صدر حديثا لمحبي دراسات أصول الدين...

نزار حمادي

New member
إنضم
25/06/2008
المشاركات
270
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
الإقامة
تونس
attachment.php

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العلي الشأن، الجلي البرهان، الذي كرّم بني آدم بالعلوم الضرورية الحاصلة لهم بلا اكتسابات، والعقل الغريزي الذي استعدوا به لإدراك دقائق المعلومات، وأهّلهم للنظر والاستدلال، والارتقاء في مدارج الكمال، ثم أمرهم على ألسنة الرسل بالتفكر في المخلوقات، والتدبر في المصنوعات؛ ليؤديهم ذلك التفكر والتدبر إلى العلم بوجود صانع قديم، قيُّوم حكيم، واحد أحد، فَرْد صمَد، منزَّه عن الأشباه والأمثال، متصف بصفات الجلال والكمال.

والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا ومولانا محمد أشرف الأواخر والأوائل، المبعوث من أشرف القبائل، بأبهر المعجزات وأظهر الدلائل، الموضح للسبل، الخاتم للأنبياء والرسل، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه أجمعين.

وبعد؛ فإنّ جميع العلوم الإسلامية، وإن تكثرت، فالمطلوب منها أمران: أحدهما: إِلْفُ العبادات الذي مرجعه إلى صحة الاعتقادات والقيام بوظائف الطاعات. والثاني: إِلْفُ العادات الذي مرجعه إلى إقامة الأبدان بالأغذية والمعالجات، ونظام المعاش بالمعاملات. والأمر الأول المتعلق بالاعتقادات والعبادات، وإن كان أوكد؛ نظرًا إلى وقوع التكليف به أصالة، لكن قوامُه لا يكون إلا بقوام الثاني، ولهذا احتيج إليهما سوية، وصرنا مكلَّفين بهما معا.
وقد جاءت شريعة الدين الإسلامي الخاتمة للشرائع وافيةً بالأمرين، كافية لتحقيق المقصدين، أقصد مقصد صحة الاعتقادات لتكون مطابقة لما في نفس الأمر، مع تصحيح العبادات لتكون خالِصَة لله الذي له الخلق والأمر، ومقصد حفظ صحة الأبدان لتكون منعّمة بالسلامة، وملائمة للقيام بوظائف العبادة، مع تنظيم ما بين البشر من المعاملات، لتكون مجتمعاتهم سالمة من الاختلافات، وما ينجر عنها من التنافرات.

وقد قام بالأمرين أحسن قيام، وبيّن طرق تحصيل المقصدين أتم بيان: المعلمُ الأكبر، المبعوث لسياسة الخلق أجمع: سيدُنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وتمّم تبليغ رسالة الله العليم الخبير بمصالح الإنسان، الذي منَّ علينا بإرسال الرسل لتعلمينا سُبل تحصيل مصالح الدنيا والآخرة بمحض الفضل والامتنان.

هذا، وقد عُلِم بالتجارب السابقة، والخبرة السارية في العالَم، مِن أوّل نشأة الإنسان إلى اليوم، أنّ العقول غير مستقلة باستدفاع المفاسد، ولا باستجلاب المصالح، لا الدنيوية ولا الأخروية، فالمصالح الدنيوية لا تستقل عقول البشر بإدراكها على التفصيل ألبتة، لا في ابتداء وَضْعِها أوَّلاً، ولا في استدراك ما عسى أن يُفرَض في طريقها؛ فإنّ وضعها أوّلا لم يكن إلا بتعليم من الله تعالى، إذ آدم عليه السلام لمّا أنزل إلى الأرض عُلِّمَ كيف يستجلب مصالح دنياه، ولم يكن ذلك من معلومه أوّلا، كما يشير إليه قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[البقرة: ٣١]. فآدم عليه السلام لم يتوصل إلى علم شيء من الأشياء إلا بالوحي، ثم توارثت ذريته العلومَ كذلك في الجملة، فإنّ الصناعات المهمة مثلا أصلها بالوحي لأنبياء الله إدريس وداود وغيرهما عليهم الصلاة والسلام، وقس على ذلك باقي أصول العلوم، لكن لمّا توصلت العقول إلى إدراك بعض فروع تلك الأصول توهمت استقلالها بتحصيلها، وليس الأمر كذلك.

وما يوجد لبعض المجتمعات المتمدنة اليوم من صور الانتظام القانوني، فإذا بحث عن أصله وُجد مقتبسًا من الشرائع الإلهية على وجه المحاذاة لها، ثم هو مشوب بالانحلال والإفراط والتفريط بقدر بعده عن المناهج الشرعية الربانية.

والمقصود إجمالا أنه لولا أن الله تعالى مَنَّ على الخلق ببعثة الأنبياء والرسل لم تستقم للناس حياة، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم، وهذا معلوم بالنظر في أحوال الأولين والآخرين، لا سيما أحوال العرب خاصة.
وأمّا المصالح الأخروية، فإدراكها أبعد عن مجاري العقول من جهة وَضْع أسبابها، وذلك كالعبادات مثلا، فإنّ العقل لا شعور له بها على الجملة، فضلا عن العلم بها تفصيلا، وأيضا فالعقل لو تُرك ونفسه لما جزم بوجود الدار الآخرة التي عليها مدار السعادة الأبدية، بل ليس له فيها إلا تجويز الوجود أو عدمه، كما هو شأن العقل في الحكم على الممكنات.

والشرائع ـ كما هو معلوم ـ لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والأنبياء أيضا لم تزل تتواتر على البشر من لدن آدم عليه السلام إلى أن ختمت الشرائع بالشريعة المحمدية الإسلامية ـ على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ـ و التي أمِرنا معاشر المكلَّفين كافة بالاعتصام بها والاحتكام إليها، ممثلةً في مصادرها الأساسية: وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وما يتفرع عنهما من أصول الأحكام الشرعية العلمية والعملية.

وحيث لا يمكننا الاعتصام بتلك المصادر ولا الوثوق منها إلا إذا كانت معصومة محفوظة من أيدي العابثين، ومطهرة من تحريفات المحرِّفين، تفضّل الله تعالى علينا بحفظها حفظا كاملا، إمّا مباشرة كما وقع للقرآن العظيم حيث قال عز من قائل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [الحجر: ٩]، أو حفظا غير مباشر كما وقع لباقي المصادر التشريعية، وذلك عن طريق تسخير العلماء الصادقين والأئمة المرضيين الذين تولوا حفظ السنة النبوية المطهرة تدوينا وتنقيحا، وقواعد الشريعة تقعيدًا وتأصيلاً، خلافا للشرائع السابقة التي طالتها أيدي التحريف، وتلاعبت بها أكف التزييف، فشُوِّهت عقائدها، وبدّلت أحكامها.

وقد مرت مراحل حفظ مصادر الدين الإسلامي بمحطات مهمة، ووقع ذلك الحفظ على تدرج محكَم بحسب الأحداث التاريخية والوقائع المستجدة وحاجة المجتمعات الإسلامية، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون من جميع تلك المصادر ما يُحتاج إليه، إما بتلقيهم ذلك من النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، أو بفهم من القرآن مباشرة لسهولة ذلك عليهم من حيث كونهم عربًا بصائرهم قد تنوّرت بفهم لغة القرآن حق الفهم، إضافة إلى بركة اقتدائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يحتاجوا مع ذلك إلى آلة يتوصلون بها لفهم مبانيه، ولا وسيلة يستعملونها لدرك معانيه، غير أنهم مع حفظهم للقرآن العظيم في صدورهم كانوا يكتبون ما يسمعون منه في الرقاع واللخاف وغيرها لحكمة ظهرت فيما بعد وهو أن ذلك سيكون وسيلة إلى حفظه.

فلما استحر القتل في القُراء، وخاف أبو بكر رضي الله عنه ضياع القرآن، جمعه في مصحف لإدراكه أن ذلك قد تعيّن وسيلةً إلى حفظه. ولمّا أحس عمر رضي الله عنه أنّ فهم الكتاب والسنة يحتاج إلى موصل لما فيهما من دقائق الإشارات وغرائب العبارات حضّ على رواية الشعر وتعلمه، فقال رضي الله عنه في خطبته: عليكم بديوانكم. قيل وما هو؟ قال: شعر الجاهلية، ففيه معنى كتابكم. ولما خشي عثمان رضي الله عنه اختلاف الناس جمع القرآن في المصاحف لعِلْمِه أن ذلك صار وسيلة إلى ضبطه وارتفاع النزاع فيه، ولما سمع عليّ رضي الله عنه اللحن وخاف ضياع لغة القرآن وضع النحو لعلمه أنّه وسيلة إلى حفظ اللسان العربي، وحفظه وسيلة إلى فهم معاني الكتاب والسنّة اللذين عليهما مدار الشريعة الإسلامية، ولمّا علم مهرة الصحابة والتابعين أنه ليس كل أحد يقوم بفهم معاني القرآن اشتغلوا بتفسيره، ودوّنوا التفسير نصحا لمن بعدهم، ودونوا الأحاديث النبوية لأنّ ذلك وسيلة إلى حفظ ما وقع به التكليف، وهو وسيلة إلى الامتثال لأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه.

ولمّا كان ما يُنقَل من الأحاديث ليس كله متواترًا ولا متفقا على صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل منه الصحيح وغيره، واحتاج أئمة الدين إلى تمييز المعمول به من غيره، وإلى معرفة تلقي ذلك وتبليغه، أحدثوا صناعة الحديث وما فيها من الاصطلاحات والألقاب، ولمّا كانت الأحكام المأخوذة من الكتاب والسنّة منها ما يرجع إلى كيفية عمل، ومنها ما يرجع إلى اعتقاد صرف، والأولى لا تتناهى كثرة فامتنع حفظها كلها لوقت الحاجة، فنيطت بأدلة كلية من عمومات وعلل تفصيلية تستنبط منها عند الحاجة، فجمعوا ذلك ودونوه وسموا العلم الحاصل لهم عنها فقهًا.

ولمّا اختلفوا في استنباط المسائل المستجدات، واحتاجوا في الجواب عن كل نازلة نازلة إلى مقدمات كلية، كل مقدمة منها ينبني عليها كثير من الأحكام، وربما التبست ووقع فيها الاختلاف حتى تشعبوا شعبا وافترقوا على مذاهب، لم يروا إهمالها نصحا لمن بعدهم، وإعانة لهم على درك الحقائق، فدونوا ذلك وسموه أصول الفقه.
وأمّا الاعتقادات فقد كانت في صدر الإسلام سليمة، ولمّا تكاثرت الأهواء والشِّيَع، وافترقت الأمة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم على فِرَق، وكثر الخبط في الدين، وعظمت على الحق شُبَهُ المبطلين، انتهض علماءُ الأمة وعظماءُ الملة إلى مناضلة المبطلين باللسان، كما كان الصدر الأول يناضلون عن الدين بالسنان، وأعدوا لجهاد المبطلين ما استطاعوا من قوّة، فاحتاجوا إلى مقدمات كلية، وقواعد عقلية، واصطلاحات وأوضاع يجعلونها على النزاع، ويتفقهون بها مقاصد القوم عند الدفاع، فدوّنوا ذلك العلم وسموه بأسماء منها «علم أصول الدين» و«علم الكلام»، وصار يعرّف فيما بعد بأنه: «علمٌ بأمور يُقتَدرُ مَعهُ على إثبات العقائد الدّينية على الغير وإلزامه إياها، وذلك بِإِيرَادِ الحُجَجِ عليها وَدَفْعِ الشُّبَهِ عنها»، ويعرف أيضا بـ«العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسَبِ من أدلتها اليقينية.»

وقد صار هذا العلم الجليل من أهم العلوم الإسلامية على الإطلاق، وآكدها باتفاق، نظرا لكونه كليا بالنسبة إليها، وسائرها جزئي بالنسبة إليه، وقد علل الشيخ شمس الدين الأصفهاني ذلك في أول شرحه على مطالع البيضاوي بأنّ قواعد الشرع ومعالِم الدين أصلُها الكتاب والسنة، والاستدلال بهما يتوقف على إثبات أنّ الله تعالى متكلِّمٌ مرسِل للرسل موحٍ إليهم، وهذه الأمور إنما تُعلَم على الوجه الصحيح من «علم الكلام» السُّنِّي، فيكون «علم الكلام» مبنى قواعد الشرع وأساسها، ورئيس معالم الدين وراسها.

ووضح ذلك حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي في أول كتابه «المستصفى» مبيّنا أنّ العلوم منقسمة إلى عقلية ودينية، وكل واحد منهما ينقسم إلى كلي وجزئي، فالعلم الكلي من العلوم الدينية هو «علم الكلام»، وسائرها من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علوم جزئية.

ووَجْهُ ذلك أن المفسر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصّة، والمحدِّث لا ينظر إلا في طرق ثبوت الحديث خاصّة، والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة، والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصة، والمتكلِّم هو الذي ينظر في أعم الأشياء وهو المعلوم، ثم يقسمه إلى موجود ومعدوم، ثم ينظر في الموجود فيقسمه إلى موجود قديم لا أول لوجوده، وموجود محدَث مسبوق بالعدم، ثم يقسم المحدَث إلى أقسامه التي تندرج ضمنها جميع المخلوقات، ويبين افتقارها في جميع الحالات، ثم ينظر في الموجود القديم فيبين أنه كامل غنيٌّ عن كل ما سواه، وأنه لا بد أن يكون واحدًا، وأن يكون متميزًا عن المخلوقات بأوصاف تجب له وبأمور تستحيل عليه، ثم يبين أن أصل الفعل جائز عليه، وأنّ العالَم فِعْلُه الجائز، وأنه لجوازه افتقر إلى موجِد، ويبين أيضا أن بعثة الرسل من أفعاله الجائزة، وأنه قادر عليه وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات، وأن هذا الجائز واقع، وعند هذا ينقطع كلام المتكلم ويعزل العقلُ نفسه بعد أن أثبت صدق النبي، فيذعن لما جاء به ويعترف أنه يتلقى منه بالقبول ما يقول في أحكام الله وفي اليوم الآخر وسائر ما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي باستحالته؛ إذ الشرع لا يرد بما يخالف العقل، لكن يرد بما يقصر العقل عن الاستقلال بإدراكه.

فقد عرف من هذا أن «علم الكلام» هو أعم العلوم، حيث يبتدئ المتكلم نظره أوّلا في أعم الأشياء، ثم ينزل بالتدريج إلى التفصيل المذكور فيثبت مبادئ سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول، فيأخذ المفسِّر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحدًا خاصا وهو الكتاب فينظر في تفسيره، والمحدّث يأخذ واحدًا خاصا وهو السنّة فينظر في طريق ثبوتها، والفقيه يأخذ واحدًا خاصا وهو فعل المكلَّف فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الوجوب والحظر والإباحة، ويأخذ الأصولي واحدًا خاصا وهو قول الرسول فينظر في وجه دلالته على الأحكام الشرعية، فكان «علم الكلام» هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها، وهي جزئية بالإضافة إليه. اهـ

وقد مر علم الدفاع عن الأصول الدينية، بعد ظهور المخالفين فيها من شتى الملل والنحل، بمراحل أساسية، فالمرحلة الأولى كان فيها الأئمة المحدّثون ـ أمثال الإمام أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن حبان والدارقطني وغيرهم رضي الله عنهم ـ هم السابقون للقيام بواجب الدفاع عن العقائد الإسلامية بحسب ما ورد في عصرهم من الشبهات، فأثبتوا العقائد السليمة التي كان عليها السلفُ الصالح ودار حولها الجدال آنذاك، كخَلْقِه تعالى لأفعال العباد، وعموم تعلق إرادته سبحانه، وكون القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأن رؤيته تعالى واقعة للمؤمنين في الدار الآخرة، وحقيّة سؤال الملكين، والصراط، والميزان، والشفاعة في خروج من دخل النار من عصاة الموحدين، وأن مرتكب الكبيرة من الموحدين مؤمن، وردوا على المخالفين في هذه الحقائق وأبطلوا أهواءهم فيها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية أساسًا.

وأمّا المرحلة الثانية التي تقوّت فيها شُبَه المخالفين، لا سيما مع إدخال المعتزلة بعض العلوم الفلسفية في مقالاتهم وما تخيلوه من الأدلة العقلية، فجادلوا في بعض دقائق مباحث الإلهيات كالصفات، ونفوا كثيرا من السمعيات، فاعتنى بالرد عليهم طائفة أخرى من علماء أهل السنة كعبد الله بن سعيد بن كلاب، وأبي العباس القلانسي، والشيخ أبي الحسن الأشعري، وتلميذه ابن مجاهد البصري، وأبي الحسن الباهلي، والأستاذ أبي إسحاق الاسفرايني، وأبي بكر بن فورك، والقاضي أبي بكر الباقلاني، والحافظ البيهقي، وإمام الحرمين عبد الملك الجويني، ونحو هؤلاء من العلماء الذين اعتنوا بالرد على المخالفين والمناضلة عن الدين بالبراهين القطعية والقواطع السمعية، فكانوا ناصرين لمن تقدمهم من علماء الحديث بما رتبوه من الحُجَج القطعية وأبدوه من البراهين العقلية، قائمين بحجة الله ورسوله بعد الصحابة والتابعين.

وأمّا المرحلة الثالثة التي شهدت ظهور سلطان فكر الفلاسفة الإسلاميين الذين أحيوا العلوم الإلهية اليونانية وآلاتها المنطقية ـ كالفارابي وابن سينا ـ وأرادوا مطابقتها على نصوص العقائد الإسلامية، فخالفوا الكثير من المعاني الظاهرة الصريحة للنصوص الدينية، وحاولوا نقض العديد من قواعد العقائد الصحيحة، فتصدى للرد عليهم طائفة أخرى من علماء أهل السنة كحجة الإسلام الغزالي، والشيخ عبد الكريم الشهرستاني، وإمام المعقول والمنقول فخر الدين الرازي (ت 606هـ) «إمام المتكلمين، ذو الباع الواسع في تعليق العلوم، والاجتماع الشاسع من حقائق المنطوق والمفهوم، الذي انتظمت بقَدْرِه العظيم عقود الملة الإسلامية، وابتسمت بدرِّه النظيم ثغور الثغور المحمدية، الذي كان في العلوم الشرعية ـ تفسيرًا وفِقهًا وأصولا وغيرها ـ بحرًا لا يجارى، وبدرًا إلا أنه هُداه يشرق نهارا»، فتصدى لنقض القواعد الفلسفية، مستنِدًا في ذلك على القواطع النقلية والعقلية، وصنف كتبا كثيرة بيّن فيها الحق، وأظهر فيها الصدق، وردّ على الفلاسفة مذاهبهم الفاسدة وآراءهم الباطلة، فكان كما وصفه ابن عُنين:


مَاتَتْ بِهِ بِدَعٌ تَمَادَى عُمرُهَا :: دَهْرًا وَكَادَ ظَلاَمُهَا لاَ يَنْجَلِي
وَعَلاَ بِهِ الإِسْلاَمُ أَرْفَعَ هَضْبَةٍ :: وَرَسَا سِوَاهُ فِي الحَضِيضِ الأَسْفَلِ
غَلِطَ امْرُؤٌ بـِ«أَبِي عَلِيٍّ» قَاسَهُ :: هَيْهَاتَ قَصَّرَ عَنْ هُدَاهُ أَبُو عَلِي
لَوْ أَنَّ رَسْطَالِيسَ يَسْمَعُ لَفْظَةً :: مِنْ لَفْظِهِ لَعَرَتْهُ هِزَّةُ إِفْكَلِ
وَلَحَارَ بَطْلِيمُوسُ لَوْ لاَقاَهُ مِنْ :: بُرْهَانِهِ فِي كُلِّ شَكْلٍ مُشْكَلِ
وَلَوْ أَنَّهُمْ جُمِعُوا لَدَيْهِ تَيَقَّنُوا :: أَنَّ الفَضِيلَةَ لَمْ تَكُنْ لِلأَوَّلِ​


وقد كانت مصنفات الإمام الفخر الرازي للعلماء الأفاضل موئلا، ولذوي النهى والألباب منزلا، يستضيئون بأنوارها، ويثابرون على اقتفاء آثارها، ويهتدون حين يتيهون بنجومها، ويسمرون بجميل ذكرها، ويعترفون بعلومها، ويغترفون من بحارها، كما كانت محل اهتمام المحققين النظار بالشرح والتعليق والنقد، والقصد الأساسي من وراء ذلك الدفاع عن العقائد الصحيحة التي جاء بها الكتاب العزيز والسنة النبوية الشريفة.

ومن أواخر كتب الفخر في علم الكلام والتي حظيت بعناية العلماء كتاب «معالم أصول الدين» الذي لخص فيه زبدة أفكاره، وضمّنه صفوة أنظاره، فكان متنًا جديرًا بالبحث والشرح والتعليق، والنقد والتصحيح قَصْدَ التحقيق، وقد تصدى لذلك جملة من علماء أهل السنة والجماعة، منهم الشيخ المحقق شرف الدين ابن التلمساني: الإمام العالم بالفقه والأصلين، فشرح غوامضه، وكمّل نواقصه، وكشف عن مشكلاته، وحل معضلاته، فصار بدوره كتابًا لا يستغني عنه عالم فضلا عن طالب، ولا يزهد فيه زاهد فضلا عن راغب، كيف وقد أتى فيه على أهم مباحث علم الكلام، وحقق أبرز ما فيه من المطالب التي ينال بها المرام؟!

وقد وفّقنا الله تعالى بفضله للوقوف عليه والاستفادة منه، ثم يسّر لنا الاعتناء بمخطوطاته تصحيحًا وتحقيقا وإعدادا لطباعته ليعم النفع به، والله نسأل أن يجعل نشره عملا صالحا متقبلا تدوم فوائده بدوام وجوده، وأن يسد به ثغرة من ثغرات النقص الحاصلة في تحقيق كتب هذا العلم الجليل بهذا المنهج الحقي الأصيل، وبالله تعالى التوفيق.
 
وفقكم الله أستاذنا الفاضل ..
و أحب التنبيه على نقطة - و لكنها في الأهمية صخرة
icon7.gif
- و هي أن المسلمين اليوم و العالم من ورائهم هم بأمس الحاجة إلى بناء الإيمان الفطري منهم إلى حراسة العقائد الكلامية على الوجه التفصيلي الذي ألجأتهم ظروف تاريخية إليه !

و هذا ينطبق على الفريقين الكلامي الأشعري و الكلامي " السلفي " .. و بارك الله فيكم و في الجميع .

أخوكم الصغير خلوصي النيسابوري
icon7.gif
 
عودة
أعلى