عرض نقدي لكتاب المستشرق الألماني هربرت بوسه حول علاقة القرآن الكريم باليهودية والنصرانية

إنضم
04/02/2013
المشاركات
65
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
مصر

أسس الحوار في القرآن الكريم
دراسـة في عـلاقة الإسـلام باليـهودية والمسـيحية
(عرض نقدي)

تأليف: هيربرت بوسه.

ترجمة: أ.د/ أحمد محمود هويدي.
مراجعة: أ.د/ عمر صابر عيد الجليل.
تصدير: أ.د/ محمد خليفة حسن.
دار وسنة النشر: المركز الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.

برزت في الآونة الأخيرة، وخاصة عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، الكثير من القضايا المتعلقة بالإسلام عامة والقرآن الكريم خاصة؛ إذ شهدت الساحتين الفكرية والسياسية العالمية ولاسيما الغربية، اهتمامًا متزايدًا بالتعرف على الإسلام بشتى الوسائل، وكان على رأسها دراسة مصادره الأساسية وفي مقدمتها – بطبيعة الحال- ( القرآن الكريم). وبالتوازي مع ذلك انطلقت الدعوات سواء من الدوائر السياسية أو الدينية المختلفة بأهمية الشروع في حوار ما بين الأديان والحضارات، ذلك الحوار الذي من شأنه أن يعزز من معرفة كل طرف بالآخر ويدشن لعلاقات جديدة قائمة على الاحترام والفهم المتبادل.
وفي إطار ما سبق، تبرز أهمية الكتاب الماثل للعرض، الذي يعد واحدا من أبرز مؤلفات الاستشراق الألماني حول الإسلام؛ حيث يقدم مؤلفه رؤية موضوعية إلى حد كبير عن الإسلام وأسس الحوار في القرآن الكريم، ويشير إلى حد جيد إلى الإسلام على أنه دين مستقل عن اليهودية والمسيحية، مناقشا الوضع الحالي للعلاقات الإسلامية المسيحية، والإسلامية اليهودية، الأمر الذي أضاف للكتاب ميزة أخرى تتلخص في اختلافه عن ثقافات المستشرقين التقليديين حول الإسلام والعالم الإسلامي، فقد حاول مؤلفه الالتزام بخطوط منهجية واضحة وبمعالجة موضوعية للإسلام.
ومن ناحية أخرى يعد مؤلف الكتاب، المستشرق الألماني الشهير "هيربرت بوسه"، حلقة من سلسلة بعض المستشرقين الألمان الذين أنصفوا الإسلام وحضارته – مثل سابقيه (آن ماري) و(زيجفريد هونكه)- وهم يمثلون اتجاهًا إيجابيًا وموضوعيا داخل الاستشراق الألماني المعروف بمنهجه العلمي الأكاديمي.
ويقع الكتاب في خمسة فصول، وهي:
1- الوضع الديني في شبه الجزيرة العربية حتى عصر النبي محمد r.
2- أهل الكتاب.
3- روايات العهد القديم.
4- روايات العهد الجديد.
5- الوضع الراهن وأسسه في التاريخ.
إلا أنه من الممكن تقسيم هذا الكتاب من حيث الموضوعات - بشكل عام - إلى جزأين أساسيين، الأول يتناول البيئة الدينية التي كانت سائدة في منطقة شبه الجزيرة العربية حتى عصر النبي محمد r؛ حيث يسوق مؤلف الكتاب البراهين العلمية والموضوعية التي تدلل على انتشار المسيحية في أطراف شبه الجزيرة العربية، بالإضافة إلى وجود اليهود في يثرب (المدينة المنورة)، وكذلك وجود جماعات دينية أخرى مثل طائفة المعمدان المانوية الغنوصية في المحيط الخارجي لشبه الجزيرة العربية، مما أدى إلى تأثر أطرافها فقط بهذه الديانات، أما وسط شبه الجزيرة العربية والحجاز فقد ابتعدتا تمامًا عن مجال التأثير الخارجي لانعزالهما عن العالم الخارجي ولعمقهما الجغرافي وخصوصيتهما الثقافية. ويؤكد هذا الجزء من الكتاب على حقيقة عدم وقوع الإسلام تحت تأثير أي من الديانات سواء التوحيدية أو الوثنية خلال فترة بعثة النبي محمد r؛ إذ أنمراكز انتشار هذه الديانات كان بعيدًا تمامًا عن مركز ظهور الإسلام في مدينة مكة، إضافة إلى اتسام الدعوة الإسلامية في بدايتها بالاضطهاد والمطاردة ما أدى إلى فرض عزلة جبرية عليها.
كما يتناول هذا الجزء، قضية موقف الإسلام ممن عرفوا بـ"أهل الكتاب"، موضحًا أن الإسلام يعترف بوحدة الأديان وبوحدة مصدرها الإلهي، وأن القرآن الكريم يمثل نموذجًا للوحدة الدينية؛ حيث يشير إلى إله واحد ونص أصلي أخذت عنه كل نصوص وكتابات الوحي، وكانت هذه الوحدة موجودة في ديانة بني إسرائيل وفي المسيحية، لكن البشرية هي التي أدت إلى التعدد حيث آمن البعض ورفض البعض الآخر.
ويتناول الجزء الثاني من الكتاب القصص الواردة في القرآن الكريم، وما يماثلها من قصص العهدين القديم والجديد، وفي هذا الصدد يرى مؤلف الكتاب، أن النبي محمد r، انعكس موقفه تجاه اليهود والنصارى من خلال روايات الكتاب المقدس الواردة بالقرآن الكريم. كما يتعرض لأسس العلاقات القائمة بين الديانات التوحيدية الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام) في العصر الحديث؛ حيث يشير إلى أوضاع الأقليات المسيحية واليهودية في البلدان الإسلامية التي قام المسلمون بفتحها انطلاقًا من الجزيرة العربية، وكذلك وضع الإسلام في أوروبا المسيحية التي انتشرت فيها تعاليم الإسلام بشكل عام عن طريق الدعوة.
ومن خلال العرض الموجز للكتاب يمكن تناوله بالعرض "النقدي"، وذلك على النحو التالي:
أولا: المؤلف والمدرسة الاستشراقية التابع لها:
يعد "هيربرت بوسِه" واحدا من أبرز المستشرقين الألمان المعاصرين[1]. ولد العام 1926، ودرس الدراسات الإسلامية في كل من ماينس ولندن، ثم عمل بالتدريس والبحث في التاريخ والحضارة الإسلامية في كل من هامبورج وبوخم وبيروت والقدس، وعمل منذ العام 1973 وحتى تقاعده مديرًا لمعهد الدراسات الشرقية في "كيل"، وله العديد من الدراسات حول التاريخ والحضارة الإسلامية، وبرز من خلال ذلك اهتمامه بتاريخ القدس، فقدم دراستين، الأولى: حول الموروثات المقدسة لمدينة القدس في عصر المسيحية المبكرة وفي العصر الإسلامي، والثانية: حول إسراء النبي محمد r إلى القدس وصعوده إلى السماء[2].
ويتبع "بوسه" - بطبيعة الحال- مدرسة الاستشراق الألماني، والتي تعد من أكبر المدارس الاستشراقية الأوروبية، وربما من أكبر المدارس الاستشراقية قاطبة؛ إذ يقال أنها تضرب بجذورها إلى عصر الخليفة العباسي "هارون الرشيد"، وامتدت حتى القرنين الثامن والتاسع عشر، ومن ثم إلى وقتنا الحالي[3]، وكان من أهم ما ميز هذه المدرسة في الاستشراق هو تعدد مجالاتها وموضوعاتها، والموسوعية في الاهتمامات المختلفة، إضافة إلى انتهاجها منهج علمي دقيق، والذي ربما يكون عائدا إلى طبيعة الشخصية الألمانية، علاوة على عدم اختفاء الهدف التنصيري في أعمال المستشرقين الألمان إلى جانب الأهداف الاستعمارية والسياسية والتجارية[4]. ومع ذلك يشار إلى أنه يحسب لهذه المدرسة اتسامها بعض الشيء بعدم العداء للعرب والتحامل عليهم، وربما يعود ذلك إلى اهتمامها في المقام الأول بالدراسات الشرقية القديمة والحقبة الإسلامية المبكرة والآثار والأدب والفنون، وهذا النوع من الدراسات عادة ما يخلو من تحقيق أي أغراض سياسية[5]، الأمر الذي قد يفسر إلى حد كبير اتصافها بعض الشيء بـ"الإنصاف" في دراساتها، والذي انعكس بدوره على ما قدم "بوسِه" عن الإسلام من خلال الكتاب الماثل للعرض.
ويأتي كل من "رايسكه" المتوفى عام 1744 كأحد أبرز مستشرقي المدرسة الألمانية و"فريدريش روكرت" و"أهلفارت" إضافة إلى "جوليويس فلهاوزن" الذي برز في دراسة التاريخ اليهودي وديانة العرب قبل الإسلام، وكذلك "تيودور نولدكه" المشهور بكتابيه: "نشوء وتركيب السور القرآنية" و"تاريخ القرآن"[6]. وبشكل عام لا يمكن إغفال مساهمات المدرسة الألمانية في نشر الثقافة الإسلامية وبيان الحضارة العربية، وذلك لما نشرت من نصوص قديمة ساعدت على نشر آلاف من أمهات الكتب العربية والإسلامية، وجعلتها ميسرة للمثقفين الغربيين كما كانت مجهوداتها لا تنسى في مجال فهرسة المخطوطات العربية، إضافة إلى اهتمامها بعد الحرب العالمية الثانية بأحوال الوطن العربي ودراسته من جميع جوانبه[7].
ثانيًا: منهج المؤلف:
لم يخرج "بوسه" في كتابه الماثل للعرض عن استخدام تلك المناهج الاستشراقية الشائعة في دراسة الإسلام ومصادره المختلفة، فقد استخدم كل من المنهج "التاريخي" و"التحليلي" و"التأثير والتأثر".
أ- المنهج التاريخي:
يتكون هذا المنهج أساسًا من البحث عن الوقائع التاريخية أو الاجتماعية ووضعها بجوار بعضها البعض وترتيبها وتبوبيها ثم الإخبار عنها والتعريف بها باعتبارها الظاهرة الفكرية ذاتها[8]. وقد استخدم "بوسه" هذا المنهج في عرضه للحياة السياسية والدينية في الجزيرة العربية قبل الإسلام، واعتمد بصورة أساسية على سيرة النبي لـ"ابن هشام" في ترجمتها الإنجليزية بالإضافة إلى بعض المصادر الاستشراقية الحديثة والمعاصرة، كما استخدم "بوسِه" هذا المنهج في تقديمه عرضًا عن تاريخ العلاقات الإسلامية- اليهودية- المسيحية وتاريخ الفتوحات الإسلامية، وتقديم عرض تاريخي لنشأة الحوار بين الأديان والشروط الواجب توافرها لكي يكون الحوار ناجحًا[9].
ويؤخذ على هذا المنهج – كبقية المناهج الاستشراقية الأخرى- أنه نابع من بيئة المستشرق الغربية ومتأثر بها، إضافة إلى أن نجاحه في التطبيق على المسيحية لا يعني نجاحه في التطبيق على الظواهر الإسلامية التي هي موضوعات فكرية وليست تاريخية[10].
أما ما يؤخذ على استخدام "بوسه" لهذا المنهج فهو اتسامه بـ"التناقض" أو "الابتسار" بمعنى أنه من خلال عرضه التاريخي للأوضاع الدينية في شبه الجيرة العربية، قدم حيثيات علمية عن طريق "الاستقصاء التاريخي"، دون أن يصرح بذلك، لصعوبة تأثر وسط شبه الجزيرة العربية (البيئة الأولى لظهور الإسلام) بأي من الديانات أو المعتقدات التي كانت منتشرة آنذاك، ومع ذلك ذكر أن النبي تعلم أو عرف اليهودية عن طريق وسيط نصراني، كما يذكر أن وعاظًا نصارى ظهروا كمتجولين في الأسواق العربية، وربما يكونوا قد قدموا من اليمن وهم اللذين تلقى منهم محمد r مصادر دعوته الرئيسة[11].
وهذا التناقض يؤكد على عدم موضوعية المستشرق التامة والخالصة من جانب، ويؤكد اعتماده على آراء وأيديولوجيات مسبقة عن الإسلام من جانب آخر، كما إنه يؤشر على "الابتسار" في استخدام هذا المنهج، الذي قدم من خلاله الحقائق التاريخية من دون الوصول إلى نتائج قاطعة، إذ أنه من المعروف أن مهمة الباحث أو الناقد ليست التعريف والإخبار وحسب بل تقديم رؤية ما أو توضيح قضية ما.
ومع ذلك يُحسب لـ"بوسه" تجنبه لهذين المأخذين السابقين- أي التناقض والابتسار- وذلك في تعرضه لطبيعة العلاقات التاريخية التي ربطت اليهود والنصارى بالمسلمين، حيث يصل لنتيجة مفادها أن أهل الكتاب عاشوا في طمأنينة تحت حماية الإسلام[12]، وذلك على الرغم من ذكره بعض الظروف التي اعتبرها من وجهة نظره كانت تهدف لإذلال أهل الكتاب وإظهار سمو المسلمين مثل دفع "الجزية"[13].
ب- المنهج التحليلي:
يقوم هذا المنهج بتفتيت الظاهرة الفكرية إلى مجموعة من العناصر التي يتم التأليف بينها في حزمة متجانسة من الوقائع أو العوامل التي أنشأتها، أي تفتيت الظاهرة الفكرية وردها إلى عناصرها الأولية[14]. وقد استخدم "بوسه" هذا المنهج في تحليله لنص القرآن الكريم؛ حيث كان يعرض النصوص ويحللها ثم يطوعها لوجهة نظره[15].
ويؤخذ على هذا المنهج خطأ تعميمه على جميع الدراسات الإنسانية ولاسيما الإسلامية، التي تختلف أصولها ومعطياتها ومبادئها عن البيئة الغربية والديانة المسيحية[16]. أما "بوسه" فما يؤخذ على استخدامه لهذا المنهج أنه طبقه على أساس أن الدين الإسلامي يتسم بصفة "التطور"، تلك الصفة التي اتسمت بها كل من الديانتين اليهودية والمسيحية، بمعنى أن الظواهر الفكرية في هاتين الديانتين وصلت إلى صورتها الحالية نتيجة تكونها من نواة أساسية تم البناء عليها خلال مراحل تطور مختلفة وصلت بها إلى ما هي عليه، إلا أننا نجد أن "بوسه" استخدم ذلك في طرحه للتسلسل أو التطور حول تكوين رؤى عن التعددية الدينية في القرآن الكريم، والتي يرى فيها أن التفسير المؤسس على التعددية الدينية هو الأقدم لأنه يوافق الديانات والشعوب كلية باستثناء الوثنيين، وعندما طور محمد r- كما جاء في القرآن - هذه النظرية كان لا يزال مقتنعا بألا يعلن شيئا آخر عن سابقيه فيما يتعلق بوظيفة النبوة وأن اليهودية والنصرانية والإسلام بينهم تطابق فيما يخص التعاليم العقدية ومبادئ الكتاب، وأنه إلى هذه المرحلة تنسب الإحصائيتان المتضمنتان الديانات في سورتي البقرة 62، والمائدة 69، واللتين ورد بهما اليهود والنصارى، ثم دخل بعد ذلك المجوس في مجال رؤيته في المرحلة الثانية، ويظهر ذلك من القائمة الشاملة للأديان الواردة في سورة الحج 17، وفي المرحلة الثالثة رأى محمد r السلامة في التسامح دون أن يقدم امتياز عملي ولو قليل، والموقف الجديد لا يعني شيئًا آخر إلا أن يُبقي على تنفيذ حكم الرب وتأجيله إلى يوم القيامة[17].
ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن المؤلف اتسم بالموضوعية بتحليله لبعض النصوص القرآنية ومن ذلك حديثه عن النص الأصلي للكتب السماوية حيث أورد أنه يطلق عليه في القرآن النص السماوي الأصلي "اللوح المحفوظ" (البروج 22)، "أم الكتاب" (الرعد 3، الزخرف 4)[18].
ج- منهج التأثير والتأثر:
يأتي هذا المنهج ليكمل مهمة المناهج الاستشراقية السابقة له (التاريخي، التحليلي، الإسقاطي)[19]؛ إذ يحاول تفريغ الظاهرة الفكرية من مضمونها محاولا ردها إلى عناصر خارجية في بيئات ثقافية أخرى، دون وضع أي منطق سابق لمفهوم الأثر والتأثر، بل بإصدار هذا الحكم دائمًا لمجرد وجود اتصال بين بيئتين أو ثقافتين، وظهور تشابه بينهما، مع أن هذا التشابه قد يكون كاذبا وقد يكون حقيقيا، وقد يكون لفظيًا وقد يكون معنويًا[20]. وقد كان هذا المنهج هو الأكثر استخداما لدى "بوسه"، مثله في ذلك مثل بقية أصحاب الأعمال الاستشراقية على اختلافها، حيث حاول من خلاله رد المادة القرآنية إلى مصادر يهودية ونصرانية؛ إذ كان يجمع المادة القرآنية حول قصة ما من القصص ويقابلها بما ورد في العهدين القديم والجديد[21].
ويؤخذ على هذا المنهج أنه يقوم على خطأ في فهم التأثر نفسه والحكم عليه؛ إذ أن عملية التأثر المتبادل هي بالأساس عملية حضارية معقدة تتم على مستويات عدة، اللغة، المعنى، والشيء، فلو كان هناك اتصال تاريخي بين حضارتين، وظهر تشابه بين ظاهرتين فإن ذلك قد يكون في اللغة، وفي هذه الحالة لا يكون تأثرا بل "استعارة"، فعادة ما يحدث أن تسقط الحضارة الناشئة ألفاظها القديمة وتستعير ألفاظ الحضارة المجاورة وتستخدمها للتعبير عن المضمون القديم[22]. أما إذا حدث تشابه في المضمون بين ظاهرتين من حضارتين مختلفتين فإن ذلك أيضا لا يمكن تسميته أثرا وتأثرا، دونما تحديد لمعنى الأثر، لأن إمكانية التأثر من اللاحق بالسابق موجودة لأن الشيء نفسه موجودًا ضمنًا في الظاهرة اللاحقة[23].
وأول ما يؤخذ على استخدام "بوسه" لهذا المنهج هو افتقاره للموضوعية؛ إذ من المعروف أن وحدة المصدر في القرآن الكريم وقصر الفترة الزمنية التي نزل ودون فيها والتي هي نفسها فترة البعثة النبوية، تجعل من غير المنطقي اقتباسه من مصادر خارجية عن الوحي الإلهي سواء سابقة له أو لاحقة عليه، وذلك على خلاف مصادر العهدين القديم والجديد التي أشار إلى تأثر القرآن بهما، وذلك على الرغم من أن الدراسات النقدية الغربية أثبتت بعدهما عن نص الوحي لعدم تدوينهما في عصر نزولهما، إضافة إلى استخدام "بوسه" لبعض العبارات الترجيحية والتي لا تتماشى مع الآراء العلمية الواضحة المعضدة بحيثيات واضحة مثال تعليقه على الآية 1 من سورة النساء " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا....... "، حيث يقول: "يشعر المرء بالأثر من سفر التكوين 1/28 حيث بارك الرب الإنسان وأمره أن يثمر ويتزايد ويملأ الأرض[24]". علاوة على "التعسف" الذي ظهر واضحًا في الإصرار على وجود تأثير وتأثر في نص بناء الكعبة الوارد في القرآن الكريم على الرغم من اعترافه أن ليس هناك أساسًا لهذا النص في الكتاب المقدس فالكعبة ليست معروفة مطلقا في الكتاب المقدس[25]، ومع ذلك يحاول البحث لها عن مصدر في الكتاب المقدس، حيث يقول: "لكن على أية حال إذا بحثنا عن دليل من الكتاب المقدس يمكن التفكير في بناء المذابح التي يكون الحديث عنها مرارا في ميثاق الوعد والعهد ويدخل في دائرة البحث عن بيت إيل ( التكوين 12/8[26]) ".
ثالثا: الشبهات وتفنيدها:
يجمع الكتاب الماثل للعرض بين خاصتين ميزتا الكتابات الاستشراقية منذ العصور الوسطى وحتى العصر الحديث، أولهما: تكرار نفس الشبهات الاستشراقية الغربية حول مصدر القرآن الكريم وموقفه من غير المسلمين، وثانيهما: اتسامه بـ"الموضوعية" العلمية إلى حد معقول في مناقشة بعض الظواهر والقضايا الإسلامية. فقد تفاوتت الأعمال الاستشراقية على اختلاف أنواعها واتجاهاتها ومدارسها بين هاتين الخاصتين واللتين تركزتا بهما سلبيات وإيجابيات هذه الأعمال على حد سواء.
وبشكل عام يمكن حصر ووصف الشبهات التي طرحها "بوسِه" حول القرآن الكريم ومحاولة تفنيدها، وذلك على النحو التالي:
أ- رد القرآن الكريم لمصادر غير إسلامية:
من أبرز الشبهات التي أشار إليها "بوسه" تلك القضية الرئيسة التي تحتل مكان الصدارة في الدراسات الإسلامية بالغرب، وهي قضية "مصدر القرآن الكريم" والتي لم يذكر صراحة موقفه منها، لكنه أشار في عبارات عامة وغامضة إلى أن القرآن استمدت بعض مادته من العهدين القديم والجديد بعض الكتب اليهودية والمسيحية الأخرى[27]؛ إذ يرى "بوسه" أن موقف محمد r تجاه اليهود والنصارى انعكس في روايات الكتاب المقدس التي اقتبسها وجعلها مناسبة عن طريق تحويلها لمطالب لدعوته، فالعهدين القديم والجديد وكذلك الكتب القانونية وغير القانونية تشكل بالنسبة لمحمد rوحدة واحدة، فأخذ بعضها من كتب العهد القديم – كما اتضح- وبعضها عن طريق وسيط نصراني[28].
كما يعدد "بوسِِه" ما اعتبره اقتباسًا قرآنيًا من روايات العهد الجديد في ثلاثة تراكيب كبرى، وهي: 1- ما ذكر في كل من سورتي آل عمران ومريم حول نسب يسوع، وما ورد في سورة المائدة حول معجزاته. 2- نبوءة يسوع ورسالته. 3- صورة مريم التي تقترب من التصور النصراني عن صورة يسوع القرآنية فهي العذراء التي وُهبت المسيح دون أن يمسها بشرا، وفيها سمات قالب الأم كثيرة الآلام كما توصف في انجيل يوحنا. وذلك بخلاف الآيات المتفرقة الموجودة في كل من سورة آل عمران 23-57، والمائدة 110-120، ومريم 1-23، والنساء 157-158[29].
وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى استخدام "بوسه" الجداول الإحصائية في تقسيمه للقصص والآيات القرآنية التي ردها إلى مصادر غير إسلامية[30]، مثال الجدول التالي:
السورة
الأعراف
يونس
هود
الذاريات
القمر
1 – الطوفان
59-64
71-73
25-48
(46)*
9-17
2- عقاب عاد
65-72

50-60
41-42
18-22
3- عقاب ثمود
73-79

61-68
43-45
23-32
4-عقاب سدوم
80-84

69-83
(31-37)
33-40
5- عقاب مدين
85-93

84-95


6-موجز 2-5
94-102
74



7-موسى والمصريين
103-173
75-93
96-99
(38-40)
41-42
وإذا كان "بوسِه" قد اعتمد في تقديم هذه الشبهة على فكرة تأثر الإسلام بالديانتين السابقتين له (اليهودية، النصرانية) ومصادرهما الأصلية، فإن تفنيد ذلك يتلخص في وجود العديد من الأدلة العلمية الموضوعية التي تثبت أن العكس هو ما حدث، فاليهودية تأثرت بالإسلام نتيجة التيارات الروحية التي غمرت الأولى لمئات السنين، الأمر الذي أدى إلى اقتباسها العديد من المسائل الدينية التي قتلتها المدارس الإسلامية بحثا، كما ظهر التأثير الإسلامي في العبادات اليهودية بطريقتين، أولا: استيعاب عادات تعبدية لا أساس لها في التقاليد اليهودية، ثانيا: إحياء عادات قديمة اندثرت عند اليهود تحت تأثير أسباب معينة[31].
أما المسيحية فقد تأثرت بالإسلام أيضا، ومن أبرز الأمثلة على ذلك تأثر المذهب البروتستانتي في عقيدته وأفكاره بالدين الإسلامي تأثرا كبيرا، فهذا المذهب ينكر استحالة العشاء الرباني كما ينكر حق الكنيسة في منح الغفران الرباني[32].
ب- موقف القرآن الكريم من أهل الكتاب:
ناقش "بوسه" هذه القضية من خلال عدة موضوعات مرتبطة جميعها بالمصطلحات القرآنية؛ فقد ناقش التسميات التي وردت بالقرآن الكريم حول أهل الكتاب (اليهود = أتباع الدين الموسوي = بني إسرائيل)، ( المسيحيون= نصارى)[33]، ثم انتقل لمناقشة مصطلح (أهل الكتاب) بشكل عام، والذي يرى فيه انعكاسا لموقف محمد r من اليهود والنصارى، والذي يعبر عن الموافقة غير المحدودة إلى التنصل الجوهري، حيث يشير "بوسه" إلى أنه في البداية شمل المصطلح كل من اليهود والنصارى وأصحاب الديانات الأخرى التي ثار بينها جدال، ولكن مع تزايد المعرفة تم التفريق بوضوح بين اليهود والنصارى ومع هذا التفريق أعلن فعلا الانفصال عنهما، والذي حدث في البداية عن اليهود ثم عن النصارى ثم حدث في النهاية الانفصال الكامل باللوم والاتهامات التي وُجهت لكل من اليهودية والمسيحية على حدا، أو لهما معا، والتي أصبحت سارية عليهما معا باستخدام مصطلح "أهل الكتاب" مطلقًا[34].
ويمكن تلخيص تفنيد هذه الشبهة فيما أورده "بوسه" نفسه حول أن النموذج القرآني يمثل الوحدة الدينية (إله واحد، ونص أصلي واحد أخذت عنه كل كتابات الوحي، وأمة واحدة، ونبي صاحب رسالة[35])، والتي يمكن القول بأنها انعكاس مباشر لموقف الإسلام من اليهودية والمسيحية، ذلك الموقف الذي اتخذه علماء تاريخ الأديان المسلمين أساسا لهم في دراساتهم للأديان السماوية الثلاث ( اليهودية، المسيحية، الإسلام)، فوحدة المصدر تمنع الاختلاف، والاعتراف بالديانتين السابقتين لا يعني القبول بكل ما هو موجود فيهما على صورته الحالية[36]، الأمر الذي يدلل على وجود موقف قرآني واضح من اليهودية والنصرانية، لم يتغير أو يتم تطويعه وفقا لمتغيرات مر محمد r أثناء دعوته.
كما يمكن أيضا تفنيد هذه الشبهة من خلال ما أورده "بوسه" في الفصل الأخير من كتابه الماثل للعرض، وذلك في استعراضه التاريخي للعلاقات بين أتباع الديانات السماوية الثلاث، وما ذكره من فتوحات إسلامية في بلاد يقطنها نصارى ويهود، والتي أكد من خلالها على "تسامح" الموقف الإسلامي ونبله، على خلاف الموقف المسيحي أو حتى اليهودي، بشكل يؤشر جليا على أن هذا الموقف المتسامح ما هو إلا انعكاس مباشر لما دعا إليه القرآن الكريم تجاه أهل الكتاب منذ البداية.


[1] تصدير الكتاب، ص 7.

[2] مقدمة المترجم، ص 11.

[3] أحمد محمود هويدي(د)، مدخل إلى الاستشراق ومدارسه، بدون ناشر، القاهرة، ص 110.

[4] نفس المرجع، ص 110.

[5] ساسي سالم الحاج (د)، الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية، مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطا 1991، ص 152-153.

[6] نفس المرجع، 147-150.

[7] ساسي سالم الحاج، مرجع سابق، ص 153.

[8] حسن حنفي(د)، التراث والتجديد..موقفنا من التراث القديم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، بدون تاريخ، ص 64، ساس الحاج(د)، المرجع السابق، ص 200.

[9] مقدمة المترجم، ص 16.

[10] ساسي الحاج، المرجع السابق، ص 201.

[11] هيربرت بوسه، ص 44.

[12] هيربرت بوسه، ص 175.

[13] هيربرت بوسه، ص 182.

[14] حسن حنفي، مرجع سابق، ص 73، ساس الحاج، مرجع سابق ص 202.

[15] مقدمة المترجم، ص 16.

[16] ساسي الحاج، ص 202.

[17] هيربرت بوسه، ص 69.

[18] هيربرت بوسه، ص 63.

[19] قسّم الأستاذ الدكتور/ حسن حنفي، في كتابه التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، المناهج الاستشراقية وفقا لتقسيم تراتبي تكاملي؛ إذ رأى أن كل منهج له وظيفة أو مهمة تكمل السابق له، وعلى إثر ذلك فضل عارض الكتاب تقسيم المناهج التي استخدمها "بوسه" وفق هذا الترتيب.

[20] حسن حنفي، المرجع السابق، ص 78.

[21] مقدمة المترجم، ص 16.

[22] حسن حنفي، مرجع سابق ص 80.

[23] نفس المرجع، ص 81.

[24] هيربرت بوسه، ص 1010.

[25] هربرت بوسه، ص 120.

[26] هربرت بوسه، ص 120.

[27] مقدمة المترجم، ص 20.

[28] هيربرت بوسه، ص 99.

[29] هيربرت بوسه، ص 149-150.

[30] هيربرت بوسه، ص 73.

* الآية الموضوعة بين أقواس عندما يكون التتابع مختلفًا.

[31] مقدمة المترجم، ص 21.

[32] مقدمة المترجم، ص 23.

[33] هيربت بوسه، ص 63-65.

[34] هيربت بوسه، ص 69-70.

[35] هيربرت بوسه، ص 66.

[36] أنظر: محمد خليفة حسن(د)، تاريخ الأديان....دراسة وصفية مقارنة، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2000، ص 14- 16 .
 
أرحب بالأستاذ أحمد في الملتقى في أول مشاركته في الملتقى.. وأشكر له مشاركته النافعة ..
 
اشكرك استاذي الفاضل الجليل على كل هذا الترحيب وكل هذه الحفاوة، وان دل ذلك انما يدل على طيب اصلكم اخلاقكم الرفيعة وحرصكم على خدمة كل ما ينتصر لكتاب الله عز وجل ...دمتم بخير دائما
 
شكر الله لكم، ومرحبا بكم في ملتقاكم.
كلمة (المسترق) في عنوان الموضوع هل هي مقصودة أم أنكم أردتم (المستشرق)؟
 
اشكر الأخ الفاضل ايت عمران كل الشكر
والحقيقة الصواب هو "مستشرق" وهو خطأ غير مقصود، ونظرا لأني حديث العهد بالاشتراك في الملتقى فلم اعرف كيفية تصحيح هذه الكلمة بالعنوان
خالص تحياتي
 
عودة
أعلى