صناعة الفتوى وفقه الأقليات......... للعلامة عبدالله بن بيه

إنضم
17/04/2005
المشاركات
23
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
صناعة الفتوى وفقه الأقليات [الحلقة الأولى]

الشيخ العلامة/ عبد الله بن بيه 15/10/1426
17/11/2005


الحلقة الأولى:
خطر الفتوى وآداب الإفتاء ومسئولية المفتي:
حكم الفتوى الوجوب كفائياً فهو فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن البعض الآخر شأن فروض الكفاية ولكنها تجب عيناً إذا كان الفقيه مؤهلا ولم يوجد مفت غيره.
قال السيوطي في كتاب آداب الفتيا: باب وجوب الفتيا على من يتأهل لذلك وتحريم أخذ العوض عنه" أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة وإنه لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاّعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم)
فالفتوى لها شأن عظيم في الإسلام، فهي خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى ، فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم ولهذا ورد الوعيد.
ففي حديث الدارمي عن عبيد الله بن جعفر مرسلاً: "أجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ".
وأخرج الدارمي والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" مَنْ أُفْتِيَ بِفُتْيا مِنْ غَيرِ تَثَبُتِ فَإِنَمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ".
وأخرج البيهقي عن مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوأْ بَيْتاً فِي جَهَنَم ومَنْ أَفْتَى بِغَيَّرِ عِلْمِ كَانَ إِثْمُه عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ ومَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرِ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ" سنن البيهقي الكبرى.
وأخرج الشيخان عن ابن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" إنَّ الله لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمُ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُساً جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيرِ علْمِ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا".
وأخرج سعيد بن منصور في سننه و الدارمي و البيهقي في المدخل عن ابن عباس قال:" مَنْ أفْتَى بِفُتْيا وهُو يٌعْمِي فيها كان إِثْمُها عَلَيه".
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أَشَدُ النَّاسِ عَذَاباً يَومَ القِيامَةِ رَجُلُ قَتلَ نَبِياً أو قَتَلَهُ نَبِيُّ أو رَجُلُ يُضِلُ النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ أو مُصَورُ يُصَورُ التَّمَاثِيلَ".(المعجم الكبير 10 / 211)
وفي أثر مرفوع ذكره أبو الفرج وغيره " مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ لَعَنَتْهُ مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ومَلائِكَةُ الأَرْضِ".
وكان المفتون الصالحون يخافون الفتوى فيستخيرون ويدعون قبل أن يفتوا.
ذكر ابن بشكوال في كتابه الصلة في تاريخ أئمة الأندلس أن عبد الله بن عتاب كان يهاب الفتوى ويخاف عاقبتها في الآخرة ويقول:
من يحسدني فيها جعله الله مفتياً، وإذ رُغِب في ثوابها وغبط بالأجر عليها يقول: وددت أني أنجو منها كفافاً لا علي ولا لي ويتمثل بقول الشاعر:
تُمَنُونِيَّ الأَجْرَ الجَزِيلَ ولَيْتَنِي
نَجَوْتُ كَفَافاً لا عَلَيَّ ولا لِيَا

وقال أحمد بابا التنبكتي وهو يتحدث عن فترة مقامه بمراكش بعد محنته:.. (وأفتيت بها لفظاً وكتباً بحيث لا تتوجه الفتوى فيها غالباً إلا إليَّ وعينت إلي مراراً فابتهلت إلى الله تعالى أن يصرفها عني).
وكان ثابت البناني يقول إذا أفتى: قد جعلت رقبتي جسراً للناس.ثم ترك الفتوى. ذكر ذلك الزمخشري في ربيع الأبرار.
أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي عن ابن مسعود قال: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون.

آداب الفتيا:
وللفتوى آداب يجب أن يتحلى بها المفتي نسوقها فيما يلي:
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال :
أوّلها: أن تكون له نيّة فإن لم تكن له نيّة لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة. الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية "أي من العيش" وإلاّ مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس ( أعلام الموقعين4/199).
المفتي المستبصر:
لقد أشار المقري إلى نصائح للمفتي تصلح أن تندرج في الضوابط : إيّاك ومفهومات المدونة فقد اختلف الناس في القول بمفهوم الكتاب والسنّة فما ظنّك بكلام الناس .. إلى قوله .. ولا تفتِ إلاّ بالنَّص إلاّ أن تكون عارفاً بوجوه التعليل ، بصيراً بمعرفة الأشباه والنظائر ، حاذقاً في بعض أصول الفقه وفروعه إما مطلقاً أو على مذهب إمام من القدوة ، ولا يغرّك أن ترى نفسك أو يراك الناس حتى يجتمع لك ذلك والناس العلماء ، واحفظ الحديث تقوى حُجَّتك ، والآثار يصلح رأيك والخلاف يتسع صدرك ، واعرف العربية والأصول وشفّع المنقول بالمعقول والمعقول بالمنقول.(المعيار 6/377").
قال الشاطبي: المفتى البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلفِ الحملُ على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.
وأيضاً: فإن هذا المذهب كان المفهومَ من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل.
وقال لمعاذ لمَّا أطال بالناس في الصلاة :"أفتان أنت يا مُعاذ ؟". وقال: "إن منكم مُنَفِّرين".
وقال:"سَدِّدوا وقارِبوا واغدُوا ورُوحوا وشيءُ من الدُّلْجة والقصدَ القصدَ تَبلُغُوا." وقال: "عَلَيْكُم مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فإنَّ اللهَ لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا". وقال: "أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاومَ عَلَيْهِ صَاحِبُه وإِنْ قَلَّ".
ورد عليهم الوصال. وكثير من هذا.
وأيضا: فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق. أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا.
لأن المستفتي إذا ذٌهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ، وأدى إلى الانقطاع عن السلوك طريق الآخرة وهو مشاهد.
وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة.
و الشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، وإتباع الهوى مهلكة. والأدلة كثيرة.(الموافقات 5/277)
قال الشيخ أبو بكر الحافظ رحمه الله قلت: وينبغي أن يكون قوي الاستنباط، جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، وأخ استثبات وترك عجلة، بصيراً بما فيه المصلحة، مستوقفا بالمشاورة، حافظ لدينه، مشفقاً على أهل ملته.
مواظباً على مروءته حريصاً على استطابة مأكله فإن ذلك أول أسباب التوفيق. متورعاً عن الشبهات صادفاً عن فاسد التأويلات صليباً في الحق دائم الاشتغال بمعادن الفتوى وطرق الاجتهاد.
ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة. واعتوره دوام السهر، ولا موصوفاً بقلة الضبط منعوتاً بنقص الفهم معروفا بالاختلال يجيب عما يسنح له ويفتي بما خفي عليه.( الفقيه والمتفقه 2/158)
قلت: ما ذكره الشيوخ الثلاثة المقري والشاطبي وأبو بكر الحافظ هو المفتي المستبصر الذي يجب الحرص على إيجاده في حياة الأمة.
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله عن المفتين الجهلة: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مُداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
قال ابن القيم: (الفائدة الثالثة والثلاثون: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً.
وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟) ( إعلام الموقعين 4/166)
قال ابن عابدين: فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك لا ينبغي للمفتي أن يفتي بمجرد المراجعة من كتاب وإن كان ذلك الكتاب مشهوراً.
قلتُ: نعم هو كذلك:

لا تَحْسَبِ الفِقه تَمْراً أنْتَ آكِلُه
لَنْ تَبْلُغِ الفِقْهَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَبْرَا

إذ لو كان الفقه يحصل بمجرد القدرة على مراجعة المسألة من مظانها لكان أسهل شيء ولما احتاج إلى التفقه على أستاذ ماهر وفكر ثاقب باهر.
لَوْ كَانَ هَذَا العِلمُ يُدركُ بالمُنى مَا كُنْتَ تُبصِرُ في البَرِيِّةِ جَاهِلا
فكثيراً ما تذكراً المسألة في كتاب ويكون ما في كتاب آخر هو الصحيح والصواب. وقد تطلق في بعض المواضع عن بعض قيودها وتقيد في موضع آخر.
ولهذا قال العلامة ابن نجيم في ما نصه: ومن هنا يعلم كما قال ابن الغرس رحمه الله تعالى إن فهم المسائل على وجه التحقيق يحتاج إلى معرفة أصلين: أحدهما: أن اطلاقات الفقهاء في الغالب مقيدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للأصول والفروع وإنما يسكتون عنها اعتماداً على صحة الفهم الطالب.
والثاني: أن هذه المسائل اجتهادية معقولة المعنى لا يعرف الحكم فيها على الوجه التام إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بني عليه وتفرع عنه وإلا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة المبنى ومن أهمل ما ذكرناه حار في الخطإ والغلط.
وقال في البحر من كتاب القضاء عن التتارخانية : وكره بعضهم الإفتاء والصحيح عدم الكراهة للأهل ولا ينبغي الإفتاء إلا لمن عرف أقاويل العلماء وعرف من أين قالوا فإن كان في المسألة خلاف لا يختار قولاً يجيب به حتى يعرف حجته وينبغي السؤال من أفقه أهل زمانه فإن اختلفوا تحرى.( رسائل ابن عابدين 316).
مسؤولية المفتي:
ولهذا ضمن العلماء غير المجتهد إن انتصب أي ضامناً لما أتلفه من نفس ومال قال الزرقاني في شرحه لخليل: لا شيء على مجتهد أتلف شيئا بفتواه ويضمن غيره إن انتصب و إلا فقولان وأغلظ الحاكم على غير المجتهد وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال فيسقط عنه الأدب وينهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلا.(الزرقاني 6/138)
قال ابن القيم : الفائدة الحادية والأربعون: إذا عمل المستفتي بفتيا مفت في إتلاف نفس أو مال ثم بان خطؤه قال أبو إسحاق الاسفرائني من الشافعية : يضمن المفتي إن كان أهلا للفتوى وخالف القاطع وإن لم يكن أهلا فلا ضمان عليه لأن المستفتي قصر في استفتائه وتقليده.
ووافقه على ذلك أبو عبد الله بن حمدان في كتاب:"آداب المفتى والمستفتي" له ولم أعرف هذا لأحد قبله من الأصحاب ثم حكى وجهاً آخر في تضمين من ليس بأهل قال: لأنه تصدّى لما ليس له بأهل وغر من استفتاه بتصديه لذلك. (4/173)
وفي المسألة كلام طويل نكتفي منه بما ذكرنا وهو يدل على ما وراءه إلا أنه يمكن أن نستخلص:
- أن المفتي لا بد أن يكون عالماً مستبصراً
- أن يكون ذا ديانة.
ومن شروط الكمال أن يكون ذا أناة وتؤدة متوخياً الوسطية بصيراً بالمصالح وعارفاً بالواقع متطلعاً إلى الكليات ومطلعاً على الجزئيات موازناً بين المقاصد والوسائل والنصوص الخاصة، ذلك هو الفقيه المستبصر.
وأن على الجهات المختصة أن تردع ويمنع غير الأهل من الفتوى، وأن ضمان المفتي قد يكون وجيهاً، إذا أصر على الفتوى، وألحق الأذى بالناس، وكان لا يرجع إلى نص صريح بفهم صحيح، أو إجماع، أو قياس عار عن المعارضة، أو دليل راجح وليس مرجوحاً في حالة التعارض كما أشار إليه الأصوليون قال في مراقي السعود :

تَقْويةُ الشَِّق هِيَ التَّرْجيحُ
وَأوْجَبَ الأَخْذَ بِهِ الصَّحيحُ

وإذا عمل بالمرجوح فلا بد من توفر شروط العمل من مصلحة تبتغى أو مفسدة تنفى.
فهل عرض مفتوا الشاشات –وما أبرئ نفسي-أنفسهم على هذه الآداب؟

[align=center]http://www.binbayyah.net[/align]
 
صناعة الفتوى وفقه الأقليات [الحلقة الثانية]

صناعة الفتوى وفقه الأقليات [الحلقة الثانية]

صناعة الفتوى وفقه الأقليات [الحلقة الثانية]

الشيخ العلامة/ عبد الله بن بيه 25/10/1426
27/11/2005



قد يكون من المناسب في بداية هذه الحلقات أن نتحدث عن معنى "الصناعة" التي وردت في عنوانها حيث إن مفهوم الصناعة ليس متداولاً في مجال الفتوى وميدان إصدار الأحكام الشرعية ولهذا فقد استشكل بعض زملائنا هذا العنوان موعزاً بتغييره إلى مصطلح يناسب الفتوى ويلائم البحوث الشرعية ولكن الأمر مختلف -حسب رأينا– فالفتوى صناعة لأن الصناعة عبارة عن تركيب وعمل يحتاج إلى دراية وتعمل فهي ليست فعلا ساذجاً ولا شكلاً بسيطاً بل هي من نوع القضايا المركبة التي تقترن بمقدمات كبرى وصغرى للوصول إلى نتيجة هي الفتوى إذاً فالفتوى منتج صناعي ناتج عن عناصر عدة منها الدليل ومنها الواقع والعلاقة بين الدليل بأطيافه المختلفة التي تدور حول النص وبين الواقع بتعقيداته.
قال السبكي في الإبهاج : وقد يطلق العلم باصطلاح ثالث على الصناعة كما تقول :علم النحو أي صناعته، فيندرج فيه الظنُّ واليقين، وكل ما يتعلق بنظر في المعقولات لتحصيل مطلوبٍ يُسمى علماً ويُسمى صناعة.
وعلى هذا الاصطلاح لا يرد سؤال الظنِّ لكنهم كلهم أوردوه فكأنهم لم يريدوا هذا الاصطلاح، أو أرادوه ولحَظوا معه معنى العلم في الأصل، ويطلق النحاة العلم أيضا على المعرفة.(الإبهاج2/79)
وقال ابن رشد الحفيد في كتابه الضروري في علم الأصول وهو يتحدث عن صناعة الفقه وأصوله في مقدمته:
وإما معرفة تعطي القوانين والأحوال التي بها يتسدد الذهن الصواب في هاتين المعرفتين كالعلم بالدلائل وأقسامها وبأي أحوال تكون دلائل وبأيها لا وفي أي المواضع تستعمل النقلة من الشاهد إلى الغائب وفي أيها لا. وهذه فلنسمّها سباراً وقانوناً فإن نسبتها إلى الذهن كنسبة البركار والمسطرة إلى الحس في ما لا يؤمن أن يغلط فيه.
وبين أنه كلما كانت العلوم أكثر تشعباً والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور لم يضطر إليها من تقدمهم كانت الحاجة فيها إلى قوانين تحوط أذهانهم عند النظر فيها أكثر.
وبين أن الصناعة الموسومة بصناعة الفقه في هذا الزمان وفي ما سلف من لدن وفاة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وتفرق أصحابه على البلاد واختلاف النقل عنه –صلى الله عليه وسلم- بهاتين الحالتين ولذلك لم يحتج الصحابة رضي الله عنهم إلى هذه الصناعة كما لم يحتج الأعراب إلى قوانين تحوطهم في كلامهم ولا في أوزانهم.
وبهذا الذي قلناه ينفهم غرض هذه الصناعة ويسقط الاعتراض عليها بأن لم يكن أهل الصدر المتقدم ناظرين فيها وإن كنا لا ننكر أنهم كانوا يستعملون قوتها وأنت تتبين ذلك في فتواهم رضي الله عنهم بل كثير من المعاني الكلية الموضوعة في هذه الصناعة إنما صححت بالاستقراء من فتاويهم في مسألة مسألة.( الضروري 35)
قال الشاطبي في الاعتصام: وأما تقديم الأحداث على غيرهم، من قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم، كان ذلك التقديم في رتب العلم أو غيره، لأن الحدث أبداً أو في غالب الأمر غر لم يتحنك، ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ العلماء الراسخين الأقدام في تلك الصناعة، ولذا قالوا في المثل:
وابنُ اللبُونِ إذَا مَا لُزّ في قَرَن لَمْ يَسْتَطِعْ صَولَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ.(الاعتصام2/95)
قال أبو الأصبغ عيسى بن سهل : كثيراً ما سمعت شيخنا أبا عبد الله بن عتاب رضي الله عنه يقول : الفُتيا صنعة وقد قاله أبو صالح أيوب بن سليمان بن صالح رحمه الله قال: الفتيا دربة وحضور الشورى في مجالس الحكام منفعة وتجربة.
وقد ابتليتُ بالفتيا فما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه سلمان بن أسود وأنا أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن .. والتجربة أصل في كل فن ومعنى مفتقر إليه.( المعيار 10/79)
وتكلم ابن خلدون عن الصناعة باعتبارها ملكة راسخة في النفس.
وابن العربي في المحصول والغزالي في المستصفى وغيرهم من كبار العلماء.
ووجه كون الفتوى صناعة أن المفتي عندما ترد إليه نازلة يقلب النظر أولا في الواقع وهو حقيقة الأمر المستفتى فيه إن كان عقداً من العقود المستجدة كيف نشأ وما هي عناصره المكونة له كعقود التأمين والإيجار المنتهي بالتمليك مثلا والديون المترتبة في الذمة في حالة التضخم فبعد تشخيص العقد وما يتضمنه.
عندئذ يبحث عن الحكم الشرعي الذي ينطبق على العقد إن كان بسيطاً وعلى أجزائه إن كان مركباً مستعرضاً الأدلة على الترتيب من نصوص وظواهر إن وجدت و إلا فاجتهاد بالرأي من قياس بشروطه واستصلاح واستحسان إنها عملية مركبة وصنعة بالمعنى الآنف كما سترى.
وباختصار فإن مرحلة التشخيص والتكييف للموضوع مرحلة معقدة وكذلك مرحلة تلمس الدليل في قضايا لا نص بخصوصها ولا نظير لها لتلحق به.
وسنرى من خلال مباحث هذا الكتاب كيف تطورت صناعة الفتوى من عهد الصحابة إلى عهود الأئمة المجتهدين والفقهاء المقلدين لا من حيث تطبيق النصوص أو الأدلة على القضايا ولكن أيضا من حيث التوسع في الاستدلال والتعامل مع عامل الزمان كمرجح في ميزان معادلة النص والواقع في جدليتي المقاصد الكلية العامة والأحكام الجزئية الخاصة.
هذا التطور المتدرج في خطوط متعرجة لم يقتصر على الدليل والواقع وإنما شمل أيضا القائم على الفتوى الذي لم يعد المجتهد المطلق على ما سنصف بل يصبح طبقاً لقانون الضرورة والحاجة الفقيه المقلد الناقل.
ويصبح اختيار المقلدين بمنزلة اجتهاد المجتهدين فيما سماه المالكية "بإجراء العمل" لترفع القول الضعيف إلى مرتبة القوي والرأي السقيم إلى درجة الاجتهاد الصحيح بناء على مصلحة متوخاة أو مفسدة متحاماة.
ذاك ما سميناه صناعة الفتوى.
 
عودة
أعلى