كلام الزمخشري و مَن تابَعَه إنما هو في المتلاعنة الزانية ،وتعليل تقديم ذكرها في آية الجَلد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على خاتم الأنبياء و المرسلين ، سيدنا محمد ، و على آله و صحبه أجمعين .
أمّا بعد ،،
فبادئ ذي بدء ، أعتذر عن هذا التدخل في الجواب عما دار بين الأخوين الكبيرين .
--------------------
يقول الله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} . [النور: 6 - 9]
صدق الله العظيم
* * *
في هذه الآيات البَيِّنات من سورة النور - المعروفة بآيات اللِعان - قضى الله في الزوجة التي يرميها زوجها بالزنى – درءاً للعذاب الدنيوي عنها و دفعاً لإقامة الحَد عليها - : ( { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبِينَ } ثم تقول في الخامسة : وأن عليّ غضب الله إن كان زوجي من الصادقين فيما رماني به من الزنى ، وهو تأويل قوله تعالى : { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّه عَلَيَهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } . ذكره الإمام الماوردي في تفسيره " النكت و العيون " ، و قال :
والغضب في لعانها بدلاً من اللعنة في لعان زوجها ) . اهـ
يعني بذلك قوله تعالى : {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}.
قال العلاّمة الزمخشري - في تفسيره " الكشّاف " - فإن قلت : لِمَ خُصَّت الملاعنة بأن تخمّس بغضب الله ؟ قلت : تغليظاً عليها ؛ لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ، ولذلك كانت مقدَّمة في آية الجلد . ويشهد لذلك قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لخولة : ( فالرجمُ أهونُ عليكِ من غضبِ اللَّهِ ) . اهـ
* * *
و في كلامه هذا عبارة استوقفت الأخ الفاضل الشيخ ( أبا المهند ) ؛ فقال - في المشاركة رقم (1) - : ( عبارة طالما طالعتها ووجدتُ فيها خروجا عما ينبغي مراعاته عندما نذكر أصلنا الطاهر الذكي نصف المجتمع الذي يربي النصف الثاني : ( المرأة ) .
هذه القيمة الثمينة التي حملت بنا وبالأنبياء من قبلنا وكانت السبب الرئيس في عمارة
الكون برمته .
هل من المقبول وصفها بأنها أصل الفجور ومنبع العهر ؟
العبارة من نسيج شيخ البلغاء جار الله الزمخشري وتناقلتها كتب التفسير وتناقلها البعض عن البعض ) ، و حكى كلام الزمخشري المذكور آنفا ، و حمل قوله ( تغليظاً عليها ) على المرأة . و قال إنَّ في النفس منها شيء .
* * *
- و لو كان كلام الزمخشري هذا محمولاً على ( المرأة ) – بإطلاق – لكان في النفس منه أشياء و أشياء ، و لكان من غير المقبول وصفها بأنها أصل الفجور ، لا عقلاً و لا شرعاً . و لكن الأمر لم يكن كذلك ، و إنماكان كلامه مُقَيَّداً بالمتلاعنة الزانية ، و لم يكن محمولاً على ( المرأة ) بإطلاق . و سياتي بيانه بعد بإذن الله
كلام الزمخشري و مَن تابَعه إنما هو في المتلاعنة الزانية
في تفسيره لآيات اللعان ، ذكر الزمخشري بعض وجوه القراءة ، و قال : وقُرِىء : ( أن غضب الله ) على فعل الغضب . وقُرىء : بنصب الخامستين ، على معنى : وتشهد الخامسة – ثم قال : - فإن قلت : لم خُصَّت الملاعنة بأن تخمّس بغضب الله ؟ قلت : تغليظاً عليها ؛ لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ، ولذلك كانت مقدَّمة في آية الجلد . اهـ
فكلام الزمخشري هذا إنما هو في ( الملاعنة ) ؛ تصريحاً منه و تنصيصاً – و هي الزوجة المتلاعنة - إذا كانت زانية ؛ بدلالة قوله تعالى فيها : { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّه عَلَيَهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } . أيّ فَعَليها غضب الله إن كان زوجها صادقا فيما رماها به من الزنى .
بيان تعليل الزمخشري للمتسبب الأصل في واقعة الفجور
و قد عَلّل الزمخشري التغليظ على تلك الزانية – بتخصيصها بغضب الله – ( لأنها هي أصل الفجور ومنبعه ، بخلابتها وإطماعها ) . بمعنى أن المرأة الزانية هي الأصل و المنبع في واقعة الزنا ( الفجور ) ؛ بإغرائها الزاني بها و إطماعه في نفسها .
والخِلابَةُ – في اللغة - : أن تَخْلُبَ المرأة قلب الرجل بألطف القول وأخْلَبِهِ . [ العين ، و المحيط في اللغة ]
هذا رأيه ، و هو ما صرّح به و أوضحه من قبل في تفسيره للآيات الأولى من تلك السورة الكريمة ، و هي قوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) } .
قال الزمخشري – رحمه الله - :
فإن قلت : كيف قُدِّمَتْ الزانية على الزاني أولاً، ثم قُدِّم عليها ثانياً ؟
قال الزمخشري : قلت : سِيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية ؛ لأنها لو لم تُطمِع الرجل ولم تومِض له ولم تمكِّنه ، لم يطمع ولم يتمكن ، فلما كانت أصلاً وأولاً في ذلك بدأ بذكرها. وأمّا الثانية فمسوقة لذكر النكاح ، والرجل أصلٌ فيه، لأنه هو الراغب والخاطب، و منه يبدأ الطلب . انتهى كلام الزمخشري .
هذا رأيه في المتسبب الأصل في وقائع الزنا ؛ ( لأنها لو لم تُطمِع الرجل ولم تومِض له ولم تمكِّنه ، لم يطمع ولم يتمكن ) من الزنا بها .
و هذا في غير حال الإكراه و في غير حال التغرير ، لا سيما في غير حال الفتاة القاصر ، و في حال المرأة المتزوجة .
و هو رأيٌّ يمكن تفهمه ، و له اعتباره و شواهده الواقعة في حياة الناس ، و لا أثر فيه ( للاعتزال ) .
و لذا حكى عبارة الزمخشري تلك و ذكرها - بغير تعقّب - عددٌ من المفسرين في تفاسيرهم ، كالرازي و ابن حيان و الشوكاني .
و لعل في هذا البيان جواب عن التساؤل المطروح عن ذكر هؤلاء الأئمة من غير المعتزلة لتلك العبارة في تفاسيرهم .
و كذا ذكرها بعض المعاصرين في تفاسيرهم ، كالشيخ المراغي ؛ قال : وخصّت الملاعنة بأن تخمّس بغضب الله عليها تغليظا عليها، لأنها هى سبب الفجور ومنبعه ، بخديعتها وإطماعها الرجل فى نفسها.
فقول الزمخشري و غيره في المتلاعنة الزانية إنها الأصل في واقعة الفجور ، معناه أنها في واقعة الزنا هي المتسببة بالأصل فيه حال وقوعه ؛ بالإغراء و الإطماع في نفسها ، و التمكين منها ، و ليس معناه أنَّ الفجور أصلٌ في المرأة ، لا خُلُقاً فيها و لا خِلْقة متأصلّة فيها . معاذ الله
{ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} . [النساء: 34]
و لعل هذا المعنى قريبٌ مما ذكره الأخ الفاضل ( أبو المهند ) ؛ قال : نعَم المقام الذي قيلت فيه مقام رزيلة و ارتكاب محرم و كبيرة ، و العلة تدور مع المعلول وجوداً و عدَما ، لكن الصياغة لو كانت هكذا : " و المرأة التي تزني أو ... تُأصِّل للفجور أو تتسبب في الفجور هي ... لقُبِلتُ العبارة واستسيغت . اهـ
* * *
و كيفما كانت الصياغة ، فليس المقام مقام تبرئة أحد طرفيِّ الفجور ، أو تبرير فعلته الآثمة ، أو التماس الأعذار له و إلقاء التبعة على غيره ؛ فكلاهما آثم و معاقب .
و إذا كانت المتلاعنة الكاذبة قد خُصَّت بغضب الله – في لعانها – فكذلك خُصَّ المتلاعن الكاذب بلعنة الله .
و لعنة الله و غضب الله كلاهما من أشد الدلالات على الترهيب و التغليظ و التحريم ، بصرف النظر عن أيهما أَشدّ في ذلك ؛ فلا أثر معتبر في التخصيص بأحدهما و القول بأنه للتغليظ ، فكلاهما للتغليظ . و إنما المقام مقام تعليل تقديم ذكر أحدهما في آية الجلد ، و هو ما صرّح به الإمام الزمخشري نفسه . و قد تقدّم .
القول في تعليل تخصيصها بغضب الله
هناك أقوال أخرى لأئمة التفسير غير ما ذكره الزمخشري في تعليل التخصيص الوارد في آيات اللعان في سورة النور :
1 – قال ابن عطية في تفسيره " المحرر الوجيز " :
وجُعِلت «اللعنة» للرجل الكاذب لأنه مفتر مباهت بالقول فأبعد باللعنة ، وجُعِل «الغضب» - الذي هو أشد - على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول . فهذا معنى هذه الألفاظ والله أعلم . اهـ
2 – و قال ابن كثير في تفسيره للآية :
{ وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فَخَصَّهَا بِالْغَضَبِ ، كَمَا أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الرَّجُلَ لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنا إِلَّا وَهُوَ صَادِقٌ مَعْذُورٌ ، وَهِيَ تَعْلَمُ صِدْقَهُ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْخَامِسَةُ فِي حَقِّهَا أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا، وَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الْحَقَّ ثُمَّ يَحِيدُ عَنْهُ . اهـ
أقوال لأئمة التفسير في تعليل ذلك التقديم
و كذلك هناك أقوال أخرى لأئمة التفسير في تقديم ذكر الزانية ، مقاربة أو مغايرة لما قاله الزمخشري :
1 - قال البيضاوي في تفسيره " أنوار التنزيل " : وإنما قدَّم الزَّانِيَةُ لأن الزنا في الأغلب يكون بتعرضها للرجل وعرض نفسها عليه ، ولأن مفسدته تتحقق بالإِضافة إليها. اهـ
2 – و قال القرطبي في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " : قُدِّمت" الزانية" في الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاش ، وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات ، وكن مجاهرات بذلك . وقيل: لأن الزنى في النساء أَعرّ وهو لأجل الحبل أَضرّ. وقيل : لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب ، فصدّرها تغليظا لتردع شهوتها، وإن كان قد رُكِّب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله. وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجب والصيانة ، فقدّم ذكرهن تغليظا واهتماما. اهـ
* * *
و أَيَّا كانت الأقوال في ذلك ، فمحلها حالات خاصة شاذة ، هي حالات الزنا و القذف به ، و لعل فيما تقدم بيانه ما يزيل الالتباس و الإشكال بإذن الله تعالى .
و أمّا في العموم فيكفينا قول الله تعالى في كتابه الكريم : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } . [ الشمس : 7-10]
و المراد بالنفس هنا آدم عليه السلام ، أو كل نفس ؛ فتشمل الذكور و الإناث .
و قوله تعالى : فألهمها أي عرَّفها، كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد. أي عرفها طريق الفجور والتقوى ، وقال ابن عباس. وعن مجاهد أيضا: عرفها الطاعة والمعصية . ذكره القرطبي .
و في النساء قال تعالى : {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}. [النساء: 34]
نسأل الله الهُدى و التُقى و العفاف و الغنى .
اللهم آمين
و آخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين