صفحات من كتاب يوسف أيها الصديق (3)

هاني درغام

New member
إنضم
28/12/2009
المشاركات
377
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
مصر
5- يوسف فى السجن (الآيات35 - 57)
بعدما رأى العزيز وبطانته علامات براءة يوسف من قد القميص وشهادة الشاهد وقطع الأيدى قرر سجن يوسف كتماناً للقصة ألا تشيع .
وعدم تحديد مدة السجن دل بصورة غير مباشرة على براءة يوسف من أية جريمة توجب قصاصاً معلوماً حده وأمده ... وكثيراً ما يلجأ الظالمون فى كل زمان إلى مثل هذه العقوبة فى التخلص من الأبرياء وزجهم فى السجون وتغييبهم فيه إلى أجل غير مسمى تبعاً لأهوائهم ... وقد هدفوا من السجن أن يكون :
• مخرجاً لهم (يُعاقب فيه البرئ بجريرة المذنب) .
• يُغاب فيه الأمر وتُطوى الصفحة ويُنسى الموضوع ... واتبعوا المثل القائل (الباب الذى يأتى منه الريح سده واستريح) .
أما بالنسبة لحكمة الله فى تدبيرأمر يوسف فقد كان السجن :
• خلاص يوسف من كيدهن .
• سبباً لتفعيل مهمته الأولى والأساسية فى الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته .
• باباً يعرج منه إلى التبرئه والعزة والكرامة والتمكين فى الأرض ... ومن ثم لقاء أهله
وهكذا فقد كان السجن ليوسف واحة الخلاص وبرالأمان وشاطئ السلامة لقد أراحه السجن من أكبر شئ خافه وحذره وفر منه ... الخروج من الطاعة والسقوط فى هاوية المعصية ... ومن الحق إلى الباطل ومن العدل إلى الظلم ... ومن القرب إلى البعد ... ومن الرضا إلى السخط ... و كان هذا يعنى له وهوالمخلص المجتبى الشئ الكثيرالخطير والذى لا يعرفه ولا يفهمه إلا من كان على هداه .
وقد كان الجب أيضاً خلاصاً ليوسف من كيد إخوته وقصدهم إبعاده بأية وسيلة ولوبقتله وكان راحة له من الآثار النفسية لطفل يترعرع بين إخوة مجتمعين على كراهيته وحسده وباباً للتمكين فى الأرض ومفتاحاً لأبواب من الحكم والعلم وتأويل الأحاديث والنبوة من بعد وتكريماً لا يقدر بثمن بالمعية الإلهية والوحى الربانى الذى لا يعادله شئ .

لقد اختارالله (السجن) و(الجب) و(السيارة) ... وهى نفس الأسباب التى اختارها الكائدون وكان يمكن أن ينجيه منها ويختار له غيرها ... ليؤكد على أن العبرة فى المسبب للأسباب (الفاعل المختار) وليست فى الأسباب ذاتها وهكذا كاد الله خيراً بالجب والسجن خيراً ... ومن قبل لأبيه ابراهيم بالنار فقلبها برداً وسلاماً (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً) (الطارق 15 - 16) .

لقد جعل الله السجن لعبده الصادق الصابر المخلص المحسن :
• إيناساً فى الدخول
• إكراماً فى المقام
• إعزازاً فى الخروج

1. إيناساً فى الدخول : (الآية36)
استهل القرآن مشهد السجن بدخول يوسف فيه وبمعيته سجينان والحكمة من ذلك :
• إيناس يوسف البرئ فى رهبة دخوله السجن لأول وهلة ولأول مرة .
• إيناس يوسف وتيسير وظيفته فى الدعوة إلى الله فى مجتمع متآلف متقارب فالثلاثة فتية فى صفتهم الإجتماعية المهنية (يوسف فتى فى بيت امرأة العزيز... والصاحبان فتيان فى قصرالملك"ساقيه وصاحب طعامه السفرجى") وفى السن ودخلوا جميعاً فى نفس الوقت وجنباً إلى جنب .
وهكذا نرى معية الله تعالى مسبب الأسباب الحكيم العليم من بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله ...نرى هذه المعية الرحمانية ليوسف موصولة دائماً :
فى البيت رغم كيد الأخوة ... فى الجب رغم الغيابات والوحشة ... فى السجن رغم العذاب والعزلة ... فجعل الله له فى البيت رؤيا تكشف له الدرب وأباً حكيماً ينير له السبيل ... ومن الجب منيرة بالوحى ... ومن السجن واحة عامرة بالأنس ومدرسة للدعوة والتعليم والهدى والإرشاد (أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) (يونس 62 -63) .

2. إكراماً فى المقام (الدعوة إلى الله) : (الآيات37-41)
بعد أن استقروا جميعاً فى السجن ومكثوا فيه زماناً تعايشوا فيه وتآنس بعضهم إلى بعض فيه (قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) .
وهكذا... جاءت شهادة الفتيين شريكى يوسف فى السجن لتترجم عملياً على أرض الواقع ما ذكره الله من قبل وحكم به بسابق علمه على يوسف عندما قال فيه (وكذلك نجزى المحسنين)
لقد شهد بشهادة الله فى إحسان يوسف كل من خالطهم يوسف من الأعداء أوالأصحاب (والده – امرأة العزيز – النسوة – صاحبا السجن – الملك – الأخوة )... وكفى بالله شهيدا .

( قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّى إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ* يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)

وعلى الفور أجابهما يوسف مقدماً بين يديه التعريف بنفسه لا على الفخر والعجب بل ليكون حجة ودليلاً على صدق كلامه ... مؤكداً لهما صواب رؤيتهما فيه وفى أنهما سألا عالماً وأصابا هدفاً مستقيماً مبرهناً على ذلك بأمثلة عينية حسية كإنبائهم الساعة بما سيرزقانه من طعام فى الغيب المستقبلى ... وبعد أن عرف بعلمه كدليل شاهد على صدقه رد كل علمه إلى تعليم ربه إياه وتبرأ من حظ نفسه بالكلية وأرجع الفضل كله إلى مولاه .

وبدأ يوسف التعريف بالله سبحانه وتوجيه الأنظار إليه والتنبيه إليه ومن ثم الدعوة إليه مبتدأًًًًًًًً بصفة الربوبية وذلك أن صفات الربوبية هى أول ما يعرف الله بها نفسه لعباده فيعرفوه بها من تجلى صفاتها عليهم وعلى الكون كله فيحبوه ويؤمنوا به رباً منعماً واهباً أهل للشكر بالثناء والعرفان ... ومن ثم ليعرفوه من خلال كتبه ورسله فيحبوه ويؤمنوا به إلهاً واحداً قاهراً حكيماً مالكاً عادلاً أهل للشكر بالعبادة والطاعة له وحده .
ثم انتقل يوسف بالحكمة فى التدرج فى الالخطاب والارتقاء من دائرة التعريف الربانى إلى دائرة التعريف والتكليف الإلهى (التعريف بدين الله) فقال (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرةِ هُمْ كَافِرُونَ) .

وهكذا فقد قدم يوسف بمقدمة جمع فيها ولخص أساسى الدين والعقيدة :
• إيمان بالله أولاً .
• إيمان بالآخرة آخراً وتبعاً لازماً مرتبطاً بالأول لا ينفك عنه ولا ينفصل .
وبذلك أرسى يوسف القاعدتين الرئيسيتين لجميع أشكال وألوان الكفر إما بهما جميعاً أو بواحدة منهما :
• فإنكارالآخرة والكفر بها يجعل الإيمان بإله معبود واتباع تكاليفه أمراً عبثياً لا معنى ولا دافع له .
• وإنكارالله وعدم الإيمان به يجعل الآخرة وهماً لا حقيقة له فجميع الآلهة المزعومة لا قدرة لها على خلق ذبابة ... فكيف تخلق النشأة الآخرة بميزاتها وجناتها ونيرانها ؟
وبعد أن عرف ملة الكفر وأبطلها ... بدأ التعريف بضدها ملة الإيمان وحقها فقال : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ).
وذكر يوسف آباءه لا على سبيل الفخر بالأنساب والعصبية ... بل ليقدمهم شواهد تاريخية وأمثلة حية واقعية فهم أعلام النبوة ومنارات القدوة ونجوم الهدى .
وهكذا حدد يوسف الأصل فى الدين فى الإيمان بالله وحده ... كما حدد المنهج المستقيم فى الدعوة إليه : ( إنى تركت ملة ... واتبعت ملة ... ) الترك أولاً (التخلية) ... والاتباع آخراً (التحلية) ومن خالف الترتيب ضل الطريق المستقيم .
فإذا لم يتخل الإنسان عن كل فساد رأى وهوى تماماً وإذا ما بقى منها ولوالقليل فهى إما:
• أن تكون سبباً مانعاً من التوجه إلى الحق واتباعه ... كما منع تكبرفرعون وصناديد قريش من الإيمان واتباع الحق وقد استيقنته أنفسهم(وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) (النمل 14) .
• أن تكون سبباً للمضاهاه بأن يحملوا شيئاً من فساد القديم فيخلطوه بالحق القويم كما ضاهأ فُُساق أهل الكتاب الذين كفروا من قبل فأدخلوا فى الدين شيئاً من أفكار وطقوس الوثنية السابقة ومعتقداتها فأنشأوا ديناً جديداً بشرياً فيه خليط من الحق والباطل ... ومن الكفروالإيمان ومن الرجس والطهارة ودين الله الحق الصافى لا يقبل أن يخالطه أدنى نجس .
ثم بين يوسف أن سبب التخلى عن ملة الكفر والفساد والتجرد منها بصورة تامة وذلك التحلى بملة الإيمان الخالص الطاهر الذى لا شرك فيه البتة هوأيضاً من فضل الله ونعمته علينا وعلى الناس جميعاً (ولكن اكثر الناس لا يشكرون ) .
• الأكثرية من الناس لا يشكرون نعمة الله عليهم مع أن شكرهم ينفعهم هم والله غنى عنهم ولن يزيد ذلك فى ملكه شيئاً ... وكفرهم يضرهم ولن ينقص ذلك فى ملكه شيئاً .
• الأكثرية من الناس لا تشكرعطاء الربوبية فتتعرف على الرب المنعم وتثنى عليه بما هو أهله بل تجحده وتنسب الفضل إلى غيره ومن ليس أهله .
• الأكثرية من الناس لا تشكر عطاء الألوهية فتتعرف على منهاجه الرشيد وتستقيم فى حياتها على صراطها المستقيم بل تنكره وتتيه فى سبل معوجة ومناهج جاهلية وتتبع أحكاماً طاغوتية وتزيينات شيطانية .
• الأكثرية من الناس يؤثرون العاجلة على الآخرة والفانية على الباقية واللذة العارضة على السعادة الدائمة .
وهكذا علمنا يوسف أن الأكثرية الضالة ليست حجة للحق ولا دليلاً عليه فالحق لا يدور مع الناس بل هو قبلة يجب على العاقل الذى يبتغى الوصول أن يتجه إليها
والحق ليس له إلا مصدر واحد يعرضه ويحقه ... إنه الله ... هوالحق ... ووعده الحق ... كل أمر منه فهو حق ولا حق إلا منه .
لقد كانت الديموقراطية لعبة شيطانية ماكرة يقصد بها :
• إلباس الباطل ثوباً زائفاً من الحق ... ثوب الأكثرية النسبية العددية .
• قلب الأمور فيصير الحق باطلاً والباطل حقاً ... وإزاحة الحق عن موقعه وإبداله بالباطل تحت ستار من الخديعة والدجل بالأكثرية الصوتية أولم تكن أصوات قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون وكفار قريش أكثرعدداً وأعلى صراخاً ؟
وهكذا فقد قطع يوسف الطريق على صاحبيه أن يقولا : إنا وجدنا الناس (أكثرهم) على ملة فاتبعناها على أنها الحق ... وأرشدهما إلى الصواب والحق وأسقط حججهما وأعذارهما وهى ما زالت فى سرائرهما قبل أن تصل إلى أفواههما .
بعد أن عرف يوسف نفسه كداعيه ... ورسالته كدعوة ... بدأ بذكرحقائق الدين الرئيسية وأصوله الأساسية فقال( يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌأَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
حقاً ... إن هذه الأسماء الجوفاء ما كان لها أن تصعد هذا المرتقى الجلل لولا الذين سموها وأفاضوا عليها هذه المسميات سواء كانت أصناماً حجرية أوأبقاراً حيوانية أوكواكب فضائية أوشجراً أوناراً أوطواغيت وفراعنة .

إن الناس هم الذين يسمون آلهتهم المزيفة ويخترعونها ... ثم ينادون بها ويصدقون ما زيفوا فيعبدونها ...يعبدون الشيطان والهوى الذين يوسوسان فى صدورهم .
ولقد سمى الناس آلهتهم (اللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى ... وودا وسواع ويغوث ويعوق ونسرا ) ... وسمى أناس أميرهم فرعوناً وألهوه واستخف فرعون قومه فأطاعوه ... ولو لم يفعلوا ذلك بداية أوامتنعوا عن العبادة والطاعة ما كان لطاغوت أن يتأله ولا لفرعون أن يتفرعن ... فهذه الآلهة التى اخترعها الناس وعبدوها لا حقيقة ولا سلطان لها ولا دليل ولا برهان من منطق عقلى سليم .
إن السلطان الغالب والبرهان المبين إنما يأتى من الله الحق وحده(إن الحكم إلا لله )
إن الحاكمية لله وحده حقيقة إيمانية على كل مكلف الإيمان بها والتسليم لها والخضوع لها :
• تشريعاً : بما أنزل الله من كتاب وأوحى إلى الرسول(وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) (الرعد37)
• تنفيذاً ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ) (الأعراف 54)... والوالى القائم بها خليفة عن الله خاضع له ينفذ أمره ويمضى حكمه .
• قضاءً : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة 44) .
هذه هى الحقائق الإيمانية الأساسية لأصول الدين القيم (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

ثم شرع يوسف فى تأويل رؤيا صاحبيه فقال( يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) .
ثم طلب يوسف من ساقى الملك أن يذكرأمره للملك (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) .
والضمير فى أنساه يرجع إلى ساقى الملك .
وهكذا فقد جعل الله ليوسف السجن خلوة معه ومرحلة تحضيرية ودورة تدريبية تهيئة للمهام الكبيرة التى سيقوم بها من بعد ولنشر الدعوة إلى الله على الملأ كما كان الغار لمحمد عليه الصلاة والسلام ومدين لموسى عليه السلام كما جعله فيها قدوة حسنة لكل برئ من الناس والشباب ظلماً ُيسجن ولما قضى يوسف الأجل وتحقق الهدف هيأ الله لخروجه أضعف سبب (ليدل على أن عظمة الفعل هى من المسبب لا من السبب) .
وهكذا ينتهى هذا المشهد من فعل يوسف مع صاحبيه فى السجن دلت معظمها على وظيفة يوسف العظمى فى الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته والتى يمكن أن تشكل أنموذجاً ملخصاً ودورة تدريبية مكثفة للدعاة إلى الله .


3. إعزازاً فى الخروج (رؤيا الملك) (الآيات42-57)
فى هذه الآيات سنرى كيف دبرالله الحكيم العليم لعبده المخلص يوسف سبيلاً للخروج من السجن وذلك أن ملك مصر رأى رؤيا شغلته وهى ( سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضروأخر يابسات ... )
ولما لم يعلم أحد منهم تأويل هذه الرؤيا فقد أجمعوا على قولهم : إنها من أضغاث الأحلام التى لا تأويل لها ولا تعبير ... ثم استدركوا القول ونفوا عن أنفسهم علم تأويل الأحلام بالكلية وفى تلك اللحظة تذكر ساقى الملك يوسف (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ* يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)

وانتقل الساقى من قصرالملك إلى سجن يوسف وطلب منه تأويل الرؤيا وأجاب يوسف فوراً دون تردد ولا تأخير( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ).

لقد حملت رؤيا الملك خيراً عظيماً لكل من كانت له علاقة من قريب أو بعيد بها :
• يوسف : كانت سبباً فى نجاته وإخراجه من السجن ... ورفع الظلم عنه وتبرئته من الإثم والخيانة وتمكينه فى الأرض وجعله حفيظاً على خزائنها ... وتحقيق رؤياه من قبل بالسجود له ... وأعظم ما فيها أنها كانت سبباً فى إتاحة الفرصة له لنشرالدين والعلم والخير بين الناس .
• إخوة يوسف : كانت سبباً فى اجتماعهم بيوسف ومن ثم إصلاح ما فسد منهم وإعانتهم على الشيطان وتوبتهم .
• آل يعقوب : تزويدهم بالغذاء فى السنين الشداد ... رد البصر إلى أبيهم يعقوب وذهاب الحزن عنه وإحضارهم من البدو إلى حاضرة مصر ومن ثم إقامة بنى إسرائيل فى مصر.
• الملك : بقاء ملكه إذ جعل وزيراً حكيماً عليماً حفيظاً أميناً على خزائن الأرض مما أسهم فى بقاء النظام الإقتصادى والإجتماعى فى مملكته .
• النسوة : شهدن بالحق ... والشهادة بالحق فضيلة .
• إمرأة العزيز: الإعتراف بالذنب والإعتراف بالذنب فضيلة وهوأول خطوات التوبة.
• الناس : - دنيوياً : تأمين طعامهم ومعاشهم وبقاء حياتهم (الأمن الغذائى) .
- دينياً : وجود الرسول (يوسف) بين أظهرهم يدعوهم إلى الله وإلى ما فيه خيرهم وصلاحهم فى الدنيا والآخرة .
وهكذا قدم يوسف الصديق خطة كاملة لهذه السنوات تنبأ فيها عن علم ربانى بأحداثها الجسام ووضع فيها مبادئ التنظيم والإدارة والإقتصاد والسياسة والتدقيق والرقابة ووسائل زيادة الإنتاج والحفظ والتخزين والتقنين والتحصين .

لما رجع الساقى فأخبرالملك بتأويل يوسف ... جاء رسول الملك إلى يوسف يدعوه إلى مقابلته فأجابه يوسف(ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)…. ويظهر من جواب يوسف حكمته وحسن سياسته وعزة نفسه الإيمانية وعظيم ثقته بوعد الله وإيثاره الأعلى ولو كان معنوياً وآجلاً على الأدنى (الحظوة الدنيوية) ولو كان عاجلاً .
وينتقل المشهد مباشرة إلى قصرالملك وبين يديه النسوة يطرح عليهن السؤال (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ* وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .
إن النفس الأمارة بالسوء هى أحد منابع الشر والسوء فى الحياة الإنسانية والمنبع الآخر هو نزغ الشيطان عدو الإنسان المبين ... هذان هما جناحا السوء فى الحياة الإنسانية جعلهما الله فتنة لعباده لحكمة الإبتلاء فى التكليف بالعبادة ومن ثم الجزاء(وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء 35)…لذا كان من الدعاء النبوى (اللهم إنى أعوذ بك من شر نفسى ومن شر الشيطان وشركه) .
وهكذا انتهى هذا المشهد بما أراد يوسف وتمنى من براءة وتصديق له فقد أراد أن تتحقق براءته الكاملة وألا تلحقه من بعد خروجه من السجن أدنى شبهة أومظنة واستخدم فى سبيل تلك الغاية أسلحة العلم والحكمة التى آتاه الله إياها فى جوابه للملك وقد فهم الملك بخبرته وسياسته ذلك منه وتأكد من صدقه وعفته وخبرشهامته وحسن أخلاقه حتى مع الذين آذوه وظلموه ... فازداد به إعجاباً على إعجاب وقررأن يستخلصه لنفسه (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ* قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .
لقد طلب يوسف إدارة خزائن الأرض لا لينال منفعة شخصية ويبنى قصورا ويحوى كنوزاً فقد كان يمكن له ذلك مباشرة من عرض الملك له ... لكنه وجد نفسه بما آتاه الله من علم وحكمة وأمانة الرجل المناسب فى المكان الناسب وبما يحققه تأويله النظرى لرؤيا الملك إلى تأويل وتطبيق عملى على أرض الواقع ... فيخرج بعباد الله من المخمصة والشدة إلى برالأمان وشاطئ السلامة فينفعهم الله بحسن إدارته وتصريفه للخزائن من زيادة الإنتاج وحفظ التخزين وعدل التوزيع .

(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلأجْرُ الآخرةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون) .
َإن مشيئة الله فى رحمة من يشاء من عباده محسناً كان أم مسيئاً مطلقة وهذا من صفات رحمته وإحسانه وكرمه ... وهذا من طلاقة صفات الألوهية غيرالمقيدة بضعف أوعجزأوقصور….فالإله الحق مطلق الحرية والقدرة فى فعل ما يشاء (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ) (القصص 68) .
ورحمة الله حق وعدل ليست عشوائية وعبثية(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)(الأعراف 156) .
لقد كان يوسف الصديق مثلاً للعبد المؤمن رافقته الرحمة الظاهرة فى الدنيا من المهد إلى اللحد (طلاقة مشيئة الله الفاعلة بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا ) وكل مؤمن تصحبه رحمة ظاهرة فيتذكروليقتدى بإحسان يوسف وكل متقى يجب أن يجعل قصده الأول رضا الله والجنة ... وأن يضع نصب عينيه أجرالآخرة فإنها خيروأبقى .

يتبع إن شاء الله
 
عودة
أعلى