خصائص الإسلام المدني
خصائص الإسلام المدني
هذا مقال لهذا الشيعي نقلته عن موقعه هنا لا أتبناه ولكن للمناقشة
"أحمد القبانجي - كتاب الاسلام المدني
بعد أن رأينا قصور أدوات الاسلام السلفي والاسلام الايديولوجي عن مواكبة الظروف الاجتماعية والحياة الانسانية بما تزخر فيه من معطيات ومشاكل أزمات روحية واجتماعية في واقع الحياة, نصل الى اطروحة الاسلام المدني التي تفرض نفسها يوما بعد آخر في الأوساط العلمية والدينية من خلال الرجوع الى أصل الاسلام وذاته والتمييز بين الثوابت والمتغيرات أو الذاتي والعرضي في الدين والتمسك بالذاتي منه, وهو ما يسمى بالتجربة الدينية أو الرابطة القلبية مع الله تعالى واحياء القيم الاخلاقية والمباديء الانسانية التي تدعو لها الأديان السماوية, وأما الشرائع فهي متغيرة بتغير الظروف الزمانية والمكانية.
خصائص الاسلام المدني
وهنا نستعرض بعض مميزات وخصائص الدين الإسلامي الذي ينسجم مع ما نستوحيه من القرآن الكريم والعقل والفطرة:
الخصوصية الاولى: التجربة الدينية
ينطلق هذا التصور عن الاسلام من اصول موضوعة تختلف عن الاصول الموضوعة للاسلام السلفي والايديولوجي, فنرى اطروحة الاسلام المدني تعرّف الاسلام والدين الالهي تعريفاً مغايراً للتعاريف السابقة التي أهملت العلاقة القلبية والرابطة الروحية والسلوك المعنوي الى الله تعالى وتشبثت بالمعتقدات الفكرية والذهنية كما في الاسلام السلفي. أو بالنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يمتد ليستوعب كافة شؤون الحياة الدنيوية كما يرى اتباع الاسلام الايديولوجي في تعريفهم للاسلام, ويرى أتباع الاسلام المدني أن كل هذه التعاريف تمثل عرضيات الدين وتأثيراته المتنوعة على مستوى الفكر والمعتقد والسلوك الاجتماعي, بينما الأصل في الدين هو ((الرابطة القلبية مع الله تعالى ومع القيم والمباديء الانسانية)). ومن هنا يتضح جيداً أن المعتقدات الفكرية والذهنية لا تتولد مع الايمان أو البرهان العقلي دائماً وانما في الأعم الأغلب وليدة المحيط الاجتماعي والثقافي وتلقينات المجتمع والاسرة, كما في الاسلام التقليدي أو السلفي, أما في الاسلام الايديولوجي فقد رأينا أنه كان بمثابة ردة فعل للتيارات والمذاهب المادية الوافدة على البلاد الاسلامية وخوف علماء الدين من مسخ الهوية الاسلامية لدى المسلمين, فصاغوا من الدين ايديولوجية شاملة لكافة تطلعات الانسان في مواقف الحياة لصون الانسان المسلم من السير في منزلقات المذاهب الأرضية والتماهي مع انحرافات الايديولوجيات المادية.
إن أصحاب الاسلام السلفي والاسلام الايديولوجي لا ينطلقون بروح الانسان وسلوكه المعنوي الخالص تجاه عالم الغيب والذات المقدسة, بل من موقع الاهتمام الشديد بتكريس حالة من الايمان التلقيني لدى اتباع الاسلام السلفي حيث يتشبثون بكل الروايات التي تدعم وجهة نظرهم مهما كانت ضعيفة وسخيفة وخرافية. والسبب الحقيقي الذي يكمن وراء ذلك هو أن مثل هذا الايمان هو ايمان قشري وايمان ضعيف يهتز لأدنى شبهة ويقف عند أدنى عقبة, ولهذا نجد أن رموز هذا الاتجاه يعيشون الخوف والحذر من أية فكرة مخالفة وأية نظرية أو رواية لا تتماشى مع هذا النمط من الايمان, وقد يصابون بنوع من الهستريا المذهبية وتتحرك فيهم نوازع العصبية تجاه الآراء الجديدة لشدة خوفهم على عقائد العوام من التزلزل والاهتزاز, فيحاولون دائما جبران هذا الضعف في واقع الايمان الديني باستخدام أساليب بعيدة عن العقلانية والقيم الأخلاقية في سبيل تثبيت ايمان العوام ودحض حجج المخالفين من قبيل سيل الاتهامات التي يطلقها اتباع هذا الدين تجاه المخالفين كاتهامهم بالانحراف والمروق من الدين والارتداد وامثال ذلك. هنا يأتي دور الشعائر في تقوية هذا الايمان التلقيني على حساب الايمان الحقيقي حيث يعيش المتدين من العوام جفاف الروح مع الالتزام بالشعائر والتكاليف الشرعية في الوقت ذاته لأن هذه السلوكيات والأعمال الدينيةلا تنطلق من رابطة حقيقية بين الانسان وخالقه بل مجرد أداء التكليف وتوهم النجاة من النار ودخول الجنة بهذه الأعمال القشرية التي لا تحكي عن تغير وتحول في المحتوى الداخلي للانسان, أي أن الانسان في أجواء هذا النمط من التدين ينطلق في اعماله الدينية بدافع الخوف من النار لا بدافع العشق لله والانسانية, في حين أن الاسلام المدني, الذي يؤكد على العلاقة القلبية مع الله تعالى, يدفع الانسان في حركته الصاعدة في معراج التكامل المعنوي من منطلق العشق لله وللحق والخير لا من موقع التكليف الالهي والشرعي فقط.
وهكذا الحال بالنسبة الى الدين الايديولوجي حيث يقتصر همّ القائمين والمسؤولين عن هذا الاتجاه باستلام الحكم وتطبيق الشريعة بغض النظر عن افرازات هذه الاعمال على روح الانسان وتكامله المعنوي, فليس المهم هو التكامل المعنوي والاخلاقي للانسان بل اقامة الجمهورية الاسلامية أو الحكومة الاسلامية التي تطبق الشريعة وتهتم بظواهر الاسلام وظواهر الاعمال لا بالباطن, بينما نرى أن أنصار الدين المدني أو الوجداني يؤكدون على أن الدين الصحيح هو الذي يوفّر للفرد البهجة الباطنية والشهود العرفاني في الاتصال بالمعشوق وبالحق. ومن خلال هذا الايمان ينطلق الانسان في رحاب هذا المجتمع ليقيم علاقاته وممارساته على أساس هذا الايمان, فحتى لو تحرك على مستوى التصدي للظالمين واقامة الحكومة العادلة فان ذلك لا يعني إن هذا التحرك هو الأصل في هذه الرؤية الدينية, بل متفرع على ما يعيشه المؤمن في روحه وقلبه من حب العدل والعشق للانسانية وكراهية الظلم والاستبداد.
الخصوصية الثانية: التعددية
إن هذه الرؤية الأخيرة للدين تجتمع مع مبدأ ((التعددية)) في واقع المجتمع المدني فليس هناك عداء مع أحد من المذاهب والأديان الأخرى فكلها تصل الى الحق, أي أن الايمان المبني على أساس التجربة القلبية يستوعب في دائرته التعددية في المذاهب والأديان فيما لو تضمنت هذا العنصر الأساس, وهو عنصر الارتباط القلبي مع الحق والحقيقة, فهناك اتحاد في المفهوم مع اختلاف في المصاديق, فشخص يرى بأن رمز العدالة والقدوة الى سلوك طريق الحق والخير هو الامام علي ع, وآخر يرى أنه عمر بن الخطاب, وثالث يرى أن المسيح هو الرمز والقدوة وهكذا. وهؤلاء جميعاً يسيرون جميعا في خط العدل والحق وإن اختلفوا في المصاديق. فلهذا نقول إن هذا الاسلام الذي ينطلق من التجربة الدينية والشهود الوجداني هو الذي يتلائم مع المجتمع المدني المعاصر اكثر من خلال روح التسامح التي يعيشها الانسان المؤمن في اطار ثقافة الاسلام المدني. وهذا لا يعني النسبية في الحق كما يتوهم اتباع التيار السلفي أو الاصولي, بل النسبية في فهم الحقّ. ولا يعني التنازل عن المباديء والقيم التي جاء بها الاسلام وائمة اهل البيت ع, فالمسلم له قناعاته ومعتقداته الثابتة لديه بأدلة عقلية ونقلية معتبرة, وهي حجة فيما بينه وبين الله لا يمكنه التنازل عنها أو التفريط بالالتزام بمقتضياتها, ولكنه مع ذلك لا يرى في ايمان الآخرين بدينهم ومذهبهم مندوحة ولا يتهمهم بالكفر والشر وأنهم اتباع الباطل ومن أهل النار وما شاكل ذلك, لأن لكل طائفة دينية أدلتهم وقناعاتهم التي توصلهم الى الحق فيما لو تحركوا بدافع الوجدان وعنصر الخير في واقع الانسان. وعليه يلتقي اتباع جميع الاديان والمذاهب حول محور الايمان بالله تعالى واحياء القيم الاخلاقية في واقع الانسان والتحرك في خط الحق والانسانية في حركة الحياة, ويقف في مقابل هذا التيار الانساني والالهي كل شخص يتحرك في سلوكه وافكاره بوحي الانانية والشر والعدوان على الآخرين مهما كان دينه ومذهبه, فالمؤمنون هنا أمة واحدة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم, والاشرار والكفار أمة واحدة أيضا حتى لو انتمى بعضهم الى الاسلام. ومن هنا نعرف أن الفرقة الناجية الواردة في الحديث النبوي الشريف « ستفترق امتي اثنان وسبعون فرقة, واحدة ناجية والباقي في النار » لا يقصد منها أتباع مذهبٍ معينٍ كالشيعة أو السنة أو الخوارج حسبما يتصور ارباب اللاهوت من كل فرقة, بل الفرقة الناجية هي التي يتحرك اتباعها في خط الانسانية والعدالة والاخلاص لله تعالى من كل فرقة ومذهب ودين والباقي في النار, وهذا المعنى هو ما ورد في كتابات العرفاء وأشعارهم كما نقرأ لابن عربي قوله :
لقد كنت قبل اليوم انكر صاحبي
إذا لم يكن ديني الى دينه داني
وقـد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان وبيت لأوثانِ
ودير لرهبان وكعبـة طائــف
وألواح توراة ومصحف قرآنِ
أدين بدين الحــب أنى توجهت
ركائبه أرسلت ديني وايمـاني
فالتعددية ليست من المفاهيم المستجدة الوافدة الينا من الغرب بل هي نتاج اسلامي خالص ولكن عنصر التعصب الديني في الانسان وما أفرزته حالات الصراع المذهبي في تاريخ الاسلام والاديان من عجاج فكري وغبار نظري تراكم على جوهر الدين وصفاء الفطرة جعلت الناس من اتباع كل دين ومذهب يتصورون أنهم أهل الحق والنجاة لا غير. ويستشهد أنصار الاسلام المدني على مبدأ التعددية الدينية بقوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
مضافا الى أن عدالة الله تقتضي أن يجازى كل انسان وفق ما توصل اليه من عقائد وافكار وسلوكيات مع الأخذ بنظر الاعتبار تأثير عوامل البيئة والوراثة والتربية وما شاكل ذلك كما في قوله تعالى : لا يكلف الله نفساً الا ما آتاها. أما ما يتمسك به اصحاب النظرة الاحادية في الدين من قوله تعالـى: إن الدين عند الله الاسلام فليس المراد منه الاسلام بالمعنى الخاص أو بالمعنى الفقهي من شهادة أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله, بل الاسلام بالمفهوم القرآني هو الاسلام بالمعنى العام. اي التسليم القلبي الى الله والتحرك في مجال العمل والسلوك في خط الحق والخير والاحسان الى الناس, وفي ذلك يقول الطباطبائي في تفسيره لهذه الآية الشريفة: « إن الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر عباده الا به, ولم يبين لهم فيما أنزله من الكتاب على انبيائه الا اياه, ولم ينصب الآيات الدالة الا له, وهو الاسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد وحق العمل. وبعبارة اخرى: هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والاحكام. وهو وإن اختلف كمّا وكيفاً في شرايع انبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنه ليس في الحقيقة الا أمرا واحدا » ( ).
الخصوصية الثالثة: اليقين الشهودي
يؤكد أنصار الاسلام المدني على أن هذا النمط من الاسلام الذي يقوم على التجربة الدينية والعلاقة القلبية هو اسلام يقيني وحضوري لا يتزلزل بالشبهات ولا يضعف بطرح علامات الاستفهام لأن المؤمن من اتباع هذا التيار يدرك الله تعالى بالعلم الحضوري لا بالعلم الحصولي الذهني, ولهذا فهو يعيش العشق والبهجة والتوكل والتعلق بالحق المطلق مهما تغيرت الافكار وتبدلت التصورات والتصديقات, أما في الاسلام السلفي والسياسي فالمتديّن يعيش حالة من التصديق والجزمية بمفردات العقيدة الذهنية ويتصور أن الاعتقاد الذهني بجملة من القضايا التاريخية والدينية هو الايمان الذي سوف يحقق له النجاة في الآخرة. ومعلوم أن القضايا التاريخية لا تحقق اليقين للانسان اطلاقاً بل غاية ما تنتجه الظن القوي الحاصل للانسان من خلال التفاعل الثقافي مع المحيط, فهذا الشخص يلقن نفسه بأنه على يقين من مفردات العقيدة, ولهذا فهو يخشى التورط في حوار عقلاني هاديء ولا يسمح لفكره أن يتحرك ويطرح الاسئلة و الشبهات وينفعل بشدة تجاه أدوات النقد لمعتقداته ومقدساته, وهذا بنفسه يحكي عن ايمان ضعيف وأجوف يتزلزل بأدنى نقد ولا يتماسك أمام مواطن الشك. ويتجلى الفرق بين هذا اليقين الحضوري واليقين التلقيني بالمعتقدات أن الأول يجتمع مع الشك الذهني في مفردات العقيدة نفسها بينما لا يتحمل اليقين الثاني أية مسامحة أو احتمال الصحة للرأي المخالف. وبعبارة أوضح: إن الشك في المعتقدات ليس على حد سواء في مرتبة التقييم, فهناك شك سلبي وآخر ايجابي. أو كما يعبر علماء الاخلاق, شك مذموم وشك ممدوح. والشك المذموم والذي ورد ذمه في القرآن الكريم ايضا( ), هو الشك الذي ينطلق من واقع نفساني منحرف ويقع نتيجة لحب الدنيا وتراكم الاهواء والشهوات على القلب وانغماس الانسان في طلب الملذات الرخيصة والتحرك في خط الباطل والشر وهو قوله تعالى: ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ( ).
وهذا المعنى من الشك لا يجتمع اطلاقا مع الايمان القلبي اليقيني الحقيقي, أما الشك الايجابي فهو الشك الذهني, المتولد من قصور الادلة المنطقية لاثبات المدعى مع رسوخ الايمان القلبي بالمعتقد, ومثل هذا الشك لا مانع منه بل هو مطلوب ايضا ويمثل أول مرتبة من مراتب العلم والكمال الانساني في عالم المعارف.
فمن يجد الله في نفسه ويعيش الحب والعشق له بكل وجوده لا يهمه اذا عجز عقله عن العثور على الادلة المنطقية لتبرير الاعتقاد به, وهكذا في واقع الحياة مع الفضائل واجتناب الرذائل, فمجرد أن يشعر الانسان أن الكذب والسرقة والخيانة أمر قبيح ومذموم فانه يتحرك بوعي وجدانه بعيداً عنها من دون حاجة الى أدلة عقلية وشرعية أخرى لاثبات حرمة هذه الرذائل لأن من يعيش الفضيلة والايمان بالله بالعلم الحضوري لا يجد في نفسه حاجة بعدها الى ضرورة تحصيل اليقين العقلي بمفرداتها.
الخصوصية الرابعة : الانسجام مع العصر
لقد اثبت الواقع المعاصر عدم انسجام الاسلام من النمط الاول والثاني مع مقتضيات العصر وفشلهما في مواكبة الأحداث والمتغيرات في عالم الثقافة والقيم وعجزهما عن ايجاد الحلول الناجعة لمواجهة التحديات الصعبة التي يفرضها الواقع المتحرك بل إن هذين النمطين من الفهم الديني للنصوص الاسلامية هما السبب في تخلف المسلمين والعامل الاساس في تأخر المجتمعات الاسلامية عن اللحوق بركب الحضارة والتكامل الانساني, وذلك أن الجمود على النصوص أو التقوقع على عتبة التراث والخشية من التجديد يفقد العقل الفقهي لدى المسلمين المرونة اللازمة لمواكبة الحدث ويعطل فيه الدينامية في عملية التفاعل مع معطيات الواقع وحاجات المجتمع البشري ومستجداته. وهذا هو الداء العضال الذي حلّ وتوطّن في الذهنية المسلمة ومنعها من قراءة النصوص بعيون مفتوحة وروحية متحركة.
على سبيل المثال ما نراه في تراث الفقه السياسي السني من وجوب طاعة الحكام وعدم الاعتراض عليهم في عملية تكريس الفكر الاستبدادي في وعي الامة, ويقابله في تراث الفقه الشيعي من أن « كل راية ترفع في زمن الغيبة هي راية ضلال » حيث انعكس هذا المضمون على سلوك فقهاء الشيعة ولا سيما القدماء منهم وتجسد في عملية اعتزال الحياة السياسية وضمور الفقه السياسي لدى الشيعة وهزاله, وكرد فعل على هذا الموقف الفقهي المتخاذل جاء الاسلام السياسي بفكرة أن الاسلام ((دين ودولة)) وأن الشريعة الالهية يجب أن تسود في كافة مرافق الحياة وبالتالي تحريض الناس ضــد الحكومات العميلة والوطنية على حد سواء انطلاقا من فكرة أن هذه الحكومات طاغوتية وكافرة ويجب على المسلمين محاربتها والثورة عليها واستلام سدة الحكم من أجل تطبيق الشريعة واقامة حكم الله على الأرض !! وعاش المسلمون الازمات تلو الازمات وفي جميع المجالات من جراء هذا الفهم الخاطيء للدين وللنصوص الدينية. أما الاسلام المدني الذي يهدف بالاساس الى الارتفاع بالانسان من اجواء المادة والانشداد للشهوات والدوافع الشريرة الى أجواء المثل الانسانية والقيم الاخلاقية والسير في طريق الفضيلة والانفتاح على الله فلا يرى تطبيق الشريعة أو إقامة الحكومة الاسلامية هدفا سماوياً بحد ذاته, بل ينظر الى اقامة العدالة في الدنيا كاداة ووسيلة للارتقاء بالانسان في المجالات الحضارية التي قد تساعده احياناً في عملية الارتقاء في معراج الكمال المعنوي, لانه لا ملازمة بين الحكومة العادلة والسير في خط المعنويات في أجواء الايمان, فقد تكون الحكومة ظالمة ويتحرك بعض الناس في خط الهداية والايمان كما يحدثنا التاريخ عن سيرة الأنبياء ووصولهم الى أسمى مراتب الكمال المعنوي والالهي في أجواء الضلال والفساد والظلم, بينما نرى العكس من ذلك في بعض الحكومات العادلة كحكومة الامام علي حيث سار الكثير من المسلمين حينها في خط الباطـل والانحراف. وما ذلك الاّ لأن الايمان والتحرك في طريق الحق والمسؤولية عمل اختياري تماما لا يخضع للمؤثرات الخارجية اطلاقاً. فالانسان اذا أراد الله والاخرة وعزم على اختيار طريق الصلاح والخير كفى ذلك في نجاته من أجواء الضلال وانتقاله الى أجواء الهداية.
وهذا يعني أن محور اهتمام الاسلام المدني انما يتلخص في كيفية الصعود بالانسان في معراج الكمال الانساني وربطه بالله تعالى. ومع تحقق هذا المعنى في واقع الانسان يتحول هذا الانسان الى انسان مدني, ويتحول المجتمع بدوره الى مجتمع مدني. وأفضل شاهد على ذلك, التحول الكبير الذي طرأ على المجتمعات الغربية بعد نهضة الاصلاح الديني ((البروتستانتية)) بقيادة ((لوثر)) الذي ثار على حكومة رجال الكنيسة واكد على ضرورة اصلاح المؤسسة الدينية ورفض كل اشكال الوساطة بين الانسان وخالقه وانتقد صكوك الغفران وقام بترجمة الكتاب المقدس الى اللغة الالمانية ليفهمه جميع المؤمنين ولا يبقى حكراً على ارباب الكنيسة وعلماء اللاهوت.
والقضية الاهم في حركة لوثر الاصلاحية هي أنه منح الناس الجرأة على نقد المقدسات, وهذا أشد ما يخشاه رجال الدين, لأن من شأنه أن يزيل هالة القداسة عنهم ويفتح الباب للناس لتحريك عقولها وعدم قبول كل ما يقوله رجل الدين عن الله والآخرة والمعتقدات الاخرى. ومن هنا ينطلق الاصلاح الحقيقي أي من تشغيل الناس لعقولهم والتحرك في خط الوعي. ومن هنا كان الاسلام المدني متناغماً مع العقل ومتطابقاً مع الوعي بينما نرى أن أغلب رجال الدين في التيار السلفي والسياسي يسعون دائما الى التعتيم على الوعي وقولبة الذهنية المسلمة بقوالب جامدة على النصوص من خلال عملية غسل دماغ رهيب مستخدمين أدوات دينية صارمة لا تسمح للعقل أن يتحرك ولا للفكر أن يطرح علامات استفهام حول الحالة الثقافية المزرية والانحطاط الاخلاقي والسياسي للمسلمين.
وأقوى هذه الادوات المستخدمة في عملية التعتيم على الوعي هو ((سلاح القداسة)) على الافكار والعقائد والاشخاص. فيكفي أن يرد خبر يتضمن فضيلة موهومة من فضائل أهل البيتحتى يكون هذا الخبر مقدسا ومتعاليا عن النقد ولا يجوز المساس به من موقع التشكيك حتى لو كان مضمونه مخالفا للعقل وبعيدا عن الفطرة السليمة, والأشنع من ذلك اضفاء القداسة على الاشخاص وخاصة اذا كانوا من علماء الدين المعروفين أو من القادة الكارزماتيين حيث يمثل هذا المعنى نافذة على الغلو والصعود بالانسان الى مستوى الآلهة, وأخطر ما تكون هذه الحالة من النظرة القدسية للاشخاص اذا احتل ذلك الشخص مقام القيادة الدينية والدنيوية, فحينئذ تدخل المصالح السياسية الى عمق المباديء ويضحى الاستبداد مقبولا بل مطلوباً من الناس وأي اعتراض على الخليفة أو الحاكم السلامي يكون بمثابة اعتراض على الله!! السلاح الآخر الذي يستخدمه اتباع الاسلام السلفي والسياسي ضد العقل والتفكير المنطقي هو ((سـلاح العواطـف والاحساسات)). فاتباع الاسلام السلفي أو التشيع السلفي يدقون دائما على وتر مصائب أهل البيت في مقابل أي حركة للوعي وقياس الامور التاريخية بأدوات العقل, فاذا رأوا أدنى حركة من هذا القبيل تجاه الموروث التاريخي الديني ارتفعت النداءات من كل حدبٍ وصوب بالتشنيع بهذا القائل والارجاف بمقولته وتقاطرت عليه التهم والشتائم كناية وتصريحا, وأدنى ما يقال عنه أنه وهابي أو استلم اموالاً طائلة من الوهابية ليبث التشكيك في عقائد العوام من الناس. وهكذا حال اتباع الاسلام السياسي مع مخالفيهم, الاّ أنّ الاتهام في هذه المرة يتخذ مساراً آخر حيث يدخل المخالف أو المعارض دائرة العمالة والتبعية للغرب وامريكا وأنه ليبرالي منحرف أو شيوعي ساقط. ومعلوم أن كل هذا الارجاف وحملات التشهير والتسقيط من قبل اتباع الدين السلفي والسياسي تجاه اصحاب الوعي والفكر انما هو لغرض تهييج العواطف وتثوير الاحساسات لدى العوام من الناس لمنع أي تحرك عقلاني على مستوى تحري الحقائق واستجلاء الواقع.
أما الاسلام المدني فهو في سلامة من استخدام هذه الاحابيل ومعاكسة الحقائق بوسائل الوهم والتمويه لانه يقف على قاعدة متماسكة من الايمان القلبي بالله وبالقيم, وما عدا ذلك من افكار وعقائد واشخاص فلا يرى انها متعالية على النقد واحتمال الخطأ. فلا داعي الى اللجوء الى العواطف لتكريس الايمان بالمقدسات الموهومة كما في التدين التقليدي, وبما أن الاسلام المدني ينطلق في الرؤية السياسية من واقع حقوق الانسان والديمقراطية فلا داعي ايضا الى استخدام سلاح المقدسات وادوات التسقيط والتشهير والارتداد في مواجهة الرأي الآخر. بل يعتمد الوسائل الديمقراطية في العملية السياسية. ومن هنا يرى اتباع الاسلام المدني بأن هذا النمط من الاسلام والفكر الديني ينسجم مع مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة الانسانية الجديدة. لأن الحكومة في هذه الصياغة العقلانية للدين تقف على الحياد وتهتم بوظيفتها الاساسية ألا وهي تحقيق الامن والرفاه لافراد المجتمع المدني وايجاد الحلول الفاعلة للازمات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الامة, وتبقى مسألة الدين والاخلاق من مسؤولية رجال الدين وعلماء الاخلاق والمؤسسات الخيرية والاعلامية. وفي الختام واستتماماً للفائدة نورد ما ذكره « محمد رضا وصفي « في كتابه « الفكر الإسلامي المعاصر في إيران » من مميزات وخصائص لهذا النمط من الرؤية التجديدية للإسلام, قال: « الخطاب الإسلامي التجديدي وأهم مقولاته:
1ـ حجية العقل: ويقصدون به العقل الاستكشافي والعقل الاستدلالي ويقع في عرض كتاب الله وسنة رسوله (حجية الكتاب والسنة والعقل والإجماع).
2ـ الإقرار بمقاصد الشرع وفلسفة الدين كأساس تشريعي ومناط للأحكام وهو استبعاد للتعبد كمسوغ للإلتزام الشرعي وعقلنة الشرع والشريعة.
3ـ تقديم العقل على النص في حالة تعارض النص معه.
4ـ التركيز على روح الإسلام وجوهره دون إغفال غاية الدين, وهي إرساء القيم الأخلاقية الفردية والاجتماعية «إنما بعثت لأتمم مكارم الإخلاق ». والأخلاق بهذا المعنى ليست طريقاً للسعادة المعنوية الأخروية فحسب, بل الدنيوية والمحسوسة أيضاً وكل الحسن والقبح يدور على فلك لذائذ وآلام البشر, مادياً ومعنوياً.
5ـ أحكام الشريعة عندهم ليست ثابتة بل تتغير بتغير الأزمان والأحوال, والاقتصار على فهم واحد للدين هو إخراج له من الشمولية والعالمية وحجر عليه في شرنقة الفرد والشخص.
6ـ عدم التمسك بتقليد السلف, بل فتح العقول على مشكلات العصر, وجواز قبول بعض المقولات الوضعية.
7ـ التمييز بين الدين والسياسة كحقلين مستقلين, يمكن الجمع بينهما كما يمكن الفصل, فالمجتمع الديني برأيهم يمكن أن يوجد في دولة لا دينية.
8ـ القبول بالتعدّدية الدينية كلازم من لوازم تعدد العقول والأفهام, وتالياً التعددية السياسية, ويرونها أقرب إلى التقوى والعدالة.
9ـ تحصيل الرفاه والعدالة الاجتماعيين عبر الحكومة الدينية أمر غير ضروري, بل يمكن تحصيلهما في دولة مدنية, ومن هنا كان نجاح الحضارة الغربية في تأمين الحاجات المادية.
10ـ ليس التخلف في المجتمعات الإسلامية من صنع الآخرين فقط, بل لعل مساهمة المسلمين فيها تفوق مساهمة الآخرين «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». خلاصة الكلام أن السمة العامة لهذا الخطـاب أنّـه خطـاب مثقل بالمراجعات الفكرية الدائمة والمستمرة, ومسكون بهاجس إيجاد الحلول للمعضلات الإبستمولوجية في المجتمع( )."