يقول تعالى : ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾[الكهف:68] .
يقول الطبري (ت:310هـ) في تفسير الآية : " وكيف تصبر يا موسى على ما ترى مني من الأفعال التي لا علم لك بوجوه صوابها ، وتقيم معي عليها ، وأنت إنما تحكم على صواب المصيب وخطأ المخطئ بالظاهر الذي عندك ، وبمبلغ علمك ، وأفعالي تقع بغير دليل ظاهر لرأي عينك على صوابها، لأنها تُبتدأ لأسباب تحدث آجلة غير عاجلة ، لا علم لك بالحادث عنها ، لأنها غيب ، ولا تحيط بعلم الغيب خبرا " .
وبالفعل ، لم يستطع موسى عليه السلام أن يصبر على ذلك . وهذا ما يؤكده مغايرة الفعل تستطيع بين صيغتي : (تستطع / تسطع) . مع العلم أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى.
فموسى عليه السلام كان الصبر بالنسبة إليه شاقا قبل أن يعرف سبب تلك الأحداث التي ارتكبها العبد الصالح : {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾[الكهف:78]
بينما عندما عرف السبب تبين له أن الأفعال كانت منطقية وأن الأمر كان يحتاج إلى قليل من الصبر حتى تتوضح الأمور . فكانت صيغة الفعل (تسطع) أقل في المبنى من صيغة الفعل (تستطع) .
{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾[الكهف:82] .
العلم في القرآن الكريم هو العلم النابع من وحي السماء الذي تلقاه الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه من العليم الحكيم .
وموسى عليه السلام نبي رسول أراد الله أن يبين له أن هناك من هو أعلم منه . فكان الخَضِر ذلك العبد الصالح الذي يقول عنه القرآن الكريم : ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف:65] .
فالأنبياء والرسل جاءوا للناس ليبينوا لهم وحي السماء . وصاحب العلم هو الله سبحانه وتعالى . وقد أطلع عبده موسى على عبده الخَضِر ليتعلم موسى أن الله أعطى العبد الصالح علما لا يتوفر عليه موسى ، ولا يستطيع أن يتعلمه ؛ لأنه علم خاص من لدن العليم الحكيم : ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف:82] .
وهذه الخصوصية لا تتأتى إلا بالرحمة والعلم من لدن الله العليم الخبير . بمعنى آخر أَنْ لا أحد أكثر علما من الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم جميعا ، إلا من أمره الله من عباده المقربين وأعطاه علما خاصا . وهؤلاء ليسوا من الناس . لذلك اختلف المفسرون في شخصية الخَضِر أَهُوَ نبي أم ملك .
موسى عليه السلام أرسله الله إلى بني إسرائيل ، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : " حدثني أبي بن كعب أنه سمعَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن موسى قامَ خطيبًا في بني إسرائيلَ، فسُئِلَ : أيُّ الناسِ أعلمُ ؟ فقال : أنا ، فعَتِبَ اللهُ عليه إذ لم يردَّ العلمَ إليه ، فأوحَى اللهُ إليه : إن لي عبدًا بمَجْمَعِ البحريْن هو أعلمُ منك " .
كان الدرس بليغا ، وبدا موسى عليه السلام أمام العبد الصالح تلميذا لا يملك من علم الشيخ شيئا ، مما جعله يُخفق في كل مرة ، فظهر عجزه وأقر بذلك قائلا : ﴿قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا﴾ [الكهف:76] .
إن الحضور الملفت الذي أبان عنه موسى عليه السلام يؤكد أن شخصيته الإسلامية التي تكونت بالتربية والتوجيه منذ ولادته إلى أن أصبح نبيا مرسلا ، جعلت منه إنسانا حيا ؛ لا يقبل أي عمل لا يتماشى مع الشريعة الربانية ولا يستطيع أن يصبر عليه ، كخرق السفينة وقتل الغلام وعدم قبول الأجر على العمل المشروع في الوقت الذي يكون الإنسان في أمس الحاجة إليه . فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين الصادقين وعلى رأسهم الأنبياء والرسل . وهذه الوضعية نتجت عن عدم التطابق بين علم موسى عليه السلام وعلم العبد الصالح ، رغم أن مصدرهما واحد هو الله العليم الحكيم . فالله الذي أعطى موسى عليه السلام العلم الشرعي الذي يخص بني إسرائيل وينظم حياتهم ومآلهم ، أعطى سبحانه العبد الصالح علما خاصا يطبقه بأمره في صالح العباد.
من هذه القصة نستنتج أن العلم كله لله تعالى . وموسى عليه السلام الذي ظن أنه الأعلم بما خصه الله من الوحي ، وجد نفسه غير ذلك ؛ لأن الله علم غيره علما لا يملك أبجدياته . فكانت التجربة فرصته في التعلم والالتزام . ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة:32].
قصة موسى مع الخَضِر ذُكرت في القرآن الكريم فاستغلها أناس ليؤكدوا بها على أن من الناس من يفوق علمهم علم الأنبياء والرسل ، بمعنى أن في الأمة الإسلامية من يفوق علمه علم الرسول صلى الله عليه وسلم . هذا الادعاء أشاعه أناس من المتصوفة وخصوصا الأولياء منهم والعارفين والواصلين.
القرآن الكريم أخبرنا أن الله أرسل الأنبياء والرسل السابقين إلى أقوامهم ؛ كل رسول إلى قومه . والرسول محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى الناس كافة مصداقا لقول تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ:28].
وفي زمن النبوة رصدت السماء حتى قالت عنها الجن : ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا﴾ [الجن:8] . يقول الطبري (ت:310هـ) : " كانت الجنّ تستمع ، فلما رجموا قالوا : إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض قال : فذهبوا يطلبون حتى رأوُا النبيّ صلى الله عليه وسلم خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر ، فذهبوا إلى قومهم منُذرين " .
والرسول صلى الله عليه وسلم أُنزل عليه الوحي وهو أمي ، أي : لا يقرأ الكتب السماوية السابقة ولا يكتبها . فعلمه الله بالوحي ما لم يعلم : ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء:113] . فالعلم هو الوحي الإلهي . لذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا سئلوا عن شيء يجهلونه يقولون : الله ورسوله أعلم . وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الوحي سينقطع بموته ؛ أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي» . فمات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي . وبقي القرآن الكريم والسنة الصحيحة تبينه . فذاك هو العلم الإلهي بين الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فمن ابتغى الهدى في غيره أضله الله .