إبراهيم عوض
New member
- إنضم
- 18/03/2005
- المشاركات
- 203
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
ضعف الحضارة الإسلامية وانهيارها من بعد قوة وعز
د. إبراهيم عوض
كانت الحضارة الإسلامية فى إبّانها ملء السمع والبصر والفؤاد، وكانت لها إنجازاتها الهائلة، ثم ككل شىء فى الوجود طرأ عليها الضعف والانهيار. لكن ما السبب فى هذا الانهيار يا ترى؟ أول ما يخطر على البال فى هذا السياق هو عامل استطالة الزمن، فقد بدأ المسلمون بداية عبقرية، واستمروا أقوياء فترة من الزمن طويلة جدا بالنسبة إلى الحضارات التى سبقتهم أو أتت بعدهم رغم كل ما واجههم من تحديات وعوائق ومتاعب ليسست بالهينة ولا القليلة. وكانت الشعوب التى يحكمونها أسعد حظا من سواها، وإن لم يَعْنِ هذا أنهم كانوا فى إدارتهم لدولتهم ومعاملتهم لرعاياهم ملائكة مبرئين من كل عيب أو أن العلاقة بينهم وبين الشعوب التى حكموها كانت سمنًا على عسلٍ على الدوام، فهذه ليست طبيعة البشر ولا طبيعة الحياة على الأرض، ولا أظنها ستكون أفضل من هذا لو قُدِّر للبشر أن يهاجر منهم ناس يستوطنون القمر، أو يستوطنون المريخ وغير المريخ بعد القمر، اللهم إلا إذا كُتِب عليهم أن تتغير طبيعتهم التى نعرفها منهم ومن أنفسنا، وهيهات قبل أن تقوم القيامة ويُعَاد سَبْكُ العالم والأشياء والأحياء سَبْكًا جديدا ليس لهم به عهد. لكنْ من غير الطبيعى مع ذلك أن يظل المتحمس لمبدإ أو دين أو مذهب من المذاهب متحمسا له بنفس القوة والحرارة والاندفاع والتجرد إلى أبد الآبدين دون أن يعتريه ضعف أو فتور أو تراجع أو كسل أو خوف على مصلحة ضيقة أو إعادة نظر، أو حتى ثقة زائدة بالنفس تعميه عن اتخاذ الاحتياطات تجاه عدوه الضعيف الذى كان ينتصر عليه دون جهد كبير، ثم إذا بهذا العدو يكمن بعيدا عن أنظاره مجتهدا فى تقوية نفسه وإصلاح أحواله، حتى إذا شام من نفسه قوة وقدرة بعد ضعف وعجز هَبَّ يهاجمه وقد استعد له خير استعداد، بينما هو مغمور فى غروره وثقته الزائدة بالنفس، يتصور أن خصمه "لن يأخذ فى يده غَلْوة" يُذَرّيه بعدها فى جهات الأرض الأربع، فإذا به يخرّ صريعا أمامه وهو يلعق التراب ويبحث عن مغيث فلا يجد.
ولقد أشار القرآن مبكرا إلى هذا العامل، عامل استطالة الوقت، إذ نزلت أولاً، بخصوص الصراع بين المسلمين والمشركين، الآية الخامسة والستون فى سورة "الأنفال" تحرّض المؤمنين أن يتعاملوا مع المشركين على أن واحدهم يساوى فى القتال عشرة من خصومهم، ونصها: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ". لكن سرعان ما نزلت الآية التى بعد آيتنا هذه مباشرة تقول: "الآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" هابطة بالنسبة من واحدٍ مقابلَ عشرة إلى واحدٍ مقابلَ اثنين. وبطبيعة الحال لا يمكن أن يفهم عاقل أن الله سبحانه لم يكن يعلم قدرة المسلمين وحدود طاقاتهم القتالية قبل هذا ثم علمها بعد أن رأى منهم شيئا لم يكن يتوقعه. بل كل ما هنالك أن هذه هى طريقة اللغة، وأن من طبيعة القرآن بالذات التعبير كثيرا عن صفات الله تعالى بصيغة الماضى مثل الفعل "عَلِمَ" فى الآية الحالية، والفعل "كان"، الذى يدل على الأزلية فى قوله سبحانه: "وكان الله عليما حكيما"، "وكان الله قويا عزيزا"، "وكان الله على ذلك قديرا"، "وكان الله غنيا حميدا"... وهلم جرا. والمعنى أنه كان كذلك منذ الأزل. أى أن هذه طبيعة الألوهية، فالألوهية فوق الزمان والمكان وسائر الحدود التى يعنو لها البشر وغيرهم من الكائنات.
وهو، جل فى علاه، يعرف أن للطاقة البشرية حدودا فى التفوق والاستمرار مهما كانت المغريات والدوافع. ببساطة لأنه هو الذى خلقهم على هذا المنوال لحكمة يعلمها. وهو سبحانه يعلم أن تلك الفورة الأولى لا يمكن أن تستمر دون أن يعتريها فتور ولا كلال، لكنه يعلم أيضا أن هذه هى الطريقة المثلى لاستفزاز طاقات المؤمنين فى فورتهم الأولى. وهذا يذكرنى بما نقوله بلغة الكرة من أنه لا بد للفريق أن يبكّر بإحراز هدف أو هدفين فى بداية المباراة حتى ترتفع روحه المعنوية ويتسيّد الملعب قبل أن يتنبه الفريق الآخر ويلم صفوفه ويبادله الهجمات، فـ"اليد السابقة سابقة" كما يقال فى الأمثال الشعبية. كذلك يشير القرآن المجيد إلى هذا التأثير السلبى لعامل الزمن فى قوله جل جلاله: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد/ 16). وبالمثل يقول الكتاب الكريم عن المشركين المتحجرين الذين لا يريدون أن يصيخوا إلى صوت العقل والهدى ويعودوا إلى الصواب فيؤمنوا بالدين الجديد: "بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ..." (الأنبياء/ 44). فمن الواضح أن طول العمر والتمتع بطيبات الحياة قد أنسى المشركين ما ينبغى عمله وما لا ينبغى وجعلهم يخلدون إلى الانحراف لا يشعرون بأى قلق أو اختلاجة ضمير، إلى أن تقع الكارثة فيتصوروا أنها قد وقعت بغتة، غير دارين أنه كان لها مقدماتها الطويلة، إلا أنهم لم يلتفتوا إليها فى غمرة بلادتهم ولامبالاتهم.
وفى آية أخرى نسمع موسى عليه الصلاة والسلام يخاطب قومه معنفا لهم على ارتكاسهم فى الوثنية وعبادتهم العجل أثناء غيابه عنهم فوق الجبل للقاء ربه رغم أن المسألة لم تتعدَّ أربعين ليلة: "فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي" (طه/ 86). فإذا كانت هناك أمة ترتكس فى غضون هذه المدة الزمنية الضئيلة، فما أعظم أمة الإسلام، التى ظل رجالها، رغم عيوبهم التى لا يمكن نكرانها أو تخفيفها، قابضين فى أيديهم بكل جسارة وبراعة على مقاليد الحكم والسياسة والثقافة والدين والاقتصاد دهرا طويلا من الزمان، وبنجاح نادر، كانوا يحكمون خلالها أمما شتى وأَرَضِينَ بعَرْض الكرة الأرضية المعروفة أيامئذ، مما يضيف إلى عامل الزمن واستطالته عاملا آخر هو ترامى حدود الدولة على هذا النحو العجيب!
وهذا الضعف وما يؤدى إليه من تفكك وانهيار فى نهاية المطاف يرجع إلى عوامل شتى منها الذاتى، ومنها الخارجى. فالغرائز تنبع من داخل الإنسان، وليس بمكنته أن يتجاهلها أو ينتصر عليها تماما، بل هى كالوحش الكاسر تحتاج إلى براعة ومرونة وإشباع وتدليل، وإلا افترست صاحبها افتراسا لا يعرف الرحمة. ومهما اجتهد البشر فى السموّ بغرائزهم والتقليل من الخضوع لها والاشتغال بمعالى الأمور، فإن تلك الغرائز سوف تنهض من مرقدها هناك فى أعماق النفس والجسد وتطل برأسها وتطالب بالإشباع. وليس فى مستطاع البشر على الدوام أن يلجموها ويحصروها فى الحدود المعقولة. أترى الذين يصيبون ترفًا ومالاً ينصبّ فى حجورهم انصبابا يستطيعون دائما مقاومة إغراءات هذا المال وما يمكن أن يحققه لهم من سلطان وقوة وإشباع لشهوات النفس فلا يضعفوا ولا تفتر عزيمتهم أبدا؟ ولو افترضنا أن الجيل الأول الذى حقق هذا الرخاء قد نجح فى أن يحافظ على تماسكه أمام هذا السيل العرم، بل لنفترض أن الجيل التالى والذى يليه استطاعا أيضا ذلك، فهل يظن ظانٌّ أن هذا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؟ هذا ما لا يمكن أن يكون لأن هذا هو ما علّمَناه التاريخ والتجارب التى تقع لنا وتقع لمن حولنا ممن نعرف ومن لا نعرف. ولقد تجاهر مثلا كثير من الشعراء المسلمين بالنظم فى الخمر والجوارى والغلمان وأكثروا منه دون حرج، وتقبلت الجماهير منهم هذا دون حرج أيضا، وأغدق الخلفاء الأموال على مداحيهم من الشعراء إغداقا، وملأ بعضهم قصوره من الرقيق حتى غصت بهم، وهذا كله مظهر من مظاهر الفساد والتحلل الذى ازداد انتشارا مع الزمن يعطيك فكرة عما وقع من انحراف عن الإسلام وإهمال لأوامره ونواهيه فى المجالات الأخرى. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحكام فى ذلك الوقت كانوا يتصرفون فى أموال الدولة كأنها أموالهم هم لا أحد يراجعهم فى شىء، بل لا يخطر لأحد أن يراجعهم فى شىء، تبين لنا إلى أى مدى كان الانحراف شديدا.
ثم لا ننس الخلافات التى لا بد أن تنشأ بين القبائل والقوميات والأجناس والأديان والمذاهب المختلفة التى تعيش داخل الدولة، أىّ دولة. وكان فى دولة الإسلام العدنانى والقحطانى، وكان فى دولة الإسلام العلوى والأموى والعباسى، وكان فى دولة الإسلام العربى والفارسى والهندى والسندى والشامى والعراقى والمصرى والبربرى والأندلسى والتركى والألبانى والبوشناقى والزنجى، وكان فى دولة الإسلام السنى والشيعى والخارجى والصوفى والمعتزلى والظاهرى، وكان فى دولة الإسلام المسلم والنصرانى والمجوسى واليهودى والزرادشتى والصابئى. ولا بد أن يكون لكل ذلك أثره فى الخلافات والصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية التى قد تقف عند حدود الأفكار والكتابة، وقد تشتد فيكون التمرد والحرب. ثم لا ننس كيف تداول على كرسى الحكم العرب والفرس والترك والمماليك الأوربيون والبربر، وبعض هؤلاء تَسَمَّوْا باسم الخلفاء، وبعضهم اكتفَوْا بتبعيتهم الحقيقية أو الاسمية للخليفة فى بغداد أو فى القاهرة أو فى أسطنبول رغم أن سلطة الولاية أو الدولة الفرعية من الناحية السياسية والعسكرية والثقافية كانت تفوق فى بعض الأحيان سلطة الدولة الرئيسية التى تتبعها.
وعلى كل حال لم يشهد التاريخ أمة سادت وظلت سيدة طول الدهر. هذا لم يحدث، ولا أظنه سيحدث، وإن ظهر بين الغربيين فى عصرنا هذا من المدَّعِين الناعقين من يروّج لخرافة "نهاية التاريخ" زاعما أن التاريخ قد انتهى إلى الوضع الذى يتحكم الغرب فى مجرى أحداثه الآن، وأنه لن تقوم إلى جانبه أية قوة أخرى تنافسه، وأن الدنيا سوف تتخذ هذا الوضع إلى أبد الآباد. وهم يقولون هذا فى الوقت الذى تعانى فيه أمريكا زعيمة الغرب المتاعب العسكرية والاقتصادية، وفى الوقت الذى تنغمس فيه أقدامها فى وحل أفغانستان والعراق وغيرهما من الجبهات الحربية التى ظنت أنها سوف تكتسحها فى غمضة عين لتنطلق منها إلى بقية أرجاء المنطقة محتلة للبلاد مستنزفة لثروات الشعوب ومذلة للجميع. ولو أن المسلمين الآن انتهزوا هذه الفرصة التاريخية ولملموا صفوفهم وأعادوا تقدير قوتهم وعزموا على أن يعيشوا أعزة كراما أمجادا مستعينين بعزيمتهم وإيمانهم وما حباهم الله به من ثروات وإمكانات تدير الدماغ ما صَعُبَ عليهم ذلك. إلا أن المشكلة هى نقصان ثقتهم بأنفسهم: نقصان ثقة الشعوب بأنفسها تجاه الحكام، ونقصان ثقة الحكام بأنفسهم تجاه الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا. والحياة لا تلقى بالا للمتهافتين الخانعين الخائرين المرتعبين من الخيالات والأشباح الذين لا يثقون فى قدراتهم ولا يفكرون فى بذل التضحيات المطلوبة أو فى القيام بالإصلاحات المحتومة، وليس عندهم يقين ولا أمل فى الفوز، بل تتركهم لمصيرهم دون أن تذرف عليهم دمعة.
وهناك مقال قرأته مؤخرا للأستاذ عامر عبد المنعم فى موقع "العرب نيوز" بعنوان "أمريكا ماتت، فلا تكونوا كجِنّ سليمان" يصور هذا الوضع الشاذ. والمقصود أن المسلمين يتصورون أن أمريكا لا تزال قوية باطشة رغم ما هى مرتكسة فيه من أزمات اقتصادية وسياسية وعسكرية، ولهذا لا يفكرون أبدا فى الثورة عليها، فهم فى هذا الخوف مثل جن سليمان، الذين كانوا خاضعين لسليمان مرتعبين منه، وظلوا يخدمونه بكل طاقتهم حتى بعد موته ظنا منهم أنه لا يزال حيا، إذ كانوا كلما نظروا إليه وجدوه مستندا على صولجان الملك، فيحسبونه فى غفوة عارضة، إلى أن أكلت الأَرَضَةُ عصاه من أسفلها فانهارت وخرّ هو بدوره إلى الأرض. وحينئذ فقط تبين لهم أنه قد مات! يريد الكاتب أن يقول لأمته إن أمريكا قد انهارت، وإن كان انهيارها غير ظاهر للعين العَجْلَى، فاهْتَبِلوا هذه الفرصة السانحة وثوروا على عبوديتكم لها، واستردوا كرامتكم وعزتكم.
ومما ينبغى أن يُذْكَر فى هذا المجال كثرة الصراعات الداخلية والخارجية التى كان على الدولة الإسلامية أن تخوض غمارها. وقد نشبت هذه الصراعات منذ اليوم الأول لظهور الإسلام، إذ انقلب على الرسول عليه الصلاة والسلام أهل مكة بعدما كانوا يلقبونه بـ"الأمين"، فكذبوه وآذَوْه وحاولوا قتله لولا لطف الله به. ولما هاجر إلى المدينة اصطدم باليهود والمنافقين، كما اصطدم بالمشركين فى غزواتٍ ذات عدد، وبالروم على الحدود الشمالية مرتين. وعقب وفاته صلى الله عليه وسلم ثارت حروب الردة بين جيوش الإسلام والقبائل التى ظهر فيها بعض المتنبئين الكَذَبَة وانتهت بالقضاء على ذلك التمرد اللعين وعادت الأمور إلى نصابها الصحيح، لتبدأ صراعات أكبر وأخطر وأوسع مدى بين المسلمين وبين الروم والفرس انتهت كلها بانتصار مؤزر للإسلام حتى بات المسلمون يؤمنون إيمانا جازما أن نصر الله فى ركابهم دائما، فكانوا لا يفشلون أبدا فى معركة أو حرب إلا على سبيل الندرة الشاذة، ثم سرعان ما يعودون مرة أخرى أكثر ثقة وأقدر على الاقتحام. ومع هذا فما أسرع ما رأينا الفتنة تطل برأسها فى عهد ذى النورين رضى الله عنه وتنتهى بمقتله الفاجع رغم أنه لم يشأ قط أن يؤذى مهاجميه ومثيرى الفتنة ضده. ثم يأتى بعد ذلك الخلاف بين على ومعاوية، وهو الخلاف الذى لم يحسمه لمصلحة معاوية إلا أن الأقدار قد كتبت على ختن الرسول أن يُغْتَال على يد خارجى مندفع لا يعرف التبصر. وتستقر الأمور لمعاوية، الذى يؤسس الأسرة الأموية محولا الحكومة الإسلامية إلى حكومة كسروية وراثية، وهو ما تابعه عليه العباسيون فالفاطميون ثم الأيوبيون. وكانت الأمور فى الأندلس لا تختلف عنها فى الشرق، إلى أن ترك الإسلام تلك البلاد بعدما بقيت رايته مرفوعة هناك ثمانية قرون. ثم جاء المماليك ليصير السلطان عسكريا، وأخذ المماليك يتناوبون الحكم بقوة الذراع، وإن كنا لا نغمطهم فضلهم فى حفاظهم رغم كل شىء على قوة الإسلام فى وجه المغول والصليبيين. ثم ظهر العثمانيون وأخذوا الحكم منهم وجعلوا بعضهم ولاة ينوبون عنهم فى إدارة الشؤون الداخلية للبلاد التى كانوا يحكمونها قبلا. وعلى يد العثمانيين دخل الإسلام شرق أوربا، فكان فى هذا بعض تعويض عما وقع له من استئصال فى غرب القارة العجوز على يد الأسبان. وخاضت الدولة العثمانية حروبا مع القوى الغربية وتعرضت للمؤمرات التى لم يكن يهدأ لها أُوَار من جانب تلك القوى حتى خرت الخلافة الإسلامية صريعة فى أواخر الربع الأول من القرن العشرين، واختفت من الوجود، وتجزأت الأقطار الإسلامية وأصبحت كالعِقْد قد تمزق سِلْكه فصارت كل حبة من حباته فى ناحية لا يمسكها بأخواتها شىء، فلم تعد لها قيمة.
وعلى مدار التايخ الإسلامى أيضا كانت هناك انقسامات وتمردات داخل الدولة كتمرد الخوارج وبابك الخُرَّمىّ والمقنَّع الخراسانى والبشموريين والزَّنْج والقَرَامِطَة والحشّاشين، فضلا عن الصراع بين حكام الطوائف فى الأندلس، الذين كانوا بوجه عام يفضلون التعاون مع ملوك النصارى على التضافر مع أبناء دينهم من الحكام أمثالهم، بله الاتحاد فى دولة واحدة تستطيع الوقوف ضد نصارى الأسبان، وهو ما كان كفيلا، لو تم، أن يُبْقِىَ الأندلسَ إسلامية، مَثَلُها مَثَلُ بقية البلاد التى اعتنقت الإسلام ثم لم تخرج منه قط. وقد سهّل صراعُ أمراء الطوائف إلى حد كبير حركةَ الاسترداد النصرانى فى الأندلس. وهناك فى العصر الحديث الصراع بين محمد على والمماليك الذى انتهى بمذبحتهم فى القلعة وتخلُّصه منهم تماما، وكذلك الحروب بينه وبين الوهابيين لحساب السلطان العثمانى، ثم بينه وبين الدولة العثمانية. وكل هذا من شأنه أن يفتّ فى عضد الدول مهما تكن قوتها وقدرتها على الاحتمال.
ولا شك أن الغزو الصليبى والمغولى لبعض ديار المسلمين قد زعزع ثقتهم فى أنفسهم، فقد كانت هاتان الهجمتان أول غزو لبلاد الإسلام، ففوجئ المسلمون بانقلاب الأوضاع. وبعد أن كانوا يفتحون البلاد ويقبل الناس على دينهم ويتعلمون لغتهم ويقلدونهم فى الكثير من عاداتهم وتقاليدهم إذا بهم يصبحون هدفا للغزو، وتهاجَم بلادهم، وينتصر عليهم أعداؤهم بعدما كانوا رمزا للنصر الذى لا يتخلف، والنجاح الذى لا يستأخر. فقد رأى المسلمون نصارى أوربا يتركون ديارهم وينقضون على شواطئ الشام بغية أخذ بيت المقدس منهم وإعادتها كرة أخرى إلى حضن الصليب. ومعروف أنهم قد مكثوا على سواحل الشام لمدة قرنين من الزمان واسْتَوْلَوْا على عدد من مدنه، وهو ما كلف المسلمين الغالى والنفيس والزمن الطويل قبل أن يستطيعوا دحرهم وإرجاعهم على أعقابهم خائبين. وقل مثل ذلك عن التتار وتوحشهم وعُرْيهم من الحضارة مظهرا وروحا وما سفكوه من دماء إسلامية غزيرة دون أدنى اعتبار أو مبالاة، مما كان له آثاره المزعزعة على النفس المسلمة، إذ كانت صدمة لم يفيقوا منها بسهولة حتى بعدما أحرزوا النصر النهائى عليهم وكسروا شوكتهم فى عين جالوت على يد المماليك. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كانت هناك أيضا الحملات الاستعمارية التى لم تكد تترك بلدا مسلما دون غزو واحتلال وتكبيل بالمعاهدات واستنزاف للثروات وإهانة للكرامة الدينية والوطنية. وما كان لهذا أيضا أن يُنْسَى بسهولة أبدا، وبخاصة أن العدو واجههم فى هذه الحملات وهو متفوق عليهم فى كل أسبابها من سلاح وعلوم وتنظيم وتخطيط ونفس طويل وطموح وتوثب إلى المعالى وقدرة على الصبر وعشق للمغامرة وتحديد للهدف. وما زلنا نعانى من هذه الصدمة إلى الآن حتى لأصبح يخيّل لكثير منا ألاّ قِبَل لنا بمواجهة الغربيين. بل لقد ظهر من بيننا من ينادى بأن نكون أتباعا لهم إذا أردنا أن نتحضر مثلهم، غافلين عن أن أروبا حين جاءت بجيوشها إلى بلادنا إنما قد أتت لسرقتنا والاستبداد بنا والقضاء على هويتنا، ومن ثم لن يتركونا نتقدم ونساويهم أبدا. أى أنهم لن يجنحوا إلى السلم حتى لو جنحنا نحن إليه، بل سيظلون كاتمين على أنفاسنا رازحين فوق صدورنا. ذلك أنهم قد أَتَوْا للسرقة والقتل والتدمير والاستعباد لا لمساندتنا فى الخروج من تخلفنا وضعفنا كما يزعمون هم وأولئك المرجفون خداعا لنا وتحطيما لروحنا المعنوية، التى نستلهمها فى الصمود أمامهم ومقاومة مخططاتهم. وإذا كان الاستعمار قد اختفى ظاهريا من كثير من بلاد المسلمين فهو فى الحقيقة لم يزل رابضا فيها، وإن لم تدركه العيون العَشّاء. نعم لا يزال رابضا فى كثير من الديار الإسلامية فى صورة معاهدات سياسية مجحفة تخرب الديار، واتفاقات سياسية وثقافية تدمر النفوس والضمائر، وقواعد عسكرية مجرمة تقوم بدور الجاسوس على كل ما نأتى وما ندع ولا تترك لأى حر فرصة ليعمل ما من شأنه مصلحة الوطن والمواطنين، مع بعض ما يسمى بـ"المساعدات الاقتصادية" مما لا ينتفع بها الوطن فى قليل أو كثير لأسباب ليس هذا موضع شرحها، علاوة على أن البلاد التى تتلقى ما يطلق عليه: "المساعدات الاقتصادية" تقدم للدولة المانحة من المساندات ما لا تساوى تلك المنحة قبالتها شيئا ذا بال.
على أن للاستعمار الغربى ناحية إيجابية، إذ أيقظ النوام وقضى على السكون القاتل الذى كان سائدا، وحرك العقول والضمائر، وحث النفوس الزكية على الاجتهاد والجهاد من أجل استعادة الكرامة واسترجاع السيادة الضائعة. وعن دور الاستعمار فى تاريخ المسلمين المعاصر يكتب مالك بن نبى متسائلا: "ما الذى بعث العالم الإسلامى من نومه قرنا؟ من الذى أيقظه من خمسين سنة تقريبا؟ إنه الاستعمار. نعم إنه قد خلع بابنا، وزعزع دارنا، وسلب منا أشياء ثمينة. لقد أخذ من حريتنا وسيادتنا وكرامتنا وكتبنا المنسية وجواهر عروشنا وأرائكها الناعمة التى كنا نود أنْ لو بقِينا عليها نائمين! ولكن إذا كان هذا هو الواقع الاستعمارى فيجب أن نعترف بأنه أيقظ الشعب الذى استسلم لنوم عميق بعد الغَدَاء الدسم الذى أكله عندما كان يرفل فى نِعَم حضارته. والتاريخ قد عوّدنا أن كل شعب يستسلم للنوم فإن الله يبعث عليه سوطا يوقظه" (مالك بن نبى/ شروط النهضة/ 149- 150).
إلا أنه سرعان ما ينبه إلى فخ خطير يقع فيه كثير من الشعوب التى ابتليت بالاستعمار. ذلك أن هذا المعامل الاستعمارى (كما يسميه) "يخدع الضعفاء فى الواقع، ويخلق فى قلوبهم رهبة وخوفا ووهما، ويُشِلّهم عن مواجهته بكل قوة، وإن هذا الوهم ليتعدى أثره إلى المستعمرين أنفسهم فيغريهم بالشعوب الضعيفة، ويزين لهم احتلالهم إذ يحاولون إطفاء نور النهار على الشعوب المتيقظة، ويدقون ساعات الليل عند غرة الفجر وفى منتصف النهار لترجع تلك الشعوب إلى العبودية والنوم" (المرجع السابق/ 151).
وهذا ما يسميه ذلك الفيلسوف الكبير: "القابلية للاستعمار"، أى شعور الأمم الضعيفة بأنها ينبغى أن تخضع للأمة القوية التى تريد استعمارها فلا تقاومها، بل تتركها تفعل بها ماتشاء مهما كانت وحشيته وشناعته دون أن تحس بأى سخط أو ضيق، بل دون أن تحس بأى أمل فى النجاح إذا ما خطر لأحد منها أن يدعوها للمقاومة والتخلص من نير العبودية. وهو يدعو أولا إلى التخلص من تلك القابلية للاستعمار (المرجع السابق/ 154). وأنا معه فى أن للاستعمار ذيوله وخصيانه فى كل بلد إسلامى، وهم كثر للأسف، ولا بد من العمل على أن يتخلص المسلمون من تلك القابلية للاستعمار التى أشار إليها وأبرزها وبين خطورتها. لكن لا بد أن نتنبه إلى أن القابلية للاستعمار ليست هى جوهر المشكلة، بل مجرد عرض لها، أما المشكلة فهى فقدان الكرامة. وهذه الكرامة المفقودة هى السبب فى نشوء تلك القابلية للاستعمار لدينا، ولو كانت أمتنا عفية قوية واثقة بنفسها شاعرة بكرامتها وعزتها لما كان للاستعمار ذلك الأثر الشيطانى، بل لما وصلت أصلا إلى هذا الدَّرْك الأسفل من الضعف الذى يغرى الاستعمار باقتحام عقر دارها ليستذلها ويمتطيها.
لقد كان العرب فى الجاهلية يعانون من التخلف والفقر والجهل والتمزق والصراع القبلى الذى يكاد يفنيهم، لكنهم لم يفقدوا قط شعورهم بالكرامة، بل كانوا يَسِمُون الأمم من حولهم بـ"الأعاجم"، فكأنها حيوانات عجماء بالنسبة لهم. ترى هل كان العرب يقدرون على حمل مشعل الإسلام والانطلاق به فى الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لو كانوا، كما هم الآن، فاقدين الشعور بالعزة والكرامة؟ ذلك أن منبع التقدم الحضارى فى رأيى هو رفض الأمة أن تعيش عيشة لا تليق بها، فتراها لا يهنأ لها عيش ولا يرتاح لها بال إلا إذا نالت من الحياة ما ينبغى أن يناله الإنسان العزيز الكريم مالا وجاها وعلما واحتراما وسيادة وجمالا ونظافة ونظاما... أما الذليل فإن فقدانه لهذه الأشياء لا يشكل أى إزعاج له، إذ إن انحطاطه النفسى والخلقى يمنعه من الشعور بشناعة الأمر على الإطلاق، فتراه يتصرف وسط القذارة والقبح معايشا الجهل والخرافة، متنفسا الخنوع والمذلة، مقاسيا العوز والفقر، معانيا الضيق والحاجة، ومع ذلك يتصرف كأنه يعيش فى بحبوحة الفردوس الأعلى ويتقلب فى نعيمه الرغد المقيم. الحق أنه ما لم ينبت الوازع من أعماق النفس فمن الصعب نجاح أى أمر. دعك من أن يكون هذا الأمر فى خطورة الانبعاث الحضارى، وهو الموضوع الذى يشغلنا الآن.
ومما عاناه المسلمون أيضا، وكان من أسباب انهيارهم أمام الهجوم الاستعمارى الأوربى، انتشار الخرافات والإيمان بالسحر بدلا من العلم، وانعزالهم عن مجرى الحياة إلى الأركان المظلمة التى يخيم عليها عنكبوت الجهل والأساطير التى لا تليق بالمتحضرين، وبخاصة إذا كانوا ينتسبون إلى الإسلام دين العلم والفكر المستقيم. لقد كان لدى المسلمين فى عصور تخلفهم إيمان عنيف بالعفاريت، واعتقاد فى المتصوفة وكراماتهم وقدرتهم على الإتيان بالمستحيل، وانتظار للمفاجآت والعجائب التى لا تقع أبدا، من كنز يأمل الناس أن يجدوه فى خَرِبَةٍ أو بيت مهجور مثلا، دون أن يغيروا أسلوبهم فى الحياة ودون أن يتعلموا العبرة من تجاربها أبدا. وانتشر الاعتقاد فيمن يطلَق عليهم: "الأولياء" و"الصالحون" ظنا من الجماهير المغيَّبة أن لهم كرامات يقضون بها حوائج العباد، وشفاعات يستطيعون التوسط بها عند الله سبحانه فتجاب وساطاتهم، مما ترتب عليه تفشى العجز بين المسلمين وترك العمل والإخلاد إلى الإهمال والكسل وسقوط الهمم رغم أن من يسمونهم بالأولياء والصالحين لم يكونوا يملكون لأنفسهم أى نفع، وهم أحياءٌ، فما بالك وقد صاروا الآن أمواتا وتحللوا ترابا؟ أتراهم أفضل من النبى محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذى أمره ربه أن يعلن للناس دون أدنى مواربة أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله؟ ولا تنس كذلك انتشار القذارة وسيادة التبلد تجاه الأوبئة الجائحة والرضا بالفقر والهوان والتعاسة كأنها ضربة لازب لا فكاك منها.
وفى مثل هذا الجو لا ينبغى أن يتوقع الإنسان إبداعا علميا أو كشفا بحثيا أو رغبة فى تقدم أو تحضر. لقد كان الجو خاملا بليدا متخثرا لا ينبئ بحياة كريمة أبدا، فى الوقت الذى كانت أوربا فيه تتوثب وتتقافز فى كل ميدان: فى الكشوف الجغرافية التى انطلقت من خلالها تجوب أرجاء العالم، وانتزعت بها السيادة على البحار، وامتلكت بها الثروات، وامتلخت بها قارتين كاملتين هما أمريكا الشمالية وأستراليا بعدما قضت على سكانهما الأصليين، وهو ما لا نعرف أنه قد وقع من قبل فى التاريخ. وهذا التوثب قد حدث نظيره فى ميدان العلوم الطبيعية، التى كانت قد نامت عندنا نومة أهل الكهف وحلت محلها الخرافات والضلالات، وكذلك فى ميدان الحكم الشُّورِىّ، إذ قامت الثورات الشعبية فى أوربا ضد الاستبداد الذى كانت شعوبها تعانى منه على مدى قرون وقرون، فتخلصت إلى حد كبير منه، فى الوقت الذى ما زالت معظم بلاد المسلمين ترزح تحته راضية به، وكأنه غاية المنى! وقل هذا أيضا فى ميدان التخطيط العمرانى، إذ بدلا من القذارة والفوضى والفقر والبؤس الذى كان يطبع مدن أوربا وقراها شرع الأوربيون يعيدون تخطيط مدنهم وقراهم مراعين أصول النظافة والسعة والجمال والخضرة وتمهيد الشوارع على نحو سلس جميل، مع التخلص من المخلفات بطريقة متحضرة فلا تقع عليها العين ولا يشمها الأنف ولا تتأذى بها الملابس والجلود، فضلا عن إنارة الطرق. وهو ما كان مصلحوهم قد دَعَوْا إليه وحثوا شعوبهم على تنفيذه واضعين فى ذلك كتبا تصور للناس "المدينة الفاضلة"، أى المجتمع المثالى الذى يتطلعون إلى تحقيقه لأنه هو المجتمع الذى يليق بالإنسان، كلٌّ يتخيله حسب فهمه وعقيدته السياسية والاجتماعية والغايات التى ينشدها للناس من حوله، ناهيك بالثورة الصناعية التى نقلت أحوال الأوربيين من حال إلى حال، وما تبعها من تطوير وسائل المواصلات والأسلحة والخطط الحربية، مما لم يكن فى أيدينا منه شىء ذو بال، اللهم إلا إذا استوردناه منهم واستعنّا بهم فى تعلمه واستيعابه. ومعروف أنهم لا يعطوننا شيئا من ذلك لأجل مصلحتنا أبدا، بل يعطونناه ليحارب به بعضنا بعضا، ثم إذا ما أدينا المهمة التى خططوها لنا ودفعونا إلى التورط فى إثمها انقلبوا علينا وتخلصوا منا بأيسر سبيل بعد أن تكون قوانا قد خارت، وتوقف تدفق السلاح والمدربين. هكذا فعلوا مثلا مع محمد على، الذى أنفق ما أنفق فى بناء جيش مصرى قوى لم يستعمله إلا فى ضرب الوهابيين وفى محاربة الدولة العثمانية، ثم عقب فراغه من أداء الدور المطلوب انقلبت أوربا كلها عليه وحطمته تحطيما، وانتهى الأمر بعد عدة عقود باحتلال إنجلترا لمصر، واحتلال فرنسا كذلك للشام بعد أن كانت احتلت الجزائرَ فى عهده دون أن يفكر أبدا فى مد يد المساعدة لإخوانه الجزائريين... وهذا مجرد مثال، ومازال يتكرر حتى هذه اللحظة، ونحن لا نتعلم أبدا ولا نستوعب الدرس. والتاريخ لا يرحم، وربك لا يظلم أحدا.
ولكى تعرف طرفا من الخرافات والضلالات التى كانت تعشش فى عقول الناس وقلوبهم أيام تخلف المسلمين وأفول شمس حضارتهم أورد بعض ما كتبه أحد المتصوفة المشاهير بمصر فى القرن العاشر الهجرى، وهو الشعرانى، الذى حكى فى "منن اللطائف" مثلا ما يلى طبقا لما نقله عنه د. زكى مبارك فى كتابه عن "التصوف فى الأدب والأخلاق": "كان فى بيتى امرأة من الجن، فكانت إذا قَرُبَتْ منى قامت كل شعرة فى جسدى، فكنت أذكر الله فتبعد من وقتها. ثم كانت تقف فى طريقى إلى المسجد فى الظلام، فما فزعت منها قَطّ، بل كنت أمر عليها فى المجاز المظلم فأقول لها: السلام عليكم. وما نفر خاطرى منها قَطُّ مع أن طباع الإنس تنفر من الجن! وسكن عندى مرة أخرى جماعة من الجن أيام الغلاء، فكنت أقول لهم: "كلوا من الخبز والطعام بالمعروف، ولا تضروا بإخوانكم المسلمين"، فأسمعهم يقولون: سمعا وطاعة! وسكن جنى فى بيتى مرة أخرى، فكان يأتى كل ليلة فى صورة جَدْىٍ كبيرٍ فيطفئ السِّرَاج أوّلاً ثم يصير يجرى فى البيت، فكان العيال يحصل لهم فزع. فكمنت له تحت رف وقبضت على رجله، فزلق وصار يستغيث، فقلت له: تتوب؟ فقال: نعم! فلا يزال يَدِقّ فى يدى حتى صارت رجله كالشعرة الواحدة، وخرج. فمن ذلك اليوم ما جاءنا. ونمت ليلة على الخليج الحاكمى ضيفا عند إنسان فى قاعةٍ وحدى، فغلق علىّ، فدخل جماعة من الجن فأطفأوا السراج وداروا حولى يَجْرُون كالخيل، فقلت لهم: وعِزَّة الله كُلُّ من دارت يدى عليه ما أطلقتُه إلا ميتا. ونمت بينهم، فما زالوا يجرون حولى إلى الصباح. ودخلتُ مَرّةً الميضأة بجامع الغمرى بالقاهرة أتوضأ، وكانت ليلة شتاء مظلمة، فدخل علىّ عفريت كالفحل الجاموس فهبط فى المغطس وصعد الماءُ فوق الإفريز نحو نصف ذراع، فقلت له: ابعد عنى حتى أتوضأ. فلم يرض، فجعلت فى وسطى مئزرا وهبطت عليه فزهق تحتى وفر هاربا. ووقع لى مع الجن وقائع كثيرة، وإنما ذكرت لك ذلك لتعلم أن من قرأ الأوردة الواردة فى عمل اليوم والليلة فليس للجن ولا للإنس عليه سبيل". ويعلق د. زكى مبارك على هذا الكلام وشِبْهه بأن الشعرانى يكذب (انظر د. زكى مبارك/ التصوف فى الدين والأخلاق/ 1/ 349- 350).
وسواء كان حكم الدكاترة زكى مبارك عليه صحيحا أو كان الشعرانى يتوهم وقوع ما لا يصح، فالمصيبة أن ذلك كان منتشرا فى تلك الأيام. فحتى لو كان يكذب لم يكن يكذب إلا وهو يعلم أن الآخرين سوف يصدقون ما يقول لأنهم يؤمنون به. ويزداد الأمر شنعا وبشاعة حين يصدر من الشعرانى أكبر شيخ صوفى فى عصره. وشىء آخر يورده زكى مبارك مما سجله الشعرانى فى كتابه المذكور، وهو عن "الـمَطْلَب"، أى الكنز من الكنوز التى كان الناس فى ذلك الزمن يتصورون أنها مدفونة فى الأرض. يقول الشعرانى: "قلت لشخص من أبناء الدنيا: تعال اسهر معنا هذه الليلة. وكانت ليلة العيد الأصغر، فتعلل بأن السهر يضره، فقلت: بالله عليك اصْدُقْنِى: إذا أردت أن تفتح مَطْلَبًا وأبطأ عليك البَخُور الذى تطلقه من العشاء إلى الفجر، هل كنت تسهر إلى الصباح تترقب مجيئه؟ فقال: نعم! فقلت له: فإذا أبطأ من بعد الفجر إلى المغرب، هل كنت تترقبه ولا تنام؟ قال: نعم! فدرّجته إلى تسعة أيام، وهو يجد أنه يقدر على السهر من غير وضع جنبه إلى الأرض. فقلت له: فى اليوم العاشر؟ قال: لا أقدر. فقلت له: يا أخى، فإذن أنت تُؤْثِر الدنيا على الآخرة؟ قال: نعم" (المرجع السابق/ 1/ 351).
لقد كان للعلم مكانته العظيمة الكريمة أيام عز المسلمين، لكن الحال قد تدهور مع مرور القرون، فصار كثير منهم يعتقدون فى الخرافات الضالة المضلة. كما صاروا لا يهتمون بالجِدّ والعمل من أجل القوة والغلبة والسيادة والغنى فى الدنيا، واستسلمت الجماهير لما تظنه قضاء وقدرا كُتِب عليها منذ الأزل فليس لها منه أى نجاء، غافلة عن أن القضاء والقدر ليسا أكثر من السنن التى أقام الله عليها كونه وسيَّره عليها بحيث يستطيع البشر من خلال فهمها والعمل بمقتضاها أن يسيطروا على الدنيا من حولهم وأن يدبروا من ثَمَّ أمورهم أفضل تدبير ممكن: "إنّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر/ 49)، "فلَنْ تَجِدَ لسُنَّة الله تبديلاً، ولَنْ تَجِدَ لسُنَّة اللهِ تحويلا" (فاطر/ 43)، "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ" (الرحمن/ 7- 9). أى أن كل شىء فى الكون مخلوق بقَدَرٍ منضبط لا زيادة فيه ولا نقص بل على أساس من الميزان الدقيق، فهو يجرى على سنة لا تتخلف، اللهم إلا فى معجزات الأنبياء، وهى أمور عارضة لا تَطَّرِد ولا تستمر بل تنتهى فى وقتها، كما أنه قد انتهى إرسال الأنبياء، فليس أمام الناس إذن إلا الالتزام بتلك السنن واكتشاف أسرارها والجرى على ما تستلزمه من تدابير، وإلا فشلت الأمور فشلا ذريعا مهما أكثر الناس من الدعاء والابتهال، إذ الدعاء والابتهال إنما يأتيان بالثمرة المرجوّة منهما بعد استكمال العمل وإتقانه على خير وجه. ثم إن الاستجابة لهما قد تتأخر أحيانا لتقع على نحو آخر أفضل مما يريده الداعى طبقا لما وضحه الرسول الكريم فى أحد أحاديثه.
وفى هذا الصدد يكتب د. أحمد أمين فى كتابه: "يوم الإسلام" (مكتبة النهضة المصرية/ 23- 24): "كانت عقيدة القضاء والقدر والتوكل سليمة فى عهد الرسول وكبار الصحابة، فكانت لا تمنعهم من غزو وحرب وفتوح بلدان وتغلُّبٍ على أمم. وقد فهموها فهما لا يمنع من الأخذ بالأسباب كما جاء فى الحديث الشريف: "اعقلها وتوكَّلْ". فكانوا يؤمنون بارتباط الأسباب بمسبِّباتها: فالماء يُرْوِى، والنار تُحْرِق. وفى القرآن: "قلنا: يا نارُ، كونى بَرْدًا وسلامًا عَلَى إبراهيم"، وفيه مئات من الآيات تدل على ارتباط الأسباب بالمسببات، حتى جاء الأشاعرة فلم يربطوا بين الأسباب ومسبباتها، فلا تأثير عندهم للماء فى الرِّىّ ولا للنار فى الإحراق. قالوا: وإنما المؤثر هو الله تعالى عند حدوث الأسباب لا بها. وقالوا بتكفير من اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الرِّىّ فى الماء، وقوة الإحراق فى النار. وإنما الإيمان والاعتقاد بأن الرِّىّ جاء من جانب المبدإ الفياض بلا واسطة، وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل فى ذلك. وبذلك فَكُّوا الأسباب عن مسبِّباتها، فكان لهذا من الأثر البالغ ما جعل المسلمين فيما بعد يبالغون فى عقيدة القضاء والقدر، ويربطون الحوادث بالخرافات والأوهام لا بالأسباب والمسبِّبات، فالزرع إنما ينجح بالقَدَر، ويَفْسُد بالقَدَر لا بما أثبته العلم وما يجره الإهمال... وهكذا أصبحت عقيدة القضاء والقدر صادّةً عن العمل. وفرق كبير بين العقيدة فى القضاء والقدر وبين الجبر، فالقضاء والقدَر الصحيحان يؤمنان بربط الأسباب بمسبّباتها ويحملان صاحبهما على العمل، ثم فلتكن النتيجة ما تكون. وعلى هذه العقيدة كان أكابر الشجعان الفاتحين من أمثال خالد بن الوليد وتيمورلنك والإسكندر ونحوهم لا يهابون الموت اعتمادا على أن ما قُدِّر يكون. أما الجبر فيرى الإنسان كالريشة فى مهب الريح، وما قُدِّر لا بد أن يكون، عَمِل الإنسان أو لم يعمل، تشجّع أو لم يتشجّع. وهذه العقيدة على هذا النحو دخيلة على الإسلام، مما جعل كثيرا من الأوربيين يجعلون من عيوب الإسلام العقيدة فى القضاء والقدر والتوكل على الله. ولو أنصفوا لعدوها بحالتها الحاضرة من عيوب المسلمين لا من عيوب الإسلام".
وما قاله د. أحمد أمين صحيح فى جملته إلى حد كبير. ذلك أن الناس كانت تخلط الأمور خلطا، فيبذلون فى عملهم بعض جهدهم لا كله، كما أنهم لم يكونوا يتقنون ما يعملون ولا يتابعونه بالصيانة والحياطة، وإذا هاجمته الآفات لم يأخذوا بالاحتياطات الواجبة لا قبلها ولا أثناءها، بل فوضوا الأمر إلى الأقدار فى الغالب، وتركوا الأمور تأخذ مجراها الذى تريده هى لا الذى يستطيعونه هم. لكن عقيدة الأشاعرة التى يشير إليها أحمد أمين لا تدعو فى الأصل إلى هذا الذى فهمه الناس فيما بعد، بل تريد أن تقول، كما قصد الإمام الغزالى فى بداية الأمر، إن الله هو الخالق المريد الفعال، وما الكون كله من بشر وغير بشر إلا صنع يديه، ولا يجرى شىء فى ذلك الكون إلا بناء على ما شاء سبحانه وتعالى تنظيمه على أساس منه. وإذا كانت النار تحرق من يلامسها أو يَدْخُلها فإن النار فى ذاتها لا مدخل لها فى هذا، إذ هى مخلوقة أوّلاً، كما أنها لا إرادة لها ولا عقل ثانيا حتى تحرق أو لا تحرق، بل الله هو الذى جعلها كذلك. وليس فى هذا ما يناقض الإسلام ولا العقل. لكن هذا شىء، والزعم بأن الغزالى قد أراد أنه لو مست النار إنسانا أو أحاطت به لا تحرقه هو شىء آخر تماما. فهذا الإمام الجليل رضى الله عنه لم يقل هذا، بل قال إن الإحراق سيتم مثلما يزول العطش عند شرب الماء، لكن بأمر الله وليس بأمر النار ولا الماء لأنه سبحانه هو الذى وضع فى كل من الماء والنار خاصيته التى يعمل على أساسها. وهل هناك من المسلمين من ينكر هذا؟ فليس هناك أى إنكار للأخذ بالأسباب كما نرى، إلا أن الأمر اتخذ مجرى آخر عند جماهير المسلمين كما قلنا، فتركوا العمل وركنوا إلى الكسل وظنوا أن القدر سيكون رحيما بهم، وهو ما لم يحدث ولن يحدث ما ظلوا فى نومتهم مهما دَعَوْا وابتهلوا وصَلَّوْا وصاموا.
وبالمناسبة فهذا الذى قاله الإمام الغزالى قد قاله بعد ذلك بعض فلاسفة الغرب المشاهير كديفيد هيوم وغيره، ولم يكن لذلك أدنى أثر سيئ على مجرى التقدم العلمى فى الغرب. ذلك أن هيوم وأمثاله قد قالوا ذلك فى أوربا فى وقت قوة وتوفز لا فى وقت تراجع وانهيار وتفتت. ويوم تتخلف أوربا من بعد تقدم وتحضر قد يتحول رأى هيوم هذا إلى عائق مثبط كما حدث عندنا حسب تقدير د. أحمد أمين. ثم إن الأشاعرة ليسوا هم أصحاب هذا الرأى فى الأساس، بل بعض علماء الطبيعة من المسلمين القدماء كجابر بن حيان مثلا، ثم أخذه بعض فلاسفة أوربا كما قلنا مع شىء من التحوير. بل إن العلماء الأوربيين الآن يقولون بأن ما نسميه بـ"القوانين الطبيعية" هى أمور احتمالية، ولو على المستوى النظرى، إذ من الممكن جدا أن نقوم من النوم مثلا ذات يوم فنجد الشمس تشرق من الغرب لا من الشرق حسبما اعتادت البشرية لملايين السنين (انظر د. زكى نجيب محمود/ جابر بن حيان/ مكتبة مصر/ سلسلة "أعلام العرب"/ العدد 3/ 66 وما بعدها. وقد تناول د. زكى هذه الفكرة مرة أخرى بشىء من التفصيل فى كتابه عن ديفيد هيوم فى سلسلة "أعلام الغرب").
وليس بعيدا عما نحن فيه ما يشير إليه القرآن حين يتحدث عما سيحدث يوم القيامة، إذ سوف تتغير القوانين التى نعرفها الآن ويتم استبدال قوانين أخرى بها يجرى العمل بمقتضاها فى الدار الآخرة. وفوق هذا فإن تلك العقيدة لازمةٌ لتفسير وقوع المعجزات التى ذكر الله سبحانه تحققها بفضله ومشيئته على يد هذا النبى أو ذاك كما هو مذكور فى القرآن المجيد. ولقد كان المسلمون منذ البداية يؤمنون بعقيدة القضاء والقدر، فكانت تلك العقيدة خير معين لهم فيما أنجزوه من جلائل الأعمال فى فتوحهم وانتصاراتهم السياسية والثقافية والحضارية العجيبة. لكنها، وهذا هو مناط العبرة والموعظة، تحولت إلى معوِّق للمسلمين عندما تخلفوا. ذلك أن العقلية المتخلفة تفسد كل شىء جميل وتصيّره عقبةً كَأْدَاءَ بعدما كان دافعًا مُلِحًّا يستفز العقول والإرادات إلى العمل وصنع العجائب المدهشات. إن الذى خلق هذه النواميس هو الله سبحانه، وليس فيها ولا فى غيرها من أشياء الكون ما يجبره سبحانه على أن يبقيها كما هى فلا يغيرها إذا شاء. ذلك أن الله مطلق القدرة والإرادة، والكون كله خاضع لإرادته المطلقة الشاملة. صحيح أنه أجرى الكون على نظام معين، لكن من قال إن ذلك النظام غير قابل للتعديل؟
إن الإمام الغزالى مثلا وبعض الفلاسفة الأوربيين المحدثين مثل ديكارت وهيوم ورَسِل يؤكدون أن ما نسميه بـ"قانون السببية" هو أمر لا وجود له، إذ المسألة عندهم لا تخرج عن مجرد تتابع حادثتين، فنظن نحن، لكثرة ما نشاهد هذا التتابع، أن الحادثة الأولى هى السبب فى وقوع الحادثة الثانية كالنار والإحراق، والأكل والشبع...إلخ. يريدون أن يقولوا إنه ليس فى النار حتمية الإحراق، ولا فى الطعام حتمية الإشباع (انظر مثلا "تهافت الفلاسفة" للإمام الغزالى/ تحقيق د. سليمان دنيا/ ط6/ دار المعارف/239-140، وكذلك ص 44-45 من مقدمة المحقق، و"قصة الفلسفة الحديثة" لزكى نجيب محمود وأحمد أمين/ ط6/ مكتبة النهضة المصرية/ 1403هـ-1983م/ 156-158، و"أثر العرب فى الحضارة الأوربية" للعقاد / ط8/ دار المعارف/ 100-101، و"موسوعة الفلسفة" للدكتور عبد الرحمن بدوى/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 1984م/ 2/ 615-616). وتفسير الإمام الغزالى للأمر أن الله تعالى هو الفعال الحقيقى للإحراق والإشباع وغيرهما، أما النار والطعام فلا يزيدان عن أن يكونا شيئين يقع معهما ذلك دون أن يكونا هما السبب فيه. وهو ما يعنى أن الله لو أراد أن تكون نار ولا إحراق، أو إحراق ولا نار، لكان ما أراد. وهذا، فى الواقع، هو الرأى الذى ينسجم مع الإيمان بالله وقدرته ومشيئته، اللتين لا يعجزهما شىء فى الأرض ولا فى السماء. ولا يقولن أحد إن هذا معناه أن الكون، بهذه الطريقة، ستسوده الفوضى بحيث لا تستطيع البشرية أن تتعامل معه. ذلك أن هذا الخرق للنواميس لا يقع إلا بين الحين والحين البعيد وفى أضيق نطاق، وعلى نحو عارض تعود الأمور بعدها إلى ما كانت عليه. على ألا يغيب عن بالنا فى ذات الوقت أن إرادة الله هى صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فى ذلك. حتى إذا رأت تلك الإرادة فى نهاية المطاف أن هذا النظام الذى يجرى عليه الكون الآن لا بد من هدمه واستبدال نظام آخر به عند مجىء يوم القيامه كان لها ما رأت، ووَقَفَ العمل بهذا النظام، وبدأ نظام آخر يقوم على قوانين أخرى غير التى نعرف فى دنيانا هذه، قوانين ليس فيها مثلا، بالنسبة لأهل الجنة، مكان للموت ولا للمرض أو الملل أو الخوف أو العفن أو النتن أو الحاجة إلى الإخراج... إلخ، وهو ما أشارت إليه الآيات القرآنية وفصّلته أحايث النبى عليه الصلاة والسلام.
وهذا شىء يختلف تمام الاختلاف عن الخرافات التى كان المسلمون يؤمنون بها إيمانا وثيقا فى عصور تخلفهم والتى بسببها جاء اتهام الأوربيين ظلما لديننا بالجمود، إذ رَمَوُا الإسلام بما وجدوه فى المسلمين فى عصور ضعفهم وجهلهم وركونهم إلى الأوهام وتنكبهم لسبيل العلم رغم امتلاء القرآن المجيد والحديث الكريم بالحض على العلم والاستزادة منه وتفضيل العلماء حتى على العُبَّاد تفضيلا كبيرا، بالإضافة إلى إلحاحهما على وجوب استعمال العقل فى كل شىء بما فيه التحقق من صحة نبوة النبى عليه السلام. ولهذا تكثر فى القرآن عبارات مثل: "أفلا يتدبرون؟"، "إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون"، "إن فى لك لآيات لقوم يعقلون". كما نجد القرآن يحمل حملة شعواء على المشركين لأنهم يوقفون عقولهم عن العمل كأنهم حيوانات عجماء لا عقل لديها ولا بصر ولا سمع. وعندما أراد النبى أن يعلن دعوته بعد استتارٍ جَمَع قومه وسألهم، وقد وقف فوق مرتفع فى مواجهتهم، قائلا لهم: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسَفْح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقِىَّ؟". يقصد أن يلزمهم الحجة فى إيمانهم بصدقه واطمئنانهم إلى أنه لا يعرف التدليس ولا الالتواء فى القول. فلما لزمتهم الحجة بردهم عليه بأنهم لا يكذّبونه فى شىء، أعلن لهم أنه نبى من الله، فإذا بهم ينقلبون على أعقابهم فى التو واللحظة وينالون منه نيلا سخيفا.
والآن، وقد ألممنا ببعض الأسباب المسؤولة عن انهيار الحضارة الإسلامية نتساءل: كيف السبيل إلى الخروج من هذا التخلف؟ لقد حاول بعض الفلاسفة أن يتوصلوا إلى السر الذى على أساسه تنهض الأمم من سباتها الحضارى وتستعيد عافيتها ونشاطها. فإلى أى مدى تصدق تحليلاتهم؟ وهل نستطيع بدورنا أن نصل إلى شىء ناجع يمكننا الاستعانة به فى الحالة الراهنة لأمة الإسلام؟ ثَمَّ سؤال شديد الأهمية وقوى الصلة بموضوعنا هنا طرحه محرر مادة "الحضارة" بـ"الموسوعة العربية العالمية"، وهو: "لماذا تقوم الحضارات وتنهار؟"، محاولا أن يجيب عليه فقال: "أبدى الفلاسفة والمؤرخون وعلماء الآثار القديمة أسبابًا كثيرة لقيام الحضارات وانهيارها. وقد شبَّه جورج و. ف. هيجل الفيلسوف الألماني في أوائل القرن التاسع عشر المجتمعات بالأفراد الذين ينقلون شعلة الحضارة من واحد إلى الآخر. وفي رأي هيجل أنه خلال هذه العملية تنمو الحضارات في ثلاث مراحل: 1-حُكْم الفرد. 2-حُكْم طبقة من المجتمع. 3-حُكْم كل الناس. وكان هيجل يعتقد أن هذا النسق تُسْفِر عنه الحرية فى آخر الأمر لجميع الناس. وكان الفيلسوف الألماني أوزوالد سبنجلر يعتقد أن الحضارات، مَثَلُها مَثَلُ الكائنات الحية، تُولَد وتنضج وتزدهر ثم تموت. وفي كتابه: "انحدار الغرب" (1918- 1922م) ذكر أن الحضارة الغربية تموت، وسوف تحل محلها حضارة آسيوية جديدة. وعرض المؤرخ البريطاني آرنولد تُويِنْبِي نظريته عن "التحدي والاستجابة" في كتابه: "دراسة التاريخ" (1934- 1961م). وكان توينبي يعتقد أن الحضارات تقوم فقط حيث تتحدى البيئة الناس، وحينما يكون الناس على استعداد للاستجابة للتحدي. وعلى سبيل المثال فإن الجو الحار الجاف يجعل الأرض غير مناسبة للزراعة، ويمثل تحديًا للناس الذين يعيشون هناك. ويمكن أن يستجيب الناس لهذا التحدي ببناء أنظمة ري لتحسين الأرض. ورأى توينبي أن الحضارات تنهار حينما يفقد الناس قدرتهم على الابتكار. ويذهب معظم علماء الآثار القديمة إلى أن بزوغ الحضارات يرجع إلى مجموعة من الأسباب تشمل البناء السياسي والاجتماعي للحياة والطريقة التي يكيف بها الناس البيئة المحيطة بهم والتغيرات التي تطرأ على السكان. وفي كثير من الحالات يمكن أن تظهر الحضارات لأن رؤساء القبائل المحليين اتخذوا خطوات متعمَّدة لتقوية نفوذهم السياسي. ويعتقد كثير من العلماء أن سوء استخدام الأرض والمصادر الطبيعية الأخرى أسفرت عن الانهيار الاقتصادي والسياسي للحضارات الأولى".
ومعظم ما قيل هنا هو كلام مقبول، إلا أنه يقتصر على الوصف والرصد، ولا يلقى بالا إلى تقديم خريطة للعلاج. فنحن نعرف مثلا أنه ما من حضارة إلا وشاخت وسقطت وانهارت وانسحب أصحابها إلى الظل إلى أن تواتيهم فرصة أخرى يعودون بعدها إلى الساحة لاعبين ناشطين مؤثرين، وربما لم يقدَّر لهم أن يعودوا مرة ثانية لقرون طوال، بل ربما استؤصلوا فلم يبق منهم أحد، وإن تركوا خلفهم للتاريخ آثارا تقول إنه كانت هاهنا يوما حضارة أقامها الشعب الفلانى البائد. لكن المشكلة هى أنه ما من فيلسوف أو مفكر أو مصلح استطاع أن يضع خطة يقينية لترميم حضارة قومه المنهارة وبَعْثها وبَعْثهم إلى الحياة الفاعلة المؤثرة على أساس منها. نعم قد ينجح بعض المصلحين فى ترميم هذا الجانب أو تقوية ذاك الجانب حين تكون حضارة قومه لا تزال حية، فيؤخر سقوطها أو يطيل قوتها بعض الشىء. لكن متى انتهى الأمر وسقطت الحضارة فهنا يتغير الموقف. وها نحن فى بلاد الإسلام نحاول أن ننهض من رقدة الشلل التى نرقدها منذ قرون، وتقوم انقلابات وثورات هنا وهناك، ونجرب أنظمة نقتبسها من هنا وهاهنا، وتتوالى الوجوه فى دست الحكم، ونخوض حروبا بعضنا ضد بعض أو تُشَنّ علينا حروب لم نختر توقيتها ولا أحسنّا الاستعداد لها، وننفق الثروات الهائلة على السلاح ونتوسع فى التعليم ونبنى المدن الجديدة ونأخذ بيد المرأة ونُدْخِل شكل النظام الديمقراطى إلى حياتنا السياسية وننقل عن الغرب أحدث ما عنده فى عالم الاتصالات والمواصلات، لكن الثمرة شحيحة ومرة وقليلة الجدوى، وتبدو الأمور وكأننا نمشى بخطا السلاحف فى الوقت الذى يطير العالم من حولنا طيرانا فى أجواز السماء. ويتساءل العقل: لماذا لا نستطيع أن نحرز شيئا مما نتطلع إليه؟ سيقال إننا غير جادين، وعزائمنا خائرة فاترة، وإن معظم نشاطنا كلام، وأفعالنا قليلة وينقصها الحرارة والجِدّ والإخلاص. ونقول: نعم هذا صحيح، لكن السؤال يبقى كما هو: لماذا؟ من الممكن أن يقال إن هذا ميراث لزمن طويل من التخلف والضعف ورثناه عن آبائنا وأجدادنا. ومرة أخرى نقول: هذا صحيح، ولكن لماذا لا نستطيع أن نتغلب على هذه العيوب وننعتق من إسار هذا التخلف الذى وَرَّثونا إياه، ونرجع إلى القيم العظيمة التى خلقت منهم سادة للعالم بعد أن لم يكونوا شيئا ذا قيمة، قيم الإسلام العقيدية والعلمية والخلقية والاجتماعية والإنسانية، بدلا من قيم التخلف من تواكل وبلادة ونفور من السعى الجاد وراء العلم ورضا بالدَّنِيّة فى كل مجال تقريبا ونكوص عن المعالى وضعف فى الثقة بالنفس واستسلام للاستبداد: الاستبداد الداخلى والاستبداد الخارجى على السواء، واكتفاء بالشقشقة اللفظية دون أن يصاحبها عمل جاد من شأنه أن يغير ويصلح ويبلغ بنا ما نتطلع إليه من آمال؟
سيقول هِيجِلْ إن الحضارة تشبه مشعلا يتناوله كل شعب من الشعب الذى سبقه فيحمله زمنا ليسلمه بدوره إلى من يليه. وليس لنا على هذا الكلام أى اعتراض، وبخاصة أننا تسلمنا يوما تلك الشعلة وحملناها زمنا طويلا، ثم فقدناها، وليس فى الأفق ما يبشر أننا مستعيدوها قريبا، اللهم إلا إذا فاجأتنا الأقدار بشىء ليس فى الحسبان. لكن هذا لا يحل المشكلة كما قلنا، ولا يعيد لنا الشعلة ثانية لنَشْرُف بحملها ونتقدم الصفوف ونسترد كرامتنا التى ضيعناها بأيدينا ونعيش كما يعيش عباد الله الكرام فى عزة وطمأنينة وقوة وجاه. وسيقول لنا شبِنْجِلَرْ إن الحضارات تولد وتنضج ولكنها لا تبقى إلى الأبد، بل تشيخ وتموت لتحل محلها حضارة أخرى لشعب طافر متوثب. وليس لنا أدنى اعتراض على هذا، فهذا هو ما يقوله لنا التاريخ بلسانه الطلق الفصيح وقانونه الذى لم نره يوما يتخلف حتى الآن. ولكن لماذا لا تهبّ أمتنا تطفر وتتوثب وتتخلص من تخثُّر قواها وبلادة مشاعرها وعجز همتها وفتور إرادتها وكسل عقلها كما فعلت أمم من حولنا كاليابان مثلا، التى بدأت نهضتها الحديثة معنا هنا فى مصر فتقدمت إلى الصف الأول فى مجالات كثيرة، وبقينا نحن فى تخلفنا وضعفنا، أو كالصين، التى لا تعود نهضتها السياسية والاقتصادية إلا إلى بضعة عقود لا تُعَدّ فى حساب التاريخ شيئا، وها هى ذى تفرض نفسها على المحافل الدولية بعدما كانت عليلة الجسد يُظَنّ أنها تلفظ أنفاسهاالأخيرة، إذ كانت ترقد صريعة الأفيون القاتل الذى أغراها به البريطانيون حتى أدمنته إدمانا، فلم يعد يجرؤ متجرئ أن يلمس لها طَرَفا أو يستطيل عليها أو يهددها مجرد تهديد، فى الوقت الذى لا نبرح نحن مكاننا فنظل نراوح خطواتنا، بل نتراجع للأسف إلى الوراء فى كثير من الأحيان؟ بل إننا حتى فى ميدان الرياضة لا نستطيع أن نحرز كأس العالم فى أية لعبة ولو مرة واحدة برغم ما ينفق فى هذا المجال من أموال طائلة وما يَلْقَاه اللاعبون من تشجيع وتدليل لم يكن أحد منهم يحلم به ولا فى المنام.
وسيقول تُويِنْبِى إن الحضارة تقوم حين يكون ثَمَّ تحدٍّ تتصدى له الأمة وتفلح فى اجتيازه وهَزْمه. وللمرة الثالثة نقول إننا لانستطيع أن نمارى أو نشارى فى هذا، ولكن السؤال دائما هو: لماذا، ونحن نواجه، منذ زمن طويل، تحديات هائلة من التخلف والفقر والجهل والمرض والاستعمار والاستبداد والهوان الحضارى لا نستطيع التصدى الحقيقى لهذه التحديات؟ اللهم إلا إذا كان التصدى خطبا حماسية وشعارات صاخبة وأناشيد دِعائية تُصِمّ الآذان وتطمس العقول بضجيجها وكلامها المفرط فى المغالاة ورقصا وطبلا وزمرا، فقل عندئذ إننا صمدنا فأحسنّا التصدى، ولم تقف فى طريقنا عقبة من العِقَاب، أو تَقُمْ لنا صعوبة من الصعوبات دون أن نسقحها سحقا.
ومن هنا أرانى أميل إلى لدكتور حسين مؤنس فى تأكيده أنه "لا يوجد علم يسمى: "فلسفة التاريخ"، وإنما هناك محاولات من جانب نفر من الفلاسفة والمؤرخين وعلماء البشر والاجتماعيين لفهم القوى المسيِّرة للتاريخ أو للعثور على قواعد تحكم مسير الحوادث أو لمعرفة أسباب قيام الحضارات وتدهورها وما إلى ذلك. وكلها محاولات لم تصل إحداها إلى وضع قواعد أو قوانين أو حتى خطوط عريضة تعين على إدراك ما وراء الحوادث أو تساعد على تعريفنا بالطريق الصحيح الذى ينبغى على البشر أن يسيروا فيه ليصلوا إلى بناء مجتمع إنسانى أكثر أمنا واستقرارا، وأقدر على توفير أسباب الرخاء وما يسمى بـ"السعادة" للبشر. حتى كلام هيجل فى فلسفة التاريخ ما هو إلا تأملات عاشت حية فى أذهان الناس أيامه وشغلت الأذهان بعدها، حتى جاء كارل ماركس فزعم أنه حطمها، وسخر من قول هيجل: "عندى ينتهى التاريخ"، وقال إن التاريخ الحقيقى للبشر لم يبدأ بعد لكى يقال إنه انتهى. وبدايته عنده هى انتقال القوة الموجِّهة للتاريخ من أيدى مغتصبيها من السياسيين والرأسماليين، بحسب رأيه، إلى أيدى العمال، الذين يصنعون التاريخ بأيديهم وثمرة أعمالهم. وهذه أيضا قضية فيها من المغالطة شىء كثير. وإذن فليس هناك على الحقيقة علم يسمى: "فلسفة التاريخ"، ولا أعرف مؤرخا، مهما عظم، يستطيع أن يقول إنه يدرس مادة بهذا المعنى. وكل ما يزعمه بعض الناس فى هذا المجال إنما هى تصوراتٌ وأمانىّ. ومن هنا فلا نعجب من أن تُويِنْبِى، وهو أكبر من حاول فلسفة التاريخ فى عصرنا، لم يقل قَطُّ إنه فيلسوف تاريخ. وأحسن ما قيل فيه إنه شاعر" (د. حسين مؤنس/ الحضارة- دراسة فى أصول وعوامل قيامها وتطورها/ 8).
لقد بدأ ما يسمى لدينا بـ"النهضة الحديثة" منذ أكثر من قرنين، لكننا لم نبلغ شيئا ذا قيمة مما نتطلع إليه، إذ كنا وما زلنا نتطلع، أو نقول إننا نتطلع، إلى الاستقلال وإحراز القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والأخلاقية والنفسية، فماذا حققنا من هذا؟ لا شىء تقريبا. صحيح أن لدينا مثلا مؤسسات تعليمية، ولكن التعليم فيها ضعيف، وعندنا الجيوش، ولكنها لا تحرز انتصارا عادةً، وفى أيدينا البترول فى دول الخليج وغير دول الخليج، وعندنا قناة السويس فى مصر، وعندنا الأرض الزراعية الشاسعة فى السودان، وبإمكانها توفير الغذاء للعالم العربى طبقا لما يقول الاقتصاديون، ولكننا نفتقد العزة، وما زال الفقر يُنِيخ بكلكله على بلاد المسلمين بوجه عام. كما استوردنا أشكال المؤسسات الديمقراطية، لكن الاستبداد يجثم على أنفاس الشعوب دون أى فرق بين جمهورية وملكية حتى صارت الشعوب فى الأنظمة الجمهورية أيضا تُورَث جهارا نهارا، فى حين لا تبالى الشعوب ولا تحاول أن تتخلص من هذه الأوضاع المزرية بالكرامة الإنسانية، بل تبدو وكأنها تباركها وتستزيدها بما يوهم أن حياتها قد بلغت أعلى مستويات الرفاهية والكرامة والمجد. وقل فى باقى المؤسسات والأوضاع ما قلناه هنا، فلن تخطئ فى قولك.
لقد تتالت الحركات والانقلابات والثورات العسكرية، وظهر المصلحون أو مُدَّعُو الإصلاح من كل لون وشكل: فمن حكام إلى صحافيين إلى مفكرين إلى أدباء إلى علماء إلى ضباط، ومن محمد على إلى رفاعة الطهطاوى إلى جمال الدين الأفغانى إلى محمد عبده إلى عرابى إلى عبد الله النديم إلى مصطفى كامل إلى محمد فريد إلى سعد زغلول إلى حسن البنا إلى محمد نجيب إلى جمال عبد الناصر... إلخ، وهذا فى مصر فقط، إلا أن شيئا حاسما ينقل الأمة من حال إلى حال لم يقع ولا حتى فى الدين، فالأغلبية تفهمه على أنه لحية ونقاب، ثم الصلاة والصيام لا غير، ثم تبقى الأمور بعد ذلك على حالها، فلا الطالب تدين تدينا حقيقيا واجتهد فى أن يتفوق ويتقرب إلى الله سبحانه من خلال السعى الجاد لتثقيف عقله وذوقه بحضور الدروس وارتياد المكتبات واستذكار المقرر أولا بأول وإتقان ما يُطْلَب منه تحضيره وعدم الاكتفاء بالكتاب المدرسى، ولا الحِرْفِىّ تدين تدينا حقيقيا فاحترم مواعيده واعتدل فى تقدير أتعابه وأتقن إصلاح ما يصلحه لصاحب البيت ولم يخدعه بقطعة غيار قديمة يخرجها من حقيبته قد أخذها بسيف الحياء من عميل سابق وقدمها إلى عميله اللاحق على أنها قطعة جديدة معطيا إياها له بثمن أكبر من ثمن الجديدة، ثم هى لا تعمل فى الغالب إلا لوقت محدود مقدار ما ينصرف الحرفى، وإذا بالمشكلة تعود من جديد، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت... وهكذا دواليك. وقس باقى البلاد العربية والإسلامية على مصر، فلسوف تجد الأوضاع متشابهة، وكأننا ثمرة خط إنتاج واحد لا يتغير، اللهم فى التفاصيل التافهة، أما الخطوط العامة والأمور الهامة فلا اختلاف فيها.
والعجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام لا يزال فى غضارته ونضارته ويتوثب حيوية وانطلاقا ونشاطا ويكسب النصر بعد النصر، والقرآن يبشر المسلمين بأن لهم الغلبة على أعدائهم، وهو ما وقع فعلا حسبما بشَّر، العجيب أن يقول الرسول مع ذلك للمسلمين فى ذلك الوقت أيضا: "يوشك أن تَدَاعَى عليكم الأمم من كل أفق كما تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله، فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غُثَاءٌ كغثاء السيل: يُجْعَل الوهن في قلوبكم، ويُنْزَع الرعب من قلوب عدوكم لحبّكم الدنيا وكراهيتكم الموت"، أى لفقدانكم عوامل الحضارة وموات عزيمتكم وكراهيتكم للحياة الحرة الأبية الكريمة الراقية ورضاكم بالهوان على أيدى حكامكم وأعدائكم، فلا تنصركم السماء بعدما خذلتم أنتم أنفسكم بأنفسكم، وحقت عليكم كلمة الله وعقوبته فى الدنيا قبل الآخرة، ثم فى الآخرة بعد الدنيا. والحق أنه لو لم يكن للرسول إلا هذه النبوءة لكفته عندى دليلا على أنه رسول صادق أمين، إذ لماذا يزعج النبى الكاذب أتباعه، وهم فى غمرة النصر ونشوته، بالتنغيص عليهم بمثل تلك النبوءة، إن كان يستطيع أى نبى كاذب التنبؤ بمثلها أصلا؟ إن هذا لكلامُ الأنبياء الصادقين. وها نحن المسلمين أولاء نراه بأم أعيننا منذ قرون، وبخاصة فى حرب الخليج الثانية حيث تداعت على العراق الأمم من كل جانب ومن كل شكل ولون بما فيها تلك الأمم التى لم يسمع الإنسان باسمها يوما، بل لا يستطيع أن يراها على الخريطة لهوان شأنها، فهى نكرة لا تلفت نظر أحد، وكلها اشتركت فى ضرب العراق. وما كان الله ليظلمنا، ولكن كنا لأنفسنا ظالمين!
ولعل القارئ قد لاحظ إنحائى باللائمة على الشعوب أوّلاً لا على الحكام، على عكس ما هو شائع بين المصلحين والدارسين والمفكرين. ذلك أن أصحاب المصلحة فى التقدم والتحضر إنما هم الرعية لا الراعى، الذى كلما كانت رعيته ترتع فى الجهل والخنوع والرضا بالهوان وتنحنى راكعة على قدميه تلثمهما كان ذلك أحرى بإسعاده، إذ يصير الحكم كله بهذه الطريقة مغانم ولذة وحبورا، فلا أحد يناوئه، ولا أحد يحاسبه، ولا أحد يعترض عليه، ولا أحد يطالبه بشىء مما يحتجنه فى يديه، ولا أحد يجرؤ على النظر إلى وجهه. ومَنْ مِنَ الناس يكره أن يكون هو ذلك الحاكم فيعمل على أن يخلق لنفسه أسبابا للإزعاج والتنكيد؟ كتب د. أحمد أمين فى كتابه الشائق المؤلم: "يوم الإسلام"، الذى يتحول فى نهايته إلى مرثية مرة للعالم الإسلامى وللمسلمين، ولم يكن ينقص المؤلف إلا أن ينشج من الهم والقهر لما وصلت إليه حال أمته، كتب الرجل أنه فى سنة 1910م ألقى محاضرة وهو فى السنة الثالثة بمدرسة القضاء الشرعى بمناسبة رأس السنة الهجرية، فأكد أن أكبر سبب لانحطاط المسلمين، فى الماضى كما هو فى الحاضر، يعود إلى الحكام ورجال الدين، إذ الحكام بأيديهم زمام الشعوب، وقد قال الله تعالى: "ربَّنا، أَطَعْنا سادتنا وكبراءنا فأَضَلُّونا السبيلا"، وقال: "وإذا أردنا أن نُهْلِك قرية أَمَرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحَقَّ عليها القولُ فدمَّرناها تدميرا". وشخّص أحمد أمين الداء فى أمرين: تنازع الحكام على السلطة، وإمعانهم فى شهواتهم ولهوهم وجباية الأموال بالعسف والبطش والمصادرة والقتل. وأنا معه فى كلامه عن فساد الحكام ورجال الدين: معظمهم طبعا وليسوا كلهم، لكنى لست معه فى تحميل الحكام ورجال الدين القسط الأكبر من المسؤولية عن ذلك حسبما وضحتُ آنفا.
كما أن الحكام لم يَتَدَهْدَوْا إلى العسف والبطش واستباحة دماء المخالفين إلا حين وجدوا الشعوب تخنع لهم ولا تتمرد على جبروتهم فاسْتَحْلَوْا ذلك العسف وهذا الجبروت. والنفس البشرية كالإعصار تجتاح ما تجده أمامها ما دامت تستطيع اجتياحه. فإذا لم يجد الحاكم الباطش من الشعب الذى يحكمه قوة تحجزه عن الهبوب الجامح والتحطيم المبيد انطلق فى عنفوانه يقلع ويخلع ويحطم ويدمر ويستولى ويبطش، وما من محاسب أو مُسَائل. ولو كانت الشعوب متنبهة إلى حقوقها فى محاسبة حكامها وتقويمهم إذا ما انحرفوا واجتهدتْ فى وضع نظام لتبادل السلطة يقيها شرور التنافس الشرير المبير بين الطامعين فيها وحَرَصَتْ على تطبيق ذلك مهما كانت التضحيات والمتاعب لَوَضَعها الحكام فى اعتبارهم ولم يهملوها ويستهينوا بها كما هو الحال فى بلاد المسلمين منذ قرون طوال. ثم إن قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا"(الأحزاب/ 64- 68)، وهو ما اقتطع منه الأستاذ الدكتور الآية الأولى التى استشهد بها فى خطبته، يدل على أن العذاب فى النص الكريم قد وقع على هؤلاء الذين يشكون من كبرائهم وساداتهم. وإذا كان هؤلاء قد دَعَوْا على السادة والكبراء أن يعذبهم الله ضِعْفَيْن فقد وضح القرآن فى آية أخرى أن لكل من الفريقين: السادة الكبراء والرعية الحقراء ضِعْفَيْن متماثلين، وإن كانوا لا يعلمون هم ذلك لانطماس بصيرتهم وتصورهم أنهم مُعْفَوْن من العُهْدة غير دارين أن العهدة عليهم أعظم وأشدّ لأنهم فرّطوا فى حقوقهم وكرامتهم: "قال: لكلٍّ ضِعْفٌ، ولكنْ لا تعلمون" (الأعراف/ 38). كذلك نسمع القرآن فى موضع ثالث يصور لنا حالة الفريقين فى النار يوم القيامة إذ يتجادلون فى نصيب كل منهما فى المسؤولية: "وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ" (البقرة/ 165- 167)، "وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ" (المؤمن/ 47- 48).
أما قوله تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" (الإسراء/ 16) فلا يمكن أن يُفْهَم حق الفهم إلا إذا قلنا إن التدمير ليس بسبب فسق الحكام وحدهم، وإلا فما ذنب الشعب؟ الواقع أن الشعوب هى المسؤولة أولا عن سكوتها على فسق حكامها وسَوْمهم إياها التنكيل والإفقار والتجويع والقتل والسجن والتشريد وتكبيلها بالمعاهدات المجنونة التى لا تراعى مصالحها ولا تضع مستقبلها فى الاعتبار. وعلى هذا فمعنى الآية أنه إذا ما أراد الله إهلاك مجتمع من المجتمعات، أى إذا ما قُدِّر لمجتمع من المجتمعات أن ينهار ويهلك، فإن أسباب الهلاك تظهر أول ما تظهر فى مترفيه. فإذا استيقظ الشعب ووقف ضد هذا الفساد وحاربه وأثبت أنه شعب من الرجال الأعزة الكرام فأوقف المترفين الفاسقين عند حدهم ورَدَّهم عن بغيهم، فإن المجتمع يُكْتَب له فى هذه الحالة العافية والفلاح، أما إذا انقمع الشعب وارتعب وحنى ظهره لحكامه كى يركبوه ويمتطوه على هواهم فإن الله يدمره فى هذه الحالة تدميرا. فليس معنى ما يقوله القرآن عن أَمْر الله للمترفين بالانحراف أنه عز وجل يأمرهم بالفسق والفجور، بل معناه أن هذه سنته فى هلاك الأمم، إذ تنام الشعوب عن حقوقها ومصالحها فينشأ الطغيان، ثم يزيد الطين بِلَّةً بأن تخنع الشعوب لذلك الطغيان بدلا من أن توقفه عند حده. ولقد وجدت الأمير شكيب أرسلان أيضا يرجع السبب فى تقدم المسلمين قديما وتخلفهم إلى العزة، وتهاويهم فى عصرنا هذا إلى فقدانهم للعزة، تلك العزة التى هى من صفات المؤمنين حسبما تقول الآية الثامنة من سورة "المنافقون": "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين". كما أشار، رحمه الله، إلى قوله سبحانه: "إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم" موضحًا أنه حين فقد المسلمون العزة تغيروا فغير الله أوضاعهم من الرقىّ إلى الانحطاط (انظر كتابه: "لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟"/ 43). وقد سبق، لدن حديثى عن مفهوم "القابلية للاستعمار" فى كتابات ملك بن نبى، أن قلت إن هذه القابلية للاستعمار ليست إلا عرضا لمرض دفين سابق هو الذلة وفقدان الشعور بالكرامة.
وقد أوجز د. أحمد أمين، فى مقدمة كتابه: "زعماء الإصلاح فى العصر الحديث"، وصف أوضاع المسلمين فى قمة مجدهم وفى وهدة انحطاطهم فأحسن الإيجاز إذ كتب يقول: "بلغ العالم الإسلامي في القرون الأربعة الأولى شأوا بعيدا في الخلق والعلم والحضارة حتى كاد يكون سيد العالم في هذا كله: فخُلُقه في حربه وسلمه قوي متين، وعِلْمُه استوعب ما عند الأمم الأخرى من هند وفرس ويونان وروم وهَضَمه كله ومزجه مزجا جميلا وبنى عليه وابتكر فيه، وحضارته كانت خير الحضارات. تزدهر مدنه كبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة بشتى ألوان الحضارة من علم وفن وعمارة وتجارة وصناعة حتى كان يُرْحَل إليها جميعا للأخذ عنها والاقتباس منها. هذا إلى حرية في العقيدة، وحرية في القول والعمل. وهي حرية قلما كان يتمتع بها غيرهم من الأمم. وكان ينعم بها كل من استظل بظلهم من نصارى ويهود ومجوس، على حين كان يشقى في الشعوب الأخرى كل من خالف دينها واعتقد غير عقيدتها. ثم بدأت فيه عوامل الضعف بعد ذلك، وتوالت عليه الكوارث، وتتابعت عليه الخطوب. وكلما مر عليه زمن زاد ضعفه وبدا هزاله. وكان أول ذلك ما دهمه من قبائل الترك الرحالة، وكانوا إذ ذاك معروفين بالغلظة والجفوة، لا يحسنون إلا القتال من غير رحمة، والفتك من غير روية. لا علم ولا حضارة ولا معرفة بأساليب الحكم وقوانين السياسة. ومَكَّن لهم الخلفاء لحاجتهم إليهم حتى كانوا السيد المطاع والحاكم المستبد. وسرعان ما دخلوا في الإسلام ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، فلم يؤاخوا المسلمين بل استعبدوهم، ولم يرحموهم بل نكّلوا بهم، ولم يؤسسوا علما ولا حضارة، بل قضوا على العلم والحضارة.
وجاءت الحروب الصليبية فاكتسحت آسيا الصغرى، واستولى الصليبيون على بيت المقدس، وجندت أوربا الجيوش تلو الجيوش لهذا الغزو، وتتابعت البعوث قرونا، والعالم الإسلامي يبذل كل جهوده وقواه وموارده لدفع هذه النازلة، حتى استنفدت ذكاءه وماله ومهارته وكل مقدرة له. وفي القرن السابع الهجري اكتسح المغول جزء كبيرا من العالم الإسلامي، وعلى رأسهم جنكيزخان هذا الجبار المتمرد، ثم خلفاؤه من بعده مثل هولاكو. ولم تكن غايتهم الفتح والاستعمار ولا الغُنْم والاستلاب فحسب، بل كانت الفتك والتدمير أيضا، فحطموا بغداد وحضارتها وعلمها وفنها، وكانت زينة العالم وبهجة الدنيا، فذبحوا أهلها وخرّبوا عمرانها، وأتلفوا جسورها وكل ما بها. وكانت نكبة بغداد نكبة العالم الإسلامي. وفي أول القرن التاسع الهجري زحف تيمورلنك، فمثّل دور جنكيز خان وهولاكو، فذبح ودمّر وأتلف وخرّب، ورمى العالم الإسلامي بكارثة عظمى ولمّا يستفق مما غَشِيَه من النوازل قبلها. ثم امتدت فتوح الأتراك العثمانيين فلم يكن حكم أكثرهم حكما صالحا، ولم يَسُوسُوا الأمم سياسة عادلة. كانوا شجعانا مقاتلين، ولم يكن أغلبهم ساسة عادلين. عُنُوا بالحرب أكثر مما عُنُوا بالإدارة ونظم الحكم، ومهروا في الفتح أكثر مما مهروا في إقامة صرح العلم ومتابعة السير بالحضارة، فزاد العالم الإسلامي تدهورا على توالي الأزمان: ظلمة حالكة، ومحنة شاملة، وجهل مطبق، وظلم فادح، وفقر مدقع.
هذا سائح فرنسي يزور مصر في آخر القرن الثامن عشر، وهو مسيو فولني، وأقام بها وبالشام نحو أربع سنوات، يقول: "إن الجهل في هذه البلاد عام شامل، مَثَلُها في ذلك مَثَلُ سائر البلاد التركية. يشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل جوانبها الثقافية من أدب وعلم وفن، والصناعات فيها في أبسط حالاتها، حتى إذا فسدت ساعتك لم تجد من يصلحها إلا أن يكون أجنبيا". وهذه الحكومة المصرية نراها إذ ذاك تخشى تعليم الرياضة والطبيعة، فتستفتي شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد الإنبابي: "هل يجوز تعليم المسلمين العلوم الرياضية كالهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبَّر عنه بـ"الكيمياء" وغيرها من سائر المعارف؟"، فيجيب الشيخ في حذر: "إن ذلك يجوز مع بيان النفع من تعلمها"، كأن هذه العلوم لم يكن للمسلمين عهد بها، ولم يكونوا من مخترعيها وذوي التفوق فيها. كان العالم الإسلامي منعزلا لا يتصل بأوربا إلا فيما تعانيه تركيا من مشاكلها السياسية، فليس هناك بين الشعوب الإسلامية والشعوب الأوربية اتصال في الثقافة والعلم والصناعة ونظم الحكم يمهد لها الاستفادة منها والأخذ عنها. لقد أُغْلِقَتْ على العالم الإسلامي الأبواب منذ الحروب الصليبية، وأخذ يأكل بعضه بعضا. وقف المسلمون في علمهم فليس إلا ترديد بعض الكتب الفقهية والنحوية والصرفية ونحوها، وفي صناعتهم فلا اختراع ولا إتقان للقديم، وفي آلاتهم وفنونهم العسكرية فهي على نمط الأقدمين. وسكان المدن والريف قد أُبْعِدوا عن الاشتراك في الشؤون السياسية والحربية فلا تراهم في جيش ولا في قيادة جيش، ولا رأي لهم في الحكم ولا في السياسة ولا في الإدارة. إنما هم مزرعة الحكام ومُسْتَغَلّ الولاة والأمراء. كلما تفتحت شهواتهم فعلى الرعية أن يجدوا سبيلا لملئها بالمال يجمعونه من كد يمينهم وعرق جبينهم. مركز الخلافة، وهو الآستانة، مفكك منحل، والولايات من مصر والشام والعراق والحجاز متدهورة متضعضعة قد أمات نَفْسَها توالي الاستبداد عليها. العلم فيها كتابٌ دينيٌّ شكليٌّ يُقْرَأ، أو جملةٌ تُعْرَب، أو متنٌ يُحْفَظ، أو شرحٌ على متن، أو حاشيةٌ على شرح. أما علوم الدنيا فلا شيء منها إلا حساب بسيط يستعان به على معرفة المواريث، أو قبس من فلك قديم يُسْتَدَلّ به على أوقات الصلاة. والسياسة فيها نزاع مستمر بين الأمراء، وكل أمير له حزبه، وكل حزب يتربص الدائرة بخصمه، والبلاد ضائعة بينهم. الوالي لا يطيل المكث إلا ريثما يغتني حتى أصبح اسم الحكومة والوالي والجندي مرعبا مفزعا مقرونا في النفس بمعنى الظلم والعسف.
وأعجب من هذا كله إلف الشعوب الإسلامية هذه الحالة السيئة واستنامتها إليها وكراهيتها لكل إصلاح: فإذا أريد إصلاح الجندية ثارت الإنكشارية، وإذا أريد إصلاح القضاء غضب العلماء. وعلى الجملة فقد كان العالم الإسلامي إذ ذاك شيخا هرما حطمته الحوادث، ونَهِكَه ما أصابه من كوارث: فساد نظام، واستبداد حكام، وفوضى أحكام، وخمود عام، واستسلام للقضاء والقدر، وترديد لقول الشاعر:
دَعِ المقادير تجري في أَعِنّتها * ولا تَبِيتَــنَّ إلا خاليَ البـــالِ
فقد الدين روحه، وصار شعائر ظاهرية لا تمس القلب ولا تحيي الروح. سادت الخرافات، وانتشرت الأوهام، وأصبح التصوف ألعابا بهلوانية، والدين مظاهر شكلية، ووسيلة النجاح في الحياة ليست الجِدّ في العمل، ولكنِ التمسح بالقبور والتوسل بالأولياء، فهم الذين يُنْجِحون في العمل، وهم الذين يَنْصُرون في الحروب. والحارات مملوءة بالدجالين والمشعوذين. هذا هو الحال في الشرق، أما الغرب فلم يكن أصيب بكوارث الشرق. وقد بدأت أوربة تستيقظ منذ الحروب الصليبية، وتنشيء لها حضارة جديدة مؤسسة على العلم والحرية، وتتقدم في الصناعة، ويتدفق عليها المال من اكتشافها أمريكا وغيرها، وتخترع وترتقي في النظم الحربية على أساليب جديدة، وتنشيء الأساطيل الضخمة. حتى إذا شعرت بقوتها هجمت على الشرق بآلاتها وأسلحتها واختراعاتها فتساقطت أقطاره في يدها، وكانت إذا دخلت قطرا ضغطت عليه بكل قوتها، واستغلته لمصلحتها، وأجرت فيه الأمور على هواها. فكان من جراء هذا الضغط أن أخذ وعي الشرق يستيقظ، وطموحه يتوثب. وكان من طبيعة هذا أن يتقدم الصفوف زعماء للإصلاح يشعرون بآلام شعوبهم أكثر مما تشعر، ويدركون الأخطار المحيطة بها أكثر مما تدرك، ويفكرون التفكير العميق في أسباب الداء ووصف الدواء. وكل مصلح ينظر إلى المرض من زاويته ويدعو إلى مداواته حسب خطته، فكان من ذلك مصلحون مختلفون دَعَوْا إلى الإصلاح في أقطارهم على حسب بيئتهم وثقافتهم ومزاجهم. وكلٌّ قد أبلى بلاء حسنا، ولاقى من العناء ما لا يتحمله إلا أولو العزم: فمنهم من شُرِّد، ومنهم من قُتِل، ومنهم من رُمِيَ بالخيانة العظمى. فمن نادى بالمساواة بالعدل بين الرعية من غير نظر إلى جنس أو دين اتُّهِم بمحاربة المسلمين، ومن نادى بتنظيم الجيش على الأساليب الحديثة اتهم بالتفرنج والخروج على التقاليد، ومن نادى بتأسيس مجلسٍ شُورِىٍّ اتهم بمحاربة السلطان والحض على الثورة والعبث بالنظام، ومن نادى بإصلاح العقيدة والرجوع بها إلى أصل الدين اتهم بالإلحاد... وهكذا، وهم على هذا صابرون مجاهدون، أحبوا مبدأهم في الإصلاح اكثر مما أحبوا الحياة، ولم يعبأوا بالعذاب يحيق بهم في سبيل تحقق فكرتهم، وظلت آراؤهم تعمل عملها في حياتهم وبعد موتهم حتى تحقق إصلاحهم ونفذت أفكارهم، وتقدم الشرق على أيديهم خطوات تستحق الإعجاب".
هذا ما قاله المرحوم أحمد أمين، لكنى أنظر إلى ما هو أمامى فأجد الصورة قاتمة، ولا أظنه كان يبقى على نفس الرأى لو كان حيا بيننا الآن: فالاستبداد فى العالم الإسلامى لا يزال فى أشد عنفوانه حتى إن الجمهوريات قد شرعت تتحول إلى ملكيات، وأخذ الرؤساء يورّثون السلطان لأبنائهم جهارا نهارا دون مبالاة بالشعوب، والشعوب ساكتة ساكنة ميتة المشاعر والوعى كأن الأمر لا يمسها فى قليل ولا كثير، ولا يعنيها من بعيد ولا من قريب. هذا فى السياسة الداخلية، أما فى ميدانها الخارجى فقد استولى اليهود على فلسطين، وعقد عدد من الحكام العرب والمسلمين مع إسرائيل معاهدات واتفاقات وبادلوها التمثيل الدبلوماسى بعدما غبر عليهم زمن كانوا يضحكون فيه على الجماهير المغيبة العقل بأنهم سوف يلقون بها فى البحر. كما عاد الاستعمار الغربى إلى بعض البلاد العربية والإسلامية مسفرا عن وجهه بكل جرأة ووقاحة، وإن كنا جميعا نعرف أنه كان موجودا طول الوقت فى كل البلاد تقريبا، ولكن على نحو مستور. وفوق ذلك فالفساد المالى والإدارى والتعليمى كبير، والفوارق بين الأغنياء والفقراء تزداد حدة، ومعظم الحكام يتصرفون فى مالية الدولة كأنها ملك شخصى ورثوه وراثة.
من هنا نستطيع أن نفهم قول د. محمود حمدى زقزوق فى تشخيصه للأوضاع القائمة فى عالم الإسلام: "يعانى العالم الإسلامى فى العصر الحاضر من أزمة طاحنة متعددة الجوانب، ففى الوقت الذى تتلاحق فيه التطورات العلمية والفكرية والحضارية فى مناطق العالم المتقدم إذا بنا نرى التخلف بكل أبعاده المادية والمعنوية والعلمية والدينية والفكرية والحضارية يخيم على العالم الإسلامى... إننا، كمسلمين، لا نستطيع أن ننكر أن واقع الأمة الإسلامية واقع متخلف ومحزن ويدمى النفس الإنسانية، ولكن لا نستطيع أن ننكر فى الوقت نفسه أن هذا الواقع المحزن منفصل عن النموذج الإسلامى الحضارى بمائة وثمانين درجة. ولم تستطع الصحوة الإسلامية المعاصرة أن تقترب حتى اليوم بطريقة جِدِّيّة من هذه القضية المصيرية الأولى، بل ظلت حتى يومنا هذا مشغولة بمحيط الدائرة وبعض المظاهر الشكلية والأمور الهامشية، ومهتمة بالجزئيات دون الكليات، واختلط لديها سلم الأولويات، فانقلبت الضرورات هامشيات، والهامشيات ضروريات، وغابت معالم الرؤية الواضحة المتعقلة المستنيرة، وضاعت أصوات العقلاء من رواد هذه الأمة وسط ضجيج الانفعالات العاطفية التى تتصف فى بعض الأحيان بشدة حدتها وانفلات وعيها بما يدور حولها فى عالم اليوم" (د. محمود حمدى زقزوق/ الحضارة فريضة إسلامية/ مكتبة الشروق/ 2001م/ 33، 35).
والدكتور زقزوق محق تماما فى تأكيده أن "الحضارة فريضة إسلامية" كما جاء فى عنوان كتابه الذى نحن بصدده. ذلك أنه من غير الممكن أن يكون الإنسان مسلما صالحا إلا إذا كان متحضرا راقى الحضارة، لأن الحضارة الراقية، كما رأينا على مدى الفصول الماضية، هى الإسلام، والإسلام هو الحضارة الراقية. وعلى هذا فأى تقصير حضارى هو خصم من قيمة إسلام الشحص مهما زعم المزاعم وظن أنه يحسن صنعا، إذ ليس الإيمان بالتمنى، ولكن ما وَقَر فى القلب وصدّقه العمل، أى ما تحول إلى أفكار وأقوال وتصرفات وأخلاق حضارية. لكننى لا أوافق د. زقزوق رغم هذا فى قوله إن "الحضارة، بوصفها فريضة، لا تقل فى أهميتها للمسلمين فى عالم اليوم عن أى فريضة أخرى من فرائض الإسلام الأساسية مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج، وإن العمل من أجلها يعد عبادة لله سبحانه وتعالى" (المرجع السابق/ 5)، إذ ليست الحضارة فريضة عادية بل هى فريضة الفرائض، لأنها هى الإسلام ذاته. لقد رأينا أن الحضارة تشمل العقيدة والأخلاق والعلم والعمل والذوق الرفيع. ترى ما الذى يبقى لكى يقال إن الحضارة لا تطابق الإسلام؟ إن الصلاة والصيام والزكاة والحج تدخل فى العقيدة، لأن العقيدة هنا تشمل العبادات والشرائع أيضا. وعلى هذا فإن العبادات لا تمثل من الدين ولا من الحضارة الإسلامية إلا جزءا يسيرا فقط. ومن ثم فالإسلام أكبر من أن نحصره فى العبادات، إذ هو كُلٌّ، والعبادت ليست سوى جزء من هذا الكل.
د. إبراهيم عوض
كانت الحضارة الإسلامية فى إبّانها ملء السمع والبصر والفؤاد، وكانت لها إنجازاتها الهائلة، ثم ككل شىء فى الوجود طرأ عليها الضعف والانهيار. لكن ما السبب فى هذا الانهيار يا ترى؟ أول ما يخطر على البال فى هذا السياق هو عامل استطالة الزمن، فقد بدأ المسلمون بداية عبقرية، واستمروا أقوياء فترة من الزمن طويلة جدا بالنسبة إلى الحضارات التى سبقتهم أو أتت بعدهم رغم كل ما واجههم من تحديات وعوائق ومتاعب ليسست بالهينة ولا القليلة. وكانت الشعوب التى يحكمونها أسعد حظا من سواها، وإن لم يَعْنِ هذا أنهم كانوا فى إدارتهم لدولتهم ومعاملتهم لرعاياهم ملائكة مبرئين من كل عيب أو أن العلاقة بينهم وبين الشعوب التى حكموها كانت سمنًا على عسلٍ على الدوام، فهذه ليست طبيعة البشر ولا طبيعة الحياة على الأرض، ولا أظنها ستكون أفضل من هذا لو قُدِّر للبشر أن يهاجر منهم ناس يستوطنون القمر، أو يستوطنون المريخ وغير المريخ بعد القمر، اللهم إلا إذا كُتِب عليهم أن تتغير طبيعتهم التى نعرفها منهم ومن أنفسنا، وهيهات قبل أن تقوم القيامة ويُعَاد سَبْكُ العالم والأشياء والأحياء سَبْكًا جديدا ليس لهم به عهد. لكنْ من غير الطبيعى مع ذلك أن يظل المتحمس لمبدإ أو دين أو مذهب من المذاهب متحمسا له بنفس القوة والحرارة والاندفاع والتجرد إلى أبد الآبدين دون أن يعتريه ضعف أو فتور أو تراجع أو كسل أو خوف على مصلحة ضيقة أو إعادة نظر، أو حتى ثقة زائدة بالنفس تعميه عن اتخاذ الاحتياطات تجاه عدوه الضعيف الذى كان ينتصر عليه دون جهد كبير، ثم إذا بهذا العدو يكمن بعيدا عن أنظاره مجتهدا فى تقوية نفسه وإصلاح أحواله، حتى إذا شام من نفسه قوة وقدرة بعد ضعف وعجز هَبَّ يهاجمه وقد استعد له خير استعداد، بينما هو مغمور فى غروره وثقته الزائدة بالنفس، يتصور أن خصمه "لن يأخذ فى يده غَلْوة" يُذَرّيه بعدها فى جهات الأرض الأربع، فإذا به يخرّ صريعا أمامه وهو يلعق التراب ويبحث عن مغيث فلا يجد.
ولقد أشار القرآن مبكرا إلى هذا العامل، عامل استطالة الوقت، إذ نزلت أولاً، بخصوص الصراع بين المسلمين والمشركين، الآية الخامسة والستون فى سورة "الأنفال" تحرّض المؤمنين أن يتعاملوا مع المشركين على أن واحدهم يساوى فى القتال عشرة من خصومهم، ونصها: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ". لكن سرعان ما نزلت الآية التى بعد آيتنا هذه مباشرة تقول: "الآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" هابطة بالنسبة من واحدٍ مقابلَ عشرة إلى واحدٍ مقابلَ اثنين. وبطبيعة الحال لا يمكن أن يفهم عاقل أن الله سبحانه لم يكن يعلم قدرة المسلمين وحدود طاقاتهم القتالية قبل هذا ثم علمها بعد أن رأى منهم شيئا لم يكن يتوقعه. بل كل ما هنالك أن هذه هى طريقة اللغة، وأن من طبيعة القرآن بالذات التعبير كثيرا عن صفات الله تعالى بصيغة الماضى مثل الفعل "عَلِمَ" فى الآية الحالية، والفعل "كان"، الذى يدل على الأزلية فى قوله سبحانه: "وكان الله عليما حكيما"، "وكان الله قويا عزيزا"، "وكان الله على ذلك قديرا"، "وكان الله غنيا حميدا"... وهلم جرا. والمعنى أنه كان كذلك منذ الأزل. أى أن هذه طبيعة الألوهية، فالألوهية فوق الزمان والمكان وسائر الحدود التى يعنو لها البشر وغيرهم من الكائنات.
وهو، جل فى علاه، يعرف أن للطاقة البشرية حدودا فى التفوق والاستمرار مهما كانت المغريات والدوافع. ببساطة لأنه هو الذى خلقهم على هذا المنوال لحكمة يعلمها. وهو سبحانه يعلم أن تلك الفورة الأولى لا يمكن أن تستمر دون أن يعتريها فتور ولا كلال، لكنه يعلم أيضا أن هذه هى الطريقة المثلى لاستفزاز طاقات المؤمنين فى فورتهم الأولى. وهذا يذكرنى بما نقوله بلغة الكرة من أنه لا بد للفريق أن يبكّر بإحراز هدف أو هدفين فى بداية المباراة حتى ترتفع روحه المعنوية ويتسيّد الملعب قبل أن يتنبه الفريق الآخر ويلم صفوفه ويبادله الهجمات، فـ"اليد السابقة سابقة" كما يقال فى الأمثال الشعبية. كذلك يشير القرآن المجيد إلى هذا التأثير السلبى لعامل الزمن فى قوله جل جلاله: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" (الحديد/ 16). وبالمثل يقول الكتاب الكريم عن المشركين المتحجرين الذين لا يريدون أن يصيخوا إلى صوت العقل والهدى ويعودوا إلى الصواب فيؤمنوا بالدين الجديد: "بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ..." (الأنبياء/ 44). فمن الواضح أن طول العمر والتمتع بطيبات الحياة قد أنسى المشركين ما ينبغى عمله وما لا ينبغى وجعلهم يخلدون إلى الانحراف لا يشعرون بأى قلق أو اختلاجة ضمير، إلى أن تقع الكارثة فيتصوروا أنها قد وقعت بغتة، غير دارين أنه كان لها مقدماتها الطويلة، إلا أنهم لم يلتفتوا إليها فى غمرة بلادتهم ولامبالاتهم.
وفى آية أخرى نسمع موسى عليه الصلاة والسلام يخاطب قومه معنفا لهم على ارتكاسهم فى الوثنية وعبادتهم العجل أثناء غيابه عنهم فوق الجبل للقاء ربه رغم أن المسألة لم تتعدَّ أربعين ليلة: "فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي" (طه/ 86). فإذا كانت هناك أمة ترتكس فى غضون هذه المدة الزمنية الضئيلة، فما أعظم أمة الإسلام، التى ظل رجالها، رغم عيوبهم التى لا يمكن نكرانها أو تخفيفها، قابضين فى أيديهم بكل جسارة وبراعة على مقاليد الحكم والسياسة والثقافة والدين والاقتصاد دهرا طويلا من الزمان، وبنجاح نادر، كانوا يحكمون خلالها أمما شتى وأَرَضِينَ بعَرْض الكرة الأرضية المعروفة أيامئذ، مما يضيف إلى عامل الزمن واستطالته عاملا آخر هو ترامى حدود الدولة على هذا النحو العجيب!
وهذا الضعف وما يؤدى إليه من تفكك وانهيار فى نهاية المطاف يرجع إلى عوامل شتى منها الذاتى، ومنها الخارجى. فالغرائز تنبع من داخل الإنسان، وليس بمكنته أن يتجاهلها أو ينتصر عليها تماما، بل هى كالوحش الكاسر تحتاج إلى براعة ومرونة وإشباع وتدليل، وإلا افترست صاحبها افتراسا لا يعرف الرحمة. ومهما اجتهد البشر فى السموّ بغرائزهم والتقليل من الخضوع لها والاشتغال بمعالى الأمور، فإن تلك الغرائز سوف تنهض من مرقدها هناك فى أعماق النفس والجسد وتطل برأسها وتطالب بالإشباع. وليس فى مستطاع البشر على الدوام أن يلجموها ويحصروها فى الحدود المعقولة. أترى الذين يصيبون ترفًا ومالاً ينصبّ فى حجورهم انصبابا يستطيعون دائما مقاومة إغراءات هذا المال وما يمكن أن يحققه لهم من سلطان وقوة وإشباع لشهوات النفس فلا يضعفوا ولا تفتر عزيمتهم أبدا؟ ولو افترضنا أن الجيل الأول الذى حقق هذا الرخاء قد نجح فى أن يحافظ على تماسكه أمام هذا السيل العرم، بل لنفترض أن الجيل التالى والذى يليه استطاعا أيضا ذلك، فهل يظن ظانٌّ أن هذا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية؟ هذا ما لا يمكن أن يكون لأن هذا هو ما علّمَناه التاريخ والتجارب التى تقع لنا وتقع لمن حولنا ممن نعرف ومن لا نعرف. ولقد تجاهر مثلا كثير من الشعراء المسلمين بالنظم فى الخمر والجوارى والغلمان وأكثروا منه دون حرج، وتقبلت الجماهير منهم هذا دون حرج أيضا، وأغدق الخلفاء الأموال على مداحيهم من الشعراء إغداقا، وملأ بعضهم قصوره من الرقيق حتى غصت بهم، وهذا كله مظهر من مظاهر الفساد والتحلل الذى ازداد انتشارا مع الزمن يعطيك فكرة عما وقع من انحراف عن الإسلام وإهمال لأوامره ونواهيه فى المجالات الأخرى. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحكام فى ذلك الوقت كانوا يتصرفون فى أموال الدولة كأنها أموالهم هم لا أحد يراجعهم فى شىء، بل لا يخطر لأحد أن يراجعهم فى شىء، تبين لنا إلى أى مدى كان الانحراف شديدا.
ثم لا ننس الخلافات التى لا بد أن تنشأ بين القبائل والقوميات والأجناس والأديان والمذاهب المختلفة التى تعيش داخل الدولة، أىّ دولة. وكان فى دولة الإسلام العدنانى والقحطانى، وكان فى دولة الإسلام العلوى والأموى والعباسى، وكان فى دولة الإسلام العربى والفارسى والهندى والسندى والشامى والعراقى والمصرى والبربرى والأندلسى والتركى والألبانى والبوشناقى والزنجى، وكان فى دولة الإسلام السنى والشيعى والخارجى والصوفى والمعتزلى والظاهرى، وكان فى دولة الإسلام المسلم والنصرانى والمجوسى واليهودى والزرادشتى والصابئى. ولا بد أن يكون لكل ذلك أثره فى الخلافات والصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية التى قد تقف عند حدود الأفكار والكتابة، وقد تشتد فيكون التمرد والحرب. ثم لا ننس كيف تداول على كرسى الحكم العرب والفرس والترك والمماليك الأوربيون والبربر، وبعض هؤلاء تَسَمَّوْا باسم الخلفاء، وبعضهم اكتفَوْا بتبعيتهم الحقيقية أو الاسمية للخليفة فى بغداد أو فى القاهرة أو فى أسطنبول رغم أن سلطة الولاية أو الدولة الفرعية من الناحية السياسية والعسكرية والثقافية كانت تفوق فى بعض الأحيان سلطة الدولة الرئيسية التى تتبعها.
وعلى كل حال لم يشهد التاريخ أمة سادت وظلت سيدة طول الدهر. هذا لم يحدث، ولا أظنه سيحدث، وإن ظهر بين الغربيين فى عصرنا هذا من المدَّعِين الناعقين من يروّج لخرافة "نهاية التاريخ" زاعما أن التاريخ قد انتهى إلى الوضع الذى يتحكم الغرب فى مجرى أحداثه الآن، وأنه لن تقوم إلى جانبه أية قوة أخرى تنافسه، وأن الدنيا سوف تتخذ هذا الوضع إلى أبد الآباد. وهم يقولون هذا فى الوقت الذى تعانى فيه أمريكا زعيمة الغرب المتاعب العسكرية والاقتصادية، وفى الوقت الذى تنغمس فيه أقدامها فى وحل أفغانستان والعراق وغيرهما من الجبهات الحربية التى ظنت أنها سوف تكتسحها فى غمضة عين لتنطلق منها إلى بقية أرجاء المنطقة محتلة للبلاد مستنزفة لثروات الشعوب ومذلة للجميع. ولو أن المسلمين الآن انتهزوا هذه الفرصة التاريخية ولملموا صفوفهم وأعادوا تقدير قوتهم وعزموا على أن يعيشوا أعزة كراما أمجادا مستعينين بعزيمتهم وإيمانهم وما حباهم الله به من ثروات وإمكانات تدير الدماغ ما صَعُبَ عليهم ذلك. إلا أن المشكلة هى نقصان ثقتهم بأنفسهم: نقصان ثقة الشعوب بأنفسها تجاه الحكام، ونقصان ثقة الحكام بأنفسهم تجاه الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا. والحياة لا تلقى بالا للمتهافتين الخانعين الخائرين المرتعبين من الخيالات والأشباح الذين لا يثقون فى قدراتهم ولا يفكرون فى بذل التضحيات المطلوبة أو فى القيام بالإصلاحات المحتومة، وليس عندهم يقين ولا أمل فى الفوز، بل تتركهم لمصيرهم دون أن تذرف عليهم دمعة.
وهناك مقال قرأته مؤخرا للأستاذ عامر عبد المنعم فى موقع "العرب نيوز" بعنوان "أمريكا ماتت، فلا تكونوا كجِنّ سليمان" يصور هذا الوضع الشاذ. والمقصود أن المسلمين يتصورون أن أمريكا لا تزال قوية باطشة رغم ما هى مرتكسة فيه من أزمات اقتصادية وسياسية وعسكرية، ولهذا لا يفكرون أبدا فى الثورة عليها، فهم فى هذا الخوف مثل جن سليمان، الذين كانوا خاضعين لسليمان مرتعبين منه، وظلوا يخدمونه بكل طاقتهم حتى بعد موته ظنا منهم أنه لا يزال حيا، إذ كانوا كلما نظروا إليه وجدوه مستندا على صولجان الملك، فيحسبونه فى غفوة عارضة، إلى أن أكلت الأَرَضَةُ عصاه من أسفلها فانهارت وخرّ هو بدوره إلى الأرض. وحينئذ فقط تبين لهم أنه قد مات! يريد الكاتب أن يقول لأمته إن أمريكا قد انهارت، وإن كان انهيارها غير ظاهر للعين العَجْلَى، فاهْتَبِلوا هذه الفرصة السانحة وثوروا على عبوديتكم لها، واستردوا كرامتكم وعزتكم.
ومما ينبغى أن يُذْكَر فى هذا المجال كثرة الصراعات الداخلية والخارجية التى كان على الدولة الإسلامية أن تخوض غمارها. وقد نشبت هذه الصراعات منذ اليوم الأول لظهور الإسلام، إذ انقلب على الرسول عليه الصلاة والسلام أهل مكة بعدما كانوا يلقبونه بـ"الأمين"، فكذبوه وآذَوْه وحاولوا قتله لولا لطف الله به. ولما هاجر إلى المدينة اصطدم باليهود والمنافقين، كما اصطدم بالمشركين فى غزواتٍ ذات عدد، وبالروم على الحدود الشمالية مرتين. وعقب وفاته صلى الله عليه وسلم ثارت حروب الردة بين جيوش الإسلام والقبائل التى ظهر فيها بعض المتنبئين الكَذَبَة وانتهت بالقضاء على ذلك التمرد اللعين وعادت الأمور إلى نصابها الصحيح، لتبدأ صراعات أكبر وأخطر وأوسع مدى بين المسلمين وبين الروم والفرس انتهت كلها بانتصار مؤزر للإسلام حتى بات المسلمون يؤمنون إيمانا جازما أن نصر الله فى ركابهم دائما، فكانوا لا يفشلون أبدا فى معركة أو حرب إلا على سبيل الندرة الشاذة، ثم سرعان ما يعودون مرة أخرى أكثر ثقة وأقدر على الاقتحام. ومع هذا فما أسرع ما رأينا الفتنة تطل برأسها فى عهد ذى النورين رضى الله عنه وتنتهى بمقتله الفاجع رغم أنه لم يشأ قط أن يؤذى مهاجميه ومثيرى الفتنة ضده. ثم يأتى بعد ذلك الخلاف بين على ومعاوية، وهو الخلاف الذى لم يحسمه لمصلحة معاوية إلا أن الأقدار قد كتبت على ختن الرسول أن يُغْتَال على يد خارجى مندفع لا يعرف التبصر. وتستقر الأمور لمعاوية، الذى يؤسس الأسرة الأموية محولا الحكومة الإسلامية إلى حكومة كسروية وراثية، وهو ما تابعه عليه العباسيون فالفاطميون ثم الأيوبيون. وكانت الأمور فى الأندلس لا تختلف عنها فى الشرق، إلى أن ترك الإسلام تلك البلاد بعدما بقيت رايته مرفوعة هناك ثمانية قرون. ثم جاء المماليك ليصير السلطان عسكريا، وأخذ المماليك يتناوبون الحكم بقوة الذراع، وإن كنا لا نغمطهم فضلهم فى حفاظهم رغم كل شىء على قوة الإسلام فى وجه المغول والصليبيين. ثم ظهر العثمانيون وأخذوا الحكم منهم وجعلوا بعضهم ولاة ينوبون عنهم فى إدارة الشؤون الداخلية للبلاد التى كانوا يحكمونها قبلا. وعلى يد العثمانيين دخل الإسلام شرق أوربا، فكان فى هذا بعض تعويض عما وقع له من استئصال فى غرب القارة العجوز على يد الأسبان. وخاضت الدولة العثمانية حروبا مع القوى الغربية وتعرضت للمؤمرات التى لم يكن يهدأ لها أُوَار من جانب تلك القوى حتى خرت الخلافة الإسلامية صريعة فى أواخر الربع الأول من القرن العشرين، واختفت من الوجود، وتجزأت الأقطار الإسلامية وأصبحت كالعِقْد قد تمزق سِلْكه فصارت كل حبة من حباته فى ناحية لا يمسكها بأخواتها شىء، فلم تعد لها قيمة.
وعلى مدار التايخ الإسلامى أيضا كانت هناك انقسامات وتمردات داخل الدولة كتمرد الخوارج وبابك الخُرَّمىّ والمقنَّع الخراسانى والبشموريين والزَّنْج والقَرَامِطَة والحشّاشين، فضلا عن الصراع بين حكام الطوائف فى الأندلس، الذين كانوا بوجه عام يفضلون التعاون مع ملوك النصارى على التضافر مع أبناء دينهم من الحكام أمثالهم، بله الاتحاد فى دولة واحدة تستطيع الوقوف ضد نصارى الأسبان، وهو ما كان كفيلا، لو تم، أن يُبْقِىَ الأندلسَ إسلامية، مَثَلُها مَثَلُ بقية البلاد التى اعتنقت الإسلام ثم لم تخرج منه قط. وقد سهّل صراعُ أمراء الطوائف إلى حد كبير حركةَ الاسترداد النصرانى فى الأندلس. وهناك فى العصر الحديث الصراع بين محمد على والمماليك الذى انتهى بمذبحتهم فى القلعة وتخلُّصه منهم تماما، وكذلك الحروب بينه وبين الوهابيين لحساب السلطان العثمانى، ثم بينه وبين الدولة العثمانية. وكل هذا من شأنه أن يفتّ فى عضد الدول مهما تكن قوتها وقدرتها على الاحتمال.
ولا شك أن الغزو الصليبى والمغولى لبعض ديار المسلمين قد زعزع ثقتهم فى أنفسهم، فقد كانت هاتان الهجمتان أول غزو لبلاد الإسلام، ففوجئ المسلمون بانقلاب الأوضاع. وبعد أن كانوا يفتحون البلاد ويقبل الناس على دينهم ويتعلمون لغتهم ويقلدونهم فى الكثير من عاداتهم وتقاليدهم إذا بهم يصبحون هدفا للغزو، وتهاجَم بلادهم، وينتصر عليهم أعداؤهم بعدما كانوا رمزا للنصر الذى لا يتخلف، والنجاح الذى لا يستأخر. فقد رأى المسلمون نصارى أوربا يتركون ديارهم وينقضون على شواطئ الشام بغية أخذ بيت المقدس منهم وإعادتها كرة أخرى إلى حضن الصليب. ومعروف أنهم قد مكثوا على سواحل الشام لمدة قرنين من الزمان واسْتَوْلَوْا على عدد من مدنه، وهو ما كلف المسلمين الغالى والنفيس والزمن الطويل قبل أن يستطيعوا دحرهم وإرجاعهم على أعقابهم خائبين. وقل مثل ذلك عن التتار وتوحشهم وعُرْيهم من الحضارة مظهرا وروحا وما سفكوه من دماء إسلامية غزيرة دون أدنى اعتبار أو مبالاة، مما كان له آثاره المزعزعة على النفس المسلمة، إذ كانت صدمة لم يفيقوا منها بسهولة حتى بعدما أحرزوا النصر النهائى عليهم وكسروا شوكتهم فى عين جالوت على يد المماليك. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كانت هناك أيضا الحملات الاستعمارية التى لم تكد تترك بلدا مسلما دون غزو واحتلال وتكبيل بالمعاهدات واستنزاف للثروات وإهانة للكرامة الدينية والوطنية. وما كان لهذا أيضا أن يُنْسَى بسهولة أبدا، وبخاصة أن العدو واجههم فى هذه الحملات وهو متفوق عليهم فى كل أسبابها من سلاح وعلوم وتنظيم وتخطيط ونفس طويل وطموح وتوثب إلى المعالى وقدرة على الصبر وعشق للمغامرة وتحديد للهدف. وما زلنا نعانى من هذه الصدمة إلى الآن حتى لأصبح يخيّل لكثير منا ألاّ قِبَل لنا بمواجهة الغربيين. بل لقد ظهر من بيننا من ينادى بأن نكون أتباعا لهم إذا أردنا أن نتحضر مثلهم، غافلين عن أن أروبا حين جاءت بجيوشها إلى بلادنا إنما قد أتت لسرقتنا والاستبداد بنا والقضاء على هويتنا، ومن ثم لن يتركونا نتقدم ونساويهم أبدا. أى أنهم لن يجنحوا إلى السلم حتى لو جنحنا نحن إليه، بل سيظلون كاتمين على أنفاسنا رازحين فوق صدورنا. ذلك أنهم قد أَتَوْا للسرقة والقتل والتدمير والاستعباد لا لمساندتنا فى الخروج من تخلفنا وضعفنا كما يزعمون هم وأولئك المرجفون خداعا لنا وتحطيما لروحنا المعنوية، التى نستلهمها فى الصمود أمامهم ومقاومة مخططاتهم. وإذا كان الاستعمار قد اختفى ظاهريا من كثير من بلاد المسلمين فهو فى الحقيقة لم يزل رابضا فيها، وإن لم تدركه العيون العَشّاء. نعم لا يزال رابضا فى كثير من الديار الإسلامية فى صورة معاهدات سياسية مجحفة تخرب الديار، واتفاقات سياسية وثقافية تدمر النفوس والضمائر، وقواعد عسكرية مجرمة تقوم بدور الجاسوس على كل ما نأتى وما ندع ولا تترك لأى حر فرصة ليعمل ما من شأنه مصلحة الوطن والمواطنين، مع بعض ما يسمى بـ"المساعدات الاقتصادية" مما لا ينتفع بها الوطن فى قليل أو كثير لأسباب ليس هذا موضع شرحها، علاوة على أن البلاد التى تتلقى ما يطلق عليه: "المساعدات الاقتصادية" تقدم للدولة المانحة من المساندات ما لا تساوى تلك المنحة قبالتها شيئا ذا بال.
على أن للاستعمار الغربى ناحية إيجابية، إذ أيقظ النوام وقضى على السكون القاتل الذى كان سائدا، وحرك العقول والضمائر، وحث النفوس الزكية على الاجتهاد والجهاد من أجل استعادة الكرامة واسترجاع السيادة الضائعة. وعن دور الاستعمار فى تاريخ المسلمين المعاصر يكتب مالك بن نبى متسائلا: "ما الذى بعث العالم الإسلامى من نومه قرنا؟ من الذى أيقظه من خمسين سنة تقريبا؟ إنه الاستعمار. نعم إنه قد خلع بابنا، وزعزع دارنا، وسلب منا أشياء ثمينة. لقد أخذ من حريتنا وسيادتنا وكرامتنا وكتبنا المنسية وجواهر عروشنا وأرائكها الناعمة التى كنا نود أنْ لو بقِينا عليها نائمين! ولكن إذا كان هذا هو الواقع الاستعمارى فيجب أن نعترف بأنه أيقظ الشعب الذى استسلم لنوم عميق بعد الغَدَاء الدسم الذى أكله عندما كان يرفل فى نِعَم حضارته. والتاريخ قد عوّدنا أن كل شعب يستسلم للنوم فإن الله يبعث عليه سوطا يوقظه" (مالك بن نبى/ شروط النهضة/ 149- 150).
إلا أنه سرعان ما ينبه إلى فخ خطير يقع فيه كثير من الشعوب التى ابتليت بالاستعمار. ذلك أن هذا المعامل الاستعمارى (كما يسميه) "يخدع الضعفاء فى الواقع، ويخلق فى قلوبهم رهبة وخوفا ووهما، ويُشِلّهم عن مواجهته بكل قوة، وإن هذا الوهم ليتعدى أثره إلى المستعمرين أنفسهم فيغريهم بالشعوب الضعيفة، ويزين لهم احتلالهم إذ يحاولون إطفاء نور النهار على الشعوب المتيقظة، ويدقون ساعات الليل عند غرة الفجر وفى منتصف النهار لترجع تلك الشعوب إلى العبودية والنوم" (المرجع السابق/ 151).
وهذا ما يسميه ذلك الفيلسوف الكبير: "القابلية للاستعمار"، أى شعور الأمم الضعيفة بأنها ينبغى أن تخضع للأمة القوية التى تريد استعمارها فلا تقاومها، بل تتركها تفعل بها ماتشاء مهما كانت وحشيته وشناعته دون أن تحس بأى سخط أو ضيق، بل دون أن تحس بأى أمل فى النجاح إذا ما خطر لأحد منها أن يدعوها للمقاومة والتخلص من نير العبودية. وهو يدعو أولا إلى التخلص من تلك القابلية للاستعمار (المرجع السابق/ 154). وأنا معه فى أن للاستعمار ذيوله وخصيانه فى كل بلد إسلامى، وهم كثر للأسف، ولا بد من العمل على أن يتخلص المسلمون من تلك القابلية للاستعمار التى أشار إليها وأبرزها وبين خطورتها. لكن لا بد أن نتنبه إلى أن القابلية للاستعمار ليست هى جوهر المشكلة، بل مجرد عرض لها، أما المشكلة فهى فقدان الكرامة. وهذه الكرامة المفقودة هى السبب فى نشوء تلك القابلية للاستعمار لدينا، ولو كانت أمتنا عفية قوية واثقة بنفسها شاعرة بكرامتها وعزتها لما كان للاستعمار ذلك الأثر الشيطانى، بل لما وصلت أصلا إلى هذا الدَّرْك الأسفل من الضعف الذى يغرى الاستعمار باقتحام عقر دارها ليستذلها ويمتطيها.
لقد كان العرب فى الجاهلية يعانون من التخلف والفقر والجهل والتمزق والصراع القبلى الذى يكاد يفنيهم، لكنهم لم يفقدوا قط شعورهم بالكرامة، بل كانوا يَسِمُون الأمم من حولهم بـ"الأعاجم"، فكأنها حيوانات عجماء بالنسبة لهم. ترى هل كان العرب يقدرون على حمل مشعل الإسلام والانطلاق به فى الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا لو كانوا، كما هم الآن، فاقدين الشعور بالعزة والكرامة؟ ذلك أن منبع التقدم الحضارى فى رأيى هو رفض الأمة أن تعيش عيشة لا تليق بها، فتراها لا يهنأ لها عيش ولا يرتاح لها بال إلا إذا نالت من الحياة ما ينبغى أن يناله الإنسان العزيز الكريم مالا وجاها وعلما واحتراما وسيادة وجمالا ونظافة ونظاما... أما الذليل فإن فقدانه لهذه الأشياء لا يشكل أى إزعاج له، إذ إن انحطاطه النفسى والخلقى يمنعه من الشعور بشناعة الأمر على الإطلاق، فتراه يتصرف وسط القذارة والقبح معايشا الجهل والخرافة، متنفسا الخنوع والمذلة، مقاسيا العوز والفقر، معانيا الضيق والحاجة، ومع ذلك يتصرف كأنه يعيش فى بحبوحة الفردوس الأعلى ويتقلب فى نعيمه الرغد المقيم. الحق أنه ما لم ينبت الوازع من أعماق النفس فمن الصعب نجاح أى أمر. دعك من أن يكون هذا الأمر فى خطورة الانبعاث الحضارى، وهو الموضوع الذى يشغلنا الآن.
ومما عاناه المسلمون أيضا، وكان من أسباب انهيارهم أمام الهجوم الاستعمارى الأوربى، انتشار الخرافات والإيمان بالسحر بدلا من العلم، وانعزالهم عن مجرى الحياة إلى الأركان المظلمة التى يخيم عليها عنكبوت الجهل والأساطير التى لا تليق بالمتحضرين، وبخاصة إذا كانوا ينتسبون إلى الإسلام دين العلم والفكر المستقيم. لقد كان لدى المسلمين فى عصور تخلفهم إيمان عنيف بالعفاريت، واعتقاد فى المتصوفة وكراماتهم وقدرتهم على الإتيان بالمستحيل، وانتظار للمفاجآت والعجائب التى لا تقع أبدا، من كنز يأمل الناس أن يجدوه فى خَرِبَةٍ أو بيت مهجور مثلا، دون أن يغيروا أسلوبهم فى الحياة ودون أن يتعلموا العبرة من تجاربها أبدا. وانتشر الاعتقاد فيمن يطلَق عليهم: "الأولياء" و"الصالحون" ظنا من الجماهير المغيَّبة أن لهم كرامات يقضون بها حوائج العباد، وشفاعات يستطيعون التوسط بها عند الله سبحانه فتجاب وساطاتهم، مما ترتب عليه تفشى العجز بين المسلمين وترك العمل والإخلاد إلى الإهمال والكسل وسقوط الهمم رغم أن من يسمونهم بالأولياء والصالحين لم يكونوا يملكون لأنفسهم أى نفع، وهم أحياءٌ، فما بالك وقد صاروا الآن أمواتا وتحللوا ترابا؟ أتراهم أفضل من النبى محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذى أمره ربه أن يعلن للناس دون أدنى مواربة أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله؟ ولا تنس كذلك انتشار القذارة وسيادة التبلد تجاه الأوبئة الجائحة والرضا بالفقر والهوان والتعاسة كأنها ضربة لازب لا فكاك منها.
وفى مثل هذا الجو لا ينبغى أن يتوقع الإنسان إبداعا علميا أو كشفا بحثيا أو رغبة فى تقدم أو تحضر. لقد كان الجو خاملا بليدا متخثرا لا ينبئ بحياة كريمة أبدا، فى الوقت الذى كانت أوربا فيه تتوثب وتتقافز فى كل ميدان: فى الكشوف الجغرافية التى انطلقت من خلالها تجوب أرجاء العالم، وانتزعت بها السيادة على البحار، وامتلكت بها الثروات، وامتلخت بها قارتين كاملتين هما أمريكا الشمالية وأستراليا بعدما قضت على سكانهما الأصليين، وهو ما لا نعرف أنه قد وقع من قبل فى التاريخ. وهذا التوثب قد حدث نظيره فى ميدان العلوم الطبيعية، التى كانت قد نامت عندنا نومة أهل الكهف وحلت محلها الخرافات والضلالات، وكذلك فى ميدان الحكم الشُّورِىّ، إذ قامت الثورات الشعبية فى أوربا ضد الاستبداد الذى كانت شعوبها تعانى منه على مدى قرون وقرون، فتخلصت إلى حد كبير منه، فى الوقت الذى ما زالت معظم بلاد المسلمين ترزح تحته راضية به، وكأنه غاية المنى! وقل هذا أيضا فى ميدان التخطيط العمرانى، إذ بدلا من القذارة والفوضى والفقر والبؤس الذى كان يطبع مدن أوربا وقراها شرع الأوربيون يعيدون تخطيط مدنهم وقراهم مراعين أصول النظافة والسعة والجمال والخضرة وتمهيد الشوارع على نحو سلس جميل، مع التخلص من المخلفات بطريقة متحضرة فلا تقع عليها العين ولا يشمها الأنف ولا تتأذى بها الملابس والجلود، فضلا عن إنارة الطرق. وهو ما كان مصلحوهم قد دَعَوْا إليه وحثوا شعوبهم على تنفيذه واضعين فى ذلك كتبا تصور للناس "المدينة الفاضلة"، أى المجتمع المثالى الذى يتطلعون إلى تحقيقه لأنه هو المجتمع الذى يليق بالإنسان، كلٌّ يتخيله حسب فهمه وعقيدته السياسية والاجتماعية والغايات التى ينشدها للناس من حوله، ناهيك بالثورة الصناعية التى نقلت أحوال الأوربيين من حال إلى حال، وما تبعها من تطوير وسائل المواصلات والأسلحة والخطط الحربية، مما لم يكن فى أيدينا منه شىء ذو بال، اللهم إلا إذا استوردناه منهم واستعنّا بهم فى تعلمه واستيعابه. ومعروف أنهم لا يعطوننا شيئا من ذلك لأجل مصلحتنا أبدا، بل يعطونناه ليحارب به بعضنا بعضا، ثم إذا ما أدينا المهمة التى خططوها لنا ودفعونا إلى التورط فى إثمها انقلبوا علينا وتخلصوا منا بأيسر سبيل بعد أن تكون قوانا قد خارت، وتوقف تدفق السلاح والمدربين. هكذا فعلوا مثلا مع محمد على، الذى أنفق ما أنفق فى بناء جيش مصرى قوى لم يستعمله إلا فى ضرب الوهابيين وفى محاربة الدولة العثمانية، ثم عقب فراغه من أداء الدور المطلوب انقلبت أوربا كلها عليه وحطمته تحطيما، وانتهى الأمر بعد عدة عقود باحتلال إنجلترا لمصر، واحتلال فرنسا كذلك للشام بعد أن كانت احتلت الجزائرَ فى عهده دون أن يفكر أبدا فى مد يد المساعدة لإخوانه الجزائريين... وهذا مجرد مثال، ومازال يتكرر حتى هذه اللحظة، ونحن لا نتعلم أبدا ولا نستوعب الدرس. والتاريخ لا يرحم، وربك لا يظلم أحدا.
ولكى تعرف طرفا من الخرافات والضلالات التى كانت تعشش فى عقول الناس وقلوبهم أيام تخلف المسلمين وأفول شمس حضارتهم أورد بعض ما كتبه أحد المتصوفة المشاهير بمصر فى القرن العاشر الهجرى، وهو الشعرانى، الذى حكى فى "منن اللطائف" مثلا ما يلى طبقا لما نقله عنه د. زكى مبارك فى كتابه عن "التصوف فى الأدب والأخلاق": "كان فى بيتى امرأة من الجن، فكانت إذا قَرُبَتْ منى قامت كل شعرة فى جسدى، فكنت أذكر الله فتبعد من وقتها. ثم كانت تقف فى طريقى إلى المسجد فى الظلام، فما فزعت منها قَطّ، بل كنت أمر عليها فى المجاز المظلم فأقول لها: السلام عليكم. وما نفر خاطرى منها قَطُّ مع أن طباع الإنس تنفر من الجن! وسكن عندى مرة أخرى جماعة من الجن أيام الغلاء، فكنت أقول لهم: "كلوا من الخبز والطعام بالمعروف، ولا تضروا بإخوانكم المسلمين"، فأسمعهم يقولون: سمعا وطاعة! وسكن جنى فى بيتى مرة أخرى، فكان يأتى كل ليلة فى صورة جَدْىٍ كبيرٍ فيطفئ السِّرَاج أوّلاً ثم يصير يجرى فى البيت، فكان العيال يحصل لهم فزع. فكمنت له تحت رف وقبضت على رجله، فزلق وصار يستغيث، فقلت له: تتوب؟ فقال: نعم! فلا يزال يَدِقّ فى يدى حتى صارت رجله كالشعرة الواحدة، وخرج. فمن ذلك اليوم ما جاءنا. ونمت ليلة على الخليج الحاكمى ضيفا عند إنسان فى قاعةٍ وحدى، فغلق علىّ، فدخل جماعة من الجن فأطفأوا السراج وداروا حولى يَجْرُون كالخيل، فقلت لهم: وعِزَّة الله كُلُّ من دارت يدى عليه ما أطلقتُه إلا ميتا. ونمت بينهم، فما زالوا يجرون حولى إلى الصباح. ودخلتُ مَرّةً الميضأة بجامع الغمرى بالقاهرة أتوضأ، وكانت ليلة شتاء مظلمة، فدخل علىّ عفريت كالفحل الجاموس فهبط فى المغطس وصعد الماءُ فوق الإفريز نحو نصف ذراع، فقلت له: ابعد عنى حتى أتوضأ. فلم يرض، فجعلت فى وسطى مئزرا وهبطت عليه فزهق تحتى وفر هاربا. ووقع لى مع الجن وقائع كثيرة، وإنما ذكرت لك ذلك لتعلم أن من قرأ الأوردة الواردة فى عمل اليوم والليلة فليس للجن ولا للإنس عليه سبيل". ويعلق د. زكى مبارك على هذا الكلام وشِبْهه بأن الشعرانى يكذب (انظر د. زكى مبارك/ التصوف فى الدين والأخلاق/ 1/ 349- 350).
وسواء كان حكم الدكاترة زكى مبارك عليه صحيحا أو كان الشعرانى يتوهم وقوع ما لا يصح، فالمصيبة أن ذلك كان منتشرا فى تلك الأيام. فحتى لو كان يكذب لم يكن يكذب إلا وهو يعلم أن الآخرين سوف يصدقون ما يقول لأنهم يؤمنون به. ويزداد الأمر شنعا وبشاعة حين يصدر من الشعرانى أكبر شيخ صوفى فى عصره. وشىء آخر يورده زكى مبارك مما سجله الشعرانى فى كتابه المذكور، وهو عن "الـمَطْلَب"، أى الكنز من الكنوز التى كان الناس فى ذلك الزمن يتصورون أنها مدفونة فى الأرض. يقول الشعرانى: "قلت لشخص من أبناء الدنيا: تعال اسهر معنا هذه الليلة. وكانت ليلة العيد الأصغر، فتعلل بأن السهر يضره، فقلت: بالله عليك اصْدُقْنِى: إذا أردت أن تفتح مَطْلَبًا وأبطأ عليك البَخُور الذى تطلقه من العشاء إلى الفجر، هل كنت تسهر إلى الصباح تترقب مجيئه؟ فقال: نعم! فقلت له: فإذا أبطأ من بعد الفجر إلى المغرب، هل كنت تترقبه ولا تنام؟ قال: نعم! فدرّجته إلى تسعة أيام، وهو يجد أنه يقدر على السهر من غير وضع جنبه إلى الأرض. فقلت له: فى اليوم العاشر؟ قال: لا أقدر. فقلت له: يا أخى، فإذن أنت تُؤْثِر الدنيا على الآخرة؟ قال: نعم" (المرجع السابق/ 1/ 351).
لقد كان للعلم مكانته العظيمة الكريمة أيام عز المسلمين، لكن الحال قد تدهور مع مرور القرون، فصار كثير منهم يعتقدون فى الخرافات الضالة المضلة. كما صاروا لا يهتمون بالجِدّ والعمل من أجل القوة والغلبة والسيادة والغنى فى الدنيا، واستسلمت الجماهير لما تظنه قضاء وقدرا كُتِب عليها منذ الأزل فليس لها منه أى نجاء، غافلة عن أن القضاء والقدر ليسا أكثر من السنن التى أقام الله عليها كونه وسيَّره عليها بحيث يستطيع البشر من خلال فهمها والعمل بمقتضاها أن يسيطروا على الدنيا من حولهم وأن يدبروا من ثَمَّ أمورهم أفضل تدبير ممكن: "إنّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر/ 49)، "فلَنْ تَجِدَ لسُنَّة الله تبديلاً، ولَنْ تَجِدَ لسُنَّة اللهِ تحويلا" (فاطر/ 43)، "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ" (الرحمن/ 7- 9). أى أن كل شىء فى الكون مخلوق بقَدَرٍ منضبط لا زيادة فيه ولا نقص بل على أساس من الميزان الدقيق، فهو يجرى على سنة لا تتخلف، اللهم إلا فى معجزات الأنبياء، وهى أمور عارضة لا تَطَّرِد ولا تستمر بل تنتهى فى وقتها، كما أنه قد انتهى إرسال الأنبياء، فليس أمام الناس إذن إلا الالتزام بتلك السنن واكتشاف أسرارها والجرى على ما تستلزمه من تدابير، وإلا فشلت الأمور فشلا ذريعا مهما أكثر الناس من الدعاء والابتهال، إذ الدعاء والابتهال إنما يأتيان بالثمرة المرجوّة منهما بعد استكمال العمل وإتقانه على خير وجه. ثم إن الاستجابة لهما قد تتأخر أحيانا لتقع على نحو آخر أفضل مما يريده الداعى طبقا لما وضحه الرسول الكريم فى أحد أحاديثه.
وفى هذا الصدد يكتب د. أحمد أمين فى كتابه: "يوم الإسلام" (مكتبة النهضة المصرية/ 23- 24): "كانت عقيدة القضاء والقدر والتوكل سليمة فى عهد الرسول وكبار الصحابة، فكانت لا تمنعهم من غزو وحرب وفتوح بلدان وتغلُّبٍ على أمم. وقد فهموها فهما لا يمنع من الأخذ بالأسباب كما جاء فى الحديث الشريف: "اعقلها وتوكَّلْ". فكانوا يؤمنون بارتباط الأسباب بمسبِّباتها: فالماء يُرْوِى، والنار تُحْرِق. وفى القرآن: "قلنا: يا نارُ، كونى بَرْدًا وسلامًا عَلَى إبراهيم"، وفيه مئات من الآيات تدل على ارتباط الأسباب بالمسببات، حتى جاء الأشاعرة فلم يربطوا بين الأسباب ومسبباتها، فلا تأثير عندهم للماء فى الرِّىّ ولا للنار فى الإحراق. قالوا: وإنما المؤثر هو الله تعالى عند حدوث الأسباب لا بها. وقالوا بتكفير من اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الرِّىّ فى الماء، وقوة الإحراق فى النار. وإنما الإيمان والاعتقاد بأن الرِّىّ جاء من جانب المبدإ الفياض بلا واسطة، وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل فى ذلك. وبذلك فَكُّوا الأسباب عن مسبِّباتها، فكان لهذا من الأثر البالغ ما جعل المسلمين فيما بعد يبالغون فى عقيدة القضاء والقدر، ويربطون الحوادث بالخرافات والأوهام لا بالأسباب والمسبِّبات، فالزرع إنما ينجح بالقَدَر، ويَفْسُد بالقَدَر لا بما أثبته العلم وما يجره الإهمال... وهكذا أصبحت عقيدة القضاء والقدر صادّةً عن العمل. وفرق كبير بين العقيدة فى القضاء والقدر وبين الجبر، فالقضاء والقدَر الصحيحان يؤمنان بربط الأسباب بمسبّباتها ويحملان صاحبهما على العمل، ثم فلتكن النتيجة ما تكون. وعلى هذه العقيدة كان أكابر الشجعان الفاتحين من أمثال خالد بن الوليد وتيمورلنك والإسكندر ونحوهم لا يهابون الموت اعتمادا على أن ما قُدِّر يكون. أما الجبر فيرى الإنسان كالريشة فى مهب الريح، وما قُدِّر لا بد أن يكون، عَمِل الإنسان أو لم يعمل، تشجّع أو لم يتشجّع. وهذه العقيدة على هذا النحو دخيلة على الإسلام، مما جعل كثيرا من الأوربيين يجعلون من عيوب الإسلام العقيدة فى القضاء والقدر والتوكل على الله. ولو أنصفوا لعدوها بحالتها الحاضرة من عيوب المسلمين لا من عيوب الإسلام".
وما قاله د. أحمد أمين صحيح فى جملته إلى حد كبير. ذلك أن الناس كانت تخلط الأمور خلطا، فيبذلون فى عملهم بعض جهدهم لا كله، كما أنهم لم يكونوا يتقنون ما يعملون ولا يتابعونه بالصيانة والحياطة، وإذا هاجمته الآفات لم يأخذوا بالاحتياطات الواجبة لا قبلها ولا أثناءها، بل فوضوا الأمر إلى الأقدار فى الغالب، وتركوا الأمور تأخذ مجراها الذى تريده هى لا الذى يستطيعونه هم. لكن عقيدة الأشاعرة التى يشير إليها أحمد أمين لا تدعو فى الأصل إلى هذا الذى فهمه الناس فيما بعد، بل تريد أن تقول، كما قصد الإمام الغزالى فى بداية الأمر، إن الله هو الخالق المريد الفعال، وما الكون كله من بشر وغير بشر إلا صنع يديه، ولا يجرى شىء فى ذلك الكون إلا بناء على ما شاء سبحانه وتعالى تنظيمه على أساس منه. وإذا كانت النار تحرق من يلامسها أو يَدْخُلها فإن النار فى ذاتها لا مدخل لها فى هذا، إذ هى مخلوقة أوّلاً، كما أنها لا إرادة لها ولا عقل ثانيا حتى تحرق أو لا تحرق، بل الله هو الذى جعلها كذلك. وليس فى هذا ما يناقض الإسلام ولا العقل. لكن هذا شىء، والزعم بأن الغزالى قد أراد أنه لو مست النار إنسانا أو أحاطت به لا تحرقه هو شىء آخر تماما. فهذا الإمام الجليل رضى الله عنه لم يقل هذا، بل قال إن الإحراق سيتم مثلما يزول العطش عند شرب الماء، لكن بأمر الله وليس بأمر النار ولا الماء لأنه سبحانه هو الذى وضع فى كل من الماء والنار خاصيته التى يعمل على أساسها. وهل هناك من المسلمين من ينكر هذا؟ فليس هناك أى إنكار للأخذ بالأسباب كما نرى، إلا أن الأمر اتخذ مجرى آخر عند جماهير المسلمين كما قلنا، فتركوا العمل وركنوا إلى الكسل وظنوا أن القدر سيكون رحيما بهم، وهو ما لم يحدث ولن يحدث ما ظلوا فى نومتهم مهما دَعَوْا وابتهلوا وصَلَّوْا وصاموا.
وبالمناسبة فهذا الذى قاله الإمام الغزالى قد قاله بعد ذلك بعض فلاسفة الغرب المشاهير كديفيد هيوم وغيره، ولم يكن لذلك أدنى أثر سيئ على مجرى التقدم العلمى فى الغرب. ذلك أن هيوم وأمثاله قد قالوا ذلك فى أوربا فى وقت قوة وتوفز لا فى وقت تراجع وانهيار وتفتت. ويوم تتخلف أوربا من بعد تقدم وتحضر قد يتحول رأى هيوم هذا إلى عائق مثبط كما حدث عندنا حسب تقدير د. أحمد أمين. ثم إن الأشاعرة ليسوا هم أصحاب هذا الرأى فى الأساس، بل بعض علماء الطبيعة من المسلمين القدماء كجابر بن حيان مثلا، ثم أخذه بعض فلاسفة أوربا كما قلنا مع شىء من التحوير. بل إن العلماء الأوربيين الآن يقولون بأن ما نسميه بـ"القوانين الطبيعية" هى أمور احتمالية، ولو على المستوى النظرى، إذ من الممكن جدا أن نقوم من النوم مثلا ذات يوم فنجد الشمس تشرق من الغرب لا من الشرق حسبما اعتادت البشرية لملايين السنين (انظر د. زكى نجيب محمود/ جابر بن حيان/ مكتبة مصر/ سلسلة "أعلام العرب"/ العدد 3/ 66 وما بعدها. وقد تناول د. زكى هذه الفكرة مرة أخرى بشىء من التفصيل فى كتابه عن ديفيد هيوم فى سلسلة "أعلام الغرب").
وليس بعيدا عما نحن فيه ما يشير إليه القرآن حين يتحدث عما سيحدث يوم القيامة، إذ سوف تتغير القوانين التى نعرفها الآن ويتم استبدال قوانين أخرى بها يجرى العمل بمقتضاها فى الدار الآخرة. وفوق هذا فإن تلك العقيدة لازمةٌ لتفسير وقوع المعجزات التى ذكر الله سبحانه تحققها بفضله ومشيئته على يد هذا النبى أو ذاك كما هو مذكور فى القرآن المجيد. ولقد كان المسلمون منذ البداية يؤمنون بعقيدة القضاء والقدر، فكانت تلك العقيدة خير معين لهم فيما أنجزوه من جلائل الأعمال فى فتوحهم وانتصاراتهم السياسية والثقافية والحضارية العجيبة. لكنها، وهذا هو مناط العبرة والموعظة، تحولت إلى معوِّق للمسلمين عندما تخلفوا. ذلك أن العقلية المتخلفة تفسد كل شىء جميل وتصيّره عقبةً كَأْدَاءَ بعدما كان دافعًا مُلِحًّا يستفز العقول والإرادات إلى العمل وصنع العجائب المدهشات. إن الذى خلق هذه النواميس هو الله سبحانه، وليس فيها ولا فى غيرها من أشياء الكون ما يجبره سبحانه على أن يبقيها كما هى فلا يغيرها إذا شاء. ذلك أن الله مطلق القدرة والإرادة، والكون كله خاضع لإرادته المطلقة الشاملة. صحيح أنه أجرى الكون على نظام معين، لكن من قال إن ذلك النظام غير قابل للتعديل؟
إن الإمام الغزالى مثلا وبعض الفلاسفة الأوربيين المحدثين مثل ديكارت وهيوم ورَسِل يؤكدون أن ما نسميه بـ"قانون السببية" هو أمر لا وجود له، إذ المسألة عندهم لا تخرج عن مجرد تتابع حادثتين، فنظن نحن، لكثرة ما نشاهد هذا التتابع، أن الحادثة الأولى هى السبب فى وقوع الحادثة الثانية كالنار والإحراق، والأكل والشبع...إلخ. يريدون أن يقولوا إنه ليس فى النار حتمية الإحراق، ولا فى الطعام حتمية الإشباع (انظر مثلا "تهافت الفلاسفة" للإمام الغزالى/ تحقيق د. سليمان دنيا/ ط6/ دار المعارف/239-140، وكذلك ص 44-45 من مقدمة المحقق، و"قصة الفلسفة الحديثة" لزكى نجيب محمود وأحمد أمين/ ط6/ مكتبة النهضة المصرية/ 1403هـ-1983م/ 156-158، و"أثر العرب فى الحضارة الأوربية" للعقاد / ط8/ دار المعارف/ 100-101، و"موسوعة الفلسفة" للدكتور عبد الرحمن بدوى/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 1984م/ 2/ 615-616). وتفسير الإمام الغزالى للأمر أن الله تعالى هو الفعال الحقيقى للإحراق والإشباع وغيرهما، أما النار والطعام فلا يزيدان عن أن يكونا شيئين يقع معهما ذلك دون أن يكونا هما السبب فيه. وهو ما يعنى أن الله لو أراد أن تكون نار ولا إحراق، أو إحراق ولا نار، لكان ما أراد. وهذا، فى الواقع، هو الرأى الذى ينسجم مع الإيمان بالله وقدرته ومشيئته، اللتين لا يعجزهما شىء فى الأرض ولا فى السماء. ولا يقولن أحد إن هذا معناه أن الكون، بهذه الطريقة، ستسوده الفوضى بحيث لا تستطيع البشرية أن تتعامل معه. ذلك أن هذا الخرق للنواميس لا يقع إلا بين الحين والحين البعيد وفى أضيق نطاق، وعلى نحو عارض تعود الأمور بعدها إلى ما كانت عليه. على ألا يغيب عن بالنا فى ذات الوقت أن إرادة الله هى صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فى ذلك. حتى إذا رأت تلك الإرادة فى نهاية المطاف أن هذا النظام الذى يجرى عليه الكون الآن لا بد من هدمه واستبدال نظام آخر به عند مجىء يوم القيامه كان لها ما رأت، ووَقَفَ العمل بهذا النظام، وبدأ نظام آخر يقوم على قوانين أخرى غير التى نعرف فى دنيانا هذه، قوانين ليس فيها مثلا، بالنسبة لأهل الجنة، مكان للموت ولا للمرض أو الملل أو الخوف أو العفن أو النتن أو الحاجة إلى الإخراج... إلخ، وهو ما أشارت إليه الآيات القرآنية وفصّلته أحايث النبى عليه الصلاة والسلام.
وهذا شىء يختلف تمام الاختلاف عن الخرافات التى كان المسلمون يؤمنون بها إيمانا وثيقا فى عصور تخلفهم والتى بسببها جاء اتهام الأوربيين ظلما لديننا بالجمود، إذ رَمَوُا الإسلام بما وجدوه فى المسلمين فى عصور ضعفهم وجهلهم وركونهم إلى الأوهام وتنكبهم لسبيل العلم رغم امتلاء القرآن المجيد والحديث الكريم بالحض على العلم والاستزادة منه وتفضيل العلماء حتى على العُبَّاد تفضيلا كبيرا، بالإضافة إلى إلحاحهما على وجوب استعمال العقل فى كل شىء بما فيه التحقق من صحة نبوة النبى عليه السلام. ولهذا تكثر فى القرآن عبارات مثل: "أفلا يتدبرون؟"، "إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون"، "إن فى لك لآيات لقوم يعقلون". كما نجد القرآن يحمل حملة شعواء على المشركين لأنهم يوقفون عقولهم عن العمل كأنهم حيوانات عجماء لا عقل لديها ولا بصر ولا سمع. وعندما أراد النبى أن يعلن دعوته بعد استتارٍ جَمَع قومه وسألهم، وقد وقف فوق مرتفع فى مواجهتهم، قائلا لهم: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسَفْح هذا الجبل أكنتم مُصَدِّقِىَّ؟". يقصد أن يلزمهم الحجة فى إيمانهم بصدقه واطمئنانهم إلى أنه لا يعرف التدليس ولا الالتواء فى القول. فلما لزمتهم الحجة بردهم عليه بأنهم لا يكذّبونه فى شىء، أعلن لهم أنه نبى من الله، فإذا بهم ينقلبون على أعقابهم فى التو واللحظة وينالون منه نيلا سخيفا.
والآن، وقد ألممنا ببعض الأسباب المسؤولة عن انهيار الحضارة الإسلامية نتساءل: كيف السبيل إلى الخروج من هذا التخلف؟ لقد حاول بعض الفلاسفة أن يتوصلوا إلى السر الذى على أساسه تنهض الأمم من سباتها الحضارى وتستعيد عافيتها ونشاطها. فإلى أى مدى تصدق تحليلاتهم؟ وهل نستطيع بدورنا أن نصل إلى شىء ناجع يمكننا الاستعانة به فى الحالة الراهنة لأمة الإسلام؟ ثَمَّ سؤال شديد الأهمية وقوى الصلة بموضوعنا هنا طرحه محرر مادة "الحضارة" بـ"الموسوعة العربية العالمية"، وهو: "لماذا تقوم الحضارات وتنهار؟"، محاولا أن يجيب عليه فقال: "أبدى الفلاسفة والمؤرخون وعلماء الآثار القديمة أسبابًا كثيرة لقيام الحضارات وانهيارها. وقد شبَّه جورج و. ف. هيجل الفيلسوف الألماني في أوائل القرن التاسع عشر المجتمعات بالأفراد الذين ينقلون شعلة الحضارة من واحد إلى الآخر. وفي رأي هيجل أنه خلال هذه العملية تنمو الحضارات في ثلاث مراحل: 1-حُكْم الفرد. 2-حُكْم طبقة من المجتمع. 3-حُكْم كل الناس. وكان هيجل يعتقد أن هذا النسق تُسْفِر عنه الحرية فى آخر الأمر لجميع الناس. وكان الفيلسوف الألماني أوزوالد سبنجلر يعتقد أن الحضارات، مَثَلُها مَثَلُ الكائنات الحية، تُولَد وتنضج وتزدهر ثم تموت. وفي كتابه: "انحدار الغرب" (1918- 1922م) ذكر أن الحضارة الغربية تموت، وسوف تحل محلها حضارة آسيوية جديدة. وعرض المؤرخ البريطاني آرنولد تُويِنْبِي نظريته عن "التحدي والاستجابة" في كتابه: "دراسة التاريخ" (1934- 1961م). وكان توينبي يعتقد أن الحضارات تقوم فقط حيث تتحدى البيئة الناس، وحينما يكون الناس على استعداد للاستجابة للتحدي. وعلى سبيل المثال فإن الجو الحار الجاف يجعل الأرض غير مناسبة للزراعة، ويمثل تحديًا للناس الذين يعيشون هناك. ويمكن أن يستجيب الناس لهذا التحدي ببناء أنظمة ري لتحسين الأرض. ورأى توينبي أن الحضارات تنهار حينما يفقد الناس قدرتهم على الابتكار. ويذهب معظم علماء الآثار القديمة إلى أن بزوغ الحضارات يرجع إلى مجموعة من الأسباب تشمل البناء السياسي والاجتماعي للحياة والطريقة التي يكيف بها الناس البيئة المحيطة بهم والتغيرات التي تطرأ على السكان. وفي كثير من الحالات يمكن أن تظهر الحضارات لأن رؤساء القبائل المحليين اتخذوا خطوات متعمَّدة لتقوية نفوذهم السياسي. ويعتقد كثير من العلماء أن سوء استخدام الأرض والمصادر الطبيعية الأخرى أسفرت عن الانهيار الاقتصادي والسياسي للحضارات الأولى".
ومعظم ما قيل هنا هو كلام مقبول، إلا أنه يقتصر على الوصف والرصد، ولا يلقى بالا إلى تقديم خريطة للعلاج. فنحن نعرف مثلا أنه ما من حضارة إلا وشاخت وسقطت وانهارت وانسحب أصحابها إلى الظل إلى أن تواتيهم فرصة أخرى يعودون بعدها إلى الساحة لاعبين ناشطين مؤثرين، وربما لم يقدَّر لهم أن يعودوا مرة ثانية لقرون طوال، بل ربما استؤصلوا فلم يبق منهم أحد، وإن تركوا خلفهم للتاريخ آثارا تقول إنه كانت هاهنا يوما حضارة أقامها الشعب الفلانى البائد. لكن المشكلة هى أنه ما من فيلسوف أو مفكر أو مصلح استطاع أن يضع خطة يقينية لترميم حضارة قومه المنهارة وبَعْثها وبَعْثهم إلى الحياة الفاعلة المؤثرة على أساس منها. نعم قد ينجح بعض المصلحين فى ترميم هذا الجانب أو تقوية ذاك الجانب حين تكون حضارة قومه لا تزال حية، فيؤخر سقوطها أو يطيل قوتها بعض الشىء. لكن متى انتهى الأمر وسقطت الحضارة فهنا يتغير الموقف. وها نحن فى بلاد الإسلام نحاول أن ننهض من رقدة الشلل التى نرقدها منذ قرون، وتقوم انقلابات وثورات هنا وهناك، ونجرب أنظمة نقتبسها من هنا وهاهنا، وتتوالى الوجوه فى دست الحكم، ونخوض حروبا بعضنا ضد بعض أو تُشَنّ علينا حروب لم نختر توقيتها ولا أحسنّا الاستعداد لها، وننفق الثروات الهائلة على السلاح ونتوسع فى التعليم ونبنى المدن الجديدة ونأخذ بيد المرأة ونُدْخِل شكل النظام الديمقراطى إلى حياتنا السياسية وننقل عن الغرب أحدث ما عنده فى عالم الاتصالات والمواصلات، لكن الثمرة شحيحة ومرة وقليلة الجدوى، وتبدو الأمور وكأننا نمشى بخطا السلاحف فى الوقت الذى يطير العالم من حولنا طيرانا فى أجواز السماء. ويتساءل العقل: لماذا لا نستطيع أن نحرز شيئا مما نتطلع إليه؟ سيقال إننا غير جادين، وعزائمنا خائرة فاترة، وإن معظم نشاطنا كلام، وأفعالنا قليلة وينقصها الحرارة والجِدّ والإخلاص. ونقول: نعم هذا صحيح، لكن السؤال يبقى كما هو: لماذا؟ من الممكن أن يقال إن هذا ميراث لزمن طويل من التخلف والضعف ورثناه عن آبائنا وأجدادنا. ومرة أخرى نقول: هذا صحيح، ولكن لماذا لا نستطيع أن نتغلب على هذه العيوب وننعتق من إسار هذا التخلف الذى وَرَّثونا إياه، ونرجع إلى القيم العظيمة التى خلقت منهم سادة للعالم بعد أن لم يكونوا شيئا ذا قيمة، قيم الإسلام العقيدية والعلمية والخلقية والاجتماعية والإنسانية، بدلا من قيم التخلف من تواكل وبلادة ونفور من السعى الجاد وراء العلم ورضا بالدَّنِيّة فى كل مجال تقريبا ونكوص عن المعالى وضعف فى الثقة بالنفس واستسلام للاستبداد: الاستبداد الداخلى والاستبداد الخارجى على السواء، واكتفاء بالشقشقة اللفظية دون أن يصاحبها عمل جاد من شأنه أن يغير ويصلح ويبلغ بنا ما نتطلع إليه من آمال؟
سيقول هِيجِلْ إن الحضارة تشبه مشعلا يتناوله كل شعب من الشعب الذى سبقه فيحمله زمنا ليسلمه بدوره إلى من يليه. وليس لنا على هذا الكلام أى اعتراض، وبخاصة أننا تسلمنا يوما تلك الشعلة وحملناها زمنا طويلا، ثم فقدناها، وليس فى الأفق ما يبشر أننا مستعيدوها قريبا، اللهم إلا إذا فاجأتنا الأقدار بشىء ليس فى الحسبان. لكن هذا لا يحل المشكلة كما قلنا، ولا يعيد لنا الشعلة ثانية لنَشْرُف بحملها ونتقدم الصفوف ونسترد كرامتنا التى ضيعناها بأيدينا ونعيش كما يعيش عباد الله الكرام فى عزة وطمأنينة وقوة وجاه. وسيقول لنا شبِنْجِلَرْ إن الحضارات تولد وتنضج ولكنها لا تبقى إلى الأبد، بل تشيخ وتموت لتحل محلها حضارة أخرى لشعب طافر متوثب. وليس لنا أدنى اعتراض على هذا، فهذا هو ما يقوله لنا التاريخ بلسانه الطلق الفصيح وقانونه الذى لم نره يوما يتخلف حتى الآن. ولكن لماذا لا تهبّ أمتنا تطفر وتتوثب وتتخلص من تخثُّر قواها وبلادة مشاعرها وعجز همتها وفتور إرادتها وكسل عقلها كما فعلت أمم من حولنا كاليابان مثلا، التى بدأت نهضتها الحديثة معنا هنا فى مصر فتقدمت إلى الصف الأول فى مجالات كثيرة، وبقينا نحن فى تخلفنا وضعفنا، أو كالصين، التى لا تعود نهضتها السياسية والاقتصادية إلا إلى بضعة عقود لا تُعَدّ فى حساب التاريخ شيئا، وها هى ذى تفرض نفسها على المحافل الدولية بعدما كانت عليلة الجسد يُظَنّ أنها تلفظ أنفاسهاالأخيرة، إذ كانت ترقد صريعة الأفيون القاتل الذى أغراها به البريطانيون حتى أدمنته إدمانا، فلم يعد يجرؤ متجرئ أن يلمس لها طَرَفا أو يستطيل عليها أو يهددها مجرد تهديد، فى الوقت الذى لا نبرح نحن مكاننا فنظل نراوح خطواتنا، بل نتراجع للأسف إلى الوراء فى كثير من الأحيان؟ بل إننا حتى فى ميدان الرياضة لا نستطيع أن نحرز كأس العالم فى أية لعبة ولو مرة واحدة برغم ما ينفق فى هذا المجال من أموال طائلة وما يَلْقَاه اللاعبون من تشجيع وتدليل لم يكن أحد منهم يحلم به ولا فى المنام.
وسيقول تُويِنْبِى إن الحضارة تقوم حين يكون ثَمَّ تحدٍّ تتصدى له الأمة وتفلح فى اجتيازه وهَزْمه. وللمرة الثالثة نقول إننا لانستطيع أن نمارى أو نشارى فى هذا، ولكن السؤال دائما هو: لماذا، ونحن نواجه، منذ زمن طويل، تحديات هائلة من التخلف والفقر والجهل والمرض والاستعمار والاستبداد والهوان الحضارى لا نستطيع التصدى الحقيقى لهذه التحديات؟ اللهم إلا إذا كان التصدى خطبا حماسية وشعارات صاخبة وأناشيد دِعائية تُصِمّ الآذان وتطمس العقول بضجيجها وكلامها المفرط فى المغالاة ورقصا وطبلا وزمرا، فقل عندئذ إننا صمدنا فأحسنّا التصدى، ولم تقف فى طريقنا عقبة من العِقَاب، أو تَقُمْ لنا صعوبة من الصعوبات دون أن نسقحها سحقا.
ومن هنا أرانى أميل إلى لدكتور حسين مؤنس فى تأكيده أنه "لا يوجد علم يسمى: "فلسفة التاريخ"، وإنما هناك محاولات من جانب نفر من الفلاسفة والمؤرخين وعلماء البشر والاجتماعيين لفهم القوى المسيِّرة للتاريخ أو للعثور على قواعد تحكم مسير الحوادث أو لمعرفة أسباب قيام الحضارات وتدهورها وما إلى ذلك. وكلها محاولات لم تصل إحداها إلى وضع قواعد أو قوانين أو حتى خطوط عريضة تعين على إدراك ما وراء الحوادث أو تساعد على تعريفنا بالطريق الصحيح الذى ينبغى على البشر أن يسيروا فيه ليصلوا إلى بناء مجتمع إنسانى أكثر أمنا واستقرارا، وأقدر على توفير أسباب الرخاء وما يسمى بـ"السعادة" للبشر. حتى كلام هيجل فى فلسفة التاريخ ما هو إلا تأملات عاشت حية فى أذهان الناس أيامه وشغلت الأذهان بعدها، حتى جاء كارل ماركس فزعم أنه حطمها، وسخر من قول هيجل: "عندى ينتهى التاريخ"، وقال إن التاريخ الحقيقى للبشر لم يبدأ بعد لكى يقال إنه انتهى. وبدايته عنده هى انتقال القوة الموجِّهة للتاريخ من أيدى مغتصبيها من السياسيين والرأسماليين، بحسب رأيه، إلى أيدى العمال، الذين يصنعون التاريخ بأيديهم وثمرة أعمالهم. وهذه أيضا قضية فيها من المغالطة شىء كثير. وإذن فليس هناك على الحقيقة علم يسمى: "فلسفة التاريخ"، ولا أعرف مؤرخا، مهما عظم، يستطيع أن يقول إنه يدرس مادة بهذا المعنى. وكل ما يزعمه بعض الناس فى هذا المجال إنما هى تصوراتٌ وأمانىّ. ومن هنا فلا نعجب من أن تُويِنْبِى، وهو أكبر من حاول فلسفة التاريخ فى عصرنا، لم يقل قَطُّ إنه فيلسوف تاريخ. وأحسن ما قيل فيه إنه شاعر" (د. حسين مؤنس/ الحضارة- دراسة فى أصول وعوامل قيامها وتطورها/ 8).
لقد بدأ ما يسمى لدينا بـ"النهضة الحديثة" منذ أكثر من قرنين، لكننا لم نبلغ شيئا ذا قيمة مما نتطلع إليه، إذ كنا وما زلنا نتطلع، أو نقول إننا نتطلع، إلى الاستقلال وإحراز القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والأخلاقية والنفسية، فماذا حققنا من هذا؟ لا شىء تقريبا. صحيح أن لدينا مثلا مؤسسات تعليمية، ولكن التعليم فيها ضعيف، وعندنا الجيوش، ولكنها لا تحرز انتصارا عادةً، وفى أيدينا البترول فى دول الخليج وغير دول الخليج، وعندنا قناة السويس فى مصر، وعندنا الأرض الزراعية الشاسعة فى السودان، وبإمكانها توفير الغذاء للعالم العربى طبقا لما يقول الاقتصاديون، ولكننا نفتقد العزة، وما زال الفقر يُنِيخ بكلكله على بلاد المسلمين بوجه عام. كما استوردنا أشكال المؤسسات الديمقراطية، لكن الاستبداد يجثم على أنفاس الشعوب دون أى فرق بين جمهورية وملكية حتى صارت الشعوب فى الأنظمة الجمهورية أيضا تُورَث جهارا نهارا، فى حين لا تبالى الشعوب ولا تحاول أن تتخلص من هذه الأوضاع المزرية بالكرامة الإنسانية، بل تبدو وكأنها تباركها وتستزيدها بما يوهم أن حياتها قد بلغت أعلى مستويات الرفاهية والكرامة والمجد. وقل فى باقى المؤسسات والأوضاع ما قلناه هنا، فلن تخطئ فى قولك.
لقد تتالت الحركات والانقلابات والثورات العسكرية، وظهر المصلحون أو مُدَّعُو الإصلاح من كل لون وشكل: فمن حكام إلى صحافيين إلى مفكرين إلى أدباء إلى علماء إلى ضباط، ومن محمد على إلى رفاعة الطهطاوى إلى جمال الدين الأفغانى إلى محمد عبده إلى عرابى إلى عبد الله النديم إلى مصطفى كامل إلى محمد فريد إلى سعد زغلول إلى حسن البنا إلى محمد نجيب إلى جمال عبد الناصر... إلخ، وهذا فى مصر فقط، إلا أن شيئا حاسما ينقل الأمة من حال إلى حال لم يقع ولا حتى فى الدين، فالأغلبية تفهمه على أنه لحية ونقاب، ثم الصلاة والصيام لا غير، ثم تبقى الأمور بعد ذلك على حالها، فلا الطالب تدين تدينا حقيقيا واجتهد فى أن يتفوق ويتقرب إلى الله سبحانه من خلال السعى الجاد لتثقيف عقله وذوقه بحضور الدروس وارتياد المكتبات واستذكار المقرر أولا بأول وإتقان ما يُطْلَب منه تحضيره وعدم الاكتفاء بالكتاب المدرسى، ولا الحِرْفِىّ تدين تدينا حقيقيا فاحترم مواعيده واعتدل فى تقدير أتعابه وأتقن إصلاح ما يصلحه لصاحب البيت ولم يخدعه بقطعة غيار قديمة يخرجها من حقيبته قد أخذها بسيف الحياء من عميل سابق وقدمها إلى عميله اللاحق على أنها قطعة جديدة معطيا إياها له بثمن أكبر من ثمن الجديدة، ثم هى لا تعمل فى الغالب إلا لوقت محدود مقدار ما ينصرف الحرفى، وإذا بالمشكلة تعود من جديد، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت... وهكذا دواليك. وقس باقى البلاد العربية والإسلامية على مصر، فلسوف تجد الأوضاع متشابهة، وكأننا ثمرة خط إنتاج واحد لا يتغير، اللهم فى التفاصيل التافهة، أما الخطوط العامة والأمور الهامة فلا اختلاف فيها.
والعجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام لا يزال فى غضارته ونضارته ويتوثب حيوية وانطلاقا ونشاطا ويكسب النصر بعد النصر، والقرآن يبشر المسلمين بأن لهم الغلبة على أعدائهم، وهو ما وقع فعلا حسبما بشَّر، العجيب أن يقول الرسول مع ذلك للمسلمين فى ذلك الوقت أيضا: "يوشك أن تَدَاعَى عليكم الأمم من كل أفق كما تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله، فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غُثَاءٌ كغثاء السيل: يُجْعَل الوهن في قلوبكم، ويُنْزَع الرعب من قلوب عدوكم لحبّكم الدنيا وكراهيتكم الموت"، أى لفقدانكم عوامل الحضارة وموات عزيمتكم وكراهيتكم للحياة الحرة الأبية الكريمة الراقية ورضاكم بالهوان على أيدى حكامكم وأعدائكم، فلا تنصركم السماء بعدما خذلتم أنتم أنفسكم بأنفسكم، وحقت عليكم كلمة الله وعقوبته فى الدنيا قبل الآخرة، ثم فى الآخرة بعد الدنيا. والحق أنه لو لم يكن للرسول إلا هذه النبوءة لكفته عندى دليلا على أنه رسول صادق أمين، إذ لماذا يزعج النبى الكاذب أتباعه، وهم فى غمرة النصر ونشوته، بالتنغيص عليهم بمثل تلك النبوءة، إن كان يستطيع أى نبى كاذب التنبؤ بمثلها أصلا؟ إن هذا لكلامُ الأنبياء الصادقين. وها نحن المسلمين أولاء نراه بأم أعيننا منذ قرون، وبخاصة فى حرب الخليج الثانية حيث تداعت على العراق الأمم من كل جانب ومن كل شكل ولون بما فيها تلك الأمم التى لم يسمع الإنسان باسمها يوما، بل لا يستطيع أن يراها على الخريطة لهوان شأنها، فهى نكرة لا تلفت نظر أحد، وكلها اشتركت فى ضرب العراق. وما كان الله ليظلمنا، ولكن كنا لأنفسنا ظالمين!
ولعل القارئ قد لاحظ إنحائى باللائمة على الشعوب أوّلاً لا على الحكام، على عكس ما هو شائع بين المصلحين والدارسين والمفكرين. ذلك أن أصحاب المصلحة فى التقدم والتحضر إنما هم الرعية لا الراعى، الذى كلما كانت رعيته ترتع فى الجهل والخنوع والرضا بالهوان وتنحنى راكعة على قدميه تلثمهما كان ذلك أحرى بإسعاده، إذ يصير الحكم كله بهذه الطريقة مغانم ولذة وحبورا، فلا أحد يناوئه، ولا أحد يحاسبه، ولا أحد يعترض عليه، ولا أحد يطالبه بشىء مما يحتجنه فى يديه، ولا أحد يجرؤ على النظر إلى وجهه. ومَنْ مِنَ الناس يكره أن يكون هو ذلك الحاكم فيعمل على أن يخلق لنفسه أسبابا للإزعاج والتنكيد؟ كتب د. أحمد أمين فى كتابه الشائق المؤلم: "يوم الإسلام"، الذى يتحول فى نهايته إلى مرثية مرة للعالم الإسلامى وللمسلمين، ولم يكن ينقص المؤلف إلا أن ينشج من الهم والقهر لما وصلت إليه حال أمته، كتب الرجل أنه فى سنة 1910م ألقى محاضرة وهو فى السنة الثالثة بمدرسة القضاء الشرعى بمناسبة رأس السنة الهجرية، فأكد أن أكبر سبب لانحطاط المسلمين، فى الماضى كما هو فى الحاضر، يعود إلى الحكام ورجال الدين، إذ الحكام بأيديهم زمام الشعوب، وقد قال الله تعالى: "ربَّنا، أَطَعْنا سادتنا وكبراءنا فأَضَلُّونا السبيلا"، وقال: "وإذا أردنا أن نُهْلِك قرية أَمَرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحَقَّ عليها القولُ فدمَّرناها تدميرا". وشخّص أحمد أمين الداء فى أمرين: تنازع الحكام على السلطة، وإمعانهم فى شهواتهم ولهوهم وجباية الأموال بالعسف والبطش والمصادرة والقتل. وأنا معه فى كلامه عن فساد الحكام ورجال الدين: معظمهم طبعا وليسوا كلهم، لكنى لست معه فى تحميل الحكام ورجال الدين القسط الأكبر من المسؤولية عن ذلك حسبما وضحتُ آنفا.
كما أن الحكام لم يَتَدَهْدَوْا إلى العسف والبطش واستباحة دماء المخالفين إلا حين وجدوا الشعوب تخنع لهم ولا تتمرد على جبروتهم فاسْتَحْلَوْا ذلك العسف وهذا الجبروت. والنفس البشرية كالإعصار تجتاح ما تجده أمامها ما دامت تستطيع اجتياحه. فإذا لم يجد الحاكم الباطش من الشعب الذى يحكمه قوة تحجزه عن الهبوب الجامح والتحطيم المبيد انطلق فى عنفوانه يقلع ويخلع ويحطم ويدمر ويستولى ويبطش، وما من محاسب أو مُسَائل. ولو كانت الشعوب متنبهة إلى حقوقها فى محاسبة حكامها وتقويمهم إذا ما انحرفوا واجتهدتْ فى وضع نظام لتبادل السلطة يقيها شرور التنافس الشرير المبير بين الطامعين فيها وحَرَصَتْ على تطبيق ذلك مهما كانت التضحيات والمتاعب لَوَضَعها الحكام فى اعتبارهم ولم يهملوها ويستهينوا بها كما هو الحال فى بلاد المسلمين منذ قرون طوال. ثم إن قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا"(الأحزاب/ 64- 68)، وهو ما اقتطع منه الأستاذ الدكتور الآية الأولى التى استشهد بها فى خطبته، يدل على أن العذاب فى النص الكريم قد وقع على هؤلاء الذين يشكون من كبرائهم وساداتهم. وإذا كان هؤلاء قد دَعَوْا على السادة والكبراء أن يعذبهم الله ضِعْفَيْن فقد وضح القرآن فى آية أخرى أن لكل من الفريقين: السادة الكبراء والرعية الحقراء ضِعْفَيْن متماثلين، وإن كانوا لا يعلمون هم ذلك لانطماس بصيرتهم وتصورهم أنهم مُعْفَوْن من العُهْدة غير دارين أن العهدة عليهم أعظم وأشدّ لأنهم فرّطوا فى حقوقهم وكرامتهم: "قال: لكلٍّ ضِعْفٌ، ولكنْ لا تعلمون" (الأعراف/ 38). كذلك نسمع القرآن فى موضع ثالث يصور لنا حالة الفريقين فى النار يوم القيامة إذ يتجادلون فى نصيب كل منهما فى المسؤولية: "وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ" (البقرة/ 165- 167)، "وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ" (المؤمن/ 47- 48).
أما قوله تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" (الإسراء/ 16) فلا يمكن أن يُفْهَم حق الفهم إلا إذا قلنا إن التدمير ليس بسبب فسق الحكام وحدهم، وإلا فما ذنب الشعب؟ الواقع أن الشعوب هى المسؤولة أولا عن سكوتها على فسق حكامها وسَوْمهم إياها التنكيل والإفقار والتجويع والقتل والسجن والتشريد وتكبيلها بالمعاهدات المجنونة التى لا تراعى مصالحها ولا تضع مستقبلها فى الاعتبار. وعلى هذا فمعنى الآية أنه إذا ما أراد الله إهلاك مجتمع من المجتمعات، أى إذا ما قُدِّر لمجتمع من المجتمعات أن ينهار ويهلك، فإن أسباب الهلاك تظهر أول ما تظهر فى مترفيه. فإذا استيقظ الشعب ووقف ضد هذا الفساد وحاربه وأثبت أنه شعب من الرجال الأعزة الكرام فأوقف المترفين الفاسقين عند حدهم ورَدَّهم عن بغيهم، فإن المجتمع يُكْتَب له فى هذه الحالة العافية والفلاح، أما إذا انقمع الشعب وارتعب وحنى ظهره لحكامه كى يركبوه ويمتطوه على هواهم فإن الله يدمره فى هذه الحالة تدميرا. فليس معنى ما يقوله القرآن عن أَمْر الله للمترفين بالانحراف أنه عز وجل يأمرهم بالفسق والفجور، بل معناه أن هذه سنته فى هلاك الأمم، إذ تنام الشعوب عن حقوقها ومصالحها فينشأ الطغيان، ثم يزيد الطين بِلَّةً بأن تخنع الشعوب لذلك الطغيان بدلا من أن توقفه عند حده. ولقد وجدت الأمير شكيب أرسلان أيضا يرجع السبب فى تقدم المسلمين قديما وتخلفهم إلى العزة، وتهاويهم فى عصرنا هذا إلى فقدانهم للعزة، تلك العزة التى هى من صفات المؤمنين حسبما تقول الآية الثامنة من سورة "المنافقون": "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين". كما أشار، رحمه الله، إلى قوله سبحانه: "إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم" موضحًا أنه حين فقد المسلمون العزة تغيروا فغير الله أوضاعهم من الرقىّ إلى الانحطاط (انظر كتابه: "لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟"/ 43). وقد سبق، لدن حديثى عن مفهوم "القابلية للاستعمار" فى كتابات ملك بن نبى، أن قلت إن هذه القابلية للاستعمار ليست إلا عرضا لمرض دفين سابق هو الذلة وفقدان الشعور بالكرامة.
وقد أوجز د. أحمد أمين، فى مقدمة كتابه: "زعماء الإصلاح فى العصر الحديث"، وصف أوضاع المسلمين فى قمة مجدهم وفى وهدة انحطاطهم فأحسن الإيجاز إذ كتب يقول: "بلغ العالم الإسلامي في القرون الأربعة الأولى شأوا بعيدا في الخلق والعلم والحضارة حتى كاد يكون سيد العالم في هذا كله: فخُلُقه في حربه وسلمه قوي متين، وعِلْمُه استوعب ما عند الأمم الأخرى من هند وفرس ويونان وروم وهَضَمه كله ومزجه مزجا جميلا وبنى عليه وابتكر فيه، وحضارته كانت خير الحضارات. تزدهر مدنه كبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة بشتى ألوان الحضارة من علم وفن وعمارة وتجارة وصناعة حتى كان يُرْحَل إليها جميعا للأخذ عنها والاقتباس منها. هذا إلى حرية في العقيدة، وحرية في القول والعمل. وهي حرية قلما كان يتمتع بها غيرهم من الأمم. وكان ينعم بها كل من استظل بظلهم من نصارى ويهود ومجوس، على حين كان يشقى في الشعوب الأخرى كل من خالف دينها واعتقد غير عقيدتها. ثم بدأت فيه عوامل الضعف بعد ذلك، وتوالت عليه الكوارث، وتتابعت عليه الخطوب. وكلما مر عليه زمن زاد ضعفه وبدا هزاله. وكان أول ذلك ما دهمه من قبائل الترك الرحالة، وكانوا إذ ذاك معروفين بالغلظة والجفوة، لا يحسنون إلا القتال من غير رحمة، والفتك من غير روية. لا علم ولا حضارة ولا معرفة بأساليب الحكم وقوانين السياسة. ومَكَّن لهم الخلفاء لحاجتهم إليهم حتى كانوا السيد المطاع والحاكم المستبد. وسرعان ما دخلوا في الإسلام ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، فلم يؤاخوا المسلمين بل استعبدوهم، ولم يرحموهم بل نكّلوا بهم، ولم يؤسسوا علما ولا حضارة، بل قضوا على العلم والحضارة.
وجاءت الحروب الصليبية فاكتسحت آسيا الصغرى، واستولى الصليبيون على بيت المقدس، وجندت أوربا الجيوش تلو الجيوش لهذا الغزو، وتتابعت البعوث قرونا، والعالم الإسلامي يبذل كل جهوده وقواه وموارده لدفع هذه النازلة، حتى استنفدت ذكاءه وماله ومهارته وكل مقدرة له. وفي القرن السابع الهجري اكتسح المغول جزء كبيرا من العالم الإسلامي، وعلى رأسهم جنكيزخان هذا الجبار المتمرد، ثم خلفاؤه من بعده مثل هولاكو. ولم تكن غايتهم الفتح والاستعمار ولا الغُنْم والاستلاب فحسب، بل كانت الفتك والتدمير أيضا، فحطموا بغداد وحضارتها وعلمها وفنها، وكانت زينة العالم وبهجة الدنيا، فذبحوا أهلها وخرّبوا عمرانها، وأتلفوا جسورها وكل ما بها. وكانت نكبة بغداد نكبة العالم الإسلامي. وفي أول القرن التاسع الهجري زحف تيمورلنك، فمثّل دور جنكيز خان وهولاكو، فذبح ودمّر وأتلف وخرّب، ورمى العالم الإسلامي بكارثة عظمى ولمّا يستفق مما غَشِيَه من النوازل قبلها. ثم امتدت فتوح الأتراك العثمانيين فلم يكن حكم أكثرهم حكما صالحا، ولم يَسُوسُوا الأمم سياسة عادلة. كانوا شجعانا مقاتلين، ولم يكن أغلبهم ساسة عادلين. عُنُوا بالحرب أكثر مما عُنُوا بالإدارة ونظم الحكم، ومهروا في الفتح أكثر مما مهروا في إقامة صرح العلم ومتابعة السير بالحضارة، فزاد العالم الإسلامي تدهورا على توالي الأزمان: ظلمة حالكة، ومحنة شاملة، وجهل مطبق، وظلم فادح، وفقر مدقع.
هذا سائح فرنسي يزور مصر في آخر القرن الثامن عشر، وهو مسيو فولني، وأقام بها وبالشام نحو أربع سنوات، يقول: "إن الجهل في هذه البلاد عام شامل، مَثَلُها في ذلك مَثَلُ سائر البلاد التركية. يشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل جوانبها الثقافية من أدب وعلم وفن، والصناعات فيها في أبسط حالاتها، حتى إذا فسدت ساعتك لم تجد من يصلحها إلا أن يكون أجنبيا". وهذه الحكومة المصرية نراها إذ ذاك تخشى تعليم الرياضة والطبيعة، فتستفتي شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد الإنبابي: "هل يجوز تعليم المسلمين العلوم الرياضية كالهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبَّر عنه بـ"الكيمياء" وغيرها من سائر المعارف؟"، فيجيب الشيخ في حذر: "إن ذلك يجوز مع بيان النفع من تعلمها"، كأن هذه العلوم لم يكن للمسلمين عهد بها، ولم يكونوا من مخترعيها وذوي التفوق فيها. كان العالم الإسلامي منعزلا لا يتصل بأوربا إلا فيما تعانيه تركيا من مشاكلها السياسية، فليس هناك بين الشعوب الإسلامية والشعوب الأوربية اتصال في الثقافة والعلم والصناعة ونظم الحكم يمهد لها الاستفادة منها والأخذ عنها. لقد أُغْلِقَتْ على العالم الإسلامي الأبواب منذ الحروب الصليبية، وأخذ يأكل بعضه بعضا. وقف المسلمون في علمهم فليس إلا ترديد بعض الكتب الفقهية والنحوية والصرفية ونحوها، وفي صناعتهم فلا اختراع ولا إتقان للقديم، وفي آلاتهم وفنونهم العسكرية فهي على نمط الأقدمين. وسكان المدن والريف قد أُبْعِدوا عن الاشتراك في الشؤون السياسية والحربية فلا تراهم في جيش ولا في قيادة جيش، ولا رأي لهم في الحكم ولا في السياسة ولا في الإدارة. إنما هم مزرعة الحكام ومُسْتَغَلّ الولاة والأمراء. كلما تفتحت شهواتهم فعلى الرعية أن يجدوا سبيلا لملئها بالمال يجمعونه من كد يمينهم وعرق جبينهم. مركز الخلافة، وهو الآستانة، مفكك منحل، والولايات من مصر والشام والعراق والحجاز متدهورة متضعضعة قد أمات نَفْسَها توالي الاستبداد عليها. العلم فيها كتابٌ دينيٌّ شكليٌّ يُقْرَأ، أو جملةٌ تُعْرَب، أو متنٌ يُحْفَظ، أو شرحٌ على متن، أو حاشيةٌ على شرح. أما علوم الدنيا فلا شيء منها إلا حساب بسيط يستعان به على معرفة المواريث، أو قبس من فلك قديم يُسْتَدَلّ به على أوقات الصلاة. والسياسة فيها نزاع مستمر بين الأمراء، وكل أمير له حزبه، وكل حزب يتربص الدائرة بخصمه، والبلاد ضائعة بينهم. الوالي لا يطيل المكث إلا ريثما يغتني حتى أصبح اسم الحكومة والوالي والجندي مرعبا مفزعا مقرونا في النفس بمعنى الظلم والعسف.
وأعجب من هذا كله إلف الشعوب الإسلامية هذه الحالة السيئة واستنامتها إليها وكراهيتها لكل إصلاح: فإذا أريد إصلاح الجندية ثارت الإنكشارية، وإذا أريد إصلاح القضاء غضب العلماء. وعلى الجملة فقد كان العالم الإسلامي إذ ذاك شيخا هرما حطمته الحوادث، ونَهِكَه ما أصابه من كوارث: فساد نظام، واستبداد حكام، وفوضى أحكام، وخمود عام، واستسلام للقضاء والقدر، وترديد لقول الشاعر:
دَعِ المقادير تجري في أَعِنّتها * ولا تَبِيتَــنَّ إلا خاليَ البـــالِ
فقد الدين روحه، وصار شعائر ظاهرية لا تمس القلب ولا تحيي الروح. سادت الخرافات، وانتشرت الأوهام، وأصبح التصوف ألعابا بهلوانية، والدين مظاهر شكلية، ووسيلة النجاح في الحياة ليست الجِدّ في العمل، ولكنِ التمسح بالقبور والتوسل بالأولياء، فهم الذين يُنْجِحون في العمل، وهم الذين يَنْصُرون في الحروب. والحارات مملوءة بالدجالين والمشعوذين. هذا هو الحال في الشرق، أما الغرب فلم يكن أصيب بكوارث الشرق. وقد بدأت أوربة تستيقظ منذ الحروب الصليبية، وتنشيء لها حضارة جديدة مؤسسة على العلم والحرية، وتتقدم في الصناعة، ويتدفق عليها المال من اكتشافها أمريكا وغيرها، وتخترع وترتقي في النظم الحربية على أساليب جديدة، وتنشيء الأساطيل الضخمة. حتى إذا شعرت بقوتها هجمت على الشرق بآلاتها وأسلحتها واختراعاتها فتساقطت أقطاره في يدها، وكانت إذا دخلت قطرا ضغطت عليه بكل قوتها، واستغلته لمصلحتها، وأجرت فيه الأمور على هواها. فكان من جراء هذا الضغط أن أخذ وعي الشرق يستيقظ، وطموحه يتوثب. وكان من طبيعة هذا أن يتقدم الصفوف زعماء للإصلاح يشعرون بآلام شعوبهم أكثر مما تشعر، ويدركون الأخطار المحيطة بها أكثر مما تدرك، ويفكرون التفكير العميق في أسباب الداء ووصف الدواء. وكل مصلح ينظر إلى المرض من زاويته ويدعو إلى مداواته حسب خطته، فكان من ذلك مصلحون مختلفون دَعَوْا إلى الإصلاح في أقطارهم على حسب بيئتهم وثقافتهم ومزاجهم. وكلٌّ قد أبلى بلاء حسنا، ولاقى من العناء ما لا يتحمله إلا أولو العزم: فمنهم من شُرِّد، ومنهم من قُتِل، ومنهم من رُمِيَ بالخيانة العظمى. فمن نادى بالمساواة بالعدل بين الرعية من غير نظر إلى جنس أو دين اتُّهِم بمحاربة المسلمين، ومن نادى بتنظيم الجيش على الأساليب الحديثة اتهم بالتفرنج والخروج على التقاليد، ومن نادى بتأسيس مجلسٍ شُورِىٍّ اتهم بمحاربة السلطان والحض على الثورة والعبث بالنظام، ومن نادى بإصلاح العقيدة والرجوع بها إلى أصل الدين اتهم بالإلحاد... وهكذا، وهم على هذا صابرون مجاهدون، أحبوا مبدأهم في الإصلاح اكثر مما أحبوا الحياة، ولم يعبأوا بالعذاب يحيق بهم في سبيل تحقق فكرتهم، وظلت آراؤهم تعمل عملها في حياتهم وبعد موتهم حتى تحقق إصلاحهم ونفذت أفكارهم، وتقدم الشرق على أيديهم خطوات تستحق الإعجاب".
هذا ما قاله المرحوم أحمد أمين، لكنى أنظر إلى ما هو أمامى فأجد الصورة قاتمة، ولا أظنه كان يبقى على نفس الرأى لو كان حيا بيننا الآن: فالاستبداد فى العالم الإسلامى لا يزال فى أشد عنفوانه حتى إن الجمهوريات قد شرعت تتحول إلى ملكيات، وأخذ الرؤساء يورّثون السلطان لأبنائهم جهارا نهارا دون مبالاة بالشعوب، والشعوب ساكتة ساكنة ميتة المشاعر والوعى كأن الأمر لا يمسها فى قليل ولا كثير، ولا يعنيها من بعيد ولا من قريب. هذا فى السياسة الداخلية، أما فى ميدانها الخارجى فقد استولى اليهود على فلسطين، وعقد عدد من الحكام العرب والمسلمين مع إسرائيل معاهدات واتفاقات وبادلوها التمثيل الدبلوماسى بعدما غبر عليهم زمن كانوا يضحكون فيه على الجماهير المغيبة العقل بأنهم سوف يلقون بها فى البحر. كما عاد الاستعمار الغربى إلى بعض البلاد العربية والإسلامية مسفرا عن وجهه بكل جرأة ووقاحة، وإن كنا جميعا نعرف أنه كان موجودا طول الوقت فى كل البلاد تقريبا، ولكن على نحو مستور. وفوق ذلك فالفساد المالى والإدارى والتعليمى كبير، والفوارق بين الأغنياء والفقراء تزداد حدة، ومعظم الحكام يتصرفون فى مالية الدولة كأنها ملك شخصى ورثوه وراثة.
من هنا نستطيع أن نفهم قول د. محمود حمدى زقزوق فى تشخيصه للأوضاع القائمة فى عالم الإسلام: "يعانى العالم الإسلامى فى العصر الحاضر من أزمة طاحنة متعددة الجوانب، ففى الوقت الذى تتلاحق فيه التطورات العلمية والفكرية والحضارية فى مناطق العالم المتقدم إذا بنا نرى التخلف بكل أبعاده المادية والمعنوية والعلمية والدينية والفكرية والحضارية يخيم على العالم الإسلامى... إننا، كمسلمين، لا نستطيع أن ننكر أن واقع الأمة الإسلامية واقع متخلف ومحزن ويدمى النفس الإنسانية، ولكن لا نستطيع أن ننكر فى الوقت نفسه أن هذا الواقع المحزن منفصل عن النموذج الإسلامى الحضارى بمائة وثمانين درجة. ولم تستطع الصحوة الإسلامية المعاصرة أن تقترب حتى اليوم بطريقة جِدِّيّة من هذه القضية المصيرية الأولى، بل ظلت حتى يومنا هذا مشغولة بمحيط الدائرة وبعض المظاهر الشكلية والأمور الهامشية، ومهتمة بالجزئيات دون الكليات، واختلط لديها سلم الأولويات، فانقلبت الضرورات هامشيات، والهامشيات ضروريات، وغابت معالم الرؤية الواضحة المتعقلة المستنيرة، وضاعت أصوات العقلاء من رواد هذه الأمة وسط ضجيج الانفعالات العاطفية التى تتصف فى بعض الأحيان بشدة حدتها وانفلات وعيها بما يدور حولها فى عالم اليوم" (د. محمود حمدى زقزوق/ الحضارة فريضة إسلامية/ مكتبة الشروق/ 2001م/ 33، 35).
والدكتور زقزوق محق تماما فى تأكيده أن "الحضارة فريضة إسلامية" كما جاء فى عنوان كتابه الذى نحن بصدده. ذلك أنه من غير الممكن أن يكون الإنسان مسلما صالحا إلا إذا كان متحضرا راقى الحضارة، لأن الحضارة الراقية، كما رأينا على مدى الفصول الماضية، هى الإسلام، والإسلام هو الحضارة الراقية. وعلى هذا فأى تقصير حضارى هو خصم من قيمة إسلام الشحص مهما زعم المزاعم وظن أنه يحسن صنعا، إذ ليس الإيمان بالتمنى، ولكن ما وَقَر فى القلب وصدّقه العمل، أى ما تحول إلى أفكار وأقوال وتصرفات وأخلاق حضارية. لكننى لا أوافق د. زقزوق رغم هذا فى قوله إن "الحضارة، بوصفها فريضة، لا تقل فى أهميتها للمسلمين فى عالم اليوم عن أى فريضة أخرى من فرائض الإسلام الأساسية مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج، وإن العمل من أجلها يعد عبادة لله سبحانه وتعالى" (المرجع السابق/ 5)، إذ ليست الحضارة فريضة عادية بل هى فريضة الفرائض، لأنها هى الإسلام ذاته. لقد رأينا أن الحضارة تشمل العقيدة والأخلاق والعلم والعمل والذوق الرفيع. ترى ما الذى يبقى لكى يقال إن الحضارة لا تطابق الإسلام؟ إن الصلاة والصيام والزكاة والحج تدخل فى العقيدة، لأن العقيدة هنا تشمل العبادات والشرائع أيضا. وعلى هذا فإن العبادات لا تمثل من الدين ولا من الحضارة الإسلامية إلا جزءا يسيرا فقط. ومن ثم فالإسلام أكبر من أن نحصره فى العبادات، إذ هو كُلٌّ، والعبادت ليست سوى جزء من هذا الكل.