توطئة:
اهتم القرآن اهتماماً واضحاً بالواقع ؛ إذ أن أحكامه وإرشادته لا تنزل إلا عليه ، وقد ارتبطت العلوم من جهة أخرى بهذا الواقع أشد ما يكون الارتباط وتعلّقت به أقوى ما يكون التعلّق ، ولهذا كانت بين القرآن والعلوم علاقة لا يمكن إغفالها وآصرة لا يمكن تجاوزها ، ولما أكمل الله تعالى الدين وأتم النعمة فإنه لم يغادر في كتابه العزيز مصلحة دنيوية ولا أخروية إلا نبه عليها أو عبر عنها أو أشار إليها ، ولا تخفى علاقة العلوم بمصالح الإنسان ومنافعه .
ورغم كل ذلك فإن ربط العلوم بالقرآن ليس أمراً تلقائياً يتأتى بالجهد اليسير أو النظر المتعجل أو البحث السطحي ؛ إذ إن هذا الأمر في غاية التعقيد والصعوبة ؛ فلا يمكن بحال – كما يحدث كثيراً – الإتيان بالقرآن من جهة وبالعلم - أياً كان نوعه ومعطياته - من جهة أخرى فيُربط بينهما وُتتلمس أوجه الاتفاق وتُتحسس مواضع التشابه وإلا كان ذلك تلفيقا غير متقبل ولا ممدوح ، وهذا التعقيد الذي نشير إليه في الربط بين القرآن والعلم يرتبط بعنصرين في غاية الأهمية وهما :-
- طبيعة العلم المراد ربطه بالقرآن ، ومفهوم هذا العلم وكيفية تصنيف أنواعه وفلسفته التي ينطلق منها ورؤيته العامة التي يندرج تحتها ثم أولوياته ومدى مطابقته للحقيقة والواقع .
- طبيعة تعبير القرآن عن أنواع هذا العلم سواء في التفصيل أو الإجمال أو المقاصد ؛ إذ إن القرآن لم يعن بالعلوم بدرجة واحدة ولا بمستوى متقارب ولا بأسلوب متفق ؛ ولهذا فإن جعل معطيات العلوم هي الأصل - بغض النظر عن طبيعتها - ثم محاولة حمل القرآن عليها منهج خاطئ منذ بدايته ؛ فالقرآن متبوع وليس بتابع وإنما تؤخذ معطياته مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها.
ولا شك أنه كان لربط القرآن عند المسلمين – قديما وحديثا - اتجاهات تباينت مناهجها واختلفت رؤاها، وتعددت نظراتها لكل من العلم والقرآن ، وهذا الأمر بجوانبه المختلفة يحتاج إلى توضيح وبيان ، وتفصيل ذلك كالآتي:-
مفهوم العلم بين القرآن والفكر الغربي:-
العلم في القرآن من صفات الله تعالى وقد جاءت هذه الصفة منسوبة إليه تعالى بصيغ مختلفة نحو "أعلم"بصيغة التفضيل في قوله تعالى : (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ) و"عليم" و"علام" بصيغة المبالغة في قوله : (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وقوله : (إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ). ولا يمكن تعريف العلم في القرآن تعريفاً دقيقاً إلا من خلال تعريف المفاهيم المرادفة له ؛ ومن ذلك مفهوم (المعرفة) ؛ فالمعرفة في القرآن تطلق على الإدراك بالملامح والسمات العامة ؛ قال تعالى : (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ) وقال : (وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ) وقال : (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) وقال : (وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ) وقال: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) وقال : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) وقال : (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) وغير ذلك من الآيات . أما العلم فيطلق على العلم بدقائق الامور وهي صفة ينكشف بها المطلوب انكشافاً تاماً ، وهو (الإدراك الجازم المطابق للواقع) ، أما المعرفة فهي (الإدراك الجازم سواء طابق الواقع أم لم يطابقه) ؛ فالعلم بذلك جزء من المعرفة ؛ وهي ليست جزء منه ؛ بل هو أعلى مستوياتها ؛ إذ إن كل علم معرفة وليست كل معرفة علماً ، ويمكن إطلاق المعرفة على العلم وليس العكس.
وقد أطلق العلم في القرآن على أمور متعددة منها :-
1- القرآن كما في قوله تعالى : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ)
2- علم الدين كما في قوله تعالى : (قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)
3- علم الدنيا كما في قوله تعالى : (فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ) وعلوم الدنيا كثيرة فقد تطلق على اللغة كما في قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) وتطلق على الصناعة كما في قوله : (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) وأحياناً يراد بها العلم الحسي كله كما في قوله : (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
وقد ذهب ابن عادل في تفسيره (اللباب في علوم الكتاب) إلى تعريف العلم واطلاقاته في القرآن مذهباً عجيباً ؛ فزعم أن العلم في القرآن هو الآتي:-
1- القرآن كما في قوله تعالى : (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ)
2- النبي (r)كما في قوله تعالى : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ)
3- الكيمياء كما في قوله تعالى : (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)
4- الشرك كما في قوله تعالى : (فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ)
وهذا فيه نظر ولم يوافقه عليه أحد من العلماء للآتي:-
1- إطلاق العلم على النبي(r) ليس صحيحاً ؛ إذ أراد الله ما جاء به النبي (r) من الوحي والرسالة ، ولم يرد شخص النبي (r)منذ مولده ، ولم يقل أحد من المفسرين - غير ابن عادل - أن المراد بالعلم هنا هو النبي (r)وإنما قالوا المراد هو الوحي .
2- إطلاق العلم على الكيمياء التي هي أشبه بالسحر عند الأقدمين فيه نظر ؛ إذ ربما أراد قارون معرفته بالاقتصاد والمال وتوليده والتجارب للأمور التجارية والمعرفة بالمكاسب ووجوه التجارات. وليس المراد بالكيمياء عند الأقدمين ما نعرفه اليوم من علم وإنما المراد تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة كريمة ، ولهذا رد ابن كثير هذا القول ؛ فقال : (وقد رُوي عن بعضهم أنه أراد إنه ]أي قارون [كان يعاني علم الكيمياء ، وهذا القول ضعيف؛ لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل؛ لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليها إلا الله عز وجل)
3- إطلاق العلم على الشرك فيه غرابة شديدة ؛ إذ لا يكون الشرك علماً ؛ بل إنه لا يكون إلا جهلاً ، وإنما أراد ما عندهم من العلوم الدنيوية. وذهب المفسرون مذهبا مختلفا عن مذهب ابن عادل وقالوا إنه يريد علمهم بأمور الدنيا ، ومعرفتهم بتدبيرها.
ولهذا فإن العلم هو المعرفة بدقائق الامور سواء كان هذا العلم وحياً أو ما حوله من العلوم الدينية أو كان علوماً دنيوية باختلاف أنواعها وأشكالها ، ومصادر هذا العلم هي الكون المحسوس والوحي المنزل .
أما تعريف العلم في الفكر الغربي فهو أضيق من ذلك ، إذ يطلق لفظ "العلم" على الحقائق التجريبية أو التحليلية أما ما سوى ذلك من العلوم الدينية فهي عندهم بلا معنى . ولذلك فإن مفهوم ( العلم ) في الفكر الغربي غير مفهومه في الرؤية الإسلامية ؛ إذ أن النظرة العلمانية التي استبعدت الوحي قد مرت بأطوار عديدة ثم استقرت على المرحلة الأخيرة التي حددت مفهوم العلم وفق ما تبلور في حلقة ( فينا ) في الثلاثينيات من القرن العشرين ؛ فتم بذلك حصر الحقائق العلمية في الحقائق التجريبية والحقائق التحليلية فحسب.
ولهذا كان مفهوم العلم نفسه في الفكر الغربي يقوم على افتراضات فلسفية لا تستند على أي إثبات أو برهان ؛ وإنما هي قناعات لفلاسفة العلم المعاصرين ؛ ولهذا كان تصورهم للحقيقة يعتمد على قدرة الباحث على استخدام أساليب وأدوات المنهج التجريبي كالملاحظة والتجربة والقياس ، وكل موضوع غير قابل لاستخدام أدوات التحقق التجريبي فهو بلا معنى.
ولعل مما يستغرب له عدم وجود تعريف دقيق مجمع عليه لـ"العلم" ؛ فكثير من المصادر والقواميس تتحاشى تقديم تعريف محدد للعلم نظرًا لصعوبة هذا الأمر ؛ وقد ذهب العلماء إلى صعوبة تعريف العلم، إلا أنهم أكدوا أن التعريف لا بد أن يتضمن شيئًا من (الطريقة العلمية)، أي الطريقة التي يتم التوصل بها إلى المعلومة العلمية التي من عناصرها الفرضية العلمية والتجربة والاستنتاج المبني على المشاهدة وقابلية الحصول على نفس النتيجة عند إعادة إجراء التجربة تحت الظروف المشابهة.
وما اختلف هذا المفهوم في الفكر الغربي إلا لاختلاف الفلسفات والمنطلقات ، ومعلوم أن الغربيين حسب معطياتهم الدينية قد عدوا العلم في أول الأمر هو المعصية أو الخطيئة الأولى وقد جاء في سفر التكوين الإصحَاح الثَّالث: (فقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْأَةِ:لَنْ تَمُوتَا! بَلِ اللهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ) أما في الإسلام فإن العلم هو سبب التكريم لا سبب الطرد من الرحمة.
ولهذا فإن العلم لما انفصل عن النسق الديني في الفكر الغربي كانت له فلسفته ومفهومه اللذان يختلفان عن فلسفته ومفهومه في الإسلام ؛ ولأجل ذلك كانت للعلم عندهم خصائص مختلفة ؛ ومن ذلك الآتي :-
1- العلم يستبعد معطيات الوحي في الفكر الغربي :-
إن مصادر العلم في الإسلام هي : الكون المحسوس الذي جعل الله له نواميس وقوانين تحكمه ويمكن للإنسان بعقله وحواسه إدراك هذه النواميس والقوانين ومعرفة أسباب الوقائع وعللها في هذا الكون، أما المصدر الثاني فهو : الوحي المنزل وهو كلام الله الذي جاء إلى الإنسان ليتدبره وبعرف معانيه ويدرك مراد الله من خلاله ، وينفرد الوحي بأنه يمدّ المعرفة الإنسانية بتلك الحقائق التي لا يتأتى للحس أو العقل إدراكها بصورة مستقلة.
ذلك ما كان من أمر تجربة الفكر الإسلامي ، أما التجربة الغربية فإنها تختلف كل الاختلاف في ذلك ؛ إذ أرست التعاليم المسيحية المحرفة كثيراً من الخرافات والأباطيل ، وليس ذلك فحسب بل مارست الكنيسة اضطهاداً للأسلوب العلمي في التفكير ، واستمر هذا الأمر حتى نشأ صراع مرير بين العلماء والكنيسة ؛ إذ تعرّف هولاء العلماء على تلك العلوم التجريبية القائمة على منهج الاستقراء والملاحظة القادمة من بلاد المسلمين ؛ ولهذا سمى سان سايمون الفكر الإسلامي بـ( النور الجديد ) ، ثم اشتد هذا الصراع حتى انتهي لصالح العلماء والمفكرين ضد الكنيسة ، وتم بذلك إقصاء الدين والتفكير الديني عن مجالات الحياة واعتبر الحس وحده مصدراً للمعرفة.
ومعلوم أن الحس مصدر للمعرفة ، ولكنه ليس المصدر الوحيد الذي تستبعد له المصادر الأخرى ، ولكن لما سادت الوضعية انحصر العلم في دراسة المادة ، ثم عمم ذلك على كافة الموضوعات المدروسة وإن كانت روحية أو نفسية أو وجدانية ؛ إذ أن مهمة الوضعية هي وحدة المنهج بغض النظر عن طبيعة الموضوع المدروس وخصائصه ومكوناته ؛ ومن أجل ذلك لم تتصور هذه الوضعية التي لا تؤمن بمعطيات الدين وجود إله أو دين أو مثل أو أخلاق وقيم خارج بنية المجتمع ؛ فالمجتمـع -في نظر هذه الوضعية – هو مصدر كل تلك الأفكار وهو مصدر السلطة الأخلاقية والقيمية ، أما ربط الأخلاق والقيم ونحوها بالدين فهو من سمات المجتمعات المتخلفة ؛ فصارت هذه النظرة الوضعية أو (العلمية) نظرة إلحادية محضة لا تؤمن بمعطيات الدين (العلمية) فحسب بل لا تؤمن حتى بتلك المعطيات التي تميز ذلك الدين نحو وجود الإله والتزام القيم والأخلاق والمثل والمعايير.
2- الوجود تابع لنظرية المعرفة وليس العكس في الفكر الغربي:-
في الفكر الإسلامي تتبع نظرية المعرفة لنظرية الوجود ؛ إذ أن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تحيط بكل الوجود ، أما الفكر الغربي فقد جعل الوجود تابعاً للمعرفة ؛ ولذلك ينحصر الوجود لديهم في هذا العالم المشاهد الذي تستطيع الحواس إدراكه ، وعلى هذه القاعدة صاغوا مفاهيمهم وأسسهم العلمية ، ولأجل ذلك ذهب بعضهم إلى أن العالم يوجد فقط عندما نتعامل معه.
والحق أن الوجود في التصور الإسلامي أكبر بكثير من إدراك الإنسان ، ولهذا أقسم تعالى بما نبصر وما لا نبصر؛ أي : بهذا المحسوس لدينا وما لا نحس من الوجود ؛ فقال : (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ) وحتى هذا المحسوس في الكون فإنه أوسع وأكبر من إدراك الإنسان له ، ووراء حدود هذا الإدراك الحسي عوالم وأسرار لا يدركها الحس ؛ إذ أن الوجود أرحب والحقيقة أكبر من الجهاز الإنساني المزود بقدر محدود يناسب وظيفته في هذا الكون ؛ ولأجل ذلك فإن الذين يحصرون أنفسهم في حدود ما تدرك الحواس إنما يحصرون إدراكهم وعلومهم في عالم ضيق على سعته ؛ ضيق حين يقاس بذلك الوجود الكبير. ولما كان الأمر كذلك فإن القرآن العظيم قد جاء ليبين تلك الحقائق التي هي وراء الحقائق الجزئية التي يدركها الإنسان بحواسه.
3- العلم ليس بالضرورة بحثاً عن الحقيقة في الفكر الغربي:-
إن العلم لابد له من مطابقة الواقع وإدراك دقائقه في الفكر الإسلامي ، أما الفكر الغربي فلا يرى ذلك ؛ ولهذا حذّر الفيلسوف الوضعي أوجست كونت من محاولة إدراك حقائق الأشياء ؛ إذ أن العلم عندهم لا يبحث عن ماهية الأشياء ؛ وإنما يكتفي بالوقوف على الوصف الخارجي للظاهرة ؛ فما يهم العلم هو كيفية حدوث الظاهرة لا كنهها ، ولهذا فإن العلم حسب المفهوم الغربي يقوم بالتصنيف الصحيح والوصف الظاهري الدقيق ، أما الانشغال بالتأكد من مدى مطابقة العلم للواقع والحقيقة من حيث هي لا من حيث النتائج فهو أمر لا يعني العلم إطلاقاً ؛ أي : أنهم لا يريدون أن يعلموا إلا ظاهراً من الحسيات في هذه الحياة ، ولهذا ذهب فلاسفة العلم إلى أن العلم لا يحرز حقائق يقينية قاطعة وإنما يكفيه رجحان الصدق ، فعبارة ( حقائق علمية ) لا تعني أنها تمثل واقعاً موضوعياً يصف العالم وإنما هي في نظر كذلك فحسب، ولهذا تطلق عبارة الحقائق العلمية على الآتي:-
أ- الحقائق العلمية التي شهدت الحواس بصدقها بصورة قاطعة سواء بواسطة الأجهزة المتطورة أو غيرها ، وهذا النوع يعتبر نوعاً ثابتاً.
ب- الحقائق التي يتم استنتاجها لتفسير التجارب ؛ فهذه الأمور ـ التي تعتبر حقائق في نظر العلم ـ ليست ثابتة، وإنما هي قابلة للانهيار إذا أظهرت التجربة أن هنالك نتيجة واحدة لا يمكن تفسيرها بها.
وليس ذلك فحسب بل إن الحقائق المختبرية نفسها لا تعطي العلم بها بنفسها ؛ وإنما يدركها الإنسان ؛ ولهذا قد تتأثر بالإنسان وخياله وأوهامه ومدى بعده أو قربه من الدقة في الملاحظات والتوصيف والاستنتاج ؛ فنتائج العلوم – حتى الحسية – إنما هي نتائج تقريبية وعرضة للأخطاء المحتملة في القياسات والمقاربات، وإذا كانت هذه العلوم تقوم على رصد الكمية في الوصف والتنبؤ فهي تقوم على الاحتمالات وتنتهي بها. ويرى بوبر أن مجرد موافقة التجربة لتصور نظري معين لا يعني أن هذا التصور صحيح وإنما يعني فقط أننا لا نملك دليلاً على خطئه.
العلم مجرد أداة في الفكر الغربي:-
يذهب أنصار المذهب البراغماتي إلى أن العلم مجرد أداة للاستنباط والتنبؤ ؛ وليس خبراً أو وصفاً للواقع ، وقد ذهب كثير من فلاسفة العلم الغربيين إلى أن وظيفة العلم ليس وصف الواقع والأحداث أو مظاهر الطبيعة الغامضة ؛ وإنما للعلم وظيفة دينامية وهي الاكتشاف ثم استخدام هذا الاكتشاف وتسخيره من أجل الرفاهية والسيطرة على الطبيعة.
وقد تبنت العلمية الغربية المعاصرة مواقف معادية لنظرية ( التطابق مع الواقع ) كمعيار للصدق ؛ إذ أن هذا التطابق ليس صفة جوهرية للعلم ؛ بل يقوم معيار الصدق على الاتساق الداخلي والخلو من التناقض ثم الخصوبة ؛ بمعني : أن تكون المقولة العلمية خصبة بحيث تتولد عنها النظريات داخل ذلك النسق المعرفي ، فليست وظيفة العلم إزالة القلق وإرضاء تطلع الإنسان لمعرفة الحقيقة ولا معرفة أسرار الكون وخفاياه ؛ فهذه مهمة تقليدية قد تجاوزها العلم المعاصر وصار همه هو معرفة خواص الأشياء لاستثمارها في تحقيق الرفاهية والسيطرة ، وقد أحسّ فلاسفة العلم الغربي أن الاستقراء ـ وهو تصفح جميع الجزئيات وتعميم التجربة على كل ما هو من جنس ما وقعت عليه التجارب في جميع الأزمنة والظروف – وسيلة غير مهيأة للإنسان ؛ فارتضوا بدلاً عنها القياس ؛ وهي الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى نتيجة ثم يعمم هذه النتيجة التي يصل إليها ، والحق أن هذا القياس ـ وباعتراف فلاسفة العلم أنفسهم- إنما هو وسيلة تؤدي إلى نتيجة ظنية غير قاطعة. ولما كان الأمر على الوجه الذي سبق فإن محصلة العلم ليست بالضرورة أن تكون حقائق دقيقة تصف الواقع الحسي .
العلم لا يحسم الأسئلة الكلية في الفكر الغربي:-
إن غايات العلم وأهدافه لم تعد هي تلك الأهداف التقليدية ؛ ولذلك ضرب هذا العلم عن الحقيقة صفحاً ومال إلى تحقيق المنفعة والرفاهية للإنسان ؛ ولذلك ابتعد عن الإجابة على الأسئلة الكلية التي تقود إلى الإيمان ؛ وإن كانت طبيعة العلم – أياً كان – أن ترمي بهذا الإنسان إلى تلك الأسئلة.
وقد طرح القرآن هذه الأسئلة بصورة مباشرة ؛ فأمر الناس أن يسيروا في الأرض لينظروا كيفية بداية الخلق ؛ إذ أن ذلك يفتح القلب على المشاهد الجديدة ويقوده إلى الله، فالإطلاع على سر الحياة يفضي إلى ما وراء الحقائق المادية ، وقد أنشأ القرآن تصوراً عاماً للوجود يربطه بخالقه ؛ ليقيم الإنسان ـ على أساس هذا التصور ـ علومه بالبحث العلمي والتجريبي حسب القدرة الإنسانية ؛ ولهذا ركز الدين على الأطر العامة أكثر من تركيزه على جزئيات العلوم التي يمكن للإنسان أن ينالها بإعمال العقل والتجربة.
إلا أن المنهج العلمي المعاصر قد قطع الصلة بين الكون وخالقه، رغم أن هذا الكون طريق موصل له وكتاب للحق مفتوح يُقرأ بكل اللغات والوسائل ، ولا شك أن هذا الأصل ليربط الحقائق المفردة ببعضها ليردها إلى الحقائق الكلية الكبرى ؛ وبذلك يكون العلم مؤثراً في الناس لا مجرد معلومات جافة جامدة لا تكشف سر الكون الكبير ، والعلم البشري تجربة محدودة قاصرة ، وقد حاول هذا العلم الإجابة على بعض الأسئلة الكلية فأخفق، ثم صحح إخفاقه ، ولكنه كان قاصراً في إخفاقه وتصحيحه وفي خطئه وصوابه وفي باطله وحقه ، ومن ذلك على سبيل المثال أنه قد ساد حتى منتصف القرن العشرين أن الكون أزلي أبدي لا بداية له ولا نهاية ، ثم عاد العلم وأثبت محدودية أجل الكون ، إلا أن هذه الأمور الكلية لا يمكن لهذا العلم أن يحسمها ؛ إذ أن العلم يبحث في ما يشاهده من الكون ، إلا أن ما يشاهده يبدو كرقعة صغيرة من موجة تنخفض ثم ترتفع دون يحس بها المحيط الكبير في مراميه البعيدة.
ولا يعترف العلم المعاصر إلا بما تدركه الحواس ، أما أمور الغيب ونحوها مما تحفل به الأديان فهي بلا معنى في نظره ، وقديماً ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى مناقشة الفلاسفة الطبيعيين في هذا الأمر ؛ فذكر أن كلامهم في الأمور الحسية جيد في الغالب ، أما الغيبيات والكليات والإلهيات فكلامهم فيها قاصر جداً وفيه تخليط كثير ؛ إذ إنهم لا يعرفون إلا الحسيات وبعض لوازمها وما لا يشهده الإنسان من الموجودات أعظم قدراً مما يشاهده ؛ ولهذا كان هولاء كما يقول : ( إذا سمعوا إخبار الأنبياء بالملائكة والعرش والكرسي ـ وهم يظنون أن لا موجود إلا ما علموه ـ نفوه ؛ وليس لهم بهذا النفي علم ؛ فإن عدم العلم ليس علماً بالعدم ، ولكن نفيهم هذا كنفي الطبيب للجن ؛ لأنه ليس في صناعة الطب ما يدل على ثبوت الجن ؛ وإلا فليس في علم الطب ما ينفي وجود الجن ، وبنو آدم ضلالهم فيما نفوه وجحدوه بغير علم أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به قال تعالى : "بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ" ؛ وهذا لأن الغالب على الآدميين صحة الحس والعقل ؛ فإذا أثبتوا شيئاً وصدقوا به كان حقاً عندهم )
تصنيف العلوم :-
تصنيف العلوم ليس أمراً عشوائياً وإنما ينبني هذا التصنيف استناداً على القاعدة الفكرية التي ينطلق منها واعتماداً على الرؤية الفلسفية التي يدور داخلها ؛ فتصنيف المسلمين للعلوم ينبني على تصوراتهم للوجود وارتكازاً على مفهوم العلم عندهم .
أما الغربيون فإن تصنيفهم ينطلق من رؤاهم المادية وفلسفاتهم التي نشأ منها هذا المفهوم ، والفكر الغربي لا يتصور نشوء العلوم وانبثاق الأفكار العظيمة من خلال النسق الديني ، إلا إن الأمر لدى المسلمين بخلاف ذلك؛ فقد تواصلت الاكتشافات العلمية وظهرت الأفكار العظيمة وقامت العلوم المتنوعة عندهم من داخل النسق الإسلامي ؛ إذ أن الإسلام قد حضّ على طلب العلم والتفكر في أرجاء الكون لمعرفة أسراره وإدراك الحقيقة من خلاله ، فلم يتقدم المسلمون في نوع من العلوم على حساب نوع آخر ؛ إذ ظهرت العلوم الكونية عندهم بجانب العلوم الدينية، وعندما انطفأ الاجتهاد عندهم انطفأ في كلا النوعين من العلوم معاً.
وقد انبني تصنيف المسلمين للعلم على تصورهم للكون ومعطياته لتحقيق الاستخلاف في الأرض، ولأجل ذلك زاوجوا بين علوم الحياة وعلوم الآخرة ولم يفرقوا بينهما بل رأوا أن البحث في علوم الحياة فرض كفاية يجب أن تقوم به الأمة.
وقد ذهب ابن خلدون إلى أن العلوم صنفان صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره وصنف نقلي ، وقسم الغزالي العلوم إلى شرعية وغير شرعية ، فالشرعية هي التي استفيدت من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، أما غير الشرعية فمنها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم ومنها ما هو مباح فالمحمود ما يرتبط بمصالح الدنيا كالطب والحساب والمذموم كالسحر والطلسمات والشعوذة والمباح كالعلم بالشعر وتواريخ الأخبار.
ويبدو واضحاً أن تقسيم المسلمين يعتمد على الوحي والكون معاً والوحي خاص بالمسلمين والكون مشترك بينهم وبين الناس ؛ ولذلك قسم ابن حزم العلوم إلى علوم خاصة بالأمة وعلوم مشتركة .
أما الفكر الغربي فيعتمد على الكون فحسب ، وقد ذهب أرسطو قديماً إلى أن العلم قسمان : عملي ونظري ، وقد انبنى التصنيف الغربي للعلوم على تصورهم الذي يجنح إلى المادة والتجريب فلم يعتدوا بعلم من العلوم إلا إذا كان قابلاً للمنهج التجريبي ؛ ولذلك كان الأصل عندهم هو العلوم الطبيعية وليس غيرها ، ولما حاول علماء العلوم الإنسانية والاجتماعية تطبيق المنهج التجريبي وتوظيف الأدوات الكمية والإحصائية ألحقت هذه العلوم بتلك العلوم الطبيعية ، أما الحقائق الدينية عندهم فهي أمور لا معنى لها .ولهذا انقسمت العلوم عند الغربيين إلى علوم طبيعية وعلوم اجتماعية وعلوم إنسانية، فالعلوم الطبيعية هي التي تدرس المادة بشكل مباشر يدخل فيها الطب والأحياء وعلوم الأرض وطبقات الجو والفلك ونحوها أما العلوم الاجتماعية فهي مجموعة من التخصصات العلمية التي تدرس النواحي الإنسانية وتفترق من العلوم الإنسانية في تأكيدها على تطبيق المنهج العلمي وقواعده ومعاييره الصارمة، ويدخل في هذا النوع علم الاقتصاد والسياسة والآثار وعلم الاجتماع وعلم السكان والجغرافيا ونحوها أما العلوم الإنسانية منها مجموعة من التخصصات تتناول النشاط البشري ويدخل في هذا النوع الفلسفة والآداب والموسيقي والفن ونحوها ويطلق في كثير من الأحيان على هذين النوعين اسماً واحداً وهو العلوم الإنسانية لعدم الفصل الدقيق بينهما ؛ ولهذا يقسمون العلوم أحياناً إلى قسمين فحسب : علوم طبيعية من جهة وعلوم إنسانية واجتماعية من جهة أخرى . ومعلوم أن الفصل بين العلوم جميعها إنما هو أمر افتراضي غير دقيق، إذ أن التخصص الواحد لا يسلم من التدخل في مجال آخر ، وليس ذلك فحسب بل إن قسمي العلوم الطبيعي والإنساني يعترض عليه في بعض الأحيان، إذ ليس من المقبول مثلاً نزع صفة الإنسانية عن العلوم التجريبية؛ فعلم الطب مثلا - وهو علم تجريبي - شديد التعلق بالإنسان ولا يمكن نزع صفة الإنسانية عنه.
النزاع في كيفية العلاقة بين القرآن والعلوم عند المسلمين :-
يجمع المسلمون على قوة العلاقة بين القرآن العظيم والعلوم ؛ وإن اختلفوا في هذه العلوم وفي كيفية استمدادها منه، فكانوا في ذلك على اتجاهات، وتفصيل ذلك كالآتي:
1- اتجاه استمداد تفاصيل العلوم من القرآن :-
ذهب كثير من العلماء والباحثين إلى تلمس جزئيات العلوم وتفاصيلها داخل القرآن ؛ واستدلوا في ذلك بقوله تعالى : (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) وما دام القرآن لم يدع من شئ صغيراً أو كبيراً إلا ذكره - فإنه لابد أن تكون فيه عندهم كل التفاصيل والجزئيات ؛ واستدلوا في ذلك أيضاً بقول ابن عباس : (لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في القرآن) ، ورغم غرابة هذا الاتجاه إلا أنه اتجاه شائع جداً.
ولهذا ذهب بعضهم إلى تلمس كل شئ في القرآن فذهب ابن سينا إلى تلمس آراء الفلاسفة وأفكارهم في القرآن بطريقة عجيبة ، وحمل ابن رشد معطيات هذه الفلسفة على القرآن بالتأويل ، وذهب طنطاوي جوهري في هذا العصر إلى تلمس تفاصيل الأسرار العلمية داخل القرآن .
وقد كان فعل ابن سينا إبطالاً لحقائق القرآن الصريحة ، إذ جعل الفلسفة حاكمة على القرآن ؛ حتى ذهب إلى أن القرآن رموز فلسفية لا يفهمها الأعراب الجفاة ؛ بل يفهمها العلماء والفلاسفة ؛ ولذلك فسر العرش في قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) بأنه الفلك التاسع الذي هو فلك الأفلاك ، وفسر الملائكة الثمانية التي تحمل العرش بأنها الأفلاك الثمانية التي تحت الفلك التاسع . وفسر الجنة بأنها العالم العقلي والنار بأنها العالم الخيالي .
وذهب ابن رشد في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) إلى تلمس علاقة القرآن بالفلسفة ، ولكنه أيضاً مال إلى التأويل حتى يحمل معطيات القرآن على الفلسفة ، وإن كان صنيعه أقل شناعة من صنيع ابن سينا . وقد أنكر ابن رشد على الغزالي تكفيره لبعض الفلاسفة كابن سينا في بعض الأمور ؛ لأنه لا يمكن القطع – عنده - بكفر من خرق الإجماع في التأويل في أمثال هذه الأشياء.وذهب إلى أن في القرآن أسراراً يفهمها الخواص وفرضٌ عليهم تأويلها ، وفرضٌ على الجمهور حملها على ظاهرها.
وقد نهج طنطاوي جوهري أيضا في تفسيره (الجواهر) منهجاً عجيباً في تلمس العلاقة بين القرآن والعلوم، فذهب إلى أن سبعمائة آية من كتاب الله قد اشتملت على عجائب الدنيا كلها ؛ وأن آيات محدودة منه قد احتلت فرعاً كاملاً من علم الرياضيات ، ولا يتردد الشيخ جوهري في الاستشهاد بعالم الأرواح واستحضارها في الولايات المتحدة ، وعندما تعرَّض طنطاوي جوهري لقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً) عقد بحثاً في عجائب القرآن وغرائبه، فذكر ما انطوت عليه هذه الآيات من عجائب في علم تحضير الأرواح ، ثم ذكر نبذة طويلة عن مبدأ ظهور هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم.
وقد استعان جوهري كذلك بمسائل في علوم الطب والكيمياء والجيولوجيا ، وذهب إلى أنها علوم مكنونة في النص القرآني تنتظر من يرفع الحجب عنها ، ولا يقتصر الشيخ جوهري على ذلك ؛ بل يتناول عبارات ومفاهيم في غاية الغرابة نحو الأسرار الكيمائية في الحروف الهجائية ونحو ذلك. ويسعي الشيخ إلى بيان أنه ما من علم من العلوم المعاصرة إلا وقد وجد في القرآن ؛ فذكر الميكروبات والكهرباء والذرة والصواريخ والطائرات وغيرها ؛ فخالف قانون اللغة والسياق والنظم حتى حمّل القرآن ما لا يحتمله .
2- اتجاه الإمام الشاطبي المعارض :-
أبرز أصحاب هذا الاتجاه المعارض الإمام أبو إسحاق الشاطبي ، وقد رد الشاطبي على أصحاب الاتجاه السابق وبالغ في رده عليهم ، إذ رفض ربط القرآن بالعلوم الفلسفية وغيرها ، وذهب إلى أن هذه الشريعة المباركة شريعة أمية لم تأت إلا بما يعرفه العرب من العلوم ولم تخرج عما ألفوه ، يقول الشاطبي : (إن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات، والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا لم يصح، فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى، سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا، نعم، تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبني على معهودها مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة) وقد عاب الشاطبي على أصحاب هذا الاتجاه تعلقهم بقوله تعالى : (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) وقال : إنه أراد أنه ما فرط من شيء من أمور التعبد إلا ذكره أو أنه قصد بـ" الكتاب" اللوح المحفوظ .
وقد أيد الدكتور الذهبي في كتاب "التفسير والمفسرون" منهج الإمام الشاطبي ، وذهب إلى أن هذه العلوم لو ذكرها القرآن فخاطب بها العرب لخرج إلى عدم مراعاة المخاطب ؛ لأن العرب كانوا يجهلون هذه المعاني ، ثم أن القرآن - في نظره- لا يهتم بهذا اللون من حياة الناس ولا يتعهده بالشرح ولا يتولاه بالبيان حتى يكون مصدرهم الذي يرجعون إليه في ذلك ، والاتجاه السابق – عنده - اتجاه متكلف يخرج بالقرآن عن هدفه الإنساني الاجتماعي في إصلاح الحياة ورياضة النفس والرجوع بها إلى الله تعالى ؛ ولذلك ذكر أن القرآن عنده ليس كتاب فلسفة ولا طب ولا هندسة .
اتجاه ربط أصول العلوم بالقرآن :-
ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن القرآن قد ذكر أصول العلوم والصنائع التي تتعلق بحياة الناس ؛ فذهب الإمام السيوطي إلى أن أصول الهندسة في قوله تعالى : (انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) وأن أصول الحدادة في قوله تعالى : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) و أن أصول الغزل في قوله : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) و أن أصول النسيج في قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) و أن أصول الفلاحة في قوله : (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ) و أن أصول الغوص في قوله : (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ) و أن أصول الصياغة في قوله : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) و أن أصول الفخارة في قوله : (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا) و أن أصول الملاحة في قوله : (السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) ونحو ذلك .
وذكر القرطبي أن بعض من طعن في الدين قال: إن اللّه تعالى يقول في كتابكم : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك ؟ فقيل له في قوله : (بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ)
وذكر الشيخ الشعراوي أن الشيخ محمد عبده سأله بعض المستشرقين : تقولون في القرآن (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ) فهات لي من القرآن : كم رغيفاً في إردب القمح؟ فما كان من الشيخ إلا أن أرسل لأحد الخبازين وسأله هذا السؤال فأجابه : في الإردب كذا رغيف . فاعترض السائل : أريد من القرآن! ؛ فردَّ الشيخ : هذا من القرآن؛ لأنه يقول : (فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ)
اتجاه ربط العلوم بمقاصد القرآن :-
ويمثل هذا الاتجاه الإمامان أبو حامد الغزالي قديماً والإمام محمد الطاهر ابن عاشور حديثاً، وقد بيّن الغزالي في كتابه (جواهر القرآن) مقاصد القرآن ، وقسمها إلى التعريف بالمدعو إليه (الله) والتعريف بالصراط المستقيم وتعريف الحال عند الوصول إلى الله وأحوال السالكين والناكبين ومحاجة الكفار ومجادلتهم وتعريف عمارة منازل الطريق (الدنيا) ، وتكمن عمارة الدنيا عنده في حفظ النفس والنسل والمال وأسباب المعيشة والديانة وضبط السياسات الدينية ، وعلى هذا الأساس بيّن انشعاب العلوم من هذه المقاصد وقسمها إلى قسمين هما :-
1- علوم الصدف والكسوة (اللغة والنحو والقراءات والتفسير ومخارج الحروف)
2- علوم اللباب وهي عنده طبقتان ؛هي :
- الطبقة السفلى (القصص ومحاجة الكفار والمبتدعة وعلم الحدود الموضوعة للاختصاص بالأموال والنساء)
- الطبقة العليا (معرفة الله واليوم الآخر والعلم بالطريق المستقيم وطريق السلوك)
ثم ذكر أن هنالك أنواعاً من العلوم ليست لها صلة مباشرة بهذة المقاصد وإنما هي مغترفة من بحار معرفة الله .
أما ابن عاشور فقد بيّن مقاصد القرآن وقسمها ، ولما كان المقصد الأعلى من القرآن عنده هو صلاح الأحوال الفردية والجماعية والعمرانية ولما كان الكل لا يصلح إلا بصلاح أجزائه – فقد ربط ذلك بنوعين من العلوم هما :-
- علم المعاملات (السياسة المدنية) كما سماه
- علم العمران (الاجتماع)
وذلك لأن الصلاح العمراني عنده هو حفظ نظام العالم الإسلامي وضبط التصرفات بما يحفظ مصالح الجميع .
تعليق على هذه الاتجاهات :-
من الملاحظ أن هذه الاتجاهات ليست على درجة واحدة من الدقة ؛ إذ أن منها المتوازن ومنها المبالغ ؛ إلا أنها جميعاً فيها شيء من الصحة بصورة عامة من جانب وفيها شئ يحتاج إلى تصحيح وتدقيق ؛ ولا نقصد بالصحة صحة المعالجات في كل الأحوال ، ولأجل ذلك سوف ننظر إليها جميعاً في إطار ضابطين مهمين هما :
أ- طبيعة العلوم التي يراد ربطها بالقرآن
ب- طبيعة تعبير القرآن عن معطيات هذه العلوم ؛ وتفصيل ذلك في الآتي
1- تعليق على اتجاه ربط تفاصيل العلوم بالقرآن :-
ذهب أصحاب الاتجاه المضاد لهذا الاتجاه أن المقصود بـ"الكتاب" في قوله تعالى : (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ) ليس القرآن وإنما اللوح المحفوظ ، لكن هذا الرد فيه نظر ؛ إذ إن الأظهر والأرجح أن المقصود بالكتاب هو القرآن . وذهب بعض العلماء أيضاً إلى أن المراد به القرآن إلا أنهم دققوا في هذا المعنى فقالوا وإنه عام أريد الخصوص وهو كقوله تعالى (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) وهي لم تدمر الجبال ولا السماء والارض ، وفي الآية الأولى أراد : أنه لم يفرط فيه من شيء من أمور الدين أو الأحكام التكليفية أو مما يحتاجه الناس في أمر دينهم ، لكن ذلك ليس مسوغا لإخراج تفاصيل بعض العلوم الدنيوية ؛ إذ إن الدين الإسلامي متعلق بالدنيا وواقع الناس أشد التعلق ، ولا يمكن أن ينفصل عنها بحال ، يقول الإمام الغزالي (مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا ، ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا ؛ فإن الدنيا مزرعة الآخرة ، وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل .. وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين وحرفهم وصناعاتهم) وهذه الأعمال والصناعات تتعلق بالعلوم تعلقاً كبيراً ، ولما كانت أحكام القرآن وإرشادته لا تكون ولا تطبق إلا على واقع ؛ سواء كان واقعاً كونياًُ أو إنسانياً أو اجتماعياً - فقد ارتبط القرآن بالضرورة بالعلوم المتعلقة بالواقع وإن لم يكن بتفاصيلها في كل الأحوال كما سيأتي .
والقول الراجح في هذه المسألة أن القرآن قد ذكر كل شئ سواء على الجملة أو التفصيل أو على مستوى المقصد ؛ يقول عبد الله بن مسعود :(قد بُيِّن لنا في هذا القرآن كلّ علم وكلّ شيء ) ويقول الإمام القرطبي: (إن دلالة القرآن على كل العلوم دلالة مبيّنة مشروحة أو مجملة ) ويقول أيضاً: ( صدق خبر الله بأنه ما فرّط في الكتاب من شيء إلا ذكره إما تفصيلاً وإما تأصيلاً) ويقول ابن كثير : (إن القرآن مشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام ؛ وما الناس إلا محتاجون إليه في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم) ولكن ذلك ليس مسوغاً للبحث عن كل التفاصيل والجزئيات لكل العلوم داخل القرآن ؛ وإنما يرتكز ذلك على كيفية تعبير القرآن عن المسألة المطلوبة فإن ذكر الجزئيات بحثنا في الجزئيات وإن ذكر الكليات بحثنا في الكليات وإن ذكر المقاصد بحثنا في المقاصد .
أما استدلال هذا الاتجاه بقول ابن عباس (لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في القرآن) ففيه نظر للآتي :-
- رغم شيوع هذه المقولة إلا أن الباحث لم يجد لها أصلاً في كتب الحديث ولا رويت بسند سليم أو غير سليم ، وإن كان قد ذكرها السيوطي وابن عجيبة ، وذكرها من المتأخرين الألوسي والشنقيطي.
- كل الذي أوردوا هذه المقولة إنما أخذوها من تفسير ابن أبي الفضل المرسي ، وهو قد ذكر ذلك ضمن كلام كثير عن القرآن في تفسيره ، والمرسي من علماء القرن السابع 655هـ.
- لم يرد عن السلف أنهم بحثوا في القرآن بتلك الطريقة التفصيلية عن كل شئ ، وإنما ربطوا أحياناً جزئياتهم بكليات القرآن .
وأخيرا يبدو من الواضح جدا من خلال معالجات أصحاب هذا الاتجاه - وهو اتجاه استمداد تفاصيل وجزئيات العلوم كلها من القرآن - أنه اتجاه متعسف متكلف خطير حاول حمل القرآن على ما عنده بالتأويل البعيد ، والقرآن متبوع وليس بتابع ، وقد حذّر رسول الله (r) من مثل هذا الاتجاه فقال : (اتبعوا هذا القرآن ولا يتبعنكم القرآن فإنه من يتبع القرآن يهبط به في رياض الجنة ومن اتبعه القرآن يزخ في قفاه فيقذفه في جهنم)
تعليق على اتجاه الإمام الشاطبي:
يبدو واضحاً أن اتجاه الإمام الشاطبي كان رد فعل قوياً على الاتجاه السابق الذي بالغ أصحابه في ربط تفاصيل علومهم الفلسفية بالقرآن ، وقد رد الشاطبي عليهم ، وذهب إلى أن هذه الشريعة المباركة شريعة أمية ، وقد تعجب كثير من العلماء والباحثين من وصف الشاطبي للشريعة بأنها "أمية" ، ورد عليه الإمام ابن عاشور بالآتي :-
- إن الأمية صفة للعرب ، وليس للشريعة أو القرآن ، ولم تعد العرب أمة أمية كما كانت بعد نزول القرآن ؛ بل انتقل بهم القرآن من حال إلى حال ؛ قال تعالى : (مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا) .
- إن القرآن معجزة باقية ؛ فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة.
- إن القرآن لا تنقضي عجائبه (أي معانيه) ، ولو كان الأمر كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه.
- إن من تمام إعجاز القرآن أن يتضمن من المعاني مع إيجاز اللفظ فيه ما لا تحصره الكتب الكثيرة والدراسات المتجددة .
- إن أفهام المخاطبين أولاً - وهم العرب الأميين - ليست كل شيء ، بل قد يكون المعنى الأساسي مفهوما لديهم ، أما المعاني العميقة التي تزيد على المعاني الأساسية فقد يتفهمها أقوام وتحجب عن آخرين .
- لم يكتف السلف بظواهر القرآن فحسب بل نزعوا منه علوماً عنوا بها ونحن نقتفي آثارهم في إضافة علوم أخرى تخدم مقاصد القرآن .
ويبدو للباحث أن وصف الشاطبي للشريعة بـ"الأمية" إنما هو نسب إلى "الأمة الأمية" ولا يمكن أن يتم النسب في اللغة العربية إلا كذلك لأمن الالتباس ، ولم يقصد الشاطبي أن الشريعة في نفسها أمية ، والأمية ليست صفة مدح وإنما صفة ذم ظاهر ، ومهما يكن من أمر فإن تعبير الشاطبي ملتبس على كل حال ، وقد عبر الشاطبي هذا التعبير دون غيره استدلالاً بقوله (r) (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وقد جاء هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والبيهقي وأحمد وغيرهم في (رؤية هلال رمضان) وقد نهى النبي (r)عن الصيام قياساً بالحساب ، وإنما أراد أن يثبت الشهر بالرؤية الحسية قال (r) (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) كما روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي والدراقطني والدارمي وابن حبان والبيهقي وأحمد وابن خزيمة ، ومطلع الهلال كما ذكر ابن تيمية ليس له حساب مستقيم ولا طريق مطرد، وقد اعتمد أهل الكتاب في صومهم على الحساب والقياس ، وفي الحديث نهي عن مشابهتهم في ذلك ، ولأجل ذلك ذهب الداودي إلى أن المقصود بالأمية - في الحديث - هو : أننا لا نقرأ ولا نكتب عن كتب الأمم وما فيها من أباطيل وإنما نأخذ ما جاء به الوحي ، والأمية المنسوبة إلى هذه الأمة وصف لها ، وليس أمراً بها ، ثم زالت هذه الصفة حتى صارت أمة الإسلام أكثر الأمم علماً ؛ قال تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) فقد امتن الله تعالى على هذه الأمة بما يزيل أميتها ، وحساب الشهر إما حساب عددي أو طبيعي حسي ، وحساب الشهر بعد ظهور الهلال حساب حسي مضبوط لا يدخله خلل ولا يفتقر إلى حساب ، والسنة الشمسية وإن كانت طبيعية فليس لها أمر ظاهر للحس بل تفتقر إلى حساب سير الشمس في المنازل ، ولهذا كان الحساب - بعد ظهور الهلال للحس - أمراً دقيقاًً أُمر به المسلمون ؛ قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) وكأني بالشاطبي يقول : إن الأمر الحسي القاطع المشترك الذي يستوي في الأخذ به الذي يحسب بالقياس والذي يحسب بالرؤية هو الفيصل ، وليس المعول عليه في ذلك نظريات الفلاسفة وعلومهم الذهنية سواء كان ذلك في الطبيعيات أو التعاليم أو المنطق أو علم الحروف وأشباهها ، والقرآن عند الشاطبي قد أفهم العرب الأميين الذين سماهم ابن سينا وغيره (أعراباً جفاة) ، وقد خاطبهم القرآن أولاً وأتى بلغتهم ولم يأت على اصطلاح الفلاسفة والخواص ، ثم إن هولاء الأميين لم يعرفوا نظريات الفلاسفة ولا حساب الجمل في فواتح السور الذي اجتلب من أهل الكتاب كما فعل ابن سينا في (الرسالة النيروزية) ، فهولاء الفلاسفة – عند الشاطبي – قد جعلوا أفكارهم هي الأصل وأقحموها في القرآن وحملوه عليها ؛ يقول الشاطبي عن هولاء أنهم (لم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتى يصدروا عنها ؛ بل قدّموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها وراء ذلك) ، وتقويل القرآن ما لم يقله أمر مرفوض من جهة وإلغاء ما يقوله القرآن بالتأويل أمر مردود كذلك من جهة أخرى ؛ يقول الشاطبي : (فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه) والقرآن لا يُفهم بالفلسفة واصطلاحاتها بل بلغة العرب الذين وصفهم الفلاسفة بـ (الأعراب الجفاة) ، ولهذا أيضاً هاجم الإمام الشاطبي في الموافقات ابن رشد صاحب كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) حيث ذهب ابن رشد في هذا الكتاب إلى أن علوم الفلسفة مطلوبة لا يفهم المقصود من الشريعة إلا بها ؛ فرد الشاطبي عليه بقوله : (لو قال قائل أن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة ، وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف في تلك العلوم ....فلينظر امرئ أين يضع قدمه).
ولم يتفرد الشاطبي من العلماء بالهجوم على ربط العلوم الفلسفية بالقرآن ؛ بل نجد علماء آخرين قد أنكروا ذلك ؛ يقول ابن عاشور : (وذهب ابن العربي في العواصم إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية ولم يتكلم في غيرها من العلوم ؛ وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقادية)
ويعتذر ابن عاشور عن كلام الإمام الشاطبي بقوله : (لعل هذا الكلام صدر منه في التفصي (التخلّص) من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصاداً في البحث وإبقاء على نفيس الوقت ؛ وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور) ولا يظن الباحث أن هذا صحيحاً ، إذ قصد الإمام الشاطبي تحديداً تكلفات الفلاسفة الإسلاميين وتعسفهم في حمل القرآن على آرائهم ، ولم يقصد نفي تجدد العلم في القرآن ؛ وإلا فأين يضع هو نفسه اجتهاداته العظيمة .
تعليق على اتجاه ربط أصول العلوم بالقرآن :-
يبدو ربط الإمام السيوطي لبعض أصول الصنائع ببعض الآيات غير واضح ، إذ ما العلاقة العلمية بين أصول الهندسة وقوله تعالى : (انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ)؟! وما العلاقة بين نسيج الثياب ونسج العنكبوت؟! وما العلاقة بين أصول الملاحة وقوله : (السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)؟! ويبدو أن السيوطي يلتمس أدنى علاقة بين الأمرين ؛ فيربط بين أشياء لا رابط بينها . أما استدلال الإمام محمد عبده بقوله تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) فهو تخلص وذكاء من الإمام ؛ وإلا فليست الآية دالة على هذا المعنى وإن كان شائعاً بين الناس ، بل إن الآية تدل على معنى مخصوص يبدو واضحا جداً من سياقها ، وهو أن المشركين لما أنكروا إرسال الله تعالى رسولاً من البشر يأكل الطعام – رد الله عليهم بهذه الآية وأمرهم أن يسألوا أهل التوراة ، ويسمى التوراة في القرآن ذكرا ومثال ذلك أيضا قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ) وقد أمر الله المشركين بأن يسألوا أهل التوراة عن الرسل الذي أتوهم هل كانوا من البشر أم الملائكة؟ وقد وردت هذه العبارة مرتين في القرآن في سورتي النحل والأنبياء ، والآيتان جاءتا بصيغتين متقاربتين جدا ففي النحل : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) وفي الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) وقد رد الله عليهم في الأنبياء في الآية التي بعد تلك بقوله : (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ) أي ما جعلنا هولاء الأنبياء جسدا لا روح فيه ؛ إذ هم غير خارجين عن طباع البشر.
وقد ربط السيوطي أصول العلوم والصنائع بجزئيات القرآن وكان أولى أن يربط كليات المعاني القرآنية بجزئيات العلوم لا العكس ، إذ أن من شأن التعبير القرآني في الغالب أن يذكر المفاهيم العامة والعبارات الكلية التي تتعلق ببعض العلوم ثم تفصل تلك المفاهيم والعبارات داخل العلوم.
تعليق على اتجاه ربط العلوم بمقاصد القرآن :-
هذا الاتجاه هو أهم الاتجاهات في ربط العلوم بالقرآن ؛ إلا أنه لم يلاق من الاهتمام ما يليق به ولم يجد من الاعتناء ما يناسبه ، إذ أن الكتابات فيه محدودة للغاية والاعتناء به قليل جداً . ولم يتعرض له من العلماء غير الإمام الغزالي وابن عاشور ؛ إلا أن ربط الإمامين الغزالي وابن عاشور يحتاج إلى تعليق فقد كان تصنيف الإمام الغزالي للعلوم تصنيفاً غريباً ؛ إذ جعل العلوم الشديدة التعلّق بالقرآن علوماً صدفية هامشية ، رغم أنه لا يجادل في أهميتها وعلو مكانتها وارتفاع منزلتها أحد . أما إذا أراد الغزالي أن هذه العلوم آلات ووسائط ومقدمات لعلوم أخرى مقصودة ولا تراد لذاتها فهذا وجه صحيح متقبل لا يماري فيه أحد . ثم إن الغزالي قد قدّم علم الكلام وجعله في مقدمة العلوم وفضله على علوم شديدة الأهمية في معرفة المعاني القرآنية ، وهذا العلم يتشعب عنده من محاجة الكفار ومجادلتهم ؛ وما ذهب إليه الغزالي يتعارض مع أقوال أكثر العلماء في موقفهم من علم الكلام ؛ يقول أبو حنيفة :(لعن الله عمرو بن عبيد لأنه فتح للناس الطريق إلى الكلام) وقال أبو يوسف: (العلم بالكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم) وقال:( من طلب العلم بالكلام تزندق) وقال الشافعي :(لئن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في علم الكلام) وقال :(ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح)
ولعل اهتمام الغزالي بهذا الجانب وما أحاط به من مؤثرات فكرية هو الذي دفعه إلى هذا الاتجاه ، كما أن الغزالي قد أغفل العلوم الطبيعية إغفالا واضحا ثم عاد فربطها ربطاً عاماً وفيه شيء من التكلف الظاهر .
أما ابن عاشور فقد ربط المقاصد بنوعين من العلوم هي المعاملات (السياسية المدنية) والثاني هو علم العمران (الاجتماع) ولم يتعرض لغيرهما.
قوة العلاقة بين القرآن والعلوم :-
ارتبط القرآن العظيم ارتباطاً وثيقاًَ بالعلوم لارتباطه بحياة الناس ، فمن العلوم ما تم استنباطه من القرآن مباشرة ، ومنها ما تعلق القرآن بقضاياه تعلقاً شديداً ؛ فما من نوع من العلوم وإلا وللقرآن به تعلق ؛ وإن اختلف هذا التعلق من نوع إلى نوع ، ومن موضع في القرآن إلى موضع . والقرآن لا يفترض فراغاً أو إطاراً ذهنياً ينزل فيه أحكامه وتطبق فيه إرشاداته ؛ بل لابد لهذه الأحكام والإرشادات أن تنزل على واقع الناس ، ودراسة هذا الواقع تستوجب إعمال الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والتربوية والطبية وغيرها ؛ ولهذا صارت لجان الفقه – كما هو مشاهد معلوم – تضم الأطباء والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والتربية وغيرها ، والحق أن الإنسان كلما كان أكثر معرفة بالعلوم كان فهمه للقرآن أحسن وأجود ؛ ولهذا يقول الزركشي : (من كان حظه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر) ، ويقول ابن حزم : (على من قصد التفقه في الدين أن يستعين على ذلك من سائر العلوم ، وحاجته إليها في فهم كلام ربه تعالى وكلام نبيه (r).
وذهب ابن عاشور إلى أن علاقة العلوم بالقرآن على أربعة :-
- علوم تضمنها القرآن كأخبار الأنبياء والأمم وتهذيب الأخلاق والفقه والتشريع والاعتقاد والأصول والعربية والبلاغة .
- علوم تزيد المفسر علماً كالحكمة والهيئة وخواص المخلوقات.
- علوم أشار لها وجاءت مؤيدة له كطبقات الأرض والطب والمنطق .
- علوم لا علاقة لها به ؛ إما لبطلانها كالزجر والعيافة والميثولوجيا ؛ وإما لأنها لا تعين على خدمته كعلم العروض والقوافي .
والحق أن هذا التقسيم متداخل ؛ إذ ما الفرق بين خواص المخلوقات والطب وطبقات الأرض وكلها علوم متعلقة بالمادة والحس؟! ومعلوم أن القرآن لا يمكن أن يخالف حقائق الحس ؛ إذ إن الكون مخلوق له والقرآن كلامه ، ولا يمكن أن يخالف كلامه خلقه ، وليس معنى موافقة القرآن لعالم الحس موافقته بالضرورة لمعطيات العلوم الطبيعية التي تتدرج في إدراكها لعالم الحس نحو اليقين ، ثم إن ابن عاشور ذكر علوماً لا علاقة لها بالقرآن إما لبطلانها أو لعدم إعانتها في خدمته ، والعلوم الباطلة لم يقل بعلميتها أحد حتى نعدها ضمن العلوم ناهيك عن علاقتها بالقرآن، أما العلوم التي ذكر أنها لا تعين على خدمة القرآن كعلم العروض والقوافي فهي عند الباحث ليس كذلك؛ بل إنها تعين في ذلك ، إذ لا يعرف فواصل القرآن وما فيها من أسرار إلا من يعرف القوافي والفروق بينها وبين الفواصل ، ولا يعرف الفرق بين القرآن والشعر حق المعرفة من لم يعرف العروض .
ومهما يكن من أمر فإن القرآن تختلف تعابيره عن حقائق العلوم بحسب ذكره لذلك من ناحية وحسب طبيعة تلك الحقائق من جهة أخرى ، فهو يذكر التفاصيل تارة ويذكر الكليات تارة ويذكر المقاصد تارة ويذكر الرؤى العامة في ذلك تارة ؛ فما من شيء من العلوم إلا وهو في القرآن سواء على التفصيل أو الجملة والأصول أو على مستوى المقصد والرؤية العامة ، وتلك طبيعة القرآن في التعبير عن كل شيء ، فهمها من فهمها وعمه عنها من عمه ، وإنما يدرك الناظر من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه ، وهذا الأمر يحتاج إلى بيان وتفصيل ؛ وذلك كالآتي :-
تفاصيل العلوم في القرآن :-
سبق أن بعض العلوم قد تضمنها القرآن وذكرت تفاصيلها فيه ، بل من العلوم الإسلامية ما يمكن أن يطبق بكامله على القرآن ؛ وذلك كالنحو والبلاغة وعلم اللغة وأصول الفقه ، وقد نشأت هذه العلوم أصلاً لخدمة القرآن ؛ فالنحو قد نشأ لما تسرب اللحن إلى الناس عند قراءة القرآن ، وقيل إن عليا كرم الله وجهه كما ذكر الإمام الذهبي وابن كثير والمزني وغيرهم أو عمر بن الخطاب كما ذكر القرطبي قد سمع رجلاً يقرأ : (أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بجر لفظة (ورسوله) عطفاً لها على المشركين ؛ الأمر الذي نشأ عنه معنى غير مقبول كما هو واضح ؛ فسمع هذا القارئ إعرابي ، فتبرأ الإعرابي من رسول الله (r)كما تبرأ الله تعالى منه حسب ما يقتضي هذا المعنى الفاسد الذي كان سببه الإخلال بالنحو ؛ فأمر عمر أو علي الأرجح – أبا الأسود الدولي فوضح النحو ؛ يقول الإمام الذهبي :( أمر علي أبا الأسود بوضع شيء في النحو لما سمع اللحن ؛ فأراه أبو الأسود ما وضع ؛ فقال : ما أحسن هذا النحو الذي نحوت ؛ فمن ثم سمى النحو نحواً) وتذكر بعض الروايات أن عليا بن طالب نفسه هو الذي وضع أصول النحو فأعطى أبا الأسود هذه الأصول وعمل أبو الأسود بعده عليها وقد نشأ علم النحو لأسباب واقعية في حياة الناس يقول ابن خلدون : (لما جاء الإسلام وفارق العرب الحجاز لطلب الملك، الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين من العجم ؛ والسمع أبو الملكات اللسانية، ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها، لجنوحها إليه باعتياد السمع ، وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على المفهوم ، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة، شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه)
أما علم اللغة فيمكن أن يتعلق به القرآن بكل تفاصيله ، وقد نشأ هذا العلم لخدمة القرآن أيضا ؛ يقول ابن خلدون (لما فسدت ملكة اللسان العربي، في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب، واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأذى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين، خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين)
وتنقسم العلوم جميعا من حيث علاقتها بالقرآن إلى الآتي :
- علوم تدور حول النص
- علوم تعلقت بالواقع ، ومعلوم أن القرآن قد تعلق بالواقع أشد ما يكون التعلق ،ومن هنا جاءت علاقة القرآن بالعلوم ، ومعلوم أن هذا الواقع ينقسم إلى قسمين:
1- واقع كوني.
2- واقع اجتماعي وإنساني.
ويتميز الواقع الكوني عن ذلك الإنساني بأنه دقيق الانتظام والانضباط شديد التقيّد بالسنن والقوانين ، كما أن نظامه ثابت غير معقّد مقارنة بالواقع الاجتماعي والإنساني.
ومعلوم أن الإنسان مهيأ لإدراك الواقع الكوني بصورة عامة بحكم طبيعة تكوينه وإعداده للخلافة في الأرض ؛ وقد زوّده الله تعالى بوسائل إدراك المعرفة كالسمع والبصر والفؤاد ؛ قال تعالى : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) ولم يكن هذا الإنسان عند إنشائه يعلم من أمر هذا الكون شيئاً ثم زوّده الله تعالى بتلك الوسائل فأدرك ؛ قال تعالى : (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ) ولهذا ركّز القرآن على هداية البشر أكثر مما ركّز على الجزئيات الطبيعية ؛ قال تعالى عن القرآن : (هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ) وقال :(هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ) وقال :(إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) وكانت مادة القرآن هي الإنسان وتصوره واعتقاده وسلوكه وأعماله وروابطه ؛ وقد عالج القرآن قضايا الإنسان أكثر مما عالج الجزئيات الطبيعية ونحوها.
وهذه العلوم الاجتماعية والإنسانية قد يذكر القرآن في بعض الأحيان تفاصيل قضاياها بصورة مباشرة ، ولما كانت هذه العلوم – في إطارها الغربي - قد احتلت المكانة الرفيعة كان يحتلها الوحي في توجيه الإنسان وإرشاده فلا بد أن تتناول القضايا ذاتها التي تناولها القرآن وإن اختلفت الصورة والطريقة ، والقرآن تناول القضايا التي تتعلق بالإنسان والمجتمع البشري ، ولكن هذا التناول قد يكون بالتفاصيل أحيانا وبالإجمال أحيانا وبالمقصد أحيانا .
أما ذكر تفاصيل العلوم الطبيعية في القرآن فإنه يكون في الغالب بصورة أقل من تفاصيل تلك العلوم الاجتماعية والإنسانية ؛ بل إن القرآن قد يشير إلى تفاصيل العلوم الطبيعية وحقائق الكون ومشاهده إشارات عابرة، وذكر تفاصيل العلوم الطبيعية في القرآن لا يكون مقصودا لذاته ؛ بل للعبرة والتنبيه على قدرة الله ودلائل وحدانيته ، ولعل عدم ذكر تفاصيل العلوم الطبيعية في القرآن أنها في مقدور البشر والله قد ركب فيهم من وسائل إدراكها ومعرفتها ما ركب ، والكون كتاب مفتوح أمام الإنسانية لا يمنعها مانع عن السير في أرجائه والنظر في أقطاره ، والقرآن إذا ذكر هذه الأمور وتعرض لها فإنما يذكرها في عبارات سريعة وإشارات عابرة ، إذ هي ليست مقصوده الأساس ولا غرضه الذي يراد ، والله تعالى يذكر هذه الأمور حيث يريد ويتعرض لها حين يشاء، ولا يوردها حين يشاء الناس ، وقد سأل الصحابة النبي (r) عن بعض الأمور المتعلقة بالعلوم الطبيعية ؛ فقالوا : (ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم لم يزل يكبر حتى يستدير) فحوّلهم الله تعالى إلى أمر آخر أكثر تعلقاً بالتكاليف والأحكام المطلوبة منهم ؛ فقال (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) ثم قال في السياق نفسه: (وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد أبواب العلم (البحر المديد 1 / 240 ) ، أي : اتوا هذا الأمر من بابه ؛ فحوّل - بأسلوب الحكيم - الإجابة من العلم الطبيعي إلى العلم الشرعي ثم أمرهم بطلب العلم الطبيعي ؛ إذ إن كل مطلوب من المطالب المهمة ينبغي أن يؤتى من بابه ؛ وهذا يقتضي معرفة الأسباب والوسائل.
كليات العلوم في القرآن :-
سبق أن القرآن قد حوى كليات المعاني التي تتعلق بالعلوم أكثر مما حوى جزئياتها وتفاصيلها، ولما كان الدين متعلقاً بحياة الناس فقد حوى القرآن كل ما يتعلق بهذه الحياة ؛ فهو مع قلة حجمه تضمن - بالإجمال - العلوم الكثيرة التي تقصر الألباب البشرية عن إحصائها
والقرآن في الغالب يذكر الأمور الأساسية الكلية حتى في شأن الدين ، وقد روى الدارقطني أن رسول الله (r) سئل : (أفريضة الوضوء من القيء؟ قال : لو كان فريضة لوجدته في القرآن) وهذا الحديث يبين أن القرآن يذكر الأمور الأساسية الكلية من العلم لا الثانويات ولا التفاصيل والجزئيات ، ثم تأتي في المرحلة الثانية السنة لتفصل المجمل من القرآن وتفرّع الكليات إلى جزئيات ؛ ولهذا قال سعيد بن جبير : (ما بلغني حديث عن رسول الله (r) على وجهه إلا وجدت مصداقه في القرآن) .ثم يأتي في المرحلة الثالثة دور العلماء والمجتهدين في العلم ليزداد هذا العلم تفصيلاً وتتبين فروعه وجزئياته ، والقرآن قد قلّل الأحكام وجاء بأصولها وترك التفاريع للسنة ثم لسائر المجتهدين الذين يفرّعون من تلك الفروع ؛ ولهذا قال الإمام الشافعي (ما تقوله الأمة (أي علماؤها) شرح للسنة وجميع ما في السنة شرح للقرآن
وإذا كان من طبيعة القرآن ذكر الأصول والكليات فينبغي أن ينظر في ذلك أيضا عن علاقة العلوم بالقرآن بصورة منضبطة .
ربط المقاصد القرآنية بالعلوم :-
إن القرآن العظيم كتاب إلهي شامل قد حوى كل حاجات الإنسان الدنيوية والأخروية، وهو -كما سبق - يشير إلى تفاصيل بعض العلوم ويشير إلى بعض الكليات ويشير كثيراً إلى مقاصد لها تعلق ببعض العلوم أيضاً ؛ فما من أمر من أمور الإنسان إلا وفي القرآن الدليل إلى سبيل الهدى فيه . ولا شك أن أحكام القرآن وإرشاداته وتعاليمه إنما جاءت لجلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها فما من مصلحة من مصالح الإنسان إلا وفي القرآن إرشاد إليها وتنبيه عليها .
وقد جاء القرآن بقصص وأحكام وأوامر ونواه ، وكل هذه الأمور يمكن أن تشكل قوانين عامة وسنناً مطردة ، والقرآن لا يحكي ما يحكي من قصص لغرض فني مجرد وإنما لاستخلاص العبر التي يتأتى استخلاصها بمعرفة العلل والأسباب التي تشكل تلك القوانين والسنن ، وقد اهتم القرآن العظيم اهتماماً كبيراً بتأسيس الحياة الاجتماعية وما ينشأ فيها من علاقات مختلفة ، وبّين القواعد التي تصوغ التفاعل الاجتماعي في كافة أشكاله وحدّد الأهداف والوسائل التي تمكّن من تحقيق هذه الأهداف .
ولا شك أن استخلاص السنن والقوانين الاجتماعية القرآنية ليس بالأمر اليسير الذي يستطيع أن يقول فيه كل من شاء ما شاء ؛ بل لا بد من مختصين يحللون عوامل الربط والتسبيب والاطراد والانتظام في الظواهر الاجتماعية فضلا عن المعرفة بقوانين الاستنباط من الواقع من جهة ومن القرآن من جهة أخرى ؛ وذلك يقتضي المعرفة الدقيقة بالمفاهيم الاجتماعية القرآنية الكلية وما يندرج تحتها من مفاهيم جزئية أو أقل كلية وما ينشأ من تفاعلات بين هذه المفاهيم التي تترتب بصورة منهجية فتشكل النظريات المفسرة للفعل الاجتماعي .
وإذا كان استخلاص المقاصد والعلل والأسباب التي تشكل القوانين والسنن العلمية لا يتأتى إلا بفهم نصوص القرآن ومعرفة معانيها ومراميها وأهدافها - فقد يذكر القرآن نفسه تلك المقاصد والعلل صراحة في بعض الأحيان ، وقد يستنبطها المجتهد بطرق الاستنباط المنضبطة ، ومن العلل والمقاصد التي ذكرها القرآن في شأن المال قوله : (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) وهذه الآية - كما ذكر ابن عاشور – يمكن أن تشكل قاعدة يؤخذ منها تفاصيل علم الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة العامة ويمكن أن تعلَّل بها الزكاة والمواريث وسائر المعاملات المالية
الرؤية الكونية القرآنية العامة وعلاقتها بالعلوم :-
إن أهم ما أسس القرآن فيما يتعلق بالعلوم ليس هو ذكر تفاصيلها أو كلياتها وإنما أهم ما أسس القرآن هو الرؤية القرآنية الكلية التي تؤطر كل ذلك ، وهذه الرؤية الكلية القرآنية التي تربط بين عالم الغيب والشهادة ربطاً وثيقاً من الاستحالة بمكان على العقل البشري أن يقوم ببنائها بمعزل من الوحي ، ومعلوم أن الوجود ليس مادة مجردة ؛ إذ إن هنالك من الأمور الغيبية المتعلقة بالإنسان ما لا يمكن أن يناله العلم في إطاره المادي المجرد إطلاقاً وذلك نحو المبدأ والمصير والغاية العليا من الخلق فضلا عن معرفة الخالق نفسه وتدبيره للوجود ، وكل هذه الأمور شديدة التعلق بالعلم الإنساني قوية الارتباط به .
ورغم كل ما ذكر إلا أن العلم - في الفكر الغربي - قد أخلد بالعلم إلى المادة وعالم الحس ورضي بذلك هروباً من تلك الأسئلة الكلية التي ذكرت ؛ ولأجل ذلك أدخلت العلوم كل العلوم أياً كان نوعها وأياً كان طبيعتها في إطار المنهج المادي المجرد ، وصارت العلوم الطبيعية سلطة مرجعية لكل العلوم ؛ الاجتماعية منها والإنسانية ؛ ولأجل ظهرت الخلافات الحادة بين علماء الاجتماعيات في المسألة الواحدة لتعدد الرؤى واختلاف المرجعيات ، ولما تزاور علماء الاجتماعيات عن الوحي مصدر الأخلاق والقيم - أضحت هذه القيم من صنع المجتمع نفسه وليست لها عندهم مرجعية عليا على الإطلاق ، وفي إطار هذا الواقع المريج ظهرت الأهداف غير العلمية للعلوم الاجتماعية والإنسانية ، وارتبطت هذه العلوم بالأيديولوجيات والمصالح المتضاربة.
وفي مقابل ذلك فإن في القرآن العظيم بناء منهجياً يتعلق بالحياة الاجتماعية وما يتصل بها من معارف وعلوم ، ويمكن استخلاص ذلك بإنعام النظر في كليات القرآن ومقاصده ؛ وبهذا يمكن بناء رؤية كلية كونية عامة تؤطر هذه العلوم ؛ وتخرجها من فلسفتها المادية المحضة وتعالج أزمتها .
وهذه الرؤية القرآنية لا تؤطر العلوم الاجتماعية والإنسانية فحسب بل تؤطر كل العلوم ، سواء الاجتماعية منها أو الطبيعية ، وهذه العلوم الطبيعية رغم طبيعتها المادية ورغم نجاح المنهج الحسي في إدراك كثيراً من تفاصيلها إلا أنها أيضاً تتعلق بتلك الرؤية الكلية أشد ما يكون التعلق وترتبط بها أقوى ما يكون الارتباط ، فليس صحيحاً ما قد يتوهم من أن طبيعة بنائها المادية يجعلها بمنأى عن هذه الرؤية العقدية الكلية ، يقول محجوب عبيد عن تلك الرؤية المتوهمة : (هذا التصور قد يكون مقبولاً حين كان العلم في بداياته يتدرج نحو صقل طرق القياس وتطوير سبل الاستنباط والاستدلال والبرهان ؛ حين كان هذا العلم أقرب إلى حنكة الحرفة منه إلى عمق الفكر والمبدأ ، ولكن التطورات المعاصرة في الفيزياء النظرية وعلم الكون والهندسة الوراثية قد تجاوزت ذلك الموقف الشكلي وقربت تطوراتها قضايا هذه العلوم من موضوعات البداية والنهاية وأطلت به على مشارف قضايا كبيرة في العقيدة والفلسفة ، وهذه التطورات قد أحرجت الموقف الشكلي البسيط الذي يفصل بين الحقائق العلمية والمذاهب الفكرية وفضحت ضعفه أمام الأبواب المفتوحة نحو إشباع طموح الإنسان في الوقوف على أسرار الخليقة وطبيعة الأشياء)
خاتمة :-
لم يغادر القرآن أمراً يتعلق بحياة الناس وعلومهم إلا ذكره وإن اختلف هذا الذكر من موضع إلى آخر ومن نوع من العلوم إلى نوع ؛ فهو قد يذكر أحياناً تفاصيل بعض العلوم ويذكر أحياناً كلياتها ويذكر أحياناً مقاصد بعض قضاياها ؛ ولهذا ينبغي – عند دراسة علاقة ذلك بالقرآن- أن نهتم بهذه الأشياء بقدر اهتمام القرآن بها ، ولكن مما ليس فيه من شك هو أن الرؤية القرآنية الكلية تحيط بكل العلوم وبكل المعارف وبكل أمور الحياة وترتبط بها أشد ما يكون الارتباط ، وليس ذلك فحسب بل إن هذه الرؤية تتعدى كل ذلك إلى عالم الغيب أيضاً وتربطه به . وما ذاك إلا لأن القرآن هو صراط الله المستقيم الذي لا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الكريم جمّ المنافع ؛ المشتمل على أصول العلوم في صلاح المعاش والمعاد .
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
المصادر والمراجع :
1- الألوسي : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ط/ دار إحياء التراث العربي – بيروت
2-البغوي : الحسين بن مسعود : معالم التنزيل ، تحقيق محمد عبد الله النمر وآخرون ، ط/4 دار طيبة للنشر والتوزيع، سنة 1997م
3-ابن تيمية : أحمد بن عبد الحليم، الفتاوى الكبرى تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، ط/1 دار الكتب العلمية سنة 1408هـ - 1987م.
4- ابن الجوزي : عبد الرحمن بن علي بن محمد ، زاد المسير في علم التفسير ،ط/3 المكتب الإسلامي - بيروت 1404هـ
5- ابن أبي حاتم الرازي : تفسير ابن أبى حاتم ، تحقيق أسعد محمد الطيب ، ط/ المكتبة العصرية ، صيدا (د.ت)
6- الخازن : علي بن محمد بن إبراهيم : لباب التأويل في معاني التنزيل ، ط/ دار الفكر ، بيروت ، سنة 1399 هـ - 1979 م
7- أبو حيان الأندلسي: محمد بن يوسف : تفسير البحر المحيط ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض ، ط/ دار الكتب العلمية ، بيروت سنة 1422 هـ - 2001م
8- الذهبي : محمد بن أحمد بن عثمان: سير أعلام النبلاء ، تحقيق شعيب الأرنؤوط وحسين الأسد ، ط/ مؤسسة الرسالة (د.ت)
9- الرازي : فخر الدين محمد بن عمر : مفاتيح الغيب ، ط/1 دار الكتب العلمية ، بيروت ، سنة 1421هـ - 2000 م.
10- الزركشي :بدر الدين محمد بن عبد الله : البرهان في علوم القرآن ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ،ط/1 دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي ، عام 1957م
11- الشاطبي إبراهيم بن موسى: الموافقات : تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، ط/ دار ابن عفان ، سنة 1417هـ- 1997م.
12- الشنقيطي : محمد الأمين بن محمد بن المختار : أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ، ط/ دار الفكر ، بيروت ، سنة 1415 هـ- 1995 م
13- ابن عادل الدمشقي : عمر بن علي ، اللباب في علوم الكتاب، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض ، ط/1 دار الكتب العلمية سنة 1419 هـ -1998 م
14- ابن عاشور: محمد الطاهر: التحرير والتنوير ، ط/ دار سحنون للنشر والتوزيع ، تونس ، سنة 1997م.
15- ابن عجيبة : أحمد بن محمد بن المهدي ، البحر المديد ، ط/2 2002 م ـ 1423 هـ
16- العظيم آبادي : محمد شمس الحق ، عون المعبود شرح سنن أبي داود، ط/2 دار الكتب العلمية ، بيروت 1415هـ
16- القرطبي : محمد بن أحمد بن أبي بكر : الجامع لأحكام القرآن ، تحقيق هشام سمير البخاري ، ط/ دار عالم الكتب ، الرياض ، سنة 1423 هـ/ 2003 م.
17- ابن كثير : إسماعيل بن عمر :
أ- البداية والنهاية ، تحقيق علي شيري ، ط/1 إحياء التراث العربي سنة 1988م
ب- تفسير القرآن العظيم ، تحقيق سامي بن محمد سلامة ، ط/2 دار طيبة للنشر والتوزيع سنة 1420هـ - 1999 م
18- محجوب عبيد : أسس التأصيل الإسلامي في مجال العلوم الطبيعية ص 318"أوراق ندوة إسلام المعرفة".
19- المزي : يوسف بن الزكي ، تهذيب الكمال، تحقيق بشار عواد معروف،ط/1 مؤسسة الرسالة – بيروت 1400 – 1980م.
شكر الله لك طرحك الموفق ومناقشتك للأقوال ونتائجك العلمية السليمة
ولو تأذن لي بكلمة؛ قولك تناقش السيوطي:"يبدو ربط الإمام السيوطي لبعض أصول الصنائع ببعض الآيات غير واضح ، إذ ما العلاقة العلمية بين أصول الهندسة وقوله تعالى : (انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ)؟! "
الظاهر وجود شيء من علوم الهندسة في الآية، لأن الظل ناتج عن ضوء مسلط على كائن معين. وأظن تفسير السورة يعين على استخراج المعنى الهندسي.
وأما بقية كلام السيوطي فلا علاقة له بالعلوم وأصولها، ولكنه حسب المطبوع كما تنقل عنه أدرج آيات فيها إفك الأفاكين بدعوى العلم وظنها أصولا للعلوم؛عدا آيتين؛ فقول ذي القرنين: (آتوني زبر الحديد) ليست الحدادة بل صناعة المعادن، والحدادة فساد في تصنيع المعادن لأنها بنفخ الكير، ومعلوم حديث تشبيه قرين السوء بنافخ الكير، و خبر المجوسي نافخ الكير الذي اغتال عمر رضي الله عنه.
والآية: (وأما السفينة فكانت لمساكين) فيه علم التعامل مع التقنيات المشغلة، فهي في هندسة التشغيل، لأنه خرقها تعييبا لها في عين الغاصبين، مع ضمان الإصلاح وبقاء السفينة من غير تلف. والله أعلم
وأؤيد نتائجك العلمية بالكامل وأشكرك وجزاك الله خيرا.
بارك الله فيكما أخي العليمي المصري وطالبة علم التفسير
أما قولك أيتها الأخت الكريمة (الظاهر وجود شيء من علوم الهندسة في الآية) فيعني أنك فهمت الكلام الذي أورده السيوطي تماما ، وأنا اتفق معك أن الآية فيها "شيء " أي شيء قليل من علوم الهندسة ولكنها لا تشكل أصل علوم الهندسة ، ومن هنا كان استغرابي وهذا ما يوضحه قولي إن العلاقة بعيدة أو غير واضحة .
ولدي ملاحظة شكلية
ألا ترين أختي الكريمة أن عبارتك (أدرج آيات فيها إفك الأفاكين) - أي كذب الكذابين -"كتيرة شوية " في حق علمائنا الأفاضل ، ويبدو أنها ناتجة من الاستعجال
الأمر الثاني نفخ الكير جاء في الحديث للتشبيه ؛ لأن عملية النفخ هذه يتطاير منها الشرر فيصيب ثياب الإنسان ، وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن نفخ الكير أمر مسترذل ولا الحدادة التي هي مهنة النبي داود عليه السلام ، والحدادة وتصنيع المعادن لا فرق بينها إلا في الجدة والقدم ، وذم المجوسي - لعنه الله - الذي قتل عمر رضي الله عنه لا يعني بالضرورة ذم صنعته الت تتعلق بالحدادة أشد ما يكون التعلق
شكر الله لك تنبيهك على العبارة
الآيات لا يدخلها إفك الأفاكين، لكنها في بيان إفك الأفاكين هذا بالضبط ما قصدته وأشكر لك تنبيهك لأهذب العبارة
لكن الظل في ثلاث شعب لو تتأمله هو أصل الهندسة، بافتراض مواضع ثلاثية الأبعاد.
والثلاث شعب هي أبعاده الثلاثة الناتئة لأنه (لا ظليل ولا يغني من اللهب).
بينما الحدادة ليست هي صناعة المعادن لأن صناعة المعادن ليست النفخ في الكير
نفخ الكير ينتج به الأدخنة الملوثة والشرار المتطاير حتى لقد لا يستطيع الواحد منا النظر في وجه الحداد من بشاعته. وثبت الاشتباه بهم في السنة بما سبق ووضحته.
وتشبيه القرين السوء في الحديث جاء بنافخ الكير وليس بمنفوخ الكير، دل أن السوء في نافخ الكير نفسه.
صناعة المعادن لا تعتمد على التنور الضيق الذي فيه من الأخطار ما فيه، كحفره في الأرض أو نازل إليها، وتطاير الشرار منه وإصابة المكان والناس بالتلوث.
ولكن صناعة المعادن تعتمد على تقية الخندق بين سدين، وتقنية تبريد المعدن بالماء المقطر (آتوني أفرغ عليه قطرا) كما أن لفظ القطر يعني ماء السماء الذي ينزل بقطرات موزعة، وعليه فلا يبرد المعدن بزعج الماء عليه ولكن بإفراغه قطرا.والله أعلم
طريقة ذي القرنين عليه السلام تثبت أن التقنية الشرعية موروثة من الأنبياء عليهم السلام ومما ورث عنهم عدم إقرارهم نافخ الكير على كيره. لأن النفخ في النار وليس في الكير (قال انفخوا حتى إذا جعله نارا) الآية والله أعلم
وجزاك الله خيرا
الأخت العزيزة
الأمر شديد الوضوح ؛ إذ إن التشبيه في البلاغة يقوم على أربعة أركان هي : المشبه والمشبه به ووجه الشبه والأداة ، وقد يحذف أحيانا وجه الشبه وتحذف أحيانا الأداة وكل نوع من أشكال التشبيه الأربعة له اسمه في البلاغة ، أما إذا حُذف المشبه فإن التشبيه يكون استعارة .
وهذه الأركان الأربعة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ........ ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة)
فالأمر في التشبيه الثاني داخل الحديث كالآتي :
- المشبه هو : الجليس السوء
- المشبه به هو : نافخ الكير
- وجه الشبه هو : التضرر في الحالين
- الأداة هي الكاف
والأمر أيتها الفاضلة واضح لا لبس فيه ولا غموض
أما القطر في آية الكهف في شأن ذي القرنين (قال آتوني أفرغ عليه قطرا ) أو في آية سبأ في شأن داود عليه السلام (وأسلنا له عين القطر) فليس هو ماء السماء (المطر) كما تفضلت أيتها الأخت الكريمة ، وإنما هو النحاس المذاب ، وهو بكسر القاف (القِطْر) لا فتحها .
أما المطر أو ماء السماء – حسب تعبيرك - فهو القَطر بفتح القاف ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم :( ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء )أي المطر . ومنه كذلك قول أبي فراس الحمداني
إن مت ظمآنا فلا نزل القطر
أما القطر بضم القاف فهو الناحية والجانب والجمع أقطار وقد جاء في سورة الرحمن (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا ) أي نواحي السموات والأرض وفي سورة الأحزاب في شأن المنافقين (ولو دخلت عليهم من أقطارها ) أي المدينة المنورة
وشكر الله لك ما عقبت
ورأيي ليس إلزاما لأحد لكني أقول كلامي في كل ما بينته
ولا أظن أني فهمت التشبيه خطئا
ولا أني فهمت التقنية خطئا لدلالة السياق أن تبريد الحديد كان آخر ما فعله ذو القرنين عليه السلام
ولو قيل أضاف النحاس كما تشير لم يتغير شيء في معنى صناعة المعادن.
أرجو أننا لم نختلف وليس في كلامي غير ما كتبته.
أما معنى اختلاف أنواع التشبيه بتغير أركانها فهذا أصل القياس على النصوص، فلفظ (مثل) ليس (كمثل) ليس كالكاف وليس كحذف لفظ التشبيه..
وليس كحذف بعض الأركان نهائيا..
هذه محلها دلالة منطوق النص والمراد من القياس فيه والله أعلم
أرجو أن لا أكون خرجت عن الموضوع.
جزاك الله خيرا