موقع الدكتور عمر المقبل
New member
[TABLE="width: 100%, align: center"]
[TR]
[TD]
أشرت في المقال الماضي [عبرة من ترجمة إمام أهل البصرة 1] إلى أهمية البحث عن أسرارِ التميز في سير العظماء والمؤثِّرين.
وقد ذكرتُ ثلاثةً من تلك المزايا التي تميز بها إمام أهل البصرة في زمانه: الحسن البصري رحمه الله، وهي -باختصار-:
أولاً: عمله بعلمه.
ثانياً: عنايته بفهم القرآن، وتأثره به؛ خُلقاً وعملاً.
ثالثاً: دأبه في تحصيل العلم، والتزود منه، وعدم الاكتفاء بقدر منه حصّله إبان شبابه وقوة جلَدِه.
وتتمة هذه المفاتيح فيما يلي:
رابعاً: مواقفه الواضحة أيام الفتن التي عصفت بالأمة في وقته.
يقول تلميذه يونس بن عبيد: كان الحسن من رؤوس العلماء في الفتن والدماء.
أي: من العلماء الذين لهم بَصَرٌ، وعقلٌ، وبُعْدُ نظر في هذه الفتن، التي قال عنها الحسن نفسه: إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كلُّ عالمٍ، وإذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل([1]).
ولعلّ أصعب فتنة عاشها هذا الإمام، هي فتنة ابن الأشعث؛ التي وقعت سنة (81هـ)([2])، لكن الحسنَ -رحمه الله- كان رأيه فيها واضحاً منذ وقت مبكر.
روى ابنُ سعدٍ أنه لما كانت فتنةُ ابن الأشعث، حين قاتل الحجاجَ بنَ يوسف نفرٌ من العرب، فدخلوا على الحسن، فقالوا: يا أبا سعيد! ما تقول في قتال هذه الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل...؟ قال: وذكروا من فعل الحجاج. قال: فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. قال: فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج -يقصدون أنه أعجمي ونحن عرب-! قال الراوي: فخرجوا مع ابن الأشعث، فقُتلوا جميعاً([3]).
وكان الحسن يقول -إبّان تغيّظ الناس على الحجاج، ورغبتهم في التخلص منه-: والله ما سُلِطَ الحجاجُ إلا عقوبةً فلا تعترضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع([4]).
وقال مرةً: لو أن الناس إذا ابتُلوا من سلطانهم بشيء صبروا، ودعوا الله؛لم يلبثوا أن يرفع الله ذلك عنهم، ولكنهم يفزعون إلى السيف، فيوكَلُون إليه، والله ما جاؤو بيومِ خيرٍ قط، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[هود: 119] ([5]).
ولم يكن الحسنُ في هذا الموقف وحيداً، بل وافقه طَلْق بن علي، وأبو قلابة، ومطرف بن عبدالله بن الشخّير، وابن سيرين، وجماعة قليلة جداً في مقابل من اكتووا بنارها -رحم الله الجميع-.
والحسنُ حين يأمر الناس بالاستغفار، فهو لم يركن إلى هذا السبب وحده في دفع البلاء بظلم الولاة، بل كان يرى مدافعة هذه الابتلاءات وفق السنن الشرعية، التي تراعي تحقيق أعلى المصالح، ودرء أعظم المفاسد، ولهذا لم يتوقف الحسن عن بث العلم والتربية به، والجهاد في سبيل الله، وملازمة مجالس الوعظ والتوجيه.
وتأمل في هذا التأوّه الذي قاله أحدُ الناجين من فتنة ابن الأشعث: "لقيتُ الفقهاء والناس، لم أر مثل الحسن، يا ليتنا أطعناه"([6])؛ لتدرك عظيم منّة الله على هذا الإمام، وما حباه به من حكمة وبُعد نظر.
والعبرة من هذا: أنه في وقت الفتن تطيش العقول، ويسيطر عليها –غالباً- نظرةٌ حادة، ربما عصفت بالأكثرين، خاصة من الشباب الذين قد تحملهم الغيرة الدينية، والعواطف القوية على تبني مواقف لا تحمد عواقبها، فإذا انجلى الغبار، وهدأت النفوس وزالت الغيوم وألقت الحرب أوزارها عاد الصغار يعضون أصابع الندم ويتمنون أن لو وقفوا حيث وقف الكبار!
كم تخسر الأمة من علمائها؛ حينما يتسلط بعض الناشئة على تقييمهم؛ لأن هذا العالم أو ذاك لم يقف الموقف الذي كان يريده ذلك الشاب!
وليت الأمر يقف عند اعتبار رأي ذلك العالم -الذي عرف بديانته، وصدقه، وعلمه، وتجرده- مجرّد رأي أدّاه إليه اجتهاده، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة إسقاط قيمته، واتهامه في دينه، وتشويه سمعته، فإذا انكشفت الغمّة ندم بعد فوات الأوان.
وأختم بهذا النصّ الذي يلخصّ سرّ تميّز الحسن، حين وصفه خالد بن صفوان: "كان أشبه الناس سريرةً بعلانية، وأشبه قولاً بفعل، إن قَعد على أمرٍ قام به، وإن قام على أمرٍ قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه"([7]). وهي تلتقي تماماً مع كلمة يونس بن عبيد التي سبقت في الجزء الأول: "أمّا أنا فإني لم أر أحداً أقرب قولاً من فعلٍ من الحسن".
ألا ما أحوجنا جميعاً أن نتأمل في سِيَر هؤلاء الكبار؛ للاستفادة من جوانب التميّز التي حباهم الله بها، وأن تُربّى الأجيال الناشئة على أمثال هذه السير العطرة، التي لا يعدم قارئها من أمثال هذه العبر، ممن جعلهم الله في مقام الاقتداء والتأسي، وصدق الله: ﴿َجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة: 24].
([1]) الطبقات الكبرى (7/ 122).
([2]) وخلاصتها: أن نفراً من العلماء ومن وافقهم من الناس لم يصبروا على جور الحجاج وظلمه، ورأوا أن في جمعهم ما يقطع شأفة فتنته، فتسرب خبر هذا الاجتماع، فأعد لهم الحجاج جيشاً فوقعت الفتنة، فقتل من قتل، وهرب من هرب، وسلم من سلم.
ينظر في خبرها: تاريخ الإسلام (5/ 343)، البداية والنهاية (12/ 305).
([3]) الطبقات الكبرى ط العلمية (7/ 120).
([4]) تاريخ الإسلام (3/ 30).
([5]) الدر المنثور (3/ 532).
([6]) تاريخ الإسلام (6/ 202).
([7]) حلية الأولياء (2/ 148).
[/TD]
[/TR]
[TR]
[TD="align: center"]* رابط المقال على الموقع: http://almuqbil.com/play-4437.html[/TD]
[/TR]
[/TABLE]
[TR]
[TD]
عبرة من ترجمة إمام أهل البصرة (2/ 2)
أشرت في المقال الماضي [عبرة من ترجمة إمام أهل البصرة 1] إلى أهمية البحث عن أسرارِ التميز في سير العظماء والمؤثِّرين.
وقد ذكرتُ ثلاثةً من تلك المزايا التي تميز بها إمام أهل البصرة في زمانه: الحسن البصري رحمه الله، وهي -باختصار-:
أولاً: عمله بعلمه.
ثانياً: عنايته بفهم القرآن، وتأثره به؛ خُلقاً وعملاً.
ثالثاً: دأبه في تحصيل العلم، والتزود منه، وعدم الاكتفاء بقدر منه حصّله إبان شبابه وقوة جلَدِه.
وتتمة هذه المفاتيح فيما يلي:
رابعاً: مواقفه الواضحة أيام الفتن التي عصفت بالأمة في وقته.
يقول تلميذه يونس بن عبيد: كان الحسن من رؤوس العلماء في الفتن والدماء.
أي: من العلماء الذين لهم بَصَرٌ، وعقلٌ، وبُعْدُ نظر في هذه الفتن، التي قال عنها الحسن نفسه: إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كلُّ عالمٍ، وإذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل([1]).
ولعلّ أصعب فتنة عاشها هذا الإمام، هي فتنة ابن الأشعث؛ التي وقعت سنة (81هـ)([2])، لكن الحسنَ -رحمه الله- كان رأيه فيها واضحاً منذ وقت مبكر.
روى ابنُ سعدٍ أنه لما كانت فتنةُ ابن الأشعث، حين قاتل الحجاجَ بنَ يوسف نفرٌ من العرب، فدخلوا على الحسن، فقالوا: يا أبا سعيد! ما تقول في قتال هذه الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل...؟ قال: وذكروا من فعل الحجاج. قال: فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. قال: فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج -يقصدون أنه أعجمي ونحن عرب-! قال الراوي: فخرجوا مع ابن الأشعث، فقُتلوا جميعاً([3]).
وكان الحسن يقول -إبّان تغيّظ الناس على الحجاج، ورغبتهم في التخلص منه-: والله ما سُلِطَ الحجاجُ إلا عقوبةً فلا تعترضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع([4]).
وقال مرةً: لو أن الناس إذا ابتُلوا من سلطانهم بشيء صبروا، ودعوا الله؛لم يلبثوا أن يرفع الله ذلك عنهم، ولكنهم يفزعون إلى السيف، فيوكَلُون إليه، والله ما جاؤو بيومِ خيرٍ قط، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[هود: 119] ([5]).
ولم يكن الحسنُ في هذا الموقف وحيداً، بل وافقه طَلْق بن علي، وأبو قلابة، ومطرف بن عبدالله بن الشخّير، وابن سيرين، وجماعة قليلة جداً في مقابل من اكتووا بنارها -رحم الله الجميع-.
والحسنُ حين يأمر الناس بالاستغفار، فهو لم يركن إلى هذا السبب وحده في دفع البلاء بظلم الولاة، بل كان يرى مدافعة هذه الابتلاءات وفق السنن الشرعية، التي تراعي تحقيق أعلى المصالح، ودرء أعظم المفاسد، ولهذا لم يتوقف الحسن عن بث العلم والتربية به، والجهاد في سبيل الله، وملازمة مجالس الوعظ والتوجيه.
وتأمل في هذا التأوّه الذي قاله أحدُ الناجين من فتنة ابن الأشعث: "لقيتُ الفقهاء والناس، لم أر مثل الحسن، يا ليتنا أطعناه"([6])؛ لتدرك عظيم منّة الله على هذا الإمام، وما حباه به من حكمة وبُعد نظر.
والعبرة من هذا: أنه في وقت الفتن تطيش العقول، ويسيطر عليها –غالباً- نظرةٌ حادة، ربما عصفت بالأكثرين، خاصة من الشباب الذين قد تحملهم الغيرة الدينية، والعواطف القوية على تبني مواقف لا تحمد عواقبها، فإذا انجلى الغبار، وهدأت النفوس وزالت الغيوم وألقت الحرب أوزارها عاد الصغار يعضون أصابع الندم ويتمنون أن لو وقفوا حيث وقف الكبار!
كم تخسر الأمة من علمائها؛ حينما يتسلط بعض الناشئة على تقييمهم؛ لأن هذا العالم أو ذاك لم يقف الموقف الذي كان يريده ذلك الشاب!
وليت الأمر يقف عند اعتبار رأي ذلك العالم -الذي عرف بديانته، وصدقه، وعلمه، وتجرده- مجرّد رأي أدّاه إليه اجتهاده، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة إسقاط قيمته، واتهامه في دينه، وتشويه سمعته، فإذا انكشفت الغمّة ندم بعد فوات الأوان.
وأختم بهذا النصّ الذي يلخصّ سرّ تميّز الحسن، حين وصفه خالد بن صفوان: "كان أشبه الناس سريرةً بعلانية، وأشبه قولاً بفعل، إن قَعد على أمرٍ قام به، وإن قام على أمرٍ قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه"([7]). وهي تلتقي تماماً مع كلمة يونس بن عبيد التي سبقت في الجزء الأول: "أمّا أنا فإني لم أر أحداً أقرب قولاً من فعلٍ من الحسن".
ألا ما أحوجنا جميعاً أن نتأمل في سِيَر هؤلاء الكبار؛ للاستفادة من جوانب التميّز التي حباهم الله بها، وأن تُربّى الأجيال الناشئة على أمثال هذه السير العطرة، التي لا يعدم قارئها من أمثال هذه العبر، ممن جعلهم الله في مقام الاقتداء والتأسي، وصدق الله: ﴿َجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة: 24].
([1]) الطبقات الكبرى (7/ 122).
([2]) وخلاصتها: أن نفراً من العلماء ومن وافقهم من الناس لم يصبروا على جور الحجاج وظلمه، ورأوا أن في جمعهم ما يقطع شأفة فتنته، فتسرب خبر هذا الاجتماع، فأعد لهم الحجاج جيشاً فوقعت الفتنة، فقتل من قتل، وهرب من هرب، وسلم من سلم.
ينظر في خبرها: تاريخ الإسلام (5/ 343)، البداية والنهاية (12/ 305).
([3]) الطبقات الكبرى ط العلمية (7/ 120).
([4]) تاريخ الإسلام (3/ 30).
([5]) الدر المنثور (3/ 532).
([6]) تاريخ الإسلام (6/ 202).
([7]) حلية الأولياء (2/ 148).
[/TD]
[/TR]
[TR]
[TD="align: center"]* رابط المقال على الموقع: http://almuqbil.com/play-4437.html[/TD]
[/TR]
[/TABLE]