صفحات من كتاب يوسف أيها الصديق (1 )

هاني درغام

New member
إنضم
28/12/2009
المشاركات
377
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
مصر
إخواني الأفاضل ....
لقد يسر الله عز وجل لى الإطلاع على كتاب (يوسف أيها الصديق) للدكتور محمد عاطف السقا وهو من أروع ما قرأت فى قصة يوسف عليه السلام وهو يقع في 525 صفحة
فعقدت العزم على جمع هذه الصفحات من الكتاب علها تكون عبرة وعظة لأولى الألباب
ملحوظة ... قمت بوضع عناوين لمقاطع الآيات حيث أن المؤلف لم يضع لها عناوين

الهدف من إنزال الكتاب (الآيات 1-3)

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}
مقاصد آيات الله فى كتابه :
• الدلالة على الله سبحانه والتعريف به وبأسمائه الحسني وصفاته العليا .
• الدلالة على صدق رسوله .
• الدلالة على كتابه .
• الدلالة على مراد الله من الناس من إيمان وتكليف (عبادة) يتبعها حساب وجزاء فصلها تعالى فى آيات العقيدة والشرائع والأحكام وآيات القيم والأخلاق مع ذكر مواد التكليف التعبدية فى العقيدة من إيمان أوضده من كفرونفاق ... وفى الشريعة من فرائض وأحكام وذكرالأسباب الموصلة إلى أعلى الدرجات وتلك الهاوية إلى أسفل الدركات وشرح الداء والدواء ومكامن المرض ومداخله وخطوات الشفاء ومفاتحه... وكشف العدو مع التحذير منه وذكر الأسلحة الناجعة فى التغلب عليه والوقاية منه.

إن الله تعالى يريد الخير والصلاح والهداية لعباده ... وما إنزال الرسل والكتب والإتيان بالآيات إلا رحمة من الله لعباده رغبة فى صلاحهم وتوبتهم
فالله رب العالمين المتكبر الغنى يدعونا إلى أن نعقل كتابه (الإرتباط والتقيد والتمسك به) دعوة المرغب المتقرب الباسط يديه بالليل والنهار إلى عباده بالتوبة المتفضل عليهم بالنعمة فيا فوز من سمع ووعى وعقل وأطاع ... ويا خسارة من أدبر واستكبر وأبى وكفر.

إن المقصد الأول من آيات الله أن يعتبر الإنسان ويعقل أمره فلايكن كإخوة يوسف إذ لم يعقلوا أمرهم فغلب عليهم نزغ الشيطان وهوي النفس الفاسد والظلم فكان ماكان منهم ولايكن كإمرأة العزيز إذ غلب علي عقلها هواها السيء والخيانة فكان ماكان منها وليكن كيوسف الصديق الذي عقل هواه بأمر ربه وبرهانه وآثر الله والحياة الآخرة علي المرأة ذات الجمال والجاه تعرض نفسها عليه والدنيا تعجل إليه .

لقد كان القصص القرآنى أحسن القصص :
• مضموناً : فقد تطرقت إلى مختلف المواضيع الحيوية الهامة للنشاط الإنسانى فعبرت عن الفكر والعقيدة ... والنفس والغريزة... والخلق والسلوك فتحدثت عن طغيان الحكم والسلطة (فرعون)... وطغيان الحاشية (هامان)... وطغيان المال (قارون) وطغيان العلم والهوى (الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها) وطغيان الشهوة (امرأة العزيز).
• أسلوباً : فى الإتيان بأحسن الأساليب والتراكيب والألفاظ (جملاً وكلمات وحروفاً وأساليب البلاغة).
• حكمة : فى اختيارالألفاظ والأساليب المناسبة للمضامين المناسبة فى المواضع المناسبة فى الأشكال المناسبة .

1. رؤيا تبشر بالمستقبل : (الآيات4-6)
قدمت الآيات للقصة بالدخول مباشرة فى محورها الرئيسى الذى دارت عليه أحداث القصة ألا وهو رؤيا يوسف .
لقد كانت الرؤيا وتأويلها محورالقصة , مقدمة وخاتمة ودارت عليها معظم الأحداث والمشاهد كما أن الرؤيا تعددت فيها وتكررت (رؤيا يوسف – رؤيا الصاحبين – رؤيا الملك) وكان من الممكن أن يختار الله سبحانه وسائل أخري غيرها تكون أقوى بلاغاً وأعظم شأناً كالوحى مثلاً ويعقوب ويوسف كانا من الأنبياء ... لكن أن يأتى الإنباء من الله بأضعف طرقه وآخرها شأناً ومن صبى صغير لا يزال فى عالم اللعب والأحلام أومن رجال غير مؤمنين يجعل السامع يفكر فى الأمر لعله يتدبر الحكمة فى ذلك ومن الحكمة أن الله ذا الشأن العظيم ينبه أحياناً إلى عظيم أمره بأن يأتى بأضعف وسيلة فيجعل منها أعظم عبرة والمثل يقول (يضع سره فى أضعف خلقه) ليذكرنا بأن سرالعظمة فى الخالق لا المخلوق وأن القدرة والعلم والحكمة هى فى فاعليته هو سبحانه لا فى طبيعة الفعل والمفعول
إن سرالعظمة والقدرة وعلو الشأن والقيمة ليست فى المخلوق نفسه مهما كان بل فى الله سبحانه الخلاق فى طلاقة قدرته وبدائع صنعه وكمال علمه وحكمته .
لقد جاءت الرؤيا فى سورة يوسف لتؤكد أن الفاعلية الحقة هى لله سبحانه وأن هذه الفاعلية قد تأتى من غير سبب أوبسبب ... وقد تظهر فى أى سبب وفى أضعف سبب فالعبرة إذن ليست فى السبب ذاته بل فى خالق السبب .

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ* قَالَ يا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِين* وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}

لما قص يوسف الرؤيا على أبيه ... علم أبوه ان الرؤيا حق وصدق ... وأدرك الأب الرحيم والنبى الكريم أن رؤيا ابنه عظيمة الأهمية وبالغة الأثرعلى يوسف أولاً وعلى إخوته وأسرته ثانياً وأن لهذا الصبى شأناً عظيماً ومقاماً رفيعاً فى الأرض وسمواً وعلواً على إخوته ...لذا أراد أن يسد الذرائع على أبنائه وأن يقى ابنه من أخطر عدوين :
شرالناس ( حسد الأخوة ) - شرالشيطان (عدو الناس)

إن نعمة الله علي يوسف الذى أنعم عليه بالخلق والرزق تتم بالهدى والدين كما أتمها بذلك على آل يعقوب وعلى آبائه إبراهيم واسحاق من قبل وفى ذلك إشارة إلى أن من فضل الله ورحمته أن جعل صلاح الآباء المؤمنين يفيض خيره ويمتد إلى ذرياتهم المؤمنة فى الدنيا والآخرة ومن أمثلة ذلك قصة اليتيمين أصحاب الكنز فى قصة العبد الصالح مع موسي عليه السلام فى سورة الكهف ... فصلاح أبيهما فاض وامتد إليهما من بعد موته .

2. مؤامرة الحاسدين : (الآيات7-10)
{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِّلسَّآئِلِينَ* إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ* اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِاطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ* قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}
بعد ذكرالرؤيا ودلالاتها والتى جاء بها فاتحة للقصة كونها محورها ... وبعد أن عرف بيوسف كونه بطل القصة وعلمها ... عاد للقصة فى تسلسلها الطبيعى وقدم ذكر يوسف وإخوته إذ هم القاسم المشترك فى جميع أحداثها مبرزاً الحكمة منها والمقصد فهى آيات للسائلين فهى ليست للترفيه والتسلية كشأن كثير من القصص الإنسانية بل هى منارات ومعالم علم وحكمة ... ومن حكمتها وعبرها أنها أظهرت مثلاً من أمثلة نبتة السوء فى النفس الإنسانية تنبت فى الأرض الطيبة .
ثم بينت الآيات أن هناك أخوة من أب واحد غير أشقاء وأنهم فريقان :
• فريق يوسف وأخيه (أخوين شقيقين) .
• فريق القائلين وهم أخوة غيرأشقاء لهما وأنهم نازعوا وخاصموا يوسف وأخاه لا لشىء فعلوه ولكن مجرد عصبية دموية وتعصب جاهلى ... فهم لم يوجهوا للفريق الأول أي اتهام على الإطلاق وأن التهمة الوحيدة وجهت للأب وهى أنه أشد حباً للفريق الآخر(يوسف وأخيه) والتهمة ظنية لم تقم على دليل ولا برهان والتهمة وهمية لم تقم على تجريم بذنب ... ولو فرضنا جدلاً صحة ظنهم فهل الحب تهمة وجريمة تقتضى المسئولية والعقوبة ... والأدهى من ذلك والأّّّّّّمر أنهم بناء على ذلك أصدروا حكماً دون محاكمة وأنزلوا فى هذا الحكم أقصى العقوبة (محاولة قتل الأخ الصغيروتلويع قلب الأب الكبير) ... لماذا ؟
لأنه نما فى ظنهم (مجرد مظنة) حب أشد من أبيهم للفريق الآخر وهل الحب جريمة ؟ وهل الحب يشترى ويباع ؟ وهل الحب يكتسب بالقهر والإرغام وشرالأعمال ؟ إن الحب الفطرى السليم فى الأباء لخصته كلمات (صغيرهم حتى يكبر– مريضهم حتى يشفى وغائبهم حتى يرجع) .
وهل كان الذنب ذنب آدم عندما أمرالله إبليس بالسجود له فأبى وتكبروخاصم وفجر؟ وهل كان الذنب ذنب هابيل إذ لم يتقبل الله قربان أخيه فعاداه وقتله ؟
إنه الهوى الفاسد المتبع ... إنها النفس الأمارة بالسوء (أَرأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (الفرقان 43) .
إن إخوة يوسف هم مثال آخرلنبتة السوء فى النفس الإنسانية ترويها العصبية الجاهلية ويمتطيها الشيطان ويقترن بها ... كحال ابن آدم الأول الذى قتل أخيه مع بعض الإختلافات فى التفاصيل والخاتمة .
إن النفس الإنسانية هى العمود الفقرى فى صلاح أوفساد الإنسان فرداً أوجماعة أوأمة فبصلاحها يفلحون فى الدنيا والآخرة وبفسادها يذلون ويخسرون فى الدنيا والآخرة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس7-10) لذا كان من دعاء النبى عليه الصلاة والسلام:(اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خيرمن زكاها أنت وليها ومولاها).

وهكذا قررالأخوة قتل يوسف دون مناقشة ولا محاكمة... وهكذا تنبت نبتة السوء فى عجلة من أمرها ... ها هى ذى ثمارها قد أينعت وحنظلها بمذاقهم قد طاب
فما أعجب هذا الإنسان حين يغلب عليه هواه الفاسد فيطغى عليه ويستعبده الشيطان فيحتنكه فيعمى عن الحق والصواب والمنطق والعدل وصلات القرابة والرحم.
ماهي التهمة الفظيعة الموجبة لأقسي حكم وأشد عقاب ؟
ماهي جريمة يوسف الصبي البريء ؟ وماهي جريمة يعقوب الأب الرحيم ؟
وهل صار الحب الفطري السليم جريمة توجب القتل ؟

وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ :
اعتراف ضمني منهم بسوئهم وفسادهم ...وكأن الفساد والصلاح وجهان لعملة واحدة يقلبونها متي شاءوا أوثوب ذو وجهين يلبسونه حسب المناسبة.
إن التخلية قبل التحلية ...وإن التوبة الصادقة بالإمتناع والتوقف عن ارتكاب الذنب أولا هي أول الطريق وهي أول سلم الصلاح والخير(إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً) (الفرقان 70) .
إن الإعتراف بالذنب فضيلة ...وعدم استحسانه وعدم الإستمرار فيه وعدم الإصرارعليه أيضا حسن وفضيلة والتطلع إلي الإنقلاب إلي الصلاح لابأس به ومحمود إلا إذا كان من باب التسويف والتبرير.

(قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ)
وهنا يأتي الإقتراح الثالث من أحد الأخوة وهوعدم قتل يوسف وإلقائه في غيابة الجب (البئريجتمع فيه الماء) لعل أحد المسافرين يلتقط يوسف فيأخذه معه بعيداً وهو مقصدهم ....ووافق الأخوة علي هذا الرأي وأجمعوا عليه .
هذا القائل أمره عجيب ...فالقتل عنده وإلحاق الأذي بيوسف أمرمرفوض والإبعاد احتمال غيرمرفوض ...وكأن لسان حاله يقول :إذا لم يكن من الشر بد فبعض الشر أهون من بعض .
وهكذا انتهت مرحلة التفكيروالمناقشة والتخطيط وبدأت مرحلة الإعداد والتحضير مقدمة بين يدي الفعل والتنفيذ (قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ*) .
ومن الملاحظ أنهم لم يأتوا بذكرالله أبدا في جميع خطابهم علماً بأنهم مؤمنون ترعرعوا في بيئة إيمان ونبوة ...وكأن الشيطان أنساهم ذكرالله وكأن الإنسان المؤمن في غمرة المعصية والإثم لايذكرربه ولوتذكرلأقلع (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ* حَتَّى إِذَا جَاءَنا قَالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (الزخرف 36-38) .
وهكذا فإن المعصية والفاحشة ُتنسي ذكرالله وتخرج الإيمان من قلب المتلبس به
كما أن الغفلة عن ذكر الله توقع المرء في حبال الشيطان والآثام
فهي حلقة مفرغة يدورالعاصي في فلكها ولايخرج منها إلا بذكرالله والإقلاع عن الذنب(أي بالتوبة).
وحاول الأب بأسلوب لطيف رفيق أن يقنعهم بالتخلي عن هذا المطلب ملمحاً بصورة غيرمباشرة عن عدم رضاه ومعتذراً بأسباب نفسية وتوقعات ظنية علها تثنيهم عن أمرهم هذا ولكن الأخوة وقد غلبهم الهوي ونزغ الشيطان فيهم يصرون علي موقفهم ويحاولون ملحين إقناع أبيهم بمطلبهم وإسقاط حججه وإزالة خوفه وحذره .

ثم انتقلت الآيات من مشهد حوارالأخوة مع أبيهم إلي مشهد البدء بتنفيذ خطتهم الفعلية (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون ) .

ويتبادر لذهن السامع للوهلة الأولي فيظن أن يوسف قد ’ترك لمصيره البائس المحروم ...فالأب لم يحزم أمره ويمنع ابنه والإخوة ماضون في أمرهم لايلوون علي شيء ويوسف نفسه مستسلم لقدره ولم ينبس ببنت شفه ولم يأت بأية حركة .
حتي إذا بلغ الشر مداه والفعل السيء منتهاه ...والظلم والظلمة أحلكها والوحشة أوحشها في غيابة الجب ... فلا أنيس ولا جليس ولا قريباً ’يرتجي ولا بعيداً ’ينتظر ولا صوتاً ’يسمع ولا نوراً ’يري ...وفي شدة الكرب يأتي الفرج وفي قمة الإضطرار يغاث الملهوف ... وفي ثبات اليقين يفلح الصابرون ويستجيب الله الودود الرحيم لمن دعاه بقلبه وصمت لسانه فعلمه بحاله يغنيه عن سؤاله
في هذه اللحظة أتته المعية الإلهية والرحمة الرحمانية تغنيه عن كل( الغير) عن الأب والأم والإخوة ...تزيل عنه وحشته ...تنير له كل ظلمة ...’تذهب عنه كل حزن ...تفرج عنه كل كرب ...تيسرله كل عسر ...تمسح عنه كل دمعة ... تنزع عنه كل أسي وألم ...تأخذ بيده في كل أمر .
وأوحينا إليه : وكفي بوحي الله من نعمة وقربي ومدد ...وكفي بوحي الله صلة وكفي بوحي الله ليوسف من اجتباء واصطفاء وإخلاص .

ثم ينتقل السياق من مشهد إلي مشهد ويترك لذهن السامع الإستنتاج بأن خطتهم قد تكللت بالنجاح وأنهم أنجزوا عملهم بجعل يوسف في الجب علي أكمل وجه وقد رجعوا إلي أبيهم ليختموا الفصل الأخيرمن الخطة وذلك بتقديم ما أعدوه من الأعذارالمزعومة إلي أبيهم (وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ* قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ* وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُوَن)
واعجباه !! ..لقد تعللوا لأبيهم من قبل أنه بذهاب يوسف معهم سيلعب وهم له الحافظون فإذا هم يقولون الآن : إنه كان هو الحافظ لمتاعهم وهم الذاهبون اللاعبون وقالوا إنه سيرتع ويأكل كيف شاء فإذا هوالمأكول ...وقالوا لئن أكله الذئب وهم عصبة إنهم إذا لخاسرون فإذا عصبتهم هي التي أبعدتهم عن يوسف للربح في السبق وإذا يعقوب ويوسف هما المفترقان الخاسران .
لقد كان ادعاؤهم ضعيفاً واهناً غيرمعقول ولامقبول لعدة أسباب :
• لم يوجد علي القميص من أثر يوسف أوالذئب شيء سوي دم نكرة .
• إن حادثة كبيرة فظيعة كهذه لايكتفي فيها ببينة ثانوية هامشية فأين الجاني وأين المجني عليه ..هل اختفيا من الوجود وبلعتهما الأرض؟
• ألن يستطيعوا إدراك الذئب المعرف فينقذوا أخاهم من براثنه أومابقي منه لدفنه وهل الذئب يأكل الإنسان كاملا فلايبقي له علي عظم أوجلد أوشعر؟
• ألم يكن الذئب هوالذي حذرهم أبوهم منه فأكدوا علي استعدادهم جميعا للوقوف صفاً واحداً لحماية يوسف منه ويكون هو نفسه العلة التي أتوا بها؟
إن يعقوب النبي الحكيم لم يصدق ادعاءهم ولم يقتنع به وعلم أن نفوسهم المريضة قد دعتهم وأغرتهم بأمرسيء آخر....ولكن يعقوب أيضا لايملك دليلاً بيناً مضاداً يدينهم ويجرمهم ومن ثم يعاقبهم .
ولما لم يكن أمامه ما يمكنه القيام به فقد أسقط في يديه و(قال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُوَن).
فسلاح المؤمن في مثل هذا هو فصبر جميل ....فما علي الإنسان العاقل أمام النوازل التي لايستطيع لها صرفاً ولا تحويلاً ولا تدبيراً إلا أن يلجأ إلي الصبر
تلك الصفة التي جعلها الخالق الحكيم في الإنسان لإمتصاص الصدمات وتخفيف الآلام وتحمل الشدائد والصعاب ...فالمؤمن الثابت الإيمان الصادق اليقين صبره (صبر جميل) لاشكوي فيه ...وكيف يشكو وهويؤمن أن ما أصابه هو من عند الله إما إبتلاء وتمحيص وإما جزاءً عادلاً ...وأن تدبيرالله تدبير حكيم عليم .
يقول النبي عليه الصلاة والسلام :(عجباً لأمرالمؤمن إن كل أمره له خيروليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) (صحيح مسلم) .
فالمؤمن يعلم أنه موصول بالله متصل به ...فمصيبته هي من الله مصدراًَ وهي إلي الله مرجعاً ...فهو يشعر بالمعية الإلهية (إن الله مع الصابرين) .
وهكذا انتهي حوارالإخوة مع أبيهم بعد فعلتهم ونجاح كيدهم وبه ينتهي أيضاً الفصل الأول من القصة بإنتهاء إقامة يوسف مع أبويه وإخوته وفي موطنه ومربع صباه.
ومن هنا تبدأ رحلة البعد والفراق والإغتراب التي كاد الإخوة فيها ليوسف شراً وأرادها الله له خيراً في دينه ودنياه ومآله .
( وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ* وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَاهِدِينَ)
ثم جاءت رفقة مارة مسافرون في طريقهم من الشام إلي مصر فأرسلوا واردهم ليحضرلهم الماء فرجع إليهم بالماء والغلام فأسروه بضاعة وباعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين .
وهكذا ينتهي المطاف بيوسف الصبي الصغير المُجتبي المُنعم الموحي إليه من رب العزة والجلال إلي أن يصير بضاعة مملوكاً يباع ويشتري والعبرة في الخاتمة والمآل (والعاقبة للمتقين)
فحكمة الله في تقديرالأمور تجري بعلم وحكمة وعدل ...والخيرية للمؤمن تدركه كيفما كان وعلي أي وجه من الإبتلاء ومصائب الضراء والسراء وإلى هنا ينتهى مشهد السيارة ورحلة يوسف الغلام معهم .


يتبع إن شاء الله تعالي
 
عودة
أعلى