صناعة القصص الديني كتاب قتلى القرآن للثعلبي انموذجاً

إنضم
03/02/2005
المشاركات
100
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الأحساء
صناعة القصص الديني
كتاب قتلى القرآن للثعلبي انموذجاً​


تعددت الأشكال القصصية في كتب الوعظ, وهذه الكتب في غالبها تدمج الخطاب الديني مع الخطاب الأسطوري العجائبي, ولعل أبا إسحاق الثعلبي (ت:427هـ) يعد من أهم المصنفين الذين اهتموا بأمر العجائبي والأسطوري في روايات قصص الأنبياء, وروايات الوعظ والتصوف, وهذا النوع من السرود الأدبية بحاجة لتفكيك وتحليل لإبراز العناصر المُشكلة لهذا الخطاب, وكشف البنية الثقافية التي أنتجت هذا النوع المؤدلج من القصص الديني.
سَأل عبد الله بن عروة بن الزبير جدته أسماء بنت أبي بكر  قال: كيف كان يصنع أصحاب رسول الله  إذا قرءوا القرآن؟
قالت: كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم، وتقشعرّ جلودهم.
قلت: فإنَّ ناساً ها هنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية.
قالت: أعوذ بالله من الشيطان.
لقد كانت استعاذة أسماء رضي الله تعالى عنها تحمل أبعاداً خطيرة ومن أهمها ما يلي:
الأول: نفي صفة الغشيان عن الصحابة  عند سماعهم للقرآن.
الثاني: أنَّ مثل هذه الحالات قد ظهرت بعد عصر الصحابة .
الثالث: إنكارها لهذه الممارسات التي لم يكن لها ذكر في العصور المفضلة, وأكد على هذا قتادة بن دعامة السدوسي (ت:117هـ) حينما قال عند قوله تعالى: "تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم" (الزمر:23) "هذا نعت أولياء الله, نَعَتَهم الله فقال: تقشعر جلودهم, وتبكي أعينهم, وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله, ولم ينعتهم الله بذهاب عقولهم, والغشيان عليهم, إنما هذا في أهل البدع, وإنما هو من الشيطان" تفسير عبد الرزاق (3/130).
إلاَّ أنَّ هذا الفعل –أعني الغشيان عند سماع القرآن- أخذ في التطور, وأصبح عند البعض علامة من علامات التأثر بكتاب الله تعالى, وسُجِّلت حالات أدى بها هذا السماع إلى الموت, فأصبحوا "قتلى القرآن"!!
وفي القرن الرابع الهجري قام أبو إسحاق أحمد الثعلبي (ت:427هـ) بتسجيل هذه الحالات في رسالةٍ سماها "قتلى القرآن", حيث قال في مقدمتها (ص:54): "هذا كتاب مشتمل على ذكر قوم هم أفضل الشهداء, وأشرف العلماء, نالوا أعلى المنازل, وأدركوا أسنى المراتب, وهم الذين قتلهم القرآن, لمَّا قرؤوه, أو سمعوه يُتلى".
ونظراً لفرادة وريادة هذه الرسالة أخذ العلماء في قراءتها وسماعها وأخذ الإجازة فيها, ويبدو أنَّ أبا الحسن الواحدي (ت: 468هـ) قد تأثر بكتاب شيخه الثعلبي فأخرج على غِراره "مقاتل القرآن".
والسؤال: هل هذه الحكايات -التي ربت على العشرين- كانت واقعاً حقيقياً, أم أنها نسيج وعاظ وأُسلوب قصاص قصدوا ترغيب الناس وحثهم على الخير؟!
أم أنَّها حالة واحدة صحيحة, ثم قيست ونسجت عليها نظائر أُخرى, لشخصيات عرفت بالولاية والصلاح!!
هذا ما سوف أُسلط الضوء عليه من خلال هذه المقالة العلمية التي تم تقسيمها إلى العناصر الآتية:
شخصية الثعلبي:
كان لشخصية الثعلبي دور كبير في كتابة هذه الرسالة, وذلك لما عُرِف عنه من الوعظ والديانة فهو يحمل روحاً شفافة, وأسلوباً رقيقاً في كتاباته, بعيداً عن الصَلَف والتشنُّج, وهذا ما شهد به بعض الذين ترجموا له:
فوصفه عبد الغفار الفارسي (ت:529هـ), والقفطي (ت:646هـ), واليافعي (ت:768هـ) بالواعظ.
وقال عنه الذهبي (ت:748هـ): "طويل الباع في الوعظ", وقال أيضاً: "واعظاً..متين الديانة".
وقال ابن تيمية (ت:728هـ): "هو في نفسه كان فيه خير ودين".
ومن المعلوم أنَّ من أهم الوسائل التي يستخدمها الواعظ أثناء ممارسته لعملية الوعظ هي ذكره للقصص والحكايات التي تُرَقِّق القلوب, وتسمو بالنفوس, وهذه واضحة في مؤلفات الثعلبي كتفسيره "الكشف والبيان", "وعرائس المجالس" وغيرهما.
ولعلَّ هذا راجع إلى بيئته نيسابور التي ولد ونشأ فيها حيث كانت مرتعاً خصباً, ومركزاً هاماً من مراكز التصوف في العالم الإسلامي آنذاك.
فلسفة العنوان:
اختار الثعلبي لكتابه عنواناً غريباً يجعلني أطرح سؤالاً:
هل القرآن الكريم يقتل؟!
أو هل يصح لنا أن نصف القرآن بالقاتل؟
قتلى: مفردها قتيل بمعنى مقتول, ولهذا نجد ابن فارس (ت:395هـ) (5/47) قال: "القاف والتاء واللام أصلٌ صحيح يدلُّ على إذلالٍ وإماتةٍ", فجعل كلمة القتل تأتي في سياق الإذلال, ولا يمكن للقرآن أن يذِّل عباده المؤمنين.
ولعلَّ شعرية العنوان جعلت الثعلبي –وهو الرقيق المرهف الحس- ينساب تجاهه ولا يتردد في إطلاقه على كتابه دون النظر في دلالاته!!
ويبدو أنه قد نظر له نظرةً مجازية, فهو من قتل المحبوب, وكما قالوا من الحب ما قتل!!
ويُحكى "أنه وجد مكتوباً على جبهة ذي النون المصري بعد موته: هذا حبيب الله, مات في حب الله, قتيل الله"/ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (2/50).
قتلى القرآن في بعض كتب الوعظ والتصوف:
تشهد هذه الحكايات حضوراً فاعلاً في المؤلفات الصوفية, خاصةً كتب التراجم, فهم يرون أن مثل هذه الحكايات تشُدُّ العزم, وتشحذُ الهمم, وهي جندٌ من جنود الله تعالى يُقوِّي بها قلوب المريدين كما قال ذلك الجنيد (ت:465هـ).
"وقد ظلت صورة الرجل التقي الورع الذي يَخِرُّ على الأرض مغشياً عليه من تأثير القرآن تتكرر في كتبهم لتصبح أنموذجاً ومثلاً أعلى يُحتذى به", بينما لا نجدها حاضرة في كتب التفسير أو الحديث!!
ومن أبرز هذه الكتب الآتي:
1ـ المحتضرين, لابن أبي الدنيا (ت:281هـ).
2ـ اللمع في التصوف, أبو نصر السَّرَّاج الطوسي (ت:387هـ).
3ـ تهذيب الأسرار, أبو سعد الخركوشي (ت:407هـ).
4ـ عقلاء المجانين, أبو القاسم ابن حبيب (ت:408هـ).
5ـ حلية الأولياء, أبو نعيم الأصبهاني (ت:430هـ).
6ـ مقاتل القرآن, أبو الحسن الواحدي (ت: 468هـ).
المكان:
يلاحظ أنَّ غالب هذه الحكايات تتأرجح في حدوثها بين البصرة وبغداد حيث "كانت بغداد والبصرة مختلفتين في أمر التصوف, كما كانتا مختلفتين في مسائل اللغة وعلم الكلام, فكانت بغداد أكبر مركز للمتصوفين, على حين كانت البصرة أكبر مركز للزهاد".
وكذلك نيسابور التي لا تقل أهمية عن البصرة وبغداد من ناحية اهتمامها بجانب السلوك والتصوف.
ويبدو لي أيضاً أنَّ هذه المناطق يختلط فيها العرب بالأعاجم -بشكل كبير- الذين يُقدسون الرموز الدينية إلى درجة الغلو فيها أحياناً.
كما يُلاحظ أنَّ غالب هذه الحكايات تكون في المسجد فترة خلوه من المصلين أحياناً, أو في البيت, أو في الصحراء, أو في خَرِبَة ونحو ذلك, وهي أماكن بعيدة عن أنظار الناس, فلم تقع هذه الحوادث في السوق مثلاً أو في الطريق أو في حمام السوق ونحو ذلك من الأماكن التي يكثر فيها الناس, ويجتمعون حولها!!
صيغة السرد:
يُلاحظ على أسلوب هذه الحكايات: البساطة والسهولة في سرد الحكاية؛ لأنَّها موجهة بالدرجة الأولى إلى عامة وجمهور الناس, فهي لا تقوم على مخطابة العقل والفكر, بل تخاطب الروح والعاطفة, ولهذا من السهل جداً أن يستطيع من له أدنى علم استخراج التركيب والصنعة التي نسجت به الحكاية.
كما أنَّ الشكل الذي تدور حوله هذه الحكايات لا يتجاوز ثلاثة أو أربعة عناصر (المُرسل/ المتلقي/ المادة المتلقاة/ النتيجة أو الاستجابة), فحكايات الثعلبي غالبها إن لم يكن كلها تقوم على هذه العناصر, والجدول الموضح رابطه أدناه يثبت ذلك.
http://store2.up-00.com/Sep13/G1N90388.jpg
وهذا الشكل يجعل الأمر سهلاً على القصاص من إيجاد وخلق حكاياتٍ جديدة مشابهة يقوم بنائها على العناصر الأربعة, التي لا تتغير وإن زيد عليها نصوصاً وإضافات هي أشبه ما تكون بالحواشي.
والسؤال الذي يغزو الذهن بقوة حين قراءة هذه القصص, هل هذه هي المرة الأولى لهم في تلاوة هذه الآية التي لم تحتملها أنفسهم؟!
أم أنَّ هناك حالة معينة تلبستهم في تلك اللحظة جعلتهم يصبحوا في عِداد الموتى؟!
وأختم هذه المقالة بالقول أنَّ القرآن الكريم لم ينزل إلا هداية للناس, ورحمة بهم, وشفقة عليهم, فإذا سمعه المؤمن بتدبر ازداد إيماناً وتأثراً فعمل الصالحات وازداد من الطاعات.
قال أبو سليمان الخطابي (ت:388هـ) في رسالته إعجاز القرآن (ص:70): "في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلاَّ الشاذ من آحادهم, وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس, فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً, إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال, ومن الروعة والمهابة في أُخرى ما يخلص منه إليه, تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور, حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق, وتغشاها الخوف والفرق, تقشعر منه الجلود, وتنزعج له القلوب, يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها, فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعموا آيات من القرآن, فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول, وأن يركنوا إلى مسالمته, ويدخلوا في دينه, وصارت عداوتهم موالاة, وكفرهم إيماناً".
 
عودة
أعلى