إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلَا هاديَ لَه، وأشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ:
فقَد تحلَّى صاحبُ الفَضِيلة العلَّامة شَيخنا محمَّد بن صالِح العُثَيْمِين رحمه الله تعالى بصفاتِ العُلماء الجَليلة وأَخلاقهم الحَميدة، أُولئك الَّذِين وَقَفوا حياتَهم لخِدمة العُلوم الشَّرعيَّة ونشرِها بين النَّاس في مَيَادين التَّعليم والتَّأليف والإِفْتاء والنُّصح والتَّوجيه والدَّعوة إلى الله على بَصِيرة.
وفي هذا المَقَام كانت لفَضيلتِه رحمه الله تعالى جُهود مُباركة في تَحرير الفتاوَى وتَدْوينها والإجابةِ على الأسئلة المتعدِّدة مُشافهةً ومُهاتفةً وفي محافِل اللِّقاءات والمُحاضَرات.
وقد بنَى فتاواه رحمه الله تعالى على التَّأصيل والتَّوثيق الشرعيِّ، واتِّباع الدَّليل ووَجَاهة التَّعليل، وقرَّب محتواها بخصائص أُسلوبه الذي يتجلَّى بوُضوح العِبارة وفَصاحة التَّركيب ودِقَّة الألفاظ وسُهولة عَرْض المعاني وتَرْتيب الأَفْكار وتَفْريع المسائِل وتَقْسيماتها وتحرِّي الصَّواب فيها؛ حتَّى رَزقه الله القبولَ الواسعَ لدَى الناس فاطمأنُّوا لاختياراتِه وترجيحاتِه الفقهيَّة وأَخَذوا بها، ونَهَلُوا مِن مَعِينها، وسَرَت فتاواه في الآفاق وانتَشرت في أَنْحاء العالم الإسلاميِّ بفَضْل الله وإحسانِه وكَرمِه وامتِنانِه، وذلِك فَضْل الله يُؤتِيه مَن يَشاء والله ذُو الفَضْل العَظِيم.
وكان مِن سَعْيه الموفَّق الهادِف لنَشْر العِلْم الشَّرعيِّ بَين النَّاس مشاركتُه الفعَّالةُ في البَرْنامج الإذاعيِّ الشَّهير (نُورٌ عَلَى الدَّرْبِ) الَّذِي يَنْطلق يوميًّا -ومنذ عُقود- من إِذاعة القرآن الكَريم بالمَمْلكة العربيَّة السُّعوديَّة؛ في إِطار سَعْيها الشَّامل المُبارك لبَثِّ الوَعْي العامِّ بين النَّاس، والتَّبْصير بمَحاسن الإِسْلام، وبيان أَحْكام الشَّريعة؛ ويتولَّى الإجابَةَ فيه على أَسْئلة المستمعِين نُخْبةٌ من عُلماء المَمْلكة، ويَنْتفع به أعدادٌ كبيرةٌ مِن مُختلَف الفِئات داخلَ المملكةِ وخارجَها.
وكانَتْ مُشاركتُه في هذا البَرْنامج تَزِيد عَن عِشرينَ عامًا؛ حتَّى وفاتِه رَحِمَهُ اللهُ تعالَى عام (1421هـ).
واستِجابةً لطَلب القُرَّاء الكِرام فِي طِباعة فتاوَى فَضِيلة الشَّيخ رحمه الله تعالى فِي ذَلك البَرْنامج مُفردَةً مُستقلَّةً لتَعميم انتِشارها وتَسهيله وزيادَة الانتِفاع بها بإذن الله تعالى؛ عهِدت (مُؤسَّسة الشَّيخ محمَّد بن صالِح العُثَيْمِين الخيريَّة) إلى مجموعة عَمَلٍ من طُلَّاب الشَّيخ رحمه الله تعالى؛ اختارَهُم الشَّيخ الدُّكتور خالِد بن عبد الله المُصْلِح -حفظه الله- لعَمَل الإِعْداد المَبْدئيِّ للمادَّة المفرَّغة مِن تَسْجيلات البَرْنامج، فقامُوا -مَشْكورين أثابَهم الله تعالى- بالمُقَابلَة السَّمْعيَّة مِن الأَشْرطة وتَصْنِيف الأَسْئلة وتَبْويبها موضوعيًّا.
وإنفاذًا للقَواعِد والضَّوابط التي قرَّرها شيخُنا رحمه الله تعالى لإِخْراج تُراثه العِلْميِّ تولَّى القِسْمُ العِلْميُّ بالمؤسَّسة إِكْمالَ الخِدْمة العِلْميَّة اللَّازمة للإِخْراج النِّهائيِّ لنَشْر وطِباعة تِلك الفتاوى القيِّمة التي بَلغت ستَّةَ آلافٍ وتِسْع مئة وخمسين فتوى صدَرت في اثني عشر مجلدًا، زاخرةً بمسائلَ في العقيدةِ، وأحكامٍ شرعيَّة؛ في العِبادات والمُعاملات، وقَضايا اجتماعيَّة.
نَسأل الله تعالى أَنْ يجعلَ هذا العَمَل خالصًا لوَجْهه الكَريم، نافعًا لعِبادِه، وأن يجزيَ فَضِيلة شَيْخِنا محمَّد بن صالِح العُثَيْمِين رحمه الله تعالى خَيْر الجَزَاء ويُضَاعف له المثُوبة والأَجْر ويُعْلِي دَرَجته في المَهْدِيِّين، إنَّه جَواد كَريم.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك علَى عَبْده ورسولِه، نبيِّنا محمَّد وعلى آلِه وأصحابِه والتابعِين لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين.