هاني درغام
New member
- يوسف في بيت العزيز : ( الآيات21-34)
(وَقَالَ الَّذي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
كان من الممكن أن يشتري يوسف أي إنسان عادي عابر لقلة ثمنه ولزهد عارضيه فيه ولكن أن يكون أول من يرغب فيه ويشتريه هوعزيز مصرأمر فيه لفتة ربانية إلي حسن تدبير الله للأمورعموماً وليوسف خاصة ولحكمته وقيوميته علي خلقه وواسع علمه .
وللفت النظر إلي أنه مهما كان يوسف عند الناس (مبعداً محروماً...مملوكاً مباعاً بأبخس ثمن) فإنه عند الله عزيز رفيع كريم وجيه ...وللفت النظرأيضا إلي حفظ الله ليوسف وتدبيرأمره له بحكمة وعناية وإحسان .
وهكذا ينتهى المطاف بالسيارة ليسيروا بيوسف إلى مصر... وينتقل المشهد الآن بيوسف إلى بيت من بيوتات مصر... ويعرج يوسف درجاً من العلو والإكرام مادياً ومعنوياً .
ففى هذا البيت مكن الله ليوسف فى الأرض تمكيناً مادياً فى أكرم إقامة ومعنوياً فى أكرم صفة صفة العلم والتمكين الربانى الكريم .
وهكذا نرى رعاية الله ليوسف وتدبير أمره على أحسن ما يكون جزاء حسناً فى كل صبر وعاقبة حسنى فى كل ابتلاء ... فالجب المظلم الموحش صاربرحمة الله ووحيه جنة وارفة النعم والخيرات وواحة نجاة وبرأمن مما مضى وباب خير وعطاء لما هو آت كذلك كان بيت الذى اشتراه من مصر وكما سيكون السجن كذلك .
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ* وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ* وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالَ هِي رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)
ولما بلغ يوسف مبلغ الرجال طلبت منه امرأة العزيز فعل الفاحشة فتهيئت له وغلقت الأبواب وهنا أطلق يوسف ثلاث كلمات بل ثلاث صواعق كالجبال ألقاها على مسامعها بكل الثقة والصدق والهدوء والثبات ... لقد تفجرت الكلمات بشكل عفوى كرد فعل بديهى طبيعى من قلب مؤمن من غيرانتظار ولا تردد ولا تلعثم :
• معاذ الله : كلمة يوسف الأولى والتى تعنى أن الله هو توجهه الأول يفر ويلجأ إليه ويستغيثه ويستنصر به ... فهى عنوان التوجه الإيمانى يقولها المؤمن مستجمعاً معانيها مستحضراً فعاليتها ... وهى عند المؤمن فاتحة كل تلاوة ودفع كل شر وشيطان ونازلة .
• إنه ربى أحسن مثواى : هذه هى الكلمة الثانية في انفجارالحق من صدر يوسف إنه ربى أحسن مثواى ... تفضل على بنعم الربوبية الكريمة وأحسن مثواى حيث ساقنى بلطيف قدره وحكيم تدبيره إلى مقام كريم فى بيت كريم بعد أن كنت مشرفاً على الهلاك فى الجب فكيف أقابل إحسان ربى بالسوء وكيف أخون ربى الذى ربانى بالنعم إيجاداً وإمداداً وأصلح لى أمرى وشأنى كله ؟
• إنه لا يفلح الظالمون : وهذه هى الكلمة الثالثة والأخيرة فى رده عليها وهى سنة من سنن الله الحقة فالظالمون لا يفلحون والخسران مصيرهم المحتوم .
لقد كان يوسف قمة فى إحسانه فى رد فعله :
• إحسانه فى طاعته ومراقبته لربه (مع ربه)
• إحسانه فى صدقه وإخلاصه وثباته (مع نفسه)
• إحسانه فى إخلاصه للعزيز (مع الصديق)
• إحسانه فى مواجهته لغريمه (مع الخصم)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ:
لقد كان هم امراة العزيز هوالشهوة الباغية والمسرفة فى المرأة الناضجة المحصنة وكان هم يوسف الهم الفطرى الطبيعى الغريزى للشاب غيرالمحصن .
وماذا بعد ؟ ....أما هى فقد سارت فى تفعيل همها قدماً فراودت ولمحت وغلقت وصرحت ولما أعرض عنها فاراً بدينه جرت خلفه وأصرت وتشبثت وقطعت .
وأما هو فقد سارقدماً فى مواجهة همه ففرإلى ربه مستعيذاً به وصرح بخشيته منه .
عقبات كثيرة تجاوزها يوسف عليه السلام وعلا عليها وانتصر... انتصرفى ذاته وعلا وارتفع ... انتصرعلى نفسه وعلا وارتفع ... انتصرعلى غريمه وعلا وارتفع ...انتصرعلى الدوافع والرغبات...انتصرعلى الحواجزوالأقفال فعلا وارتفع .
والخلاصة : أن يوسف كان إنساناً طبيعياً شابا فتياً بلغ أشده وملك الرغبة القوية والقدرة المستطيعة وجميع الإمكانات الداعية للإستجابة والقيام بالفعل والوقوع فى الفاحشة ولكن رصيده الإيمانى الأخلاقى الإحسانى وثوب العلم والحكمة الذى ألبسه فلبسه (برهان ربه) أسبغت عليه صلة متينة بالرب المنعم وقلباً رقيقاً ينبض بحبه ويتفطرمن خشيته وإيثارالآخرة الباقية على العاجلة الفانية .
إن برهان ربه هو حقائق الإيمان اليقينى بربه عز وجل وحقائق العلم والحكمة التى تشربها وحقائق الإيمان والإخلاص التى اصطبغ بها ... وحقائق النبوة وخصائصها وعصمتها التى اتصف بها .
هذه الحقائق وأدلتها الساطعة فى وجدانه ويقينه هى برهان ربه الذى رآه رؤية علم وحكمة وبصيرة ... فأنى لغيرالموصول بالله وبلقائه والخشية من وعيده أن يقول (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) .
إن النفس الإنسانية إذا تركت وشأنها بدون التفضل الربانى ببعث الرسل وإنزال الكتب للهداية والتعليم والتزكية فهى إن لم تصنع سوءاً فلن تخلق طاعة ولن تقوم بعبادة حقة ولن تزكو وتسمو وتنتصر فوق هواها الفاسد... فمعظم الناس إن تركوا لهواهم من غير هدى وبرهان من الله فهم كامرأة العزيز.
إن قلب الإنسان كالمرآة إن صفت وسلمت استقبلت النوروعكسته وإن اتسخت وتشققت لم تستقبل نوراً... ولواستقبلت شيئاً منه فلن تستقبله سليماً ولن تعكسه مستقيماً.
والمؤمن الصادق المخلص سليم القلب يجاهد دوماً على حفظ مرآته وصقلها وغيرالمؤمن قلبه فى مهب الريح وزوابع الغبار والأوسخة ... مرآته متسخة متكسرة وقلبه مريض مسود عليه الران .
ولما رأى يوسف برهان ربه جرى مسرعاً إلى الخارج يفتح الأبواب المغلقة وهى تلاحقه مسرعة لتدركه وهى فى هياج رغبتها وشهوتها الجامحة فأمسكت بقميصه لترده إليها فتقطع القميص من الأعلى إلى الأسفل وعند فتح يوسف للباب وهى من خلفه وجدا العزيزعند الباب ... مفاجأة غيرمتوقعة ووجود غيرمقصود لكنه كان فيه شئ من الراحة والألفة للنفس ... يوسف إنقاذاً له وخلاصا منها ومن ملاحقتها له وإغرائه بالفاحشة وهى لمنع يوسف من الخروج من البيت وفضحها أوالهروب إلى غير رجعة وهى ما تزال به متيمة ولهانة .
ورغم أنها هى الداعية الظالمة اللاحقة ويوسف هو الممتنع المظلوم الهارب السابق ورغم أن ثيابها كانت سليمة لم تمس وقميصه هوالمقطع من الخلف فقد كانت هى الأسبق فى الكلام وكان الجواب على لسانها حاضراً سريعاً وكأنها أعدته من قبل وحسبت لكل أمر حسابه ولكل موقف مخرجاً .
أليس هذا من الكيد العظيم ؟ ... لقد استطاعت بكيدها العظيم أن تقلب الحقائق رأساً على عقب واستعملت صيغة الإستفهام والسؤال قبل أن تسأل ... وقاعدة الهجوم خيروسيلة للدفاع وإلقاء الكرة فى مرمى الطرف الآخر(يوسف الذى تفاجأ بالزوج وُأخذ غرة) .
يا سبحان الله ما هذه المفارقة الشاسعة ؟ ... يوسف كان حاضر البديهة عندما دعته للمعصية فقال فوراً (معاذ الله) ... وكانت هى حاضرة البديهة عندما أسقط فى يدها وتفاجأت برؤية سيدها فقالت على الفور (ما جزاء من أراد بأهلك سوءً ...)
وهكذا قلبت الحق باطلاً والباطل حقاً ... فقد كانت هى الداعية وهوالممانع والآن هى المظلومة ويوسف هوالمدافع ...وبهذا قطعت الطريق على العزيز فلم تمهله ليفكرأويفتح فمه ويسأل ولم تنتظر منه جواباً وسكت العزيزوصمت ودافع يوسف عن نفسه ولم يملك من وسائل الدفاع إلا الصدق فقط ... ودافع الله عن يوسف الصادق (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ) (الحج 38).... فهيأ له شاهداً ومن أهلها لتكون شهادته أقوى وأصدق وأوقع وظهرت براءة يوسف ... ووضح كيد امرأة العزيز.
(فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)
بعد أن عمم الزوج الإتهام ها هوالآن يصدرالأحكام إذ لا مناص ... فلابد له أن يقوم بشئ من فعل أوقول تجاه ما حصل فى بيته ... ولكنه اكتفى من الغنيمة بالإياب ومن العزيمة بالمقال فماذا قال؟
يوسف أعرض عن هذا .. أى اسكت عن هذا الأمر فلا تأت بذكرله مطلقاً كأنه لم يكن
واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين ... فلا عقوبة ولا قصاص ... أسقط الحق الخاص وأغفل ذكر الحادثة وأتى فقط بطلب الاستغفار منها لذنبها ... ما هوالذنب؟ لم يصرح به .
هذه المقالة وهذا الحكم من الزوج يدل على أنه ضعيف النفوذ فى بيته .. ضعيف المواجهة مع امرأته ويدل على نفوس مريضة نظرتها إلى الفساد نظرة سطحية ظاهرية مصلحية ... ويدل على مجتمع فاسد فاقد للقيم الأخلاقية الحقة لا ينظرإلى الفساد عيباً فى ذاته بل فيما قد يترتب عليه من فضائح اجتماعية تؤثرعلى الوضع الإجتماعى والمركز النفوذى (تماماً كما يحدث اليوم فى المجتمعات العلمانية فالفاحشة عندهم ليست رذيلة فى ذاتها ولكن الرئيس أو ذى النفوذ إذا فعلها ثارت عليه وسائل الإعلام لا غيرة على الفضيلة بل ابتغاء للفضيحة وتحقيق بعض المكاسب الرخيصة منها أوابتزازاً وتاثيراً على نفوذه وسلطانه وفرص إعادة انتخابه ) .
ثم ينتقل السياق ليتحدث عن صدى الحدث السابق فى المجتمع النسائى فى المدينة وهو فى الحقيقة صورة طبق الأصل لكل مجتمع مدنى خالى من القيم الدينية والأخلاقية الحسنة وبعد أن كان الحدث محصوراً فقط بن امرأة العزيز ويوسف ومن ثم العزيز والشاهد نرى صداه الآن بين جماعة من نسوة المدينة(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضلالٍ مُّبِينٍ) .
وإننا لنكتشف وراء هذا الحديث بالإتهام عقلية وصفات هذا المجتمع (الراقى) الظالم الفاسد وأن رقيه لم يكن إلا مظاهر مادية زائفة وقشور براقة تطغى عليها مشاعرالحقد والحسد والغل والغيرة والفوارق الطبقية والتلذذ بعيب الناس وفضح سوءاتهم ونشر مساوئهم
وهكذا فإن جوهرملامتهن لامرأة العزيز انصب على القشوروالمظهر فلم يلمنها على أنها سعت إلى الفاحشة أولخيانة زوجها أوظلمها ومحاولة إيقاعها بشاب طاهر واتهامها لإنسان برئ بل حصرن الملامة والإنتقاد فى النظرة الطبقية الإجتماعية الفاسدة والنظرة الجنسية الخاطئة ... وهكذا لا تنظر المجتمعات الجاهلية إلى الفساد والخطيئة من حيث هى فى حقيقتها بل من حيث نظرة ذلك المجتمع إلى الأمور(يأكل اللب النتن ويعيب القشور) .
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ* قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ)
لما سمعت امرأة العزيز بمكرهن أرسلت فى دعوتهن وأعتدت لهن مجلساً مريحاً وفراشاً وثيراً وآتت كل واحدة منهن سكيناً لتقطيع الطعام وتناوله
لا شك أن امرأة العزيز كانت على درجة كبيرة من الكيد والدهاء... فدعوتها للنسوة لم تكن للإكرام أوالتسلية ... والمتكأ لم يكن لزيادة الإكرام والتأهيل ... والسكاكين لم تكن لزيادة الأدب فى المائدة بل كان قصدها الأول تأمين الجوالمناسب لشدة الإنبهاربجمال يوسف والإفتتان به فيقمن بأعمال لا شعورية من تقطيع غيرالطعام بالسكاكين تجعله دليلاً تمسكه عليهن وتسكتهن به وينقلب الأمر به لصالحها فبدل أن تكون هى الضعيفة أمامهن يصرن هن الضعاف أمامها ومعها الدليل الظاهرالباقى .
وبعد ماتحقق لها ما كادت لهن وبعد أن أقامت عليهن الدليل الثابت الملموس وصرحت لهن بما كان منها مع يوسف وأفشت لهن سرها ... ذلك أنها لم تعد تخشي منهن مكراً ولا ملاماً فقد صرن شريكات لها وبالدليل ... واستطاعت أن تخرس ألسنة النسوة بل وفوق ذلك تتوعد وتنذروتؤكد وتجزم وهى تملك السلطة على تحقيق ذلك .
لقد دلت شخصية امرأة العزيزعلى الكيد العظيم للنساء .. فقد كان كيد امرأة العزيز والذى ظهرجلياً فى كل أفعالها مثالاً لكيد المرأة العظيم عندما تعالج أمراً بالغ الأهمية لها تريد وتحرص عليه ولا يظن أحد أن العيب فى جبلة النساء وصفاتهن الفطرية فالصالحات حافظات للغيب بما حفظ الله ... بل العيب فى المجتمع الذى أفسدهن فأفسدن (فى دائرة مغلقة وحلقة مفرغة) ولهذا كان من أولويات شياطين الإنس والجن إفساد النساء ليسهل لهم إفساد المجتمع كله فى حاضره ومستقبل أجياله .
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ)
هذه هىالكلمة الثالثة ليوسف بعد البلوغ والحكم والعلم والإحسان وفى موضوع ابتلائه بامرأة العزيز وتسلسلاته ... (قال معاذ الله)... (قال هي راودتني عن نفسي)...(قال رب السجن...)
يا رب ... إن السجن وعذابه أحب إلى نفسى من أن أعصيك .
يا رب ... إن تحقق لهن ما أردن فأسكون السجين فعلاً والصاغر يقيناً .
يا رب ... أنت الوحيد الذى بيده الأمر كله والقادر على كل شئ ... فأنا لا حول ولا قوة لى إلا بك وإن ُتركت لنفسى ُتركت لضعف وعجز وجهل
يا للقمة الإيمانية الشامخة ... ياللمعرفة بالله العالية
وهكذا يرشدنا يوسف وهو فى محنة الإبتلاء إلى الإتجاه السليم والملجأ الأمين المكين الذى لا ملجأ إلا إليه ولا منجى إلا به ... يعلمنا أن نفرإلى الله (ففروا إلى الله) إذ بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله ... فالنفس الإنسانية مهما بدت قوية فهى ضعيفة إلا به وإنا إن ركنا إلى غير الله فقد ركنا إلى ضعف وعجز ... وتوكأنا على هباء.
وإنا إن توكلنا على الله واستعنا به فقد ركنا إلى ركن شديد واستعنا بقوى معين .
لقد أكد يوسف أن الأنس مع الله فى الطاعة ولو فى السجن أحب إلى قلب المؤمن من البعد عنه فى المعصية ولو كان فى القصور مع الحور.
وهكذا ما أن نادى يوسف ربه ودعاه صادقاً مخلصاً حتى استجاب له ربه ومولاه (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل 62) .
وهكذا ينتهى مشهد (وليمة النسوة) لينهى الفصل الأخير من فصول المراودة والإغواء الذى ابتلى به يوسف بنجاحه فيه مع مرتبة الشرف والإحسان ... لينتقل الحديث مباشرة إلى (يوسف فى السجن) .
يتبع إن شاء الله
(وَقَالَ الَّذي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
كان من الممكن أن يشتري يوسف أي إنسان عادي عابر لقلة ثمنه ولزهد عارضيه فيه ولكن أن يكون أول من يرغب فيه ويشتريه هوعزيز مصرأمر فيه لفتة ربانية إلي حسن تدبير الله للأمورعموماً وليوسف خاصة ولحكمته وقيوميته علي خلقه وواسع علمه .
وللفت النظر إلي أنه مهما كان يوسف عند الناس (مبعداً محروماً...مملوكاً مباعاً بأبخس ثمن) فإنه عند الله عزيز رفيع كريم وجيه ...وللفت النظرأيضا إلي حفظ الله ليوسف وتدبيرأمره له بحكمة وعناية وإحسان .
وهكذا ينتهى المطاف بالسيارة ليسيروا بيوسف إلى مصر... وينتقل المشهد الآن بيوسف إلى بيت من بيوتات مصر... ويعرج يوسف درجاً من العلو والإكرام مادياً ومعنوياً .
ففى هذا البيت مكن الله ليوسف فى الأرض تمكيناً مادياً فى أكرم إقامة ومعنوياً فى أكرم صفة صفة العلم والتمكين الربانى الكريم .
وهكذا نرى رعاية الله ليوسف وتدبير أمره على أحسن ما يكون جزاء حسناً فى كل صبر وعاقبة حسنى فى كل ابتلاء ... فالجب المظلم الموحش صاربرحمة الله ووحيه جنة وارفة النعم والخيرات وواحة نجاة وبرأمن مما مضى وباب خير وعطاء لما هو آت كذلك كان بيت الذى اشتراه من مصر وكما سيكون السجن كذلك .
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ* وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ* وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالَ هِي رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)
ولما بلغ يوسف مبلغ الرجال طلبت منه امرأة العزيز فعل الفاحشة فتهيئت له وغلقت الأبواب وهنا أطلق يوسف ثلاث كلمات بل ثلاث صواعق كالجبال ألقاها على مسامعها بكل الثقة والصدق والهدوء والثبات ... لقد تفجرت الكلمات بشكل عفوى كرد فعل بديهى طبيعى من قلب مؤمن من غيرانتظار ولا تردد ولا تلعثم :
• معاذ الله : كلمة يوسف الأولى والتى تعنى أن الله هو توجهه الأول يفر ويلجأ إليه ويستغيثه ويستنصر به ... فهى عنوان التوجه الإيمانى يقولها المؤمن مستجمعاً معانيها مستحضراً فعاليتها ... وهى عند المؤمن فاتحة كل تلاوة ودفع كل شر وشيطان ونازلة .
• إنه ربى أحسن مثواى : هذه هى الكلمة الثانية في انفجارالحق من صدر يوسف إنه ربى أحسن مثواى ... تفضل على بنعم الربوبية الكريمة وأحسن مثواى حيث ساقنى بلطيف قدره وحكيم تدبيره إلى مقام كريم فى بيت كريم بعد أن كنت مشرفاً على الهلاك فى الجب فكيف أقابل إحسان ربى بالسوء وكيف أخون ربى الذى ربانى بالنعم إيجاداً وإمداداً وأصلح لى أمرى وشأنى كله ؟
• إنه لا يفلح الظالمون : وهذه هى الكلمة الثالثة والأخيرة فى رده عليها وهى سنة من سنن الله الحقة فالظالمون لا يفلحون والخسران مصيرهم المحتوم .
لقد كان يوسف قمة فى إحسانه فى رد فعله :
• إحسانه فى طاعته ومراقبته لربه (مع ربه)
• إحسانه فى صدقه وإخلاصه وثباته (مع نفسه)
• إحسانه فى إخلاصه للعزيز (مع الصديق)
• إحسانه فى مواجهته لغريمه (مع الخصم)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ:
لقد كان هم امراة العزيز هوالشهوة الباغية والمسرفة فى المرأة الناضجة المحصنة وكان هم يوسف الهم الفطرى الطبيعى الغريزى للشاب غيرالمحصن .
وماذا بعد ؟ ....أما هى فقد سارت فى تفعيل همها قدماً فراودت ولمحت وغلقت وصرحت ولما أعرض عنها فاراً بدينه جرت خلفه وأصرت وتشبثت وقطعت .
وأما هو فقد سارقدماً فى مواجهة همه ففرإلى ربه مستعيذاً به وصرح بخشيته منه .
عقبات كثيرة تجاوزها يوسف عليه السلام وعلا عليها وانتصر... انتصرفى ذاته وعلا وارتفع ... انتصرعلى نفسه وعلا وارتفع ... انتصرعلى غريمه وعلا وارتفع ...انتصرعلى الدوافع والرغبات...انتصرعلى الحواجزوالأقفال فعلا وارتفع .
والخلاصة : أن يوسف كان إنساناً طبيعياً شابا فتياً بلغ أشده وملك الرغبة القوية والقدرة المستطيعة وجميع الإمكانات الداعية للإستجابة والقيام بالفعل والوقوع فى الفاحشة ولكن رصيده الإيمانى الأخلاقى الإحسانى وثوب العلم والحكمة الذى ألبسه فلبسه (برهان ربه) أسبغت عليه صلة متينة بالرب المنعم وقلباً رقيقاً ينبض بحبه ويتفطرمن خشيته وإيثارالآخرة الباقية على العاجلة الفانية .
إن برهان ربه هو حقائق الإيمان اليقينى بربه عز وجل وحقائق العلم والحكمة التى تشربها وحقائق الإيمان والإخلاص التى اصطبغ بها ... وحقائق النبوة وخصائصها وعصمتها التى اتصف بها .
هذه الحقائق وأدلتها الساطعة فى وجدانه ويقينه هى برهان ربه الذى رآه رؤية علم وحكمة وبصيرة ... فأنى لغيرالموصول بالله وبلقائه والخشية من وعيده أن يقول (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) .
إن النفس الإنسانية إذا تركت وشأنها بدون التفضل الربانى ببعث الرسل وإنزال الكتب للهداية والتعليم والتزكية فهى إن لم تصنع سوءاً فلن تخلق طاعة ولن تقوم بعبادة حقة ولن تزكو وتسمو وتنتصر فوق هواها الفاسد... فمعظم الناس إن تركوا لهواهم من غير هدى وبرهان من الله فهم كامرأة العزيز.
إن قلب الإنسان كالمرآة إن صفت وسلمت استقبلت النوروعكسته وإن اتسخت وتشققت لم تستقبل نوراً... ولواستقبلت شيئاً منه فلن تستقبله سليماً ولن تعكسه مستقيماً.
والمؤمن الصادق المخلص سليم القلب يجاهد دوماً على حفظ مرآته وصقلها وغيرالمؤمن قلبه فى مهب الريح وزوابع الغبار والأوسخة ... مرآته متسخة متكسرة وقلبه مريض مسود عليه الران .
ولما رأى يوسف برهان ربه جرى مسرعاً إلى الخارج يفتح الأبواب المغلقة وهى تلاحقه مسرعة لتدركه وهى فى هياج رغبتها وشهوتها الجامحة فأمسكت بقميصه لترده إليها فتقطع القميص من الأعلى إلى الأسفل وعند فتح يوسف للباب وهى من خلفه وجدا العزيزعند الباب ... مفاجأة غيرمتوقعة ووجود غيرمقصود لكنه كان فيه شئ من الراحة والألفة للنفس ... يوسف إنقاذاً له وخلاصا منها ومن ملاحقتها له وإغرائه بالفاحشة وهى لمنع يوسف من الخروج من البيت وفضحها أوالهروب إلى غير رجعة وهى ما تزال به متيمة ولهانة .
ورغم أنها هى الداعية الظالمة اللاحقة ويوسف هو الممتنع المظلوم الهارب السابق ورغم أن ثيابها كانت سليمة لم تمس وقميصه هوالمقطع من الخلف فقد كانت هى الأسبق فى الكلام وكان الجواب على لسانها حاضراً سريعاً وكأنها أعدته من قبل وحسبت لكل أمر حسابه ولكل موقف مخرجاً .
أليس هذا من الكيد العظيم ؟ ... لقد استطاعت بكيدها العظيم أن تقلب الحقائق رأساً على عقب واستعملت صيغة الإستفهام والسؤال قبل أن تسأل ... وقاعدة الهجوم خيروسيلة للدفاع وإلقاء الكرة فى مرمى الطرف الآخر(يوسف الذى تفاجأ بالزوج وُأخذ غرة) .
يا سبحان الله ما هذه المفارقة الشاسعة ؟ ... يوسف كان حاضر البديهة عندما دعته للمعصية فقال فوراً (معاذ الله) ... وكانت هى حاضرة البديهة عندما أسقط فى يدها وتفاجأت برؤية سيدها فقالت على الفور (ما جزاء من أراد بأهلك سوءً ...)
وهكذا قلبت الحق باطلاً والباطل حقاً ... فقد كانت هى الداعية وهوالممانع والآن هى المظلومة ويوسف هوالمدافع ...وبهذا قطعت الطريق على العزيز فلم تمهله ليفكرأويفتح فمه ويسأل ولم تنتظر منه جواباً وسكت العزيزوصمت ودافع يوسف عن نفسه ولم يملك من وسائل الدفاع إلا الصدق فقط ... ودافع الله عن يوسف الصادق (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ) (الحج 38).... فهيأ له شاهداً ومن أهلها لتكون شهادته أقوى وأصدق وأوقع وظهرت براءة يوسف ... ووضح كيد امرأة العزيز.
(فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ* يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)
بعد أن عمم الزوج الإتهام ها هوالآن يصدرالأحكام إذ لا مناص ... فلابد له أن يقوم بشئ من فعل أوقول تجاه ما حصل فى بيته ... ولكنه اكتفى من الغنيمة بالإياب ومن العزيمة بالمقال فماذا قال؟
يوسف أعرض عن هذا .. أى اسكت عن هذا الأمر فلا تأت بذكرله مطلقاً كأنه لم يكن
واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين ... فلا عقوبة ولا قصاص ... أسقط الحق الخاص وأغفل ذكر الحادثة وأتى فقط بطلب الاستغفار منها لذنبها ... ما هوالذنب؟ لم يصرح به .
هذه المقالة وهذا الحكم من الزوج يدل على أنه ضعيف النفوذ فى بيته .. ضعيف المواجهة مع امرأته ويدل على نفوس مريضة نظرتها إلى الفساد نظرة سطحية ظاهرية مصلحية ... ويدل على مجتمع فاسد فاقد للقيم الأخلاقية الحقة لا ينظرإلى الفساد عيباً فى ذاته بل فيما قد يترتب عليه من فضائح اجتماعية تؤثرعلى الوضع الإجتماعى والمركز النفوذى (تماماً كما يحدث اليوم فى المجتمعات العلمانية فالفاحشة عندهم ليست رذيلة فى ذاتها ولكن الرئيس أو ذى النفوذ إذا فعلها ثارت عليه وسائل الإعلام لا غيرة على الفضيلة بل ابتغاء للفضيحة وتحقيق بعض المكاسب الرخيصة منها أوابتزازاً وتاثيراً على نفوذه وسلطانه وفرص إعادة انتخابه ) .
ثم ينتقل السياق ليتحدث عن صدى الحدث السابق فى المجتمع النسائى فى المدينة وهو فى الحقيقة صورة طبق الأصل لكل مجتمع مدنى خالى من القيم الدينية والأخلاقية الحسنة وبعد أن كان الحدث محصوراً فقط بن امرأة العزيز ويوسف ومن ثم العزيز والشاهد نرى صداه الآن بين جماعة من نسوة المدينة(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضلالٍ مُّبِينٍ) .
وإننا لنكتشف وراء هذا الحديث بالإتهام عقلية وصفات هذا المجتمع (الراقى) الظالم الفاسد وأن رقيه لم يكن إلا مظاهر مادية زائفة وقشور براقة تطغى عليها مشاعرالحقد والحسد والغل والغيرة والفوارق الطبقية والتلذذ بعيب الناس وفضح سوءاتهم ونشر مساوئهم
وهكذا فإن جوهرملامتهن لامرأة العزيز انصب على القشوروالمظهر فلم يلمنها على أنها سعت إلى الفاحشة أولخيانة زوجها أوظلمها ومحاولة إيقاعها بشاب طاهر واتهامها لإنسان برئ بل حصرن الملامة والإنتقاد فى النظرة الطبقية الإجتماعية الفاسدة والنظرة الجنسية الخاطئة ... وهكذا لا تنظر المجتمعات الجاهلية إلى الفساد والخطيئة من حيث هى فى حقيقتها بل من حيث نظرة ذلك المجتمع إلى الأمور(يأكل اللب النتن ويعيب القشور) .
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ* قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ)
لما سمعت امرأة العزيز بمكرهن أرسلت فى دعوتهن وأعتدت لهن مجلساً مريحاً وفراشاً وثيراً وآتت كل واحدة منهن سكيناً لتقطيع الطعام وتناوله
لا شك أن امرأة العزيز كانت على درجة كبيرة من الكيد والدهاء... فدعوتها للنسوة لم تكن للإكرام أوالتسلية ... والمتكأ لم يكن لزيادة الإكرام والتأهيل ... والسكاكين لم تكن لزيادة الأدب فى المائدة بل كان قصدها الأول تأمين الجوالمناسب لشدة الإنبهاربجمال يوسف والإفتتان به فيقمن بأعمال لا شعورية من تقطيع غيرالطعام بالسكاكين تجعله دليلاً تمسكه عليهن وتسكتهن به وينقلب الأمر به لصالحها فبدل أن تكون هى الضعيفة أمامهن يصرن هن الضعاف أمامها ومعها الدليل الظاهرالباقى .
وبعد ماتحقق لها ما كادت لهن وبعد أن أقامت عليهن الدليل الثابت الملموس وصرحت لهن بما كان منها مع يوسف وأفشت لهن سرها ... ذلك أنها لم تعد تخشي منهن مكراً ولا ملاماً فقد صرن شريكات لها وبالدليل ... واستطاعت أن تخرس ألسنة النسوة بل وفوق ذلك تتوعد وتنذروتؤكد وتجزم وهى تملك السلطة على تحقيق ذلك .
لقد دلت شخصية امرأة العزيزعلى الكيد العظيم للنساء .. فقد كان كيد امرأة العزيز والذى ظهرجلياً فى كل أفعالها مثالاً لكيد المرأة العظيم عندما تعالج أمراً بالغ الأهمية لها تريد وتحرص عليه ولا يظن أحد أن العيب فى جبلة النساء وصفاتهن الفطرية فالصالحات حافظات للغيب بما حفظ الله ... بل العيب فى المجتمع الذى أفسدهن فأفسدن (فى دائرة مغلقة وحلقة مفرغة) ولهذا كان من أولويات شياطين الإنس والجن إفساد النساء ليسهل لهم إفساد المجتمع كله فى حاضره ومستقبل أجياله .
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ)
هذه هىالكلمة الثالثة ليوسف بعد البلوغ والحكم والعلم والإحسان وفى موضوع ابتلائه بامرأة العزيز وتسلسلاته ... (قال معاذ الله)... (قال هي راودتني عن نفسي)...(قال رب السجن...)
يا رب ... إن السجن وعذابه أحب إلى نفسى من أن أعصيك .
يا رب ... إن تحقق لهن ما أردن فأسكون السجين فعلاً والصاغر يقيناً .
يا رب ... أنت الوحيد الذى بيده الأمر كله والقادر على كل شئ ... فأنا لا حول ولا قوة لى إلا بك وإن ُتركت لنفسى ُتركت لضعف وعجز وجهل
يا للقمة الإيمانية الشامخة ... ياللمعرفة بالله العالية
وهكذا يرشدنا يوسف وهو فى محنة الإبتلاء إلى الإتجاه السليم والملجأ الأمين المكين الذى لا ملجأ إلا إليه ولا منجى إلا به ... يعلمنا أن نفرإلى الله (ففروا إلى الله) إذ بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله ... فالنفس الإنسانية مهما بدت قوية فهى ضعيفة إلا به وإنا إن ركنا إلى غير الله فقد ركنا إلى ضعف وعجز ... وتوكأنا على هباء.
وإنا إن توكلنا على الله واستعنا به فقد ركنا إلى ركن شديد واستعنا بقوى معين .
لقد أكد يوسف أن الأنس مع الله فى الطاعة ولو فى السجن أحب إلى قلب المؤمن من البعد عنه فى المعصية ولو كان فى القصور مع الحور.
وهكذا ما أن نادى يوسف ربه ودعاه صادقاً مخلصاً حتى استجاب له ربه ومولاه (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل 62) .
وهكذا ينتهى مشهد (وليمة النسوة) لينهى الفصل الأخير من فصول المراودة والإغواء الذى ابتلى به يوسف بنجاحه فيه مع مرتبة الشرف والإحسان ... لينتقل الحديث مباشرة إلى (يوسف فى السجن) .
يتبع إن شاء الله