في الحياة كثير مما يعكر الصفو ، وقد يكون ظاهرا ، وقد يكون خفيا ؛ وقد يحدث عند أحد الزوجين شيء من هذا يلاحظ في أسلوب كلامه ونظراته وبعض أفعاله ، فمن حسن العشرة أن ينظر الطرف الآخر في أسباب ذلك ويحاول إزالته .. ليرجع الصفو وتدوم العشرة . روى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنِّي لأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى " قَالَتْ : فَقُلْتُ : مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : " أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ : لَا ، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ : لا ، وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ " قَالَتْ : قُلْتُ : أَجَلْ ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَهْجُرُ إِلا اسْمَكَ ( 1[1] ) . قال ابن حجر - رحمه الله: يُؤْخَذ مِنْهُ اِسْتِقْرَاء الرَّجُل حَال الْمَرْأَة مِنْ فِعْلهَا وَقَوْلهَا فِيمَا يَتَعَلَّق بِالْمَيْلِ إِلَيْهِ وَعَدَمه , وَالْحُكْم بِمَا تَقْتَضِيه الْقَرَائِن فِي ذَلِكَ , لأَنَّهُ e جَزَمَ بِرِضَا عَائِشَة وَغَضَبهَا بِمُجَرَّدِ ذِكْرهَا لاسْمِهِ وَسُكُوتهَا , فَبَنَى عَلَى تَغَيُّر الْحَالَتَيْنِ مِنْ الذِّكْر وَالسُّكُوت تَغَيُّر الْحَالَتَيْنِ مِنْ الرِّضَا وَالْغَضَب , وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ شَيْء آخَر أَصْرَح مِنْهُ لَكِنْ لَمْ يُنْقَل . وَقَوْل عَائِشَة : ( أَجَل يَا رَسُول اللَّه مَا أَهْجُر إِلا اِسْمك ) قَالَ الطِّيبِيُّ : هَذَا الْحَصْر لَطِيف جِدًّا ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي حَال الْغَضَب الَّذِي يَسْلُب الْعَاقِل اِخْتِيَاره لَا تَتَغَيَّر عَنْ الْمَحَبَّة الْمُسْتَقِرَّة .ا.هـ وَقَالَ اِبْن الْمُنَيِّر : مُرَادهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَتْرُك التَّسْمِيَة اللَّفْظِيَّة وَلَا يَتْرُك قَلْبهَا التَّعَلُّق بِذَاتِهِ الْكَرِيمَة مَوَدَّة وَمَحَبَّة .ا .هـ . ومن هذا الباب ما في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ .. الحديث ( [2]2 ) .
2 ) ومن حسن العشرة تطييب خاطر الزوج ومراعاة مشاعرها
وهذا مما يدخل السرور على النفس ويزيل آثار الحزن والهم ؛ وقد قال الله تعالى لنبيه : ]تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ [ (الأحزاب: 51 ) وعن صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ - رضي الله عنها - قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ e وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ كَلامٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : " أَلا قُلْتِ : فَكَيْفَ تَكُونَانِ خَيْرًا مِنِّي ، وَزَوْجِي مُحَمَّدٌ ، وَأَبِي هَارُونُ ، وَعَمِّي مُوسَى ؟! " وَكَانَ الَّذِي بَلَغَهَا أَنَّهُمْ قَالُوا : نَحْنُ أَكْرَمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e مِنْهَا ، وَقَالُوا : نَحْنُ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ e وَبَنَاتُ عَمِّهِ ( [3]3 ) . وفي سير أعلام النبلاء عن صفية بنت حيي - رضي الله عنها - أن النبي e حج بنسائه، فبرك بصفية جملها فبكت ، وجاء رسول الله e لما أخبروه ، فجعل يمسح دموعها بيده ، وهي تبكي وهو ينهاها ( [4]4 ) . فليتنا نتعلم من قدوتنا e في حياته مع أهله ، ليكون لنا نبراسًا في حياتنا الزوجية ، وأعتقد أن هذه السنن الزوجية تُصلح كثيرًا مما يجري بين الأزواج في حياتهم ... أليس كذلك ؟ ... بلى .
للإنسان هفوات ذكرًا كان أو أنثى ، ولابد ؛ وفهم هذه الحتمية تجعل للزوجين فهمًا للإغضاء عن الهفوات ، ولكن طبيعة المرأة العاطفية مع ما فيها من نقص في العقل قد يكون منها التسرع والوقوع في مثل هذه الهفوات ، فلابد للزوج أن يدرك ذلك منها وأن يغمض عينيه عن تلك الهفوات ، ليفتحها على جوانب الخير فيها ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ " ([1]) ، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ " ([2]) . قال ابن حجر – رحمه الله : قيل : اِقْبَلُوا وَصِيَّتِي فِيهِنَّ وَاعْمَلُوا بِهَا وَارْفُقُوا بِهِنَّ وَأَحْسِنُوا عِشْرَتهنَّ ؛ وقَوْلُهُ : «خُلِقَتْ مِنْ ضِلَع " قِيلَ : فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ حَوَّاء خُلِقَتْ مِنْ ضِلَع آدَم الأَيْسَر ، وقَوْله : « وَإِنَّ أَعْوَج شَيْء فِي الضِّلْع أَعْلاهُ » قِيلَ : فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ أَعْوَج مَا فِي الْمَرْأَة لِسَانهَا , وَفَائِدَة هَذِهِ الْمُقَدِّمَة أَنَّ الْمَرْأَة خُلِقَتْ مِنْ ضِلْع أَعْوَج فَلا يُنْكَر اِعْوِجَاجهَا , أَوْ الإِشَارَة إِلَى أَنَّهَا لا تَقْبَل التَّقْوِيم كَمَا أَنَّ الضِّلْع لا يَقْبَلهُ . قَوْلُهُ : " فَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمهُ كَسَرْته " قِيلَ : هُوَ ضَرْب مَثَل لِلطَّلاقِ ، أَيْ : إِنْ أَرَدْت مِنْهَا أَنْ تَتْرُك اِعْوِجَاجهَا أَفْضَى الأَمْر إِلَى فِرَاقهَا , وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسْلِم : " وَإِنْ ذَهَبْت تُقِيمهَا كَسَرْتهَا , وَكَسْرهَا طَلاقهَا " ([3]) . قال القسطلاني - رحمه الله : فيه ندب إلى مداراة النساء وسياستهن والصبر على عوجهن ، وأن من رام تقوميهن رام مستحيلا وفاته الانتفاع بهن ، مع أنه لا غنى للإنسان عن امراة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه ([4]) .ا.هـ . فإذا علم ذلك فعلى الزوج أن يأخذ الأمور بحكمة ويتغاضى عن الهفوات ، ويصبر على المرأة ، ولا يجنح إلى الخيال ولا يطلب الكمال ؛ وليعلم أن حسن الخلق معها ليس كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها ، والحلم عن طيشها وغضبها ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان أزواجه يراجعنه الكلام وتهجره إحداهن إلى الليل ([5]) .
الإغضاء عن الهفوات وترك تتبع الزلات وإقالة العثرات ، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة : (.... وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض) .
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم ، وإن كنت أخشى أن أكون قد أفسدت تسلسل الموضوع بهذه المشاركة ، فعذرا منكم .
ففي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ ، فَضَرَبَتْ الَّتِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتْ الصَّحْفَةُ ، فَانْفَلَقَتْ ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ ، وَيَقُولُ : " غَارَتْ أُمُّكُمْ " ، ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا ، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ ([1]) . ورواه النسائي عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا أَتَتْ بِطَعَامٍ فِي صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فَجَاءَتْ عَائِشَةُ مُتَّزِرَةً بِكِسَاءٍ وَمَعَهَا فِهْرٌ [حجر ] فَفَلَقَتْ بِهِ الصَّحْفَةَ ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ فِلْقَتَيْ الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ : " كُلُوا ، غَارَتْ أُمُّكُمْ " مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَحْفَةَ عَائِشَةَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ ، وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ عَائِشَةَ ([2]) . ياله من موقف عظيم ، ومعالجة له هي أعظم منه ، وهذا الموقف وما يشابهه بسبب الغيرة يتكرر في حياة الأزواج ؛ فهل يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا في معالجة هذه المواقف ؟ أقول جازمًا : إن كان الرسول قدوتنا في حياتنا الزوجية لقلَّت جدًّا تلكم المشاكل التي بين الزواج . قال ابن حجر - رحمه الله : وقـوله : " غَارَتْ أُمُّكُمْ " اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم ، بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة ، فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها ([3]) ، قَالُ العلماء : فِيهِ إِشَارَة إِلَى عَدَم مُؤَاخَذَة الْغَيْرَاء بِمَا يَصْدُر مِنْهَا لأَنَّهَا فِي تِلْكَ الْحَالَة يَكُون عَقْلهَا مَحْجُوبًا بِشِدَّةِ الْغَضَب الَّذِي أَثَارَتْهُ الْغَيْرَة ؛ وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ لا بَأْس بِهِ عَنْ عَائِشَة مَرْفُوعًا : " إِنَّ الْغَيْرَاء لا تُبْصِر أَسْفَل الْوَادِي مِنْ أَعْلاهُ " قَـالَهُ فِي قِصَّة ؛ وَعَنْ اِبْن مَسْعُود رَفَعَهُ : " إِنَّ اللَّه كَتَبَ الْغَيْرَة عَلَى النِّسَاء , فَمَنْ صَبَرَ مِنْهُنَّ كَانَ لَهَا أَجْر شَهِيد " أَخْرَجَهُ الْبَزَّار وَأَشَارَ إِلَى صِحَّته وَرِجَاله ثِقَات , لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي عُبَيْد بْن الصَّبَاح مِنْهُمْ ([4]) . إن معالجة مواقف الغيرة من المرأة تحتاج إلى حكمة عالية ، وفي معالجة النبي صلى الله عليه وسلم لما فعلته أمنا عائشة رضي الله عنها ، وقوله : " غَارَتْ أُمُّكُمْ " ، ما يبين ذلك ، فإذا عُلم أن الغيرة في النساء أمرٌ مكتوب عليها ، فلابد أن يتعامل الرجل معه بفهم وحكمة ... وهذا من حسن العشرة . كما يجب على المرأة – أيضًا – أن تحدَّ من غيرتها ، وتصبر في مواقف يمكن أن تؤدي الغيرة فيها إلى أمور لا تحمد عقباها ... وهذا - أيضًا - من حسن عشرة المرأة لزوجها ؛ فحسن العشرة أمر مشترك يتبادل فيه الطرفان حسن التصرف في المواقف بأخلاق الإسلام .
لما كان الزوجان شريكين في الحياة كان الحوار بينهما من الأمور المطلوبة ، وقد كان النبي e يحاور نسائه ويشاورهم ، ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ e : إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلّا اضْطَجَعَ ([1]) . وفي رواية عند البخاري : كَانَ إِذَا صَلَّى فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلا اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلاةِ ([2]) . وعند أحمد : كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ اضْطَجَعَ ، فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَانَةً تَحَدَّثَ مَعِي ، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً نَامَ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ ([3]) . ففي الرواية الأولى أن ذلك بعد ركعتي الفجر ، وفي الروايات الأخرى أنه بعد صلاة الليل ، وكأنه e كان يتحين الوقت للكلام معها ، وهو ما ينبغي أن يفعله الزوج ، فالحديث فيه إيناس وإزالة وحشة ، وقد يكون فيه مداولة لأمور حياتية تهم الطرفين ؛ وقد مربك حديث أم زرع . وأما المشورة فتستحب فيما تحسنه المرأة من شئون بيتها أو أمر زواج بناتها ، وقد يكون في غير ذلك مما يمكن أن تشير فيه برأي صائب ؛ وقد أشارت أم سلمة - رضي الله عنها - على النبي e بأمر صائب أخذ به وكان فيه صلاح ؛ فبعد صلح الحديبية وما كان فيه بنود ، فلَمَّا فَرَغَ e مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ لأَصْحَابِهِ : " قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا " فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ ؛ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ : نَحَرَ بُدْنَهُ ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ ؛ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا ؛ حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ([4]) . فما أروعها من مشورة أتت بعظيم فائدة ... ولكن من مثل أمنَّا أم سلمة رضي الله عنها ؟ وأحسب أن في بعض النساء عقل وحسن مشورة أفضل من بعض الرجال ؛ والعلم عند الله تعالى .
من المعلوم وجوب صلة الرحم ، ومن هنا كان من حسن العشرة المتبادلة بين الزوجين توقير أقارب كلٍ ، والمعاونة على صلتهم حسب الاستطاعة ، وعدم إيصال سوء إليهم قولا كان أو فعلا ؛ وبخاصة الوالدين فإن حقهما بعد حق الله ورسوله e ؛ فليس من حسن العشرة أن يمنع الرجل زوجته من بر أبويها ؛ وليس من حسن العشرة أن تكون المرأة سببا في أن يقطع الرجل رحمه . وبالجملة فكل ما كان من حسن قول أو حسن فعال في قدرة الزوج أو الزوجة فعلى كل منهما أن يقوم به تجاه الآخر .
فائدة : روى البيهقي في شعب الإيمان عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن موسى الرازي قال : عُمل مجلس موسى بن إسحاق القاضي ، وقدمت امرأة تشكو زوجها إليه فادعت عليه مهرها خمسمائة دينار ، فأنكر الرجل ؛ فقال وكيل المرأة : قد أحضرت شهودي ، فقال واحد من الشهود : انظر إلى المرأة ، فقام وقامت ، فقال الزوج : يفعل ماذا ؟ ينظر إلى امرأتي ؟ قالوا : نعم ! قال : فإني أشهد القاضي أن لها علي مهرها خمسمائة دينار كلها ذهبا عينا مثاقيل ولا تسفر عن وجهها ، قالت المرأة : فإني أشهد القاضي أني قد وهبتها له ؛ قال القاضي : يكتب هذا في مكارم الأخلاق ([1]) .
فإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلِّلِ
قالت : فقام إلي النبي e وقبل بين عيني ، وقال : " جزاك الله يا عائشة عني خيرا ؛ ما سررت مني كسروري منك " ( [3] ) . ومعنى ( غُبَّرِ حَيْضَةٍ ) أي : بقايا حيضة ؛ والمُغْيَّلِ من الغيلة بكسر الغين ، وهو أن تغشى المرأة وهي ترضع ؛ والمعنى : أنها حملت به وهي طاهرة ليس بها بقية حيض ، ووضعته ولا داء به استصحبه من بطنها ، ولم ترضعه أمه غيلا ؛ وأسرة وجهه : خطوط جبهته ؛ والعارض من السحاب ما يعرض في جانب السماء ، والمتهلل المتلألئ بالبرق ؛ يقول : إذا نظرت في وجهه رأيت أسارير وجهه تشرق إشراق السحاب المتهلل بالبرق . وفي الحديث ما فيه من بيان الود والحب والملاطفة من السيدة عائشة - رضي الله عنها - ثم من ردِّ النبي e على ذلك ؛ مما ينبغي أن يكون عليه الزوجان .
[1] - انظر صحيح البخاري ( 3768 ) ، وصحيح مسلم ( 974 ) .
وهذا أمر قد يغفله كثير من الناس ، وفيه ما فيه من التواد والتحاب والتقريب بين الزوجين ؛ وقد فعله النبي e ؛ فعند أحمد وأبي داود وابن ماجة عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ e فِي سَفَرٍ قَالَتْ : فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ ؛ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي ، فَقَالَ : " هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ "( 1 ) . مسابقة ومداعبة وملاطفة . وقد قال e : " وَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ إِلا رَمْيَةَ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ ، وَمُلاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ " ( 2 ) .
ومن حسن المعاشرة معاونتها
في بعض أمور البيت
ومن حسن العشرة أن يساعد الرجل زوجه في بعض شئون البيت ، وفيه إشارة للعناية بها وتقدير ما تقوم به وأنه قريب منها ؛ وفي صحيح البخاري عَنْ الأَسْوَدِ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - مَا كَانَ النَّبِيُّ e يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ ؟ قَالَتْ : كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ ( 3 ). وفي رواية لأحمد : قِيلَ لِعَائِشَةَ : مَا كَانَ النَّبِيُّ e يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ ؟ قَالَتْ : كَمَا يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ ؛ وفي أخرى : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَخْصِفُ نَعْلَهُ ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ ، وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ( 4 ). وفي رواية : قَالَتْ: سُئِلْتُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ ؟ قَالَتْ : كَانَ بَشَرًا مِنْ الْبَشَرِ يَفْلِي ثَوْبَهُ ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ ( 5 ) وَزَادَ اِبْن حِبَّانَ " وَيَرْقَعُ دَلْوَهُ " ( 6 ) . قال ابن حجر - رحمه الله : وَفِيهِ التَّرْغِيب فِي التَّوَاضُع وَتَرْك التَّكَبُّر وَخِدْمَة الرَّجُل أَهْله ؛ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّف فِي الْأَدَب ( كَيْفَ يَكُون الرَّجُل فِي أَهْله ) ( 7 ) .
[1] - أحمد : 6 / 39 ، 280 ، أبو داود ( 2578 ) ، وابن ماجة ( 1979 ) .
[2] - جزء من حديث رواه أحمد : 4 / 144 ، 148 ، وأبو داود ( 2513 ) ، والترمذي ( 1637 ) وصححه ، والنسائي ( 3578 ) ، وابن ماجة ( 2811 ) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه .