طبيـعة المنـهج القـرآنـي

شـاكـر

New member
إنضم
22/02/2009
المشاركات
87
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
بسم الله الرحمن الرحيم
(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ )

1 - طبيعة القرآن المكي وحله لمشكلات الإنسان

ظل القرآن المكي ينزل على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثلاثة عشر عاما كاملة , يحدثه فيها عن قضية واحدة . قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر. ذلك الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة، حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى.

لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية ، في هذا الدين الجديد .. قضية العقيدة .. ممثلة في قاعدتها الرئيسية .. الألوهية والعبودية، وما بينهما من علاقة.

لقد كان يخاطب بهذه الحقيقة "الإنسان" .. الإنسان بما أنه إنسان .. وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان، كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان، في ذلك الزمان وفي كل زمان!

إنها قضية "الإنسان" التي لا تتغير، لأنها قضية وجوده في هذا الكون وقضية مصيره. قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء، وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء. وهي قضية لا تتغير، لأنها قضية الوجود والإنسان.

لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله .. كان يقول له : من هو ؟ ومن أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟ ومن ذا الذي يذهب به، وما مصيره هناك؟ وكان يقول له: ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه، والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ولا يراه؟ من أنشأ هذا الوجود الملئ بالأسرار؟ من ذا الذي يدبره؟ ومن ذا يحوره؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟ وكان يقول له كذلك: كيف يتعامل مع خالق هذا الكون، ومع الكون أيضا، كما يبين له كيف يتعامل العباد مع العباد؟

وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود "الإنسان". وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده على توالي الزمان.

وهكذا انقضت ثلاثة عشرة عاما كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى، القضية التي ليس وراءها شئ في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات.

ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة , إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان , وأنها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان , التي قدر الله لها أن يقوم هذا الدين عليها ; وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين .



2 - حكمة البدء بالعقيدة وليس بالقومية أو الإجتماعية أو الأخلاقية.

وأصحاب الدعوة إلى دين الله , وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة ; خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة . . ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما . . لتقرير هذه العقيدة ; ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها , والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها . .
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة . وأن يبدأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أولى خطواته في الدعوة , بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ; وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق , ويعبدهم له دون سواه .

ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب !
فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى:"إله" ومعنى:"لا إله إلا الله" . . كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا . . وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله - سبحانه - بها , معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام , ورده كله إلى الله . . السلطان على الضمائر , والسلطان على الشعائر , والسلطان على واقعيات الحياة . . السلطان في المال , والسلطان في القضاء , والسلطان في الأرواح والأبدان . . كانوا يعلمون أن:"لا إله إلا الله" ثورة على السلطان الأرضي , الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية , وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب ; وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله . . ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا , ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة:"لا إله إلا الله" - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم . . ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف , وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام . .

فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة ؟ ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء ؟



يتبع بإذنه تعالى
 
كان باستطاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلنها دعوة قومية أو اجتماعية .. ولكن .. !

كان باستطاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلنها دعوة قومية أو اجتماعية .. ولكن .. !

لقد بُعث رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بهذا الدين , وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب ;
إنما هي في يد غيرهم من الأجناس !
بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم , يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان .
وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس . .
وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحارى القاحلة ,
التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك !

وكان في استطاعة محمد [صلى الله عليه وسلم ] وهو الصادق الأمين ;
الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود , وارتضوا حكمه , منذ خمسة عشر عاما ;
والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا . .
كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب , التي أكلتها الثارات , ومزقتها النزاعات ,
وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة ;
الرومان في الشمال والفرس في الجنوب ;
وإعلاء راية العربية والعروبة ; وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة . .

ولو دعا يومها رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح –
بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة !

وربما قيل:
إن محمدا [صلى الله عليه وسلم ] كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة ;
وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة ; وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه . .
أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ,
وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !

ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجه رسوله [صلى الله عليه وسلم ] هذا التوجيه !
إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله: وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء !

لماذا ؟
إن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه . .
إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق . .
ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى يد طاغوت عربي . .
فالطاغوت كله طاغوت ! . .
إن الأرض لله , ويجب أن تخلص لله . ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية:"لا إله إلا الله" . .
وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى طاغوت عربي . .
فالطاغوت كله طاغوت !
إن الناس عبيد لله وحده , ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية : "لا إله إلا الله" . .
"لا اله الا الله" كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته :
لا حاكمية إلا لله ,
ولا شريعة إلا من الله ,
ولا سلطان لأحد على أحد , لأن السلطان كله لله . .
ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة ,
التي يتساوي فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله .
وهذا هو الطريق . .



وبُعث رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] بهذا الدين ,
والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة . .
قلة قليلة تملك المال والتجارة ; وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها .
وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع . .
والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة ;
وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا !

وكان في استطاعة محمد [صلى الله عليه وسلم ] أن يرفعها راية اجتماعية ;
وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف ;
وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء !

ولو دعا يومها رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] هذه الدعوة ,
لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة , في وجه طغيان المال والشرف .
بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه: "لا إله إلا الله" التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس .

وربما قيل:
إن محمدا [صلى الله عليه وسلم ] كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة ;
وتوليه قيادها ; فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها . .
أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ,
وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !


ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجهه هذا التوجيه . .

لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق . .
كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل ;
يرد الأمر كله لله ;
ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع ,
ومن تكافل بين الجميع ; ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله ;
ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء .
فلا تمتلى ء قلوب بالطمع , ولا تمتلىء قلوب بالحقد ;
ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا ; وبالتخويف والإرهاب !
ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح ; كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير:"لا إله إلا الله" . .


يتبع بإذن الله تعالى
 
أو كان باستطاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلنها دعوة إصلاحية أخلاقية .. ولكن .. !

أو كان باستطاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلنها دعوة إصلاحية أخلاقية .. ولكن .. !

وبُعث رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية
في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى - إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية .

كان التظالم فاشيا في المجتمع , تعبر عنه حكمة الشاعر: زهير بن أبى سلمى:

(ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه % يهدم , ومن لا يظلم الناس يظلم)
ويعبر عنه القول المتعارف: "انصر أخاك ظالما أو مظلومًا" .

وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخرة كذلك !
يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته . .
كالذي يقوله طرفة بن العبد:

(فلولا ثلاث هن من زينة الفتى % وجدك لم أحفل متى قام عودي)
(فمنهن سبقي العاذلات بشربة % كميت متى ما تعل بالماء تزبد !)
. . . الخ

وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا التجمع . .

كالذي روته عائشة رضي الله عنها:
"إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:
فنكاح منها نكاح الناس اليوم:يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته , فيصدقها ثم ينكحها . .
والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه .
ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه .
فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد !
فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . .
ونكاح آخر:يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرآة , كلهم يصيبها .
فإذا حملت ووضعت , ومر عليها ليال , بعد أن تضع حملها , أرسلت إليهم ,
فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع , حتى يجتمعوا عندها ,
تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم , وقد ولدت , فهو ابنك يا فلان ,
تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها , ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل .
والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها –
وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما , فمن أرادهن دخل عليهن
- فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها , جمعوا لها ودعوا القافة ,
ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه , ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك" . . .
[ أخرجه البخاري في كتاب النكاح ] .


وكان في استطاعة محمد [صلى الله عليه وسلم ] أن يعلنها دعوة إصلاحية ,
تتناول تقويم الأخلاق , وتطهير المجتمع , وتزكية النفوس , وتعديل القيم والموازين . .

وكان واجدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة ,
يؤذيها هذا الدنس ; وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير . .

وربما قال قائل:
إنه لو صنع رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة ;
تتطهر أخلاقها , وتزكو أرواحها , فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها . .
بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق !

ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجه رسوله [صلى الله عليه وسلم ] إلى مثل هذا الطريق . .

لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق !
كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة , تضع الموازين ,
وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم ;
كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين .
وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة ;
وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك ; بلا ضابط , وبلا سلطان , وبلا جزاء !



فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة . .
لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده . .
لما تحرر الناس من سلطان العبيد , ومن سلطان الشهوات سواء . .
لما تقررت في القلوب: "لا إله إلا الله" . .
صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون . .

تطهرت الأرض من الرومان والفرس . . لا ليتقرر فيها سلطان العرب . . ولكن ليتقرر فيها سلطان الله . .
لقد تطهرت من الطاغوت كله :رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء .
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته . وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله ,
ويزن بميزان الله ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده ;
ويسميها راية الإسلام ,
لا يقرن إليها اسما آخر ; ويكتب عليها:"لا إله إلا الله" !

وتطهرت النفوس والأخلاق , وزكت القلوب والأرواح ;
دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله - إلا في الندرة النادرة –
لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ; ولأن الطمع في رضى الله وثوابه ,
والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات . .

وارتفعت البشرية في نظامها , وفي أخلاقها , وفي حياتها كلها ,
إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط ; والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام . .

ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام ;
كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم ,
في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك .


وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا ,
لا يدخل فيه الغلب والسلطان . . ولا حتى لهذا الدين على أيديهم . .
وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا . .
وعدا واحدا هو الجنة
. .

هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني , والابتلاء الشاق , والمضي في الدعوة ,
ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان , في كل زمان وفي كل مكان ,
وهو: "لا إله إلا الله" !


فلما أن ابتلاهم الله فصبروا ;
ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ;
ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض
- كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم , وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم –
ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم ,
ولا اعتزاز بوطن ولا أرض .
ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت . .

لما أن علم الله منهم ذلك كله ,
علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى .
أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها الله سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر ,
وفي الأرواح والأموال , وفي الأوضاع والأحوال . .
وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها , وعلى عدل الله يقيمونه ,
دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولالجنسهم ;
إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ولدينه وشريعته ,
لأنهم يعلمون أنه من الله , هو الذي آتاهم إياه .

ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع , إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء ,
وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها . . راية لا إله إلا الله . . ولا ترفع معها سواها . .
وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره ;
المبارك الميسر في حقيقته .

وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله ,
لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية , أو دعوة اجتماعية , أو دعوة أخلاقية . .
أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد:
"لا إله إلا الله" . .


يتبع بإذن الله تعالى
 
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله عليه و سلم تسليما
أخي الحبيب جزاك الله خيرا
قد أبدعت.. وفقك الله..
غير أني اريد أن انبهك إلى شيء هو عن قولك :


كان باستطاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلنها دعوة قومية أو اجتماعية .. ولكن .. !


أو كان باستطاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلنها دعوة إصلاحية أخلاقية .. ولكن .. !

فربما يذهب إلى الذهن أنه هو من اختار ذلك.. و الله هو الذي اختار ذلك..
فهو لم يكن باستطاعته تغيير شيء مما اختاره الله تعالى و إلا فما بلغ رسالته.. ربما الأوفق هنا أن نسأل :
مالحكمة في أن الله لم يأمره بذلك ؟

و الله تعالى أعلم
و رب شيء فهمته أنت غاب عن ذهني أنا فنبهني
و جزاك الله خيرا
على ما كتبت أخي الكريم و زادك الله في علمك
يغفر الله لي و لكم
 
حياك الله أخانا الفاضل،
ما تفضلت به صحيح ولكن بسبب ضيق خانة العنوان فإنها لا تتسع لتكملة العبارة فاكتفيت بكلمة ( ولكن ..)
أما تكملتها وتوضيحها فقد تكرر في السياق نفسه :
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة ؟ ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء ؟

ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجه رسوله [صلى الله عليه وسلم ] هذا التوجيه !
إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله: وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء !


ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجه رسوله [صلى الله عليه وسلم ] إلى مثل هذا الطريق . .

لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق !

ثانيا:
جزاك الله خيرا على حسن ظنك بأخيك ولكني ناقل فقط للموضوع، وسيتم وضع المصدر في نهايته إن شاء الله تعالى.
فرحم الله صاحبه وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
 
وبكم بارك الله تعالى
وجزاك خيرا على المتابعة.
 
3 - لماذا بدأ القرآن بالعقيدة ثم بالتشريعات ؟ وطريق الدعوة !

3 - لماذا بدأ القرآن بالعقيدة ثم بالتشريعات ؟ وطريق الدعوة !

ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير: "لا إله إلا الله" في القلوب والعقول ,
واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى ;
والإصرار على هذا الطريق . .

فأما شأن هذا القرآن (المكي) في تناول قضية الاعتقاد وحدها ,
دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها , والشرائع التي تنظم المعاملات فيها . .
فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية . .


إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا . .
فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة . .
كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير . .

وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان , الضاربة في الهواء . .
لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة , وفي مساحات واسعة ;
تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء . . فكذلك هذا الدين . .
إن نظامه يتناول الحياة كلها ; ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها ;
وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها , ولكن كذلك في الدار الآخرة ;
ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ;
ولا في المعاملات الظاهرة المادية , ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا . .
فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية . .
ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا . .

هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته ; يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ;
ويجعل بناء العقيدة وتمكينها , وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها . .
ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة ,
وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء , والضارب من جذورها في الأعماق . .


ومتى استقرت عقيدة : "لا إله إلا الله" في أعماقها الغائرة البعيدة ,
استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه : "لا إله إلا الله" ;
وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة . .
واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته , وقبل أن تعرض عليها تشريعاته .
فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان . .
وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول ,
لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له .
وهكذا أبطلت الخمر , وأبطل الربا , وأبطل الميسر , وأبطلت العادات الجاهلية كلها ,
أبطلت بآيات من القرآن , أو كلمات من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]
بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله
بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها , وجندها وسلطانها , ودعايتها وإعلامها . .
فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات ;
بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات !


وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم . .
إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد . .
جاء ليحكم الحياة في واقعها ; ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره . .
يُقره أو يُعدله أو يُغيره من أساسه . .
ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا , في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده .

إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض !
إنه منهج يتعامل مع الواقع !
فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا الله , وأن الحاكمية ليست إلا لله ;
ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله ; ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة . .
وحين يقوم هذا المجتمع فعلا , تكون له حياة واقعية , تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع . .
وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع . .
لقوم مستسلمين أصلا للنظم والشرائع , رافضين ابتداء لغيرها من النظم والشرائع . .

ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم
ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع ; حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جديتها . .
فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها .

والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم .
وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة الله . .
ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع ;
وإنما نزل لهم عقيدة , وخلقا منبثقا من العقيدة بعد اسقرارها في الأعماق البعيدة . .
فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع ;
وتقرر لهم النظام ; الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية ;
والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ . .

ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة ,
ليختزنوها جاهزة , حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة !
إن هذه ليست طبيعة هذا الدين !
إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية !
إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا . .
إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص , وفق حجمه وشكله وملابساته . .

والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام , وأن يصوغ تشريعات حياة . .
بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها , ورفض كل شريعة سواها ,
مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه . .
الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين , ولا كيف يعمل في الحياة ; كما يريد له الله . .

إنهم يريدون منه
أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية , ومناهج بشرية .
ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته
ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة . .
إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض , تواجه مستقبلا غير موجود . .

والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده . .
عقيدة تملأ القلب , وتفرض سلطانها على الضمير .
عقيدة مقتضاهاألا يخضع الناس إلا لله , ولا يتلقوا الشرائع إلا من الله .
وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم , ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم ,
تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية , وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك .

كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية ,
أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين ,
يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة - حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين !
وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون –
يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة : لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي ..
وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله , وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم . .
إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم , وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم . .

ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة . .
هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة . .

فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل - عصبة من الناس ,
فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلام في حياتها الاجتماعية ;
لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس ; وألا تحكم في حياتها كلها إلا الله .

وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه ;
كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية ,
في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي . .
فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد . .

ولقد يخيل إلى بعض المخلصين المتعجلين ,
ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين , وطبيعة منهجه الرباني القويم ,
المؤسس على حكمه العليم الحكيم , وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة . .
نقول لقد يخيل لبعض هؤلاء
أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك - على الناس مما ييسر لهم طريق الدعوة ,
ويحبب الناس في هذا الدين !

وهذا وهم تنشئه العجلة !
وهم كالذي كان يقترحه المقترحون:أن تقوم دعوة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] –
في أولها تحت راية قومية , أو اجتماعية , أو أخلاقية , تيسيرا للطريق !

إن النفوس يجب أن تخلص أولا لله ,
وتعلن عبوديتها له , بقبول شرعه وحده ورفض كل شرع غيره . . من ناحية المبدأ . .
قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه !

إن الرغبة يجب أن تنبثق من الرغبة في إخلاص العبودية لله , والتحرر من سلطان سواه . .
لا من أن النظام المعروض عليها . . في ذاته . . خير مما لديها في كذا وكذا على وجه التفصيل .

إن نظام الله خير في ذاته , لأنه من شرع الله .
ولن يكون شرع العبيد يوما كشرع الله . .
ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة . .
إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع الله وحدة ورفض كل شرع غيره هو ذاته الإسلام .
وليس للإسلام مدلول سواه .
فمن رغب في الإسلام فقد فصل في هذه القضية ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته . .
فهذه إحدى بديهيات الإيمان !


يتبع بإذنه تعالى
 
4 - منهج القرآن في عرض العقيدة

4 - منهج القرآن في عرض العقيدة


وبعد
فلا بد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاما . .

إنه لم يعرضها في صورة "نطرية " !
ولم يعرضها في صورة "لاهوت"
ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاوله فيما بعد ما سمي ب "علم التوحيد" أو "علم الكلام" !

كلا . .
لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة "الإنسان" بما في وجوده هو وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات . .

كان يستنقذ فطرته من الركام ; ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها ;
ويفتح منافذ الفطرة لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها . .
والسورة التي بين أيدينا (الأنعام) نموذج كامل من هذا المنهج المتفرد
وسنتحدث عن خصائصها بعد قليل . .
هذا بصفة عامة .

وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية . .
كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة . . في نفوس آدمية حاضرة واقعة . .
ومن ثم لم يكن شكل "النظرية " هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الحاضر .
إنما كان هو شكل المواجهة الحية
للعقابيل والسدود والحواجز والمعوقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية . .

ولم يكن الجدل الذهني الذي انتهجه - في العصور المتأخرة - علم التوحيد , هو الشكل المناسب كذلك . .
فلقد كان القرآن يواجه واقعا بشريا كاملا بكل ملابساته الحية ;
ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع . .
وكذلك لم يكن "اللاهوت" هو الشكل المناسب .
فإن العقيدة الإسلامية ولو أنها عقيدة , إلا أنها عقيدة تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي ;
ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية !

كان القرآن وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة
يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها ;
كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها وأخلاقها وواقعها . .

ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة , لا في صورة نظرية , ولا في صورة لاهوت ولا في صورة جدل كلامي . .
ولكن في صورة تكوين تنظيمي مباشر للحياة , ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها .
وكان نمو الجماعة المسلمة في تصورها الاعتقادي , وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور ,
وفي دربتها على مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها . .
كان هذا النمو ذاته ممثلا تماما لنمو البناء العقيدي , وترجمة حية له . .
وهذا هو منهج الإسلام الذي يمثل طبيعته كذلك . .

وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية
أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بيناه . .
ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكي على هذا النحو ,
لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية , والبناء الواقعي للجماعة المسلمة . .
لم تكن مرحلة تلقي "النظرية " ودراستها !
ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معا . .
وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى . .

هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة ; وأن تتم خطواتها على مهل وفي عمق وتثبت . .
وهكذا ينبغي ألا تكون مرحلة بناء العقيدة مرحلة دراسة نظرية للعقيدة ;
ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة في صورة حية ,
متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ;
ومتمثلة في بناء جماعي يعبر نموه عن نمو العقيدة ذاتها ;
ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك ;
لتتمثل العقيدة حية وتنمو نموا حيا في خضم المعركة .

وخطأ أي خطأ - بالقياس إلى الإسلام –
أن تتبلور النظرية في صورة نظرية مجردة للدراسة النظرية . . المعرفية الثقافية . . بل خطر أي خطر كذلك . .

إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاما كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى . . كلا !
فلو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة ;
ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عاما أو أكثر أو أقل , حتى يستوعبوا "النظرية الإسلامية " !




ولكن الله - سبحانه - كان يريد أمراً آخر . كان يريد منهجا معينا متفردا .
كان يريد بناء الجماعة وبناء الحركة .. وبناء العقيدة في وقت واحد .
كان يريد أن يبني الجماعة والحركة .. بالعقيدة ,
وأن يبني العقيدة .. بالجماعة والحركة !


كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الفعلي ,
وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو صورة العقيدة . .


وكان الله - سبحانه - يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة . .
فلم يكن بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة . .
حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج . .

هذه هي طبيعة هذا الدين - كما تستخلص من منهج القرآن المكي - ولا بد أن نعرف طبيعته هذه ;
ولا نحاول أن نغيرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية !
فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة ,
وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود , كما أخرجها الله أول مرة . .

يجب أن ندرك خطأ المحاولة , وخطرها معا ,
في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي يجب أن تتمثل في واقع تام حي متحرك ,
إلى "نظرية " للدراسة والمعرفة الثقافية لمجرد أننا نريد أن نواجه "النظريات" البشرية الهزيلة بنظرية إسلامية !


إن العقيدة الإسلامية يجب أن تتمثل في نفوس حية , وفي تنظيم واقعي ,
وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها , كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها
- بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم وتنتزعها من الوسط الجاهلي .
وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول ومن الحياة أيضا مساحة أضخم وأوسع وأعمق مما تشغله "النظرية " ;
وتشمل - فيما تشمل - مساحة النظرية ومادتها . ولكنها لا تقتصر عليها .

إن التصور الإسلامي للألوهية وللوجود الكوني وللحياة وللإنسان , تصور شامل كامل .
ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي .
وهو يكره - بطبيعته - أن يتمثل في مجرد تصور ذهني معرفي .
لأن هذا يخالف طبيعته وغايته .
ويجب أن يتمثل في أناسي , وفي تنظيم حي , وفي حركة واقعية . .
وطريقته في التكون أن ينمو من خلال الأناسي والتنظيم الحي والحركة الواقعية ;
حتى يكتمل نظريا في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعيا ;
ولا ينفصل في صورة نظرية ; بل يظل ممثلا في الصورة الواقعية . .

وكل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي , ولا يتمثل من خلاله ,
هو خطأ وخطر كذلك بالقياس إلى طبيعة هذا الدين , وغايته , وطريقة تركيبه الذاتي .
والله سبحانه يقول:
(وقرآنا فرقناه , لتقرأه على الناس على مكث , ونزلناه تنزيلًا). .
فالفرق مقصود . والمكث مقصود كذلك . .
ليتم البناء التكويني المؤلف من عقيدة في صورة "منظمة حية " لا في صورة "نظرية معرفية " !

يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدا ,
أنه كما أن هذا الدين دين رباني , فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك , متواف مع طبيعته .
وأنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل .


ويجب أن يعرفوا كذلك أن هذا الدين كما أنه جاء ليغير التصور الاعتقادي - ومن ثم يغير الواقع الحيوي –
فكذلك هو قد جاء ليغير المنهج الفكري والحركي الذي يبني به التصور الاعتقادي ويغير به الواقع الحيوي . .

جاء ليبني عقيدة وهو يبني أمة . .
ثم لينشىء منهج تفكير خاصا به بنفس الدرجة التي ينشىء بها تصورا اعتقاديا وواقعا حيويا .
ولا انفصال بين منهج تفكيره الخاص وتصوره الاعتقادي وبنائه الحيوي , فكلها حزمة واحدة .

فإذا عرفنا منهجه في العمل على النحو الذي بيناه ,
فلنعرف أن هذا المنهج أصيل ;
وليس منهج مرحلة ولا بيئة ولا ظروف خاصة بنشأة الجماعة المسلمة الأولى .
إنما هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين إلا به
.


إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب .
ولكن كانت وظيفته أن يغير طريقة تفكيرهم , وتناولهم للتصور وللواقع .
ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها لمناهج البشر القاصرة الهزيلة .

ونحن لا نملك أن نصل إلى التصور الرباني والحياة الربانية إلا عن طريق منهج تفكير رباني كذلك .
منهج أراد الله أن يقيم منهج الناس في التفكير على أساسه ليصح تصورهم وتكوينهم الحيوي .

ونحن حين نريد من الإسلام أن يجعل من نفسه نظرية للدراسة نخرج عن طبيعة المنهج الرباني للتكوين ;
وعن طبيعة المنهج الرباني للتفكير . ونخضع الإسلام لطرائق التفكير البشرية !
كأنما المنهج الرباني أدنى من المناهج البشرية !
وكأنما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد !
والأمر من هذه الناحية يكون خطيرا . والهزيمة تكون قاتلة !

إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا - نحن أصحاب الدعوة الإسلامية - منهجا خاصا للتفكير
نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الأرض ;
والتي تضغط على عقولنا وتترسب في ثقافتنا . .
فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا الدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة ,
كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية ;
وحرمنا أنفسنا فرصة الخلاص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا ,
وفرصة الخلاص من رواسبه في عقولنا وتكويننا .
والأمر من هذه الناحية كذلك يكون خطيرا , والخسارة تكون قاتلة . .

إن منهج التفكير والحركة في بناء الإسلام ,
لا يقل قيمة ولا ضرورة عن منهج التصور الاعتقادي والنظام الحيوي ; ولا ينفصل عنه كذلك . .
ومهما يخطر لنا أن نقدم ذلك التصور وهذا النظام في صورة تعبيرية ,
فيجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا لا ينشى ء "الإسلام" في الأرض في صورة حركة واقعية ,
بل يجب ألا يغيب عن بالنا أنه لن يفيد من تقديمنا الإسلام في هذه الصورة إلا المشتغلون فعلا بحركة إسلامية واقعية .
وأن قصارى ما يفيده هؤلاء من تقديم الإسلام لهم في هذه الصورة
هو أن يتفاعلوا معها بالقدر الذي وصلوا إليه هم فعلا في أثناء الحركة !

ومرة أخرى أكرر أن التصور الاعتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حركي ;
وأن يكون التجمع الحركي في الوقت ذاته تمثيلا صحيحا وترجمة حقيقية للتصور الاعتقادي .

ومرة أخرى أكرر كذلك أن هذا هو المنهج الطبيعي للإسلام الرباني ,
وأنه منهج أعلى وأقوم وأشد فاعلية وأكثر انطباقا على الفطرة البشرية
من منهج صياغة النظريات كاملة مستقلة وتقديمها في الصورة الذهنية الباردة للناس ,
قبل أن يكون هؤلاء الناس مشتغلين بالفعل بحركة واقعية ;
وقبل أن يكونوا هم أنفسهم ترجمة تنمو خطوة خطوة لتمثيل ذلك المفهوم النظري .

وإذا صح هذا في أصل النظرية فهو أصح - بطبيعة الحال –
فيما يختص بتقديم أسس النظام الذي يتمثل فيه التصور الإسلامي ,
أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام .

إن الجاهلية التي حولنا كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين
من أصحاب الدعوة الإسلامية فتجعلهم يستعجلون خطوات المنهج الإسلامي ,
كذلك هي تتعمد أحيانا أن تحرجهم فتسألهم:أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه ؟
وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن تفصيلات ومن مشروعات ؟
وهي في هذا تتعمد أن تعجلهم عن منهجهم , وأن تجعلهم يتجاوزون مرحلة بناء العقيدة ;
وأن يحولوا منهجهم الرباني عن طبيعته , التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة ,
ويتحدد فيها النظام من خلال الممارسة ,
وتسن فيها التشريعات في ثنايا مواجهة الحياة الواقعية بمشكلاتها الحقيقية . .

ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة !
من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم !
من واجبهم ألا يستخفهم من لا يوقنون !
ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج وأن يستعلوا عليها ;
وأن يتحركوا بدينهم وفق منهج هذا الدين في الحركة .
فهذا من أسرار قوته , وهذا هو مصدر قوتهم كذلك .

إن المنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ; ولا انفصام بينهما . .
وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية .
والمناهج الغربية الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية ; ;
ولكنها لا يمكن أن تحقق نظامنا الرباني . .
فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية .
لا في الحركة الإسلامية الأولى كما يظن بعض الناس !


هذه هي كلمتي الأخيرة . .
وإنني لأرجو أن أكون بهذا البيان لطبيعة القرآن المكي ,
ولطبيعة المنهج الرباني المتمثل فيه , قد بلغت ;
وأن يعرف أصحاب الدعوة الإسلامية طبيعة منهجهم , ويثقوا به , ويطمئنوا إليه ;
ويعلموا أن ما عندهم خير , وأنهم هم الأعلون . .

(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). .
صدق الله العظيم .


(في ظلال القرآن)
مقدمة سورة الأنعام
 
ما أحوجنا إلى تبين طبيعة المنهج القرآني ... فبارك الله فيكم أستاذنا الفاضل .

حديث هام جدا .. و حيوي .. نرجو المتابعة أخي الفاضل .. و المشاركة من الأساتذة و الإخوة الكرام .
 
عودة
أعلى