سعيد النمارنة
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لا شك أن ابن جرير من فحول أئمة القراءة، وأساتذتها؛ وقد ذاع صيته، وراج أمره في ذلك، وقد ألف كتاباً في القراءات؛ فهذا ياقوت الحموي يحكي أن للطبري كتاباً جامعاً ناجعاً في القراءات؛ فقال: "رأيته في ثماني عشرة مجلدة إلا أنه كان بخطوط كبار، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور، والشواذ، وعلل ذلك، وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور" معجم الأدباء (18/45)
وقد بنى ابن جرير له اختياراً؛ صرح بذلك جامع الفن أبو عمرو الداني –رحمه الله- حيث قال في أرجوزته المنبهة:
وأهل الاختيار للحروف
والميز للسقيم والمعروف
إلى أن قال:والميز للسقيم والمعروف
والطبري صاحب التفسير
له اختيار ليس بالشهير
وهو في جامعه مذكور
وعند كل صحبه مشهور
الأرجوزة المنبهة ص159له اختيار ليس بالشهير
وهو في جامعه مذكور
وعند كل صحبه مشهور
وإن القارىء لتفسير ابن جرير ليجده يسلك مسلكاً منضبطاً في غربلته للقراءات، واختياره القراءة الصحيحة وفق معايير، وأسس، وضوابط محددة عنده؛ وباعث ذلك تفرق القراء في الأمصار، وكثرة الرواة والقراء في الأقطار، وظهور وشيوع أوجه كثبرة كالمطر المدرار!
وإن هذه الضوابط لم يبتدعها، ويبتكرها –رحمه الله- وإنما كان من قبله ماشياً عليها؛ كما مشى عليها من بعده.
ومما يدلنا على اختياره هذه الأسس ما قاله –رحمه الله- فيما نقله عنه المنتوري في شرح الدرر اللوامع حيث قال: "قال الطبري في الجامع: ثم كل من اختار حرفًا من المقبولين من الأئمة المشهورين بالسنة، والاقتداء بمن مضى من علماء الشريعة راعى في اختياره الرواية أولاً، ثم موافقة المصحف الإمام ثانيًا، ثم العربية ثالثًا، فمن لم يراع الأشياء الثلاثة في اختياره؛ لم يُقبل اختياره، ولم يتداولْه أهل السنة والجماعة" شرح الدرر اللوامع في أصل مقرأة نافع (2/864)
وبعد قراءتي لكلامه السابق الذي نقله عنه المنتوري، وبعد رجوعي إلى كثير من المواضع في كتابه؛ فإني أخلص إلى أن أركان القراءة عند ابن جرير هي كالتالي:
أولاً: الرواية
والمعتمد عنده في ذلك إجماع القراء على ذلك الحرف، واستفاضته عندهم، وشهرته لديهم؛ وقد جعل ابن جرير هذا أهم الضوابط والأسس؛ فكثيراً مايصدر اختياراته بلفظ الشهرة، أو إجماع القرأة، أو استفاضة القراءة عندهم إلى غير ذلك في هذا الصدد.
قال –رحمه الله-: "وما انفرد به من كان جائزاً عليه السهو والغلط، فغير جائز الاعتراض به على الحجة" جامع البيان (16/4)
وقال –رحمه الله-: "الحفاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفرد ليس له حفظهم كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم" جامع البيان (9/ 566)
ومثال جعله هذا ضابطاً قوله –رحمه الله- عند قوله تعالى: "فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم..."(آل عمران: 36) قال –رحمه الله-: "واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة القراء: (وَضَعَتْ)، خبرًا من الله عز وجل عن نفسه أنه العالم بما وضعت من غير قِيلِها: (رب إني وضعتها أنثى)، وقرأ ذلك بعض المتقدمين: (والله أعلم بما وضعتُ) على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة: والله أعلم -بما ولدت- مِنِّي؛ وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها، وذلك قراءة من قرأ (والله أعلم بما وضعتْ)، ولا يُعْتَرَضُ بالشاذِّ عنها عليها" جامع البيان (5/33)
ويستفاد من الشيخ مساعد في مقالٍ له أن الإجماع عند ابن جرير حجة، وما خالف الإجماع من قول الواحد والاثنين فلا اعتبار به ؛ وهذا مفهوم الإجماع عنده"
ثانياً: الموافقة لخط المصحف
لم يغفل ابن جرير موافقة الرسم في اختياره القراءة الصحيحة؛ وقد شنع وعنف على من لم يراع الرسم؛ قال ابن جرير –رحمه الله-: "والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك ما جاءت به قراءة المسلمين نقلاً مستفيضاً من غير تشاعر، ولا تواطؤ وراثة، وما كان مثبتاً في مصاحفهم" جامع البيان(3/223)
ومن أمثلة جعله موافقة الرسم ضابطاً قوله -رحمه الله- عندما ذكر قراءة بعضهم:" فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما" قال -رحمه الله-: "ذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين غير جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس منها" جامع البيان(2/51)
ثالثاً: صحة اللغة
قال ابن جرير-رحمه الله-: "القراءة بما كان مستفيضاً في كلام العرب من اللغة بما فيه الفائدة العظيمة أولى وأحرى" جامع البيان (8/139)
جعل –رحمه الله- موافقة اللغة نصب عينيه في اختياره القراءة؛ كيف له وهو بحرٌ لا تكدره الأمواج في اللغة، وإن المرء ليعجب حينما يرى كثرة استشهاده للقراءات بأقوال العرب، وأشعارهم!
استنتاجان
أولاً: إن لكل علم مصطلحاته؛ فالتواتر يختلف مفهومه باختلاف العلوم؛ وإن الناظر ليجد أن مفهوم التواتر في القراءات جاء متأخراً؛ فلم يذكره الطبري، ولا ورد عن ابن مجاهد، ولا حكاه الداني؛ وإنما كانوا يعتبرون الإجماع، والاستفاضة، والشهرة؛ وهذا صنو منتهى مفهوم التواتر.
ثانياً: بتبين لنا من قول ابن جرير الذي نقله عنه المنتوري أن العلماء الأوائل، والقراء الأصايل كانوا يحتكمون لمعايير، وأسس منبطة في اختيارهم للقراءة؛ فضوابط وأسس اختيار القراءة أمر قديم، وسالف؛ لا كما يعتقد الخالف بأن هذه الضوابط قد ابتدعها ابن الجزري أو غيره؛ بل ذكر الشيخ غانم في مقال له "أن الطبري لم يكن أول من ذكرها؛ وإنما وردت إشارة لدى أبي بكر ابن الأنباري في كتابه إيضاح الوقف والابتداء تشير إلى أن أبا عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ) قد استند إليها في كتابه المفقود في القراءات"
فهذه فائدة تؤخذ بالحسبان، والله الموفق والمستعان.
وصلى الله وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكتبه
أبو قدامة المدني
سعيد بن إبراهيم النمارنة
-عفا الله عنه-
أبو قدامة المدني
سعيد بن إبراهيم النمارنة
-عفا الله عنه-