لا عن معاذ، فمن رواه عن معاذ فقد أخطأ، وقد يكون الخطأ من يحيى بن أيوب الغافقي أو من دونه، والثقة المتقن قد يخطئ، ويعرف خطؤه بمخالفته غيره، ويحيى بن أيوب ثقة لكن نص علماء الحديث على أنه يخطئ كثيرًا، قال الذهبي في كتابه من تُكلِّم فيه وهو موثق (ص: 193): "يحيى بن أيوب المصري صدوق، قال النسائي: ليس بذاك القوي، وقال الدارقطني: في بعض حديثه اضطراب، سيء الحفظ"، وقد بين البيهقي خطأ هذه الرواية فقال بعد أن رواها في كتابه شعب الإيمان (3/ 456): "كذا وجدته عن معاذ بن جبل، ورواه إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد وقال: عن عقبة بن عامر، وكذلك روى سليمان بن موسى عن كثير بن مرة عن عقبة بن عامر".
ثم إن ظاهر هذا الحديث مخالف لما ثبت في الأدلة من الأمر بترتيل القرآن والتغني به وتحسين الصوت به، فإن ذلك لا يكون إلا بالجهر لا الإسرار، والأدلة عامة سواء كان القارئ منفردًا أو في جماعة، وإن كان المشروع لمن يقرأ القرآن عند جماعة يقرءون القرآن أو يصلون أن لا يجهر عليهم بما يؤذيهم ويشوش عليهم، فقد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ)) رواه أحمد في مسنده (4928) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حجر والسخاوي كما في المقاصد الحسنة (ص: 572) والألباني في السلسلة الصحيحة (1603) والأرناؤوط في تحقيق المسند، وجاء نحو هذا الحديث عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة ورجل من الصحابة يقال له: البياضي، فجهر قارئ القرآن بما يؤذي غيره من القراء والمصلين مكروه، وإن كان الأفضل أن يقرأ القرآن جهرًا لا سرًا بترتيل لا يشوش به على الآخرين، والله أعلم.
فالذي يظهر لي - والله أعلم - أن حديث: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة) ضعيف لا يمكن الجزم بصحته، ولا يغلب على الظن صحته عن النبي عليه الصلاة والسلام، واعلم أن المحدثين رحمهم الله لا يجعلون الحديث الضعيف كالحديث الموضوع المكذوب، فهم لا يُكذِّبون الحديث الضعيف، ولا يجزمون بنسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام وإن كان معناه صحيحًا، ويروونه في كتبهم لاحتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وتعليل الأحاديث عند المحدثين مبني على غلبة الظن، بحسب ما يظهر لهم عند جمع طرق الحديث والنظر في أسانيده ومتنه، ومعنى كون الحديث ضعيفًا عند المحدثين أنهم يتوقفون في قبوله ورده، وقد يكون ضعفه شديدًا فيغلب على ظنهم عدم صحته، فالمحدثون لا يجزمون بنسبة الحديث الضعيف إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يجزمون بإنكاره، وبعض الأحاديث الضعيفة ضعفها غير شديد، فرأى بعض العلماء العملَ بها في فضائل الأعمال، ورأى بعضهم العمل بها إن لم يكن في المسألة غيرها، ورأى بعضهم عدم العمل بها مطلقًا، وكثير من الأحاديث الضعيفة يكون معناها صحيحًا وإن لم تكن من قول النبي عليه الصلاة والسلام، فقد تكون من قول بعض الصحابة أو التابعين وأتباع التابعين، أخطأ بعض الرواة في جعلها من قول النبي عليه الصلاة والسلام، ولزيادة الفائدة يُنظر رسالتي: لماذا دوَّن العلماء السابقون الأحاديث والآثار الضعيفة؟ ورسالتي الأخرى: الفوائد الصحيحة من الأحاديث الضعيفة، وكلاهما بحمد الله منشورتان في شبكة الألوكة.