عرض كتاب د. دراز (دستور الأخلاق في القرآن) - عبد الرحمن حللي

إنضم
23/01/2007
المشاركات
1,211
مستوى التفاعل
2
النقاط
38
الإقامة
كندا
الموقع الالكتروني
www.muslimdiversity.net
المصدر: موقع الملتقى الفكري للإبداع


الكتاب:دستور الأخلاق في القرآن / دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن
المؤلف: د.محمد عبد الله دراز
تعريب وتحقيق وتعليق:د.عبد الصبور شاهين
مراجعة:د.السيد محمد بدوي
طبع: ط:1 مؤسسة الرسالة – بيروت ، ودار البحوث العلمية – الكويت 1973م.

يمثل القرآن الكريم المصدر المؤسس للحضارة الإسلامية، فهو محور علومها، إما استنباطاً لها منه، أو حضاً منه عليها للبحث عنها في مصادرها، وتعتبر الأخلاق والعقائد من الموضوعات الأساسية التي اتفقت عليها رسالات الأنبياء، وتلاقت مع فطرة الإنسان، بل إنها في قسم كبير منها من القضايا المشتركة بين الإسلام والأديان الأخرى، فأهم ما جاءت به الأديان إصلاح حال الإنسان، والارتقاء به إلى مستوى رفيع من العلاقة مع الله والناس.

فإذا كانت العقائد والأخلاق والشرائع هي ما يميز الأديان، فإن من البدهي أن تشتمل نصوص كل دين على ما يكشف عنها ويبينها لأتباعه، وعليه فإنه من الطبيعي أن يعالج القرآن القضية الأخلاقية ويتضمن حولها ما يؤسس رؤية متكاملة حول النظرية الأخلاقية في الإسلام، بل إن أهم وظيفة للقرآن في حياة الإنسان تقتضي ذلك، فالقرآن كتاب هداية، "إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ" (الإسراء:9)، والأخلاق جزء من هذه الهداية التي جاء بها القرآن .

وبحثاً عن هذه الهداية نشأت العلوم الإسلامية تستكشف القرآن جواباً عن قضايا المعرفة وأسئلة الواقع، ولم تكن تلك العلوم بمعزل عن مسار المعرفة في التاريخ، إذ دخلت المعارف الفلسفية في الحضارة الإسلامية، فتم استيعابها من قبل علماء المسلمين وتوظيف أدواتها في صياغة العلوم، وخضعت للنقد والجدل، وكانت الأخلاق في صميم تلك المعارف التي أخضعت للنقد والتنظير الفلسفي، وقد تم ذلك بالموازاة مع مسار آخر للأخلاق هو السلوك العملي والتطبيق الميداني للتعاليم الأخلاقية، وقد خضع هذا الجانب هو الآخر للتدوين، لكنه لم يكن تنظيراً علمياً إنما من قبيل كتب النصائح والرقائق والأدب والتربية.

في ظل هذا المسار من التنظير الإسلامي في علم الأخلاق الملتبس بصيغة فلسفية حكمت مسار العلوم عموماً، ظهرت محاولة للبحث عن النظرية الأخلاقية من خلال القرآن مجردة عن التأثير الفلسفي في التنظير، وأبرز هذه المحاولات دراسة المرحوم الدكتور محمد عبد الله درَّاز (ت:1958م)[1] والتي عنوانها (دستور الأخلاق في القرآن : دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن)، وهي أطروحة دكتوراه بالفرنسية نوقشت في 15/12/1947م، في جامعة السوربون، وكان المشرف عليه المستشرق المعروف لويس ماسينيون (M. Louis Massignon) ، وسنعرض هذه الأطروحة عرضاً شاملاً يعرف بمفاصلها، وذلك بمناسبة مرور نصف قرن على رحيل الشيخ دراز، وحفزاً للباحثين لإعطاء هذه الشخصية المكانة التي تليق بها، حيث أهملت أعماله، فلم تترجم أطروحته إلا بعد ربع قرن من تأليفها، كما لم تقد دراسات عن أعماله فيما قدمت أشياء كثيرة عمن هو دونه علماً وأهمية.

في نقد الدراسات السابقة

كان دافع الشيخ محمد عبد الله دراز لدراسته ما لاحظه من وجود فراغ هائل وعميق في مؤلفات علم الأخلاق العام إذ وجد فيها قفزاً من الوثنية الإغريقية إلى أديان اليهودية والمسيحية إلى العصور الأوربية الحديثة مع إغفال ما يمس علم الأخلاق القرآني، أما الدراسات العامة حول الإسلام في القرن التاسع عشر، فقد وجدت فيها محاولات استشراقية لاستخراج المبادئ الأخلاقية من القرآن، لكن إطارها كان محدوداً، إذ انحصرت جهودهم في أن جمعوا عدداً من الآيات القرآنية وترجموها ترجمة حرفية، ومن نماذج هذه المحاولات "القرآن : مبادئه وواجباته" (باريس1840م) للمستشرق جارسان دي تاسي Garcin de Tassy ، الذي يعتبر أول من استهل هذا المجموعة من النصوص المختارة، وتبعه آخرون.

أما من حيث المضمون فهي بعيدة عن المطابقة الدقيقة للنظرية القرآنية، وترجع عيوب المضمون إلى: "ترجمات غير صحيحة وإما إلى تلخيص سيء، وإما إلى الأمرين معاً، وهو ما نجده واضحاً لدى المستشرق جول لا بوم Jules La Beaume ، في كتابه تحليل آيات القرآن " (باريس 1878) وهو مع ذلك أقل الأعمال التحليلية في هذا المجال بعداً عن التمام" (دستور الأخلاق، ص:3)

أما المكتبة الإسلامية فيلاحظ أنها لم تعرف سوى نوعين من التعاليم الأخلاقية: فهي إما نصائح عمليه هدفها تقويم الأخلاق، مثل رسالة ابن حزم "مداراة النفوس"، وإما وصف لطبيعة النفس وملكاتها وتعريف للفضيلة وتقسيم لها وإما توصيف لطبيعة النفس وملكاتها ثم تعريف للفضيلة وتقسيم لها، ترتب غالباً على النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي، وربما تعاقب المنهجان معاً كما في كتاب الذريعة للأصفهاني[2] وفي كتب الغزالي لاسيما كتابه "إحياء علوم الدين".

وما وجد من مقاربات لقضايا أخلاقية في العلوم الإسلامية كالحسن والقبح والمسؤولية والأخلاق الصوفية، فإنها كانت أفكاراً متناثرة في مختلف المذاهب، وكانت تصدر عن روح المذهب الذي ينتمي إليه مؤلفوها، والقرآن لا يرد ذكره فيها إلا بصفة مكملة شاهداً أو برهاناً على فكرة أو أخرى سبق الأخذ بها. (دستور الأخلاق، ص:5)

وأما في المجال العملي فقد حاول الغزالي في كتابه "جواهر القرآن" أن يحلل جوهر القرآن، وأن يرده إلى عنصرين أساسيين أحدهما يتصل بالمعرفة (763 آية) والآخر بالسلوك (741 آية)، لكن هذا التصنيف لم يعقبه ما يبنى عليه، كما أنه صنفه على ترتيب السور، فكانت مجرد جمع لمتفرقات لا تربط بينها قرابة، ولا يظهر فيها تسلسل للأفكار، ففقدت الوحدة الأولى لكل سورة، ولم توجد وحدة منطقية تربط بين الأجزاء المختارة، أو تصنيف منهجي تقتضيه قاعدة التعليم. (ص:7)، وهذا شأن كتب أحكام القرآن أيضاً، فلم تحظ الأخلاق العملية بتأليف متماسك.

ويصل دراز من نقده لهذه المصادر إلى أنه لم ينهض أحد باستخلاص الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه، ولم يقدم أحد مبادئها، وقواعدها في صورة بناء متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه.

في منهج الدراسة

كان السؤال الجوهري لمحمد عبد الله دراز في أطروحته هو: كيف يصور القرآن عناصر الحياة الأخلاقية؟، وكان هدفه الرئيسي في أطروحته إبراز الطابع العام للأخلاق التي تستمد من القرآن من الناحيتين النظرية والعملية، محاولاً فيها أن يسد ثغرة في مؤلفات علم الأخلاق العام، فكان هدفه صريحاً "ملء هذه الفجوة في المكتبات الأوربية، وحتى نري علماء الغرب الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، وذلكم في الواقع هو هدفنا الأساسي من عملنا هذا" (دستور الأخلاق، ص:4).

ويميز ابتداء بين فرعين لعلم الأخلاق هما النظرية والتطبيق، ففي الجانب العملي استخلص النصوص ذات الصلة بالموضوع، لكنه لم يلتزم أن يستوعبها إنما يكتفي بما يدل على القواعد المختلفة للسلوك، مع تجنب التكرار، كما اعتمد النظام المنطقي في التصنيف بدل ترتيب السور أو الترتيب الأبجدي، وذلك حسب العلاقة التي سيقت القاعدة لتنظيمها.

أما في الجانب النظري فقد ركز اهتمامه على المجال الأخلاقي، ووضع كل مسالة في المصطلحات التي تصاغ بها لدى الأخلاقيين المحدثين، واتخذ من القرآن نقطة انطلاق للإجابة على كل مسألة، وبالرجوع المباشر إلى النص، وقد لاقى صعوبة كون النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية ليست بالكثرة والوضوح اللذين تمتاز بهما الأحكام العملية. (دستور الأخلاق، ص:13).

ويتساءل هنا تساؤلاً جوهرياً هو:"هل القرآن كتاب نظري؟ أو هل يمكن أن يلتمس فيه ما يلتمس، من المؤلفات والأعمال الفلسفية؟" (ص:13)، ويسجل في إجابته الفروق بين التعليم القرآني والتعليم الفلسفي من حيث المصادر أو المناهج، لكن في الموضوع والهدف فإنهما يلتقيان، "فليس يكفي أن نقول: إن القرآن لا ينكر الفلسفة الحقة، وليدة التفكير الناضج، وعاشقة اليقين، ولا يكفي كذلك أن نقول: إنه يوافقها ويشجعها، وإنه يرتضي بحثها المنصف، بل ينبغي أن نضيف إلى ذلك: أنه يمدها بمادة غزيرة في الموضوعات، وفي الاستدلالات" (ص:15).

يلاحظ أن القرآن إن لم يقدم الحقائق الأساسية مجتمعة في نظام موحد، فإنه مشتمل على جميع العناصر الأساسية للفلسفة الدينية: أصل الإنسان، ومصيره، وأصل العالم ومصيره..

فالجهد الأكبر في الدراسة انصب في البحث عن أسس النظرية الأخلاقية في القرآن، ويصل إلى أن القرآن وضع قاعدة للسلوك شاملة ومفصلة وأتبعها بقواعد من المعرفة النظرية أعظم متانة وأشد صلابة.

وكان تصوره الأولي لمشروع عمله هو عرض القانون الأخلاقي المستمد من القرآن وبيانه النبوي، لكن لويس ماسنيون M. Louis Massignon أشار عليه أن يقارن بنظريات المدارس الإسلامية المشهورة، كما أن رينيه لوسن M. Rene Le Senne اقترح عليه أن يقارن ببعض النظريات الغربية، فاعتمد المقارنة في دراسته.

وكخلاصة لمنهجه يمكننا القول: إنه اعتمد التأليف المنهجي والتصنيف الجامع، فقسم عمله إلى دراسة نظرية وأخرى عملية، وقد استخلصها من القرآن الكريم، لكنه عالج المسائل الأخلاقية بحسب المفاهيم التي تعالج بها عند علماء الأخلاق المحدثين، فكان مفتاح الدراسة مصطلحات غربية في علم الأخلاق، أما في المضمون فكانت المادة العلمية قرآنية مقارنة بالدراسات الإسلامية السابقة وببعض الدراسات الغربية.

الأخلاق العملية:

يحدد خصائص وسمات الأخلاق العملية في القرآن بما يلي:

- حافظ القرآن على ما سبقه وكان استمراراً له، وتميز عنه بضمه جوهر القانون الأخلاقي كله.

- طريقة القرآن في صياغة دروس الماضين وتقريبها تميزت بتقديم تنوعها في وحدة لا تقبل الانفصام.

- ضم القرآن فصولاً جديدة كاملة الجدة في التعاليم الأخلاقية، وختمت إلى الأبد العمل الأخلاقي.

- تميز المنهج القرآني بالبساطة والوضوح، فكانت أقواله المبينة للقواعد الأخلاقية بين المجرد الغامض والمبهم وبين الحسي المفرط في الشكلية.

- يطمئن الأسلوب القرآن النفس الإنسانية إلى سعادة مزدوجة تجمع بين النقيضين، الخضوع في الحرية، واليسر في المجاهدة، وذلك بفضل أسلوبه المتمثل بلطف في حزم، وتقدم في ثبات، وتنوع في وحدة.

- استبعاد المبالغة والإفراط في (كيف؟ وكم؟) من القواعد القرآنية، ليتسنى للفرد أن يمارس طاقته العقلية والجسمية والخلقية بطريقة تختلف عن غيره.

وقد سرد نصوص الأخلاق العملية مصنفة في آخر الكتاب (ص:686-778)، وذلك في خمسة فصول هي : (الأخلاق الفردية، الأخلاق الأسرية، الأخلاق الاجتماعية، أخلاق الدولة، الأخلاق الدينية)، ثم ختمها بنصوص تجمع أمهات الفضائل الإسلامية، واكتفى في هذا القسم بسرد النصوص مصنفة حسب الفصول مع عناوين جزئية، وهي تمثل جواباً للتساؤل الذي يعقب العرض النظري للأخلاق: ماذا يجب أن أعمل؟ فالأخلاق العملية تجيب عن ذلك إذ نرى فيها طريقاً مرسوماً لنشاطنا في كل ميادين الحياة. (دستور الأخلاق، ص:688).

الأخلاق النظرية:

أما الأخلاق النظرية فقد قسم دراسته لها إلى خمسة فصول هي: (الإلزام، المسؤولية، الجزاء، النية والدوافع، الجهد)، وهي كما نرى من عناوينها مصطلحات حديثة درس من خلالها النص القرآني باحثاً عن سمات الواجب وعن طبيعة السلطة التي ينبعث عنها الإلزام أو التكليف، وعن درجة المسؤولية الإنسانية وشروطها، وعن طبيعة الجهد المطلوب للعمل الأخلاقي، والمبدأ الأسمى الذي يجب أن يحفز الإرادة للعمل، فاستخلص صيغاً تجيب عن سؤاله الجوهري: كيف يصور القرآن عناصر الحياة الأخلاقية؟

الإلزام

يرى أن الضمير الإنساني هو علامة التوحيد بين ثنائيات المثل الأعلى والواقع والمطلق والنسبي، ودوره هو التقريب بين هذين الطرفين، والربط بينهما في صورة العمل المتولد من اقترانهما، ويرى أن هذا هو نفس إدراك التكليف الذي يستخلص من المفاهيم القرآنية، كقوله تعالى:" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"(التغابن:16)، فهذه الكلمات تلفت أنظار المكلف نحو السماء، وتثبته على أسس متينة من الواقع، فيجتمع الطرفان المتعارضان: خضوع للقانون وحرية للذات، وهذا ممكن لأن الضمير الذي يخاطبه القرآن مستنير بفضل تعليم إيجابي حددت فيه الواجبات ورتبت بدرجة كافية، بل هو تعليم قائم على مواجهة واقع حي ومراعى إلى أقصى حد. (ص:126-127)

"والأمر الجوهري بالنسبة لي كمؤمن هو أن أبذل جهدي في حال الالتباس، وأن أميز وأتبع بأمانة وإخلاص، ما يمكن أن يكون من أمر الله، تبعاً لمجموع تعاليمه. ولو كان الحل الذي اجتهدت فيه واخترته منحرفاً، فلن أكون آثماً، متى ما بذلت جهدي الضروري، الذي يصدر عني، لإضاءة طريقي، والله يقول:"وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"(الأحزاب:5)" (ص:128).

فالتكليف القرآني يضع الإنسان في مكانه الصحيح، وفي الظروف التي تناسبه على وجه التحديد، ما بين الفطرة والعقل المحض، فهو لا يحدد قواعد الشريعة إنما يحدد واجباته المادية ابتداء من هذه المثل العليا بقدر وسعه. (ص:133).

المسؤولية

المسؤولية تفترض إلزاماً مسبقاً، وبالتالي فالحساب يجب أن يكون موضوعه الطريقة التي تم بها أداء عمل إلزامي أو إهماله، والإمكان والضرورة هما الصفتان اللتان تكونان مجالي المسؤولية وعدم المسؤولية، كل على حدة، والمسؤولية دينية واجتماعية وأخلاقية، "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"(الأنفال:27)، بل إن كل مسؤولية هي مسؤولية أخلاقية، كما يتجلى ذلك في نصوص قرآنية كثيرة تقرن مسؤولية العمل الدنيوية بمسؤولية أخروية.

أما شروط المسؤولية الأخلاقية والدينية فهي الطابع الشخصي " وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ"(النساء:111)، والنصوص في هذا كثيرة، ولا ينقضها ما ورد من آيات تؤكد تحمل المرء المذنب إثم أتباعه "وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ"(العنكبوت:13) ، فما تفيده هذه النصوص أن هؤلاء سيحملون جزاء عملهم كاملاً، ويشاركون في مسؤولية من تبعهم دون أن يخفف ذلك من عبء مسؤولية الأتباع وجزائهم، فمسؤولية القادة عن أتباعهم المضافة إلى مسؤوليتهم عن ذنبوبهم ترجع إلى إسهامهم بقدر معين في معصية القطيع، فإنهم يجدون أنفسهم ذوي مسؤولية إضافية، وعندما تنعدم السببية أو التوسط بين مسؤولين كثيرين تنكمش المسؤولية وتنفرد "قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ"(سبأ:25). (ص:153)

كما لا ينفي الطابع الشخصي مبدأ الشفاعة إذ دور الشفيع هو إعلان الصفات والحسنات الصالحة التي تعوض سيئات المؤمنين، وذلك بعد أن يأذن الله بها، ولا تكون إلا لمن يرتضي الله قبوله، وهيهات أن تكون رابحة، إذ قد يرجع الشفيع عندما يعلم أموراً جهلها، فالشفاعة جزء من جهاز العدالة المعقد يوم القيامة. (ص:161).

أما الأساس الثاني الذي تستند إليه المسؤولية بعد طابعها الشخصي فهو الأساس القانوني، فلا حساب ما لم يكن هناك علم مسبق بأحكام الأفعال، والإعلام بها إما داخلي يرجع إلى الفطرة والعقل، على اختلاف بين المدارس الإسلامية في مستويات ما يسأل عنه هذا النوع من العلم بأحكام الأفعال، ويتمسك أهل السنة بظاهر ما بينه الله "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا"(الإسراء:15)، وعللت عدم الإلزام بالفطرة آية أخرى هي قوله تعالى"رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(النساء:165)، "والحقيقة أن الله أوجب على نفسه أن يعلم الناس قبل أن يحملهم مسؤوليتهم، لأنه يرى من الظلم تعذيب القرى التي تغفل عن واجباتها، لأنها لم تعرفها: "ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ"(الأنعام:131)، "وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ- ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ"(الشعراء:208)" (ص:165).

والعلم بالقانون هنا يقتضي ضرورة إبلاغه إلى علم المكلف، سواء بالتربية أو النشر أو الصدفة، أم بسعي المكلف نفسه وبحثه، فالقرآن عندما تحدث عن الأقوام السابقين أشار إلى وصول التعليم الإلهي إليهم، وهذا يشمل القرآن " وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ" (الأنعام:19).

أما الشرط الثالث لتحمل المسؤولية فهو توفر العنصر الجوهري في العمل، "لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ"(البقرة:225)، فـ"النية شرط ضروري للأخلاقية، وهي على ذلك شرط للمسؤولية، ولكنها ليست بأي حال شرطاً كافياً لهذه أو تلك" (ص:180).

أما الشرط الرابع للمسؤولية فهو الحرية، " مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"(النحل:106)، ويشير إلى أربعة عناصر توضح المشكلة: غيبية أفعالنا المستقبلية "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"(لقمان:34)، وقدرة الإنسان على أن يحسن أو يفسد كيانه الجواني "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا"،(الشمس:9-10)، وعجز جميع المثيرات عن أن تمارس إكراهاً واقعياً على قراراتنا "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ"(إبراهيم:22)، والإدانة القاسية للأعمال الناشئة عن الهوى أو التقليد الأعمى "وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ"(الأعراف:176)، "إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَاءَهُمْ ضَالِّينَ-فَهُمْ عَلَى ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ"(الأعراف:69-70)

فالمبدأ القرآني للمسؤولية مبدأ فردي يستبعد كل مسؤولية موروثة، أو جماعية بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن هذه المبادئ قد يرد عليها بعض الاستثناءات في الميدان الفقهي، لكن العمل الإرادي للفرد المزود بالعقل، هو الموضوع الدائم والوحيد للمسؤولية، وتبقى نية فعل الشر شرطاً ضرورياً للعقاب. (ص:242).

الجزاء

الجزاء هو رد فعل القانون على موقف الأشخاص الخاضعين لهذا القانون، وإذا كان القانون الأخلاقي لا يتضمن تنفيذه أو انتهاكه أية نتيجة لصالح الفرد الذي يفرض عليه، أو ضده، فإنه لن يكون ملزماً، لكن السؤال فيم يتمثل هذا الجزاء، لا بد أن نستبعد كل فكرة للثواب والعقاب تؤثر في حواسنا الخارجية، لأنها لا تسمى أخلاقية كما أنها ليست ضرورية، كما أن ندم الضمير ورضاه ليس كافياً كعقوبة أو مكافأة للقانون الأخلاقي، فالمتعة والألم هما رد فعل لضميرنا على ذاته أكثر من أن يكونا رد فعل للقانون علينا. (ص:246-248)

إن الجزاء الأخلاقي في القرآن هو التوبة، فهي تفترض جهداً وواجباً جديداً يفرضه الشرع علينا على إثر تقصير في الواجب الأولي، وهي واجب لا يحتمل التأخير " وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ"(النساء:18)، فالتوبة جزاء إصلاحي يتضمن إعادة تجديد البناء الذي تهدم بصورة منهجية، لذلك اقترنت كلمات التوبة بكلمات الإصلاح والإحسان في القرآن، " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا"(البقرة:160- النساء:146)، "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"(النور:5-آل عمران:89)، فالتوبة إصلاح للماضي وتنظيم لمستقبل أفضل، فالإصلاح تدارك للماضي، وتعويض للنقص الذي حصل "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" (هود:114)، " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا"(التوبة:103). (ص:251-253).

فالجزاء الأخلاقي الثوابي يتمثل في الحسنة والسيئة، أي كسب القيمة أو خسارتها، أما الجزاء القانوني (النظام العقابي في التشريع الإسلامي) فيميز فيه بين مستويين الأول العقوبة المحددة بدقة، ولا يتوقف تطبيقها لا على حالة المذنب ولا على مشاعر الضحايا، فهي من شأن الصالح العام، وهي عقوبات لجرائم محدودة(الحرابة، السرقة، شرب الخمر، الزنا، القذف)، ويلاحظ في هذا السياق أن العقوبات كلما كانت أشد تنكيلاً قل غالباً تطبيقها، فهي قسوة في السياق النظري لا العملي. أما الجرائم الأخرى فتنتمي إلى المستوى الثاني وهو المتروك للقضاء. (ص:262-245).

هذا الجزاء الأخلاقي والقانوني دنيوي ومرتبط بالواقع، ويقابله جزاء إلهي أخروي، يعتبر أساساً في نظام التوجيه القرآن ووصاياه، والتي ترجع ثلاث طوائف هي :

المسوغات الباطنة وهي الرجوع في دعم التكليف عقلياً على قيمة أخلاقية مرتبطة بهذا التكليف، وهي قيمة إيجابية في الأمر سلبية في النهي، وهي قيمة موضوعية كالحق والباطل والعدل والظلم، "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ"(الرعد:17)، ويسرد نماذج قرآنية كثيرة وبأساليب مختلفة لهذا النوع من المسوغات (ص:285-319).

أما المجموعة الثانية من الوصايا القرآنية، فهي تلك التي تراعي الظروف المحيطة وموقف الإنسان، فهو إما متقبل بوضوح ومتجاوب مع الأمر الإلهي، فيناسبه قول مشجع " وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ"(البقرة:215)، أو متجاوب عموماً لأحكام الشرع، لكنه لا يستبعد إمكان الخطأ، وهذا في مرحلة ما قبل العمل، فيصدر الأمر بصورة مجردة بعض الشيء، " تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(البقرة:134)، أو يكون موقف الإنسان طائعاً من حيث المبدأ مع احتمال التغيير لظروف خاصة، فيأتي التكليف أشد صرامة ويغلب عنصر المنع على عنصر الدفع، " فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"(البقرة:181)، أو يكون موقف الإنسان هو التمرد والمجاهرة، فيأتيه الخطاب الوعيد، " أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ"(فاطر:8). (ص:319-328)

أما المجموعة الثالثة من الوصايا القرآنية فهي التي تنبه إلى اعتبار النتائج المترتبة على العمل، كالنتائج الطبيعية، سواء كانت آثارها فردية أو عامة، " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ"(المائدة:101)، " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(البقرة:179)، " وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا"(الإسراء:29). (ص:328-331)

أما طبيعة الجزاء الإلهي فهو شامل، منه عاجل ومنه آجل، ومنه أخلاقي روحي، ومنه مادي خالص، "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3).... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا"(الطلاق:4)، ومنه ما يتصل بجماعة المؤمنين " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ"(الروم:47)، وفيه ما يعزز الفطرة والجانب الأخلاقي والعقلي " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"(العنكبوت:69)، وكذلك الجانب الروحي، " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ"(البقرة:152)، والآيات التي تتحدث عمن يحبهم الله ومن لا يحبهم كثيرة جداً، وقد عرض في الكتب لأنواع الجزاء الإلهي الدنيوي والأخروي، مع إحصاءات لها.(ص:343-402).

ويصل في النهاية إلى تأكيد أن النظرية القرآنية في الجزاء تستهدف النفس الإنسانية بكل قواها، وفي كل أعماقها، وتدعو جميع الناس بطبقاتهم ودرحات عقولهم.

النية والدوافع

"من الناحية الأخلاقية لا يمكننا أن ندخل في باب الأخلاق أي عمل إذا لم يكن شعورياً وإرادياً وانعقدت عليه النية في آن واحد" (ص 429)، فالقرآن يتطلب منا الشعور النفسي وحضور الذهن فيما نقول ونفعل، " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" (النساء:43)، كما يتطلب منا الضمير الأخلاقي رضا القلب وتلقائية الفعل " وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ"(التوبة:54)، ويلخص الأمثلة القرآنية الكثيرة الحديث المعروف في صحيح البخاري "إنما الأعمال بالنيات" والذي يعني أن الأعمال لا توجد (أخلاقياً) إلا بالنوايا (ص 431)، لكن المسلك الحسن لا ينحصر في حسن النية وحدها، بل في مجموع من الشكل، والمادة، بحيث لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر، (ص 443)، فإذا كان العمل بلا نية كان باطلاً أخلاقياً، وإن حضر العمل مع النية وكانت سيئة كنا عملاً لا أخلاقياً، وإن لم يطابق العمل النية كان انحرافاً، فإذا تطابق العمل والنية مع حضورهما كانت (الأخلاقية الكاملة) مع أفضلية النية، (ص 462)، إما إذا وجدت النية من غير عمل "فإن للنية دائماً أجرها، ولكنها كلما اقتربت من العمل غنيت بالقيم، بحيث لا تبلغ قيمتها إلا في العمل التام" (ص 467)، ويصل في النهاية إلى أن النية خير، والعمل القائم على نية الخير ارفع، لأنه العمل الأخلاقي الكامل (ص 470).

وفي دراسته لدوافع الخير وبعد استعراضه شواهد وأمثلة من النصوص يصل إلى أن في الأخلاق منطقة وسطى بين الحسن والقبيح، وأن تدخل النية الحسنة يجعل الأعمال المباحة أو التي قلما ندب إليها الشرع حسنة وجديرة بالثناء. (ص 536)، وكذلك النيات السيئة مؤثرة ايضاً، فان البواعث التي تنضاف إلى إرادة الطاعة تعرض قيمة العمل للخطر وتحركه من رضا الله تبارك وتعالى (ص 567).

الجهد

المطالبة باستخدام الطاقة الأخلاقية ترددت كثيرا في القرآن، كالدعوة المستمرة لبذل الجهد المستمر لفعل الخير ومقاومة الهوى واحتمال الشرور وكظم الغيظ، أو أداء الواجبات، دون أن يفرض على الإنسان ما ليس باستطاعته، بل أدخل القرآن الفكرة الجهد في تحديد الإيمان الصادق نفسه: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"(الحجرات:15)، (ص 588).

ويفرق القرآن بين نوعين من الجهد، جهد المدافعة للميول الخبيثة التي تحث على الشر، وأمثلة ذلك في القرآن الحديث قهر الشهوات ونهي النفس عن الهوى، (ص 594) والجهد المبدع بالبحث الجاد عن الخير، والاختيار الصالح من احتمالاته، والبحث عن الأفضل من مستويات الصالح، (ص 613)، "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (المائدة:43)، والأفضل هنا ليس حداً أعلى، إنما للمقارنة، فهو كل امتداد يقع فوق التكليف، يتنافس فيه الناس ويرقي كل واحد منهم إليه بالتدريج (ص 622)

ما ذكر يتعلق بالجهد الباطني أما الجهد البدني فإن أخلاق القرآن لم تأمر بالبحث عن الألم البدني، بل حرمته، " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"(المائدة:87)، وبالتالي فالجهد البدني لا يمكن أن تكون له قيمة منفصلة عن مضمونه، فالأمر به في القرآن من هذه الناحية، (ص 631)، وليس في أي من النصوص الآمر به أية إشارة إلى اعتبار الألم البدني واجباً، أو نتيجة من نتائج الواجب التي تستهدفها الشريعة، بل إن القرىن يعفي الإنسان مما يتجاوز مقدوره، ويلزمه بتسخير قواه في سبيل المثل الأعلى بما لا يستهلك حياته ويستنفد قواه، (ص 653)، فالقرآن لا يدعونا إلى بذل أقل الجهد، وهو لا يرضى لنا أن نرتد أمام المشقات الأولى "بل إن شعاره دائماً هو: جاهدوا – اصبروا – صابروا – افعلوا الخير"، فالاعتدال الذي يمدحه الإسلام يتمثل في نبل يقترب بقدر الإمكان من الكمال، مقروناً بالسرور وبالأمل (ص 674).

الخاتمة

يختم العلامة محمد عبد الله دراز حديثه عن الأخلاق النظرية قائلاً " لو افترضنا أن الإنسانية سوف تبقى أبداً، وأنها سوف تغير ظروف حياتها إلى ما لا نهاية، فإننا نؤمل أن تجد في القرآن أنى توجهت قاعدة لتنظيم نشاطها أخلاقياً، ووسيلة لدفع جهدها، ورحمة للضعفاء، ومثلاً أعلى للأقوياء. وأدنى ما يمكن أن نقوله في الأخلاق القرآنية: إنها كفت نفسها بنفسها على وجه الإطلاق، فهي أخلاق متكاملة" (ص 684).

وبدورنا في ختام هذا العرض الشامل يمكننا القول إن دراسة الأخلاق من خلال القرآن تمثل مدخلاً أساسياً لفهم النظرية الأخلاقية في الإسلام، وبالتالي فهم كثير من المشكلات التي تحول بين المسلمين وبين تمثل تلك الأخلاق، فهي أخلاق متكاملة ولا بد من التعامل معها ككل، وتمثل دراسة الدكتور دراز نقلة نوعية في دراسة الأخلاق في الإسلام، لكنها التبست بمداخل الفلسفة الأخلاقية الحديثة وفرضت المقارنة عليه الانطلاق في التأصيل من مصطلحات غير قرآنية، لكن دراسة أخرى قريبة العهد به شكلت نقلة نوعية أيضاً في دراسة الأخلاق القرآنية، وهي دراسة الباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو حول "المفهومات الأخلاقيّة ـ الدّينيّة في القرآن" Ethico – Religious Concepts in the Quran ، وتميزت باكتشاف المنظومة القرآنية للأخلاق من خلال المفهومات القرآنية لكنها اقتصر على الأخلاق الدينية، ولعل الدكتور دراز كان يطمح أن يقوم بعمل من هذا النوع، أعنى أن تكون دراسته قرآنية بحتة، لكن شروط البحث الجامعي اقتضت منه المقارنة، ومع ذلك فإن كلا الدراستين لم تحظ بالاهتمام الذي يليق بهما رغم مضي زمن على صدورهما، ولعل مرور نصف قرن على رحيل الشيخ دراز يكون فرصة لإعادة الاهتمام بأعماله، وكذلك صدور ترجمة عربية لكتاب المرحوم ايزوتسو[3] توفر فرصة للتعرف على إنتاجه المهم، وبالخصوص في مجال دراسة الأخلاق القرآنية.

ـــــــــــــــــــ

(*) أعد هذا العرض لموقع ببليوإسلام

الإحالات:

[1] انظر : عبد الرحمن حللي، نصف قرن على رحيل محمد عبد الله دراز، موقع الملتقى الفكري للإبداع http://www.almultaka.net/index.php).

[2] ألف الأصفهاني كتابه لبيان مكارم الشريعة التي يستحق بها الإنسان أن يوصف بكونه خليفة الله، وقد نقل صاحب كشف الظنون أن الإمام الغزالي كان يستصحب كتاب الذريعة دائماً ويستحسنه لنفائسه, والغزالي عموماً متأثر بكتب الراغب وينقل عنها.

[3] ترجم الكتاب الأستاذ الدكتور عيسى علي العاكوب، وقدر صدرت الترجمة هذا العام عن دار الملتقى بحلب، وكان المترجم عرَّب كتاب إيزوتسو الآخر "بين الله والإنسان في القرآن:دراسة دلالة لنظرة القرآن إلى العالم"، وقد صدر عن نفس الدار عام 2007.​
 
عرض موجز جيد وتفصيل البحث الممتع للدكتور محمد عبد الله دراز وحيد عصره وفريد دهره ، أكثر إمتاعاً ، خاصة أن الشيخ المرحوم ـ بإذن الله تعالى ـ والذي وافته المنيَّة في مؤتمر في باكستان كالشيخ الغزالي الذي وافته المنية في مؤتمر الجنادرية بالرياض ، كان ملهما فيما كتب إذ أنه لم يكن من المكثرين إلا أنه كان من الموفقين ، ولنا أن نقف على مدى موسوعية الشيخ من خلال عطاء الرحمن له في كتابه " النبأ العظيم نظرات جديدة في تفسير القرآن " لكأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من الذكر الحكيم .
شكر الله للأستاذ محمد بن جماعة وأثابه خيراً كثيراً.
 
عودة
أعلى