أبو فهر السلفي
New member
- إنضم
- 26/12/2005
- المشاركات
- 770
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
الحمد لله وحده..
أما بعد..
فلابد من جواب بعض الأسئلة قبل الدخول في بيان أصول تلك الطريقة..
السؤال الأول : ما هو ضابط الخلاف غير السائغ (؟)
الجواب: يكون الخلاف غير سائغ إذا توفرت فيه هذه الشرط :
أولاً : أن يصدر الخلاف من غير متأهل للاجتهاد المناسب للمسألة محل البحث.
ثانياً : أن يكون القول مخالفاً للإجماع القديم الصحيح .
ثالثاً : أن يكون القول مخالفا لنص قطعي، أو مخالف لظني من غير أن يبدي حجة تؤذن بالمخالفة، أو دليل مقاوم.(ولا يشترط في الحديث أن يكون قطعي الثبوت بل يكفي مجرد التسليم بصحته في الجملة)
رابعاً : أن يكون القول مبنياً على أصل غير معتبر ثبت عدم اعتباره بالدليل القاطع واضح القطعية.
فمتى صدر القول ممن له حق الاجتهاد وبناه على أصل معتبر ولم يُخالف به دليلاً ثابتاً واضح القطعية في دلالته = كان قولاً سائغاً معتبراً وإلا كان غير سائغ.
السؤال الثاني : كيف يكون خلاف مخالف القطعيات السابقة = خلافاً غير سائغ فقط (؟)
قلت: هذا باب خلط فيه كثير من الناس حتى أوقعهم ذلك في تكفير مخالف القطعيات ضربة لازب..
وهذا باطل محض ولا يَكفر إلا من أنكر القطعي الواضح المعلوم من الدين بالضرورة ..
أما مطلق القطعيات فهي مما يتفاوت في ضبطه والحكم عليه =الناس...
ولا يكفر منكر القطعي إلا إذا لم يكن عنده حجة يدفع بها ذلك القطعي ..
أي : لا يكفر إلا إذا سلم بقطعيتها ثم أنكرها..
أما من خالف القطعي فلا تخلو هذه القطعية من أن تكون ظاهرة أو غير ظاهرة ..
فغير الظاهرة أي التي ترجع لوثوق الباحث في الحجة لا لأنها تحتوي على ما يفيد القطعية = فهذه لا تجعل خلاف مخالفه غير سائغ..
أما القطعية الواضحة فهي التي تجعل الخلاف غير سائغ..
وضبط هاتين الرتبتين من موارد الاجتهاد وفيه الطرفان والوسط..
ولذا عبرنا في الكلام بوصف القطعية بالوضوح وإلا فالباحث قد ينظر في الدليل فيراه قطعياً ولا تكون هذه القطعية بمنزلة القطعية الواضحة لكل أحد.
قال شيخ الإسلام رداً على من نفى الوصول للقطعية بالاجتهاد : (( تضمن هذا الكلام أن ما علم بالاجتهاد لا يكون قطعياً قط ، وليس الأمر كذلك ، فرب دليل خفي قطعي )).
قال الجويني : ((ثم القواطع : منها الجلي ومنها خفي...)).
ولذا لا يأثم مخالف القطعي لمجرد مخالفته له ..قال شيخ الإسلام : ((وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وُجُوبًا ظَاهِرًا ، مِثْلُ حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ مِنْ جِنْسِهِ فَيَسُوغُ لَهُ - إذَا عَدِمَ ذَلِكَ فِيهَا - الِاجْتِهَادُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَارِبَةِ .أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا .وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً طَعْنٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ كَسَائِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ)) .
ثم نبدأ الكلام عن هذه الأصول بحول الله وقوته ..
الأصل الأول : أن الخلاف غير السائغ هو من المحرمات ،يجب اجتنابه ، وعدم تقليد صاحبه .ولا يُفتى به .
أما كونه حراماً فقد قال الشافعي : ((الاختلاف من وجهين : أحدهما محرم ،ولا أقول ذلك في الآخر)).
وأما وجوب اجتنابه فقد قال الأوزاعي : ((نجتنب أو نترك من قول أهل العراق خمسا ومن قول أهل الحجاز خمسا من قول أهل العراق شرب المسكر والأكل في الفجر في رمضان ولا جمعة إلا في سبعة أمصار وتأخير صلاة العصر حتى يكون ظل كل شيء أربعة أمثاله والفرار يوم الزحف ومن قول أهل الحجاز استماع الملاهي والجمع بين الصلاتين من غير عذر والمتعة بالنساء والدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين يدا بيد وإتيان النساء في أدبارهن )).
وقال ابن مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: (( ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه و سلم وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا)).
قال الشاطبي : ((زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدا له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة وإلا فلو كانت معتدا بها لم يجعل لها هذه الرتبة ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها )).
الأصل الثاني : أن تلك القطعية لا تمنع إعذار المخالفين لها ؛ لما لهم من الشبهة والتأويل ، ومخالفتهم للقطعيات لا تمنع إعذارهم.
قال شيخ الإسلام : ((فمن قال إن المخطىء في مسألة قطعية أو ظنية يأثم فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم ، قالوا وأيضا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين ليس هو وصفا للقول في نفسه فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنده وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا وقد يكون الإنسان ذكيا قوي الذهن سريع الإدراك علما وظنا فيعرف من الحق ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة وبحسب قدرته على الاستدلال، والناس يختلفون في هذا وهذا فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه حتى يقال كل من خالفه قد خالف القطعي بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد وهذا مما يختلف فيه الناس فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس)).
قال شيخ الإسلام : (( إن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسائل الاجتهاد كما قد بيناه وبينا إجماع الصحابة على المنع منها بكلام غليظ يخرجها من مسائل الاجتهاد واتفاق السلف على أنها بدعة محدثة وكل بدعة تخالف السنة وآثار الصحابة فإنها ضلالة وهذا منصوص الإمام أحمد وغيره ، وحينئذ فلا يجوز تقليد من يفتي بها ويجب نقض حكمه ولا يجوز الدلالة لأحد من المقلدين على من يفتي بها مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد وقد نص أحمد على هذه المسائل في مثل هذا وإن كنا نعذر من اجتهد من المتقدمين في بعضها وهذا كما أن أعيان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ ونحوها )).
قال الشاطبي : ((كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين)).
ويقول الشيخ عمن خالف ما في عقيدته الواسطية (وجل خلاف ما في الواسطية إنما هو من الخلاف غير السائغ): ((وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَالِكًا فَإِنَّ الْمُنَازِعَ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا يَغْفِرُ اللَّهُ خَطَأَهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاوَلَةُ لَهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُ وَالْقَانِتُ وَذُو الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَغْفُورُ لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ : فَهَذَا أَوْلَى ، بَلْ مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ نَجَا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ وَمَنْ اعْتَقَدَ ضِدَّهُ فَقَدْ يَكُونُ نَاجِيًا وَقَدْ لَا يَكُونُ نَاجِيًا كَمَا يُقَالُ مَنْ صَمَتَ نَجَا)).
وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/113،12)،(4/501)،(5/306)،و((جامع المسائل)) (3/151)،و((الدرر السنية)) (10/93-95).
الأصل الثالث :الموقف من قائل القول غير السائغ هو نفس الموقف من المسلم إذا ارتكب محرماً يغلب على الظن تأوله فيه .فنصيحته واجبة،وحفظ حرمته قائم.فما دام مسلماً فله من حقوق المسلم ..تزيد كلما زادت موجبات الإسلام عنده.
فلا يجوز شتمه ولا سبه،ولا الكذب عليه ، ولا البغي عليه ولا تحميل كلامه مالا يحتمل مع إدامة إنصافه والعدل فيه ومعه.
وأبدأ هذا بذكر تقرير شيخ الإسلام لعدل أهل السنة مع الرافضة،ولم يقل وأين أنتم من ظلم الرافضة وبغيهم،بل قرر : ليس لنا مثل السوء وأنا لا ننزل لدركات الظالمين،وليس من شذ شراً من الرافضة..
يقول الشيخ : ((ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض)).
الإخنائي عندي أشر وأفسد من جل من يشذ من مجتهد المسلمين اليوم..فانظر إلى عدل شيخ الإسلام معه واعتباره لإسلامه حين يقول : ((وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله،ليس الغلط فيه من خصائصه،ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه كما أمر الله تعالى فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار ....فكيف بإخواننا المسلمين ،والمسلمون أخوة والله يغفر له ويسدده ويوفقه وسائر إخواننا المسلمين )).
ويقول الشيخ في ابن مخلوف وهو أضر وأشر من مئة كالذين يشذون: ((وَابْنُ مَخْلُوفٍ لَوْ عَمِلَ مَهْمَا عَمِلَ وَاَللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى خَيْرٍ إلَّا وَأَعْمَلُهُ مَعَهُ وَلَا أُعِينُ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ قَطُّ . وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . هَذِهِ نِيَّتِي وَعَزْمِي ، مَعَ عِلْمِي بِجَمِيعِ الْأُمُورِ . فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَنْ أَكُونَ عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى إخْوَانِي الْمُسْلِمِينَ)).
لما تكلم أحد العلماء في محمد بن طاهر بكلام خشن رد عليه الذهبي وقال في رده عليه فيما نسبه إلى ابن طاهر من أنه كان يرى الإباحة : ((قُلْتُ:مَا تَعْنِي بِالإِباحَةِ؟إِن أَردتَ بِهَا الإِباحَة المطلقَة، فَحَاشَا ابْن طَاهِر، هُوَ - وَاللهِ - مُسْلِمٌ أَثرِيٌّ، مُعَظِّمٌ لِحُرُمَاتِ الدِّينِ، وَإِنْ أَخْطَأَ أَوْ شَذَّ، وَإِن عَنِيتَ إِباحَةً خَاصَّةً، كَإِباحَةِ السَّمَاعِ، وَإِباحَةِ النَّظَر إِلَى المُرْدِ، فَهَذِهِ مَعصيَةٌ، وَقول لِلظَاهِرِيَة بِإِباحتهَا مرجوح
ثم قال ابن ناصر: كان يذهب مذهب الإباحة. يعني في النظر إلى الملاح. وإلا فلو كان يذهب إلى إباحة مطلقة لكان كافراً، والرجل مسلم متبع للأثر، سني. وإن كان قد خالف في أمور مثل جواز السماع، وقد صنف فيه مصنفاً ليته لا صنفه)).
فأنظر كيف عدل معه حتى حرر مذهبه وحفظ له حقه !!
وقال الذهبي : ((قلت: غلاة المعتزلة، وغلاة الشيعة، وغلاة الحنابلة، وغلاة الأشاعرة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، وغلاة الكرامية، قد ماجت بهم الدنيا، وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة، لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن))
فتأمل كيف أثبت العلم والعذر بالتأويل حتى لغلاة أهل البدع.
ولا يقال لصاحب الخلاف غير السائغ على سبيل الذم والتشنيع: أنت أحللت الحرام..
قال الشافعي : ((و المستحل لنكاح المتعة و المفتي بها و العامل بها ممن لا ترد شهادته و كذلك لو كان موسرا فنكح أمة مستحلا لنكاحها مسلمة أو مشركة لأنا نجد من مفتي الناس و أعلامهم من يستحل هذا و هكذا المستحل الدينار بالدينارين و الدرهم بالدرهمين يدا بيد و العامل به لأنا نجد من أعلام الناس من يفتي به و يعمل به و يرويه و كذلك المستحل لإتيان النساء في أدبارهن فهذا كله عندنا مكروه محرم و إن خالفنا الناس فيه فرغبنا عن قولهم و لم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم و نقول لهم : إنكم حللتم ما حرم الله و أخطأتم لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم و ينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز و جل )).
وقال ابن المبارك لمناظريه منكراً عليهم : ((فَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةَ قَالُوا : كَانُوا خِيَارًا ، قُلْت : فَمَا قَوْلُكُمْ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَقَالُوا : حَرَامٌ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : إنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْهُ حَلَالًا فَمَاتُوا وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْحَرَامَ (؟؟!!!))).
وقال شيخ الإسلام: ((علماء المسلمين وأئمة الدين ما زالوا يتنازعون في بعض المسائل فيبيح هذا من الفروج ما يحرمه هذا كما يبيح كثير نكاح أم المزني بها وابنتها ولا يرون الزنا ينشر حرمة المصاهرة وهو قول الشافعي وغيره.... وتنازعوا فيما سوى ذلك وهم كلهم مجتهدون مصيبون بمعنى أنهم مطيعون لله وأما بمعنى العلم بحكمه في نفس الأمر فالمصيب واحد وله أجران والآخر له أجر وخطأه مغفور له لا يطلق القول على أحدهم إنه أحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله بمعنى الاستحلال والتعمد وإذا أريد أن ذلك وقع على وجه التأويل فعامة العلماء وقعوا في مثل هذا والله يأجرهم ولا يؤاخذهم على خطأهم))
قال شيخ الإسلام : ((وأئمة السنة والجماعة و أهل العلم والإيمان فيهم العلم و العدل و الرحمة فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة و يعدلون على من خرج عنها ولو ظلمهم
كما قال تعالى: ** يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
و يرحمون الخلق فيريدون لهم الخير و الهدى و العلم لا يقصدون الشر لهم ابتداء بل إذا عاقبوهم و بينوا خطأهم و جهلهم و ظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق و رحمة الخلق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا)).
وقال : ((فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له )).
الأصل الرابع: الحكم على الظاهر والله يتولى السرائر.
وهذا أصل متين من أصول الشرع الكريم، ومحله هنا : أن من نازع نزاعاً غير سائغ وأظهر الاستدلال والرجوع لنصوص الشرع في الجملة = عذرناه ،ولم نحكم عليه بأنه صاحب هوى،أو نحوه بغير بينة ظاهرة ،وأن مرجع ذلك الحكم في الجملة لأهل العلم لا لآحاد الناس والطلبة.
ونحن لا نمنع أن يكون بعض من يشذ =أصحاب هوى ،ولكنا نمنع التصدي لإصدار مثل هذه الأحكام القضائية الباطنية من غير بينات ظاهرة،وأهل العلم من السلف ما كانوا يهجمون على الحكم على أعيان العلماء بمثل ذلك في الجملة،ومن وقع منه ذلك منهم أنكره عليه من بعده من أهل العلم صيانة لهذا الأصل الكريم أن ينتهك.
قال شيخ الإسلام : ((وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع))
فتأمل حرصه على نفس القيد حتى مع من خالف القطعيات.
وانظر إليه لما تسور بعضهم على باطن الرازي (وليس جل من يشذ بأعظم خطأ من الفخر الرازي )كيف رد : ((وَلَيْسَ هَذَا تَعَمُّدًا مِنْهُ لِنَصْرِ الْبَاطِلِ ؛ بَلْ يَقُولُ بِحَسَبِ مَا تُوَافِقُهُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فِي نَظَرِهِ وَبَحْثِهِ . فَإِذَا وُجِدَ فِي الْمَعْقُولِ بِحَسَبِ نَظَرِهِ مَا يَقْدَحُ بِهِ فِي كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ قَدَحَ بِهِ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْبَحْثَ الْمُطْلَقَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُ فَهُوَ يَقْدَحُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ قَادِحٌ فِيهِ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِالْآخَرِينَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسِيءُ بِهِ الظَّنَّ وَهُوَ أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْكَلَامَ الْبَاطِلَ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَكَلَّمَ بِحَسَبِ مَبْلَغِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ)).
الأصل الخامس : أن صورة الرد على أصحاب الخلاف غير السائغ –فيما ليس من مقاطع الحقوق التي قدمناها- ترجع لاجتهاد العالم.
هل يُذكر اسمه أم لا ؟
هل يُفرد بالرد في كتاب أم لا ؟
تستعمل معه الشدة أم الرفق (تنبه: لم نقل العدل أو البغي فهذا لا تخيير فيه).
كل ذلك يختلف :
باختلاف المردود عليه وعلمه وفضله
هل يدعو إلى باطله أم لا (؟؟)
وباختلاف حال السنة والإسلام
وباختلاف الباب الذي وقع فيه الخطأ
وباختلاف درجة الضرر الناجم عن الفتوى الشاذة
وباختلاف حال المفتي بالقول الشاذ هل يكثر ذلك منه أو يقل ..
في اعتبارات كثيرة يُقدرها العالم ويضبطها ولا تترك لأهواء الناس تتصرف فيها..
ومن هنا تعلم خطأ من يطلب التسوية في المعاملة بين زلات ابن منيع مثلاً أو الألباني أو شيخ الإسلام = وبين زلات القرضاوي والجديع والعلواني وذلك الحزب كله..
لا بالطبع ..ليسوا سواء فزلات الآخرين أكثر وقدرها وعظم بُعدها أكبر وجنايتها أعظم ..والتسوية بين المتفرقات من تطفيف الميزان...
المهم أن تعقلَ أن جهة عدم التسوية هي في الأبواب الاجتهادية التي مثلتُ لك..
أما مقاطع الحقوق وأبواب العدل والظلم والإنصاف والبغي وتحريم السب وحرمة انتهاك الأعراض ووجوب الإعذار ،وترك التسور على البواطن= فهذه الجميع (من شيخ الإسلام إلى الشيخ القرضاوي) فيها سواء وهي من المتماثلات التي لا تفريق بينها.
والحمد لله رب العالمين
أما بعد..
فلابد من جواب بعض الأسئلة قبل الدخول في بيان أصول تلك الطريقة..
السؤال الأول : ما هو ضابط الخلاف غير السائغ (؟)
الجواب: يكون الخلاف غير سائغ إذا توفرت فيه هذه الشرط :
أولاً : أن يصدر الخلاف من غير متأهل للاجتهاد المناسب للمسألة محل البحث.
ثانياً : أن يكون القول مخالفاً للإجماع القديم الصحيح .
ثالثاً : أن يكون القول مخالفا لنص قطعي، أو مخالف لظني من غير أن يبدي حجة تؤذن بالمخالفة، أو دليل مقاوم.(ولا يشترط في الحديث أن يكون قطعي الثبوت بل يكفي مجرد التسليم بصحته في الجملة)
رابعاً : أن يكون القول مبنياً على أصل غير معتبر ثبت عدم اعتباره بالدليل القاطع واضح القطعية.
فمتى صدر القول ممن له حق الاجتهاد وبناه على أصل معتبر ولم يُخالف به دليلاً ثابتاً واضح القطعية في دلالته = كان قولاً سائغاً معتبراً وإلا كان غير سائغ.
السؤال الثاني : كيف يكون خلاف مخالف القطعيات السابقة = خلافاً غير سائغ فقط (؟)
قلت: هذا باب خلط فيه كثير من الناس حتى أوقعهم ذلك في تكفير مخالف القطعيات ضربة لازب..
وهذا باطل محض ولا يَكفر إلا من أنكر القطعي الواضح المعلوم من الدين بالضرورة ..
أما مطلق القطعيات فهي مما يتفاوت في ضبطه والحكم عليه =الناس...
ولا يكفر منكر القطعي إلا إذا لم يكن عنده حجة يدفع بها ذلك القطعي ..
أي : لا يكفر إلا إذا سلم بقطعيتها ثم أنكرها..
أما من خالف القطعي فلا تخلو هذه القطعية من أن تكون ظاهرة أو غير ظاهرة ..
فغير الظاهرة أي التي ترجع لوثوق الباحث في الحجة لا لأنها تحتوي على ما يفيد القطعية = فهذه لا تجعل خلاف مخالفه غير سائغ..
أما القطعية الواضحة فهي التي تجعل الخلاف غير سائغ..
وضبط هاتين الرتبتين من موارد الاجتهاد وفيه الطرفان والوسط..
ولذا عبرنا في الكلام بوصف القطعية بالوضوح وإلا فالباحث قد ينظر في الدليل فيراه قطعياً ولا تكون هذه القطعية بمنزلة القطعية الواضحة لكل أحد.
قال شيخ الإسلام رداً على من نفى الوصول للقطعية بالاجتهاد : (( تضمن هذا الكلام أن ما علم بالاجتهاد لا يكون قطعياً قط ، وليس الأمر كذلك ، فرب دليل خفي قطعي )).
قال الجويني : ((ثم القواطع : منها الجلي ومنها خفي...)).
ولذا لا يأثم مخالف القطعي لمجرد مخالفته له ..قال شيخ الإسلام : ((وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وُجُوبًا ظَاهِرًا ، مِثْلُ حَدِيثٍ صَحِيحٍ لَا مُعَارِضَ مِنْ جِنْسِهِ فَيَسُوغُ لَهُ - إذَا عَدِمَ ذَلِكَ فِيهَا - الِاجْتِهَادُ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَارِبَةِ .أَوْ لِخَفَاءِ الْأَدِلَّةِ فِيهَا .وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً طَعْنٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ كَسَائِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا السَّلَفُ)) .
ثم نبدأ الكلام عن هذه الأصول بحول الله وقوته ..
الأصل الأول : أن الخلاف غير السائغ هو من المحرمات ،يجب اجتنابه ، وعدم تقليد صاحبه .ولا يُفتى به .
أما كونه حراماً فقد قال الشافعي : ((الاختلاف من وجهين : أحدهما محرم ،ولا أقول ذلك في الآخر)).
وأما وجوب اجتنابه فقد قال الأوزاعي : ((نجتنب أو نترك من قول أهل العراق خمسا ومن قول أهل الحجاز خمسا من قول أهل العراق شرب المسكر والأكل في الفجر في رمضان ولا جمعة إلا في سبعة أمصار وتأخير صلاة العصر حتى يكون ظل كل شيء أربعة أمثاله والفرار يوم الزحف ومن قول أهل الحجاز استماع الملاهي والجمع بين الصلاتين من غير عذر والمتعة بالنساء والدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين يدا بيد وإتيان النساء في أدبارهن )).
وقال ابن مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم: (( ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه و سلم وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا)).
قال الشاطبي : ((زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدا له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة وإلا فلو كانت معتدا بها لم يجعل لها هذه الرتبة ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها )).
الأصل الثاني : أن تلك القطعية لا تمنع إعذار المخالفين لها ؛ لما لهم من الشبهة والتأويل ، ومخالفتهم للقطعيات لا تمنع إعذارهم.
قال شيخ الإسلام : ((فمن قال إن المخطىء في مسألة قطعية أو ظنية يأثم فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم ، قالوا وأيضا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين ليس هو وصفا للقول في نفسه فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنده وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا وقد يكون الإنسان ذكيا قوي الذهن سريع الإدراك علما وظنا فيعرف من الحق ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة وبحسب قدرته على الاستدلال، والناس يختلفون في هذا وهذا فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه حتى يقال كل من خالفه قد خالف القطعي بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد وهذا مما يختلف فيه الناس فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس)).
قال شيخ الإسلام : (( إن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسائل الاجتهاد كما قد بيناه وبينا إجماع الصحابة على المنع منها بكلام غليظ يخرجها من مسائل الاجتهاد واتفاق السلف على أنها بدعة محدثة وكل بدعة تخالف السنة وآثار الصحابة فإنها ضلالة وهذا منصوص الإمام أحمد وغيره ، وحينئذ فلا يجوز تقليد من يفتي بها ويجب نقض حكمه ولا يجوز الدلالة لأحد من المقلدين على من يفتي بها مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد وقد نص أحمد على هذه المسائل في مثل هذا وإن كنا نعذر من اجتهد من المتقدمين في بعضها وهذا كما أن أعيان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ ونحوها )).
قال الشاطبي : ((كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين)).
ويقول الشيخ عمن خالف ما في عقيدته الواسطية (وجل خلاف ما في الواسطية إنما هو من الخلاف غير السائغ): ((وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَالِكًا فَإِنَّ الْمُنَازِعَ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا يَغْفِرُ اللَّهُ خَطَأَهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاوَلَةُ لَهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُ وَالْقَانِتُ وَذُو الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَغْفُورُ لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ : فَهَذَا أَوْلَى ، بَلْ مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ نَجَا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ وَمَنْ اعْتَقَدَ ضِدَّهُ فَقَدْ يَكُونُ نَاجِيًا وَقَدْ لَا يَكُونُ نَاجِيًا كَمَا يُقَالُ مَنْ صَمَتَ نَجَا)).
وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/113،12)،(4/501)،(5/306)،و((جامع المسائل)) (3/151)،و((الدرر السنية)) (10/93-95).
الأصل الثالث :الموقف من قائل القول غير السائغ هو نفس الموقف من المسلم إذا ارتكب محرماً يغلب على الظن تأوله فيه .فنصيحته واجبة،وحفظ حرمته قائم.فما دام مسلماً فله من حقوق المسلم ..تزيد كلما زادت موجبات الإسلام عنده.
فلا يجوز شتمه ولا سبه،ولا الكذب عليه ، ولا البغي عليه ولا تحميل كلامه مالا يحتمل مع إدامة إنصافه والعدل فيه ومعه.
وأبدأ هذا بذكر تقرير شيخ الإسلام لعدل أهل السنة مع الرافضة،ولم يقل وأين أنتم من ظلم الرافضة وبغيهم،بل قرر : ليس لنا مثل السوء وأنا لا ننزل لدركات الظالمين،وليس من شذ شراً من الرافضة..
يقول الشيخ : ((ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض)).
الإخنائي عندي أشر وأفسد من جل من يشذ من مجتهد المسلمين اليوم..فانظر إلى عدل شيخ الإسلام معه واعتباره لإسلامه حين يقول : ((وهذا الموضع يغلط فيه هذا المعترض وأمثاله،ليس الغلط فيه من خصائصه،ونحن نعدل فيه ونقصد قول الحق والعدل فيه كما أمر الله تعالى فإنه أمر بالقسط على أعدائنا الكفار ....فكيف بإخواننا المسلمين ،والمسلمون أخوة والله يغفر له ويسدده ويوفقه وسائر إخواننا المسلمين )).
ويقول الشيخ في ابن مخلوف وهو أضر وأشر من مئة كالذين يشذون: ((وَابْنُ مَخْلُوفٍ لَوْ عَمِلَ مَهْمَا عَمِلَ وَاَللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى خَيْرٍ إلَّا وَأَعْمَلُهُ مَعَهُ وَلَا أُعِينُ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ قَطُّ . وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . هَذِهِ نِيَّتِي وَعَزْمِي ، مَعَ عِلْمِي بِجَمِيعِ الْأُمُورِ . فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَنْ أَكُونَ عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى إخْوَانِي الْمُسْلِمِينَ)).
لما تكلم أحد العلماء في محمد بن طاهر بكلام خشن رد عليه الذهبي وقال في رده عليه فيما نسبه إلى ابن طاهر من أنه كان يرى الإباحة : ((قُلْتُ:مَا تَعْنِي بِالإِباحَةِ؟إِن أَردتَ بِهَا الإِباحَة المطلقَة، فَحَاشَا ابْن طَاهِر، هُوَ - وَاللهِ - مُسْلِمٌ أَثرِيٌّ، مُعَظِّمٌ لِحُرُمَاتِ الدِّينِ، وَإِنْ أَخْطَأَ أَوْ شَذَّ، وَإِن عَنِيتَ إِباحَةً خَاصَّةً، كَإِباحَةِ السَّمَاعِ، وَإِباحَةِ النَّظَر إِلَى المُرْدِ، فَهَذِهِ مَعصيَةٌ، وَقول لِلظَاهِرِيَة بِإِباحتهَا مرجوح
ثم قال ابن ناصر: كان يذهب مذهب الإباحة. يعني في النظر إلى الملاح. وإلا فلو كان يذهب إلى إباحة مطلقة لكان كافراً، والرجل مسلم متبع للأثر، سني. وإن كان قد خالف في أمور مثل جواز السماع، وقد صنف فيه مصنفاً ليته لا صنفه)).
فأنظر كيف عدل معه حتى حرر مذهبه وحفظ له حقه !!
وقال الذهبي : ((قلت: غلاة المعتزلة، وغلاة الشيعة، وغلاة الحنابلة، وغلاة الأشاعرة، وغلاة المرجئة، وغلاة الجهمية، وغلاة الكرامية، قد ماجت بهم الدنيا، وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة، لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن))
فتأمل كيف أثبت العلم والعذر بالتأويل حتى لغلاة أهل البدع.
ولا يقال لصاحب الخلاف غير السائغ على سبيل الذم والتشنيع: أنت أحللت الحرام..
قال الشافعي : ((و المستحل لنكاح المتعة و المفتي بها و العامل بها ممن لا ترد شهادته و كذلك لو كان موسرا فنكح أمة مستحلا لنكاحها مسلمة أو مشركة لأنا نجد من مفتي الناس و أعلامهم من يستحل هذا و هكذا المستحل الدينار بالدينارين و الدرهم بالدرهمين يدا بيد و العامل به لأنا نجد من أعلام الناس من يفتي به و يعمل به و يرويه و كذلك المستحل لإتيان النساء في أدبارهن فهذا كله عندنا مكروه محرم و إن خالفنا الناس فيه فرغبنا عن قولهم و لم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم و نقول لهم : إنكم حللتم ما حرم الله و أخطأتم لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم و ينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز و جل )).
وقال ابن المبارك لمناظريه منكراً عليهم : ((فَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةَ قَالُوا : كَانُوا خِيَارًا ، قُلْت : فَمَا قَوْلُكُمْ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَقَالُوا : حَرَامٌ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : إنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْهُ حَلَالًا فَمَاتُوا وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْحَرَامَ (؟؟!!!))).
وقال شيخ الإسلام: ((علماء المسلمين وأئمة الدين ما زالوا يتنازعون في بعض المسائل فيبيح هذا من الفروج ما يحرمه هذا كما يبيح كثير نكاح أم المزني بها وابنتها ولا يرون الزنا ينشر حرمة المصاهرة وهو قول الشافعي وغيره.... وتنازعوا فيما سوى ذلك وهم كلهم مجتهدون مصيبون بمعنى أنهم مطيعون لله وأما بمعنى العلم بحكمه في نفس الأمر فالمصيب واحد وله أجران والآخر له أجر وخطأه مغفور له لا يطلق القول على أحدهم إنه أحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله بمعنى الاستحلال والتعمد وإذا أريد أن ذلك وقع على وجه التأويل فعامة العلماء وقعوا في مثل هذا والله يأجرهم ولا يؤاخذهم على خطأهم))
قال شيخ الإسلام : ((وأئمة السنة والجماعة و أهل العلم والإيمان فيهم العلم و العدل و الرحمة فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة و يعدلون على من خرج عنها ولو ظلمهم
كما قال تعالى: ** يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
و يرحمون الخلق فيريدون لهم الخير و الهدى و العلم لا يقصدون الشر لهم ابتداء بل إذا عاقبوهم و بينوا خطأهم و جهلهم و ظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق و رحمة الخلق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا)).
وقال : ((فنهى أن يحمل المؤمنين بغضهم للكفار على ألا يعدلوا عليهم فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع متأول من أهل الإيمان فهو أولى أن يجب عليه ألا يحمله ذلك على ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له )).
الأصل الرابع: الحكم على الظاهر والله يتولى السرائر.
وهذا أصل متين من أصول الشرع الكريم، ومحله هنا : أن من نازع نزاعاً غير سائغ وأظهر الاستدلال والرجوع لنصوص الشرع في الجملة = عذرناه ،ولم نحكم عليه بأنه صاحب هوى،أو نحوه بغير بينة ظاهرة ،وأن مرجع ذلك الحكم في الجملة لأهل العلم لا لآحاد الناس والطلبة.
ونحن لا نمنع أن يكون بعض من يشذ =أصحاب هوى ،ولكنا نمنع التصدي لإصدار مثل هذه الأحكام القضائية الباطنية من غير بينات ظاهرة،وأهل العلم من السلف ما كانوا يهجمون على الحكم على أعيان العلماء بمثل ذلك في الجملة،ومن وقع منه ذلك منهم أنكره عليه من بعده من أهل العلم صيانة لهذا الأصل الكريم أن ينتهك.
قال شيخ الإسلام : ((وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع))
فتأمل حرصه على نفس القيد حتى مع من خالف القطعيات.
وانظر إليه لما تسور بعضهم على باطن الرازي (وليس جل من يشذ بأعظم خطأ من الفخر الرازي )كيف رد : ((وَلَيْسَ هَذَا تَعَمُّدًا مِنْهُ لِنَصْرِ الْبَاطِلِ ؛ بَلْ يَقُولُ بِحَسَبِ مَا تُوَافِقُهُ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فِي نَظَرِهِ وَبَحْثِهِ . فَإِذَا وُجِدَ فِي الْمَعْقُولِ بِحَسَبِ نَظَرِهِ مَا يَقْدَحُ بِهِ فِي كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ قَدَحَ بِهِ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْبَحْثَ الْمُطْلَقَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَهُ فَهُوَ يَقْدَحُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ أَنَّهُ قَادِحٌ فِيهِ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِالْآخَرِينَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسِيءُ بِهِ الظَّنَّ وَهُوَ أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ الْكَلَامَ الْبَاطِلَ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَكَلَّمَ بِحَسَبِ مَبْلَغِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ)).
الأصل الخامس : أن صورة الرد على أصحاب الخلاف غير السائغ –فيما ليس من مقاطع الحقوق التي قدمناها- ترجع لاجتهاد العالم.
هل يُذكر اسمه أم لا ؟
هل يُفرد بالرد في كتاب أم لا ؟
تستعمل معه الشدة أم الرفق (تنبه: لم نقل العدل أو البغي فهذا لا تخيير فيه).
كل ذلك يختلف :
باختلاف المردود عليه وعلمه وفضله
هل يدعو إلى باطله أم لا (؟؟)
وباختلاف حال السنة والإسلام
وباختلاف الباب الذي وقع فيه الخطأ
وباختلاف درجة الضرر الناجم عن الفتوى الشاذة
وباختلاف حال المفتي بالقول الشاذ هل يكثر ذلك منه أو يقل ..
في اعتبارات كثيرة يُقدرها العالم ويضبطها ولا تترك لأهواء الناس تتصرف فيها..
ومن هنا تعلم خطأ من يطلب التسوية في المعاملة بين زلات ابن منيع مثلاً أو الألباني أو شيخ الإسلام = وبين زلات القرضاوي والجديع والعلواني وذلك الحزب كله..
لا بالطبع ..ليسوا سواء فزلات الآخرين أكثر وقدرها وعظم بُعدها أكبر وجنايتها أعظم ..والتسوية بين المتفرقات من تطفيف الميزان...
المهم أن تعقلَ أن جهة عدم التسوية هي في الأبواب الاجتهادية التي مثلتُ لك..
أما مقاطع الحقوق وأبواب العدل والظلم والإنصاف والبغي وتحريم السب وحرمة انتهاك الأعراض ووجوب الإعذار ،وترك التسور على البواطن= فهذه الجميع (من شيخ الإسلام إلى الشيخ القرضاوي) فيها سواء وهي من المتماثلات التي لا تفريق بينها.
والحمد لله رب العالمين