(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)
ومن كمال حياته وقيوميته أنه (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) لأن السِّنَةَ والنوم إنما يعرضان للمخلوق الذي يجري عليه الضعف والعجز والانحلال ولا يعرضان لذي العظمة والكبرياء والجلال .. فالله عزوجل لا يعتريه نوم ولا يغلبه نعاس لأنه قائم بتدبير أمور خلقه آناء الليل وأطراف النهار.. وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها مقررة لمعنى الحياة والقيومية الدائمة الكاملة .. فهو سبحانه شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية .
( فالسهو والنوم صفات بشرية يتنزه الله عنها كما أنه يتنزه عن كل أفعال وحركات البشر.. فالسهو والنوم يكون لمن يحل عليه التعب واللغوب وتظهر عليه أمارات الإرهاق .. أو لمن لا يجد وسيلة لمعالجة أموره إذا عجز عنها .. ولكن الله سبحانه وتعالي منزه عن هذا كله وعن هذه الصفات التي هي لخلقه)
[1]
(والنوم نقص من حيث الكمال الذاتي لأن الإنسان الذي ينام معناه أن بدنه يتعب فيحتاج إلى نوم يستريح به مما مضى ويستجد به النشاط لم يستقبل ولهذا فإن أهل الجنة لا ينامون لكمال حياتهم وأبدانهم ولا يلحقهم مرض ولا نحوه)
[2]
لذا جاء في الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأربع كلمات فقال : (إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام .. يخفض القسط ويرفعه .. يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل .. حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)
[3]
فسبحان الله ما أعظمه ؟ كيف يعصيه المخلوق الضعيف وهو بهذه القدرة والعظمة ؟!
لذا( فالله ليس بحاجة إلي الراحة والنوم .. فالنوم منشأ التعب والإجهاد .. ثم أي سهوة أو سنة أو غفوة أو نوم يقع من الله سبحانه وتعالي – وحاشا لله ذلك – فلو أنه حدث فإن السماوات والأرض وحتي الجنة والنار تهوي علي غير قرار ولم يعد شيئا يسمي كونا أو وجودا أو حياة .. فأنت كإنسان حينما تنام تفقد الأهلية في مراقبة ما كنت تستطيع أن تراقبه وأنت بحالة اليقظة فإن كنت قائداً لسفينة فإنك تستطيع أن تقودها وأنت في حال اليقظة .. ولكن هل تستطيع وأنت في حال النوم ؟! وحتي لو كنت تقودها وأنت في حال اليقظة ثم سهوت لثوان فربما تضيع السفينة ومن عليها وتهوي في قرارلا عودة منه
فكيف بمن يملك زمام السماوات السبع والأراضين السبع وما بينهما وما فوقهما وأمر الجنة وأمر النار وأمر مالا نعلم .. فكيف يسهو وكيف ينام ؟)
[4]
وما أجمل ما قاله الأستاذ سيد قطب رحمه الله في ظلال هذه الآية : (وهذا توكيد لقيامه سبحانه على كل شيء وقيام كل شيء به ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورةعن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله سبحانه لكل شيء .. (ليس كمثله شيء) وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أوالنوم المستغرق وتنزهه سبحانه عنهما إطلاقا .. وحقيقةالقيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة .. حقيقة هائلةحين يحاول الإنسان تصورها وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل ويتصور بقدرما يملك قيام الله سبحانه عليها وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره .. إنه أمر .. أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني وما يتصوره منه وهو يسير هائل يديرالرؤوس ويحير العقول وتطمئن به القلوب)
[5]
أخي في الله ...
إن التأمل في قوله تعالي (لا تأخذه سنة ولا نوم(يسكب في القلب السكينة والطمأنينة ... كما يبعث في القلب الرهبة والخشية أما من حيث السكينة والطمأنينة .. فهي رسالة واضحة من الله عزوجل إلي عباده محتواها (أتريدون تطميناً من إله لمألوه .. ومن معبود لعابد .. ومن خالق لمخلوق أكثر من أنه يقول للعابد المخلوق: ( نم أنت ملء جفونك واسترح لأن ربك لا ينام ) ماذا تريد أكثر من هذا؟ هو سبحانه يعلم أنه خلقك وأنك تحتاج إلى النوم وأثناء نومك فهناك أجهزة في جسمك تعمل .. أإذا نمت وقف قلبك؟ .. أإذا نمت انقطع نفسك ؟ .. أإذا نمت وقفت معدتك من حركتها الدودية التي تهضم؟ .. أإذا نمت توقفت أمعاؤك عن امتصاص المادة الغذائية؟ .. لا، بل كل شيء في دولابك يقوم بعمله.. فمن الذي يُشرف على هذه العمليات لو كان ربك نائما ؟
إذن فأنت تنام وهو لا ينام .. وبالله هل هذه عبودية تُذلنا أو تُعزنا ؟ .. إنها عبودية تُعزنا فالذي نعبده يقول: ناموا أنتم؛ لأنني لا تأخذني سنة ولا نوم)
[6]
أما من حيث الرهبة والخشية .. فإن معرفة العبد أن الله لا تأخذة سنة ولا نوم يثمر في القلب مراقبة الله - عز وجل في السر والعلن .. في الليل والنهار.. في الخلوة والجلوة .. لأنه سبحانه مع عبده لا تخفى عليه خافية .. يسمع كلامنا ويرى مكاننا ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.. فإذا ما تيقن العبد من رقابة الله تعالي عليه (أورثه ذلك التقوى وراقب نفسه أن لا يراها حيث نهاها ولا يفتقدها حيث أمرها .. وتأتيه المغريات والشهوات التي تدير الرؤوس يسوقها شياطين الجن والإنس كي يدخلوا العباد في متاهات الباطل وظلمات الفساد .. فتأتي رقابة الله التي استقرت في قلب العبد فكانت حماية ووقاية .. علم العبد أن الله رقيب عليه عالم به وعلم أن الملائكة الكرام الكاتبين الذين يرقبون أعماله وأقواله ويطلعون عليه ويدونون كل ما يصدر عنه )
[7]
إن الإنسان( ليرجف ويضطرب ويفقد توازنه وتماسكه حين يشعر أن السلطان في الأرض
يتتبعه بجواسيسه وعيونه ويراقبه في حركته وسكونه وسلطان الأرض مهما تكن عيونه لا يراقب إلاالحركة الظاهرة وهو يحتمي منه إذا آوى إلى داره وإذا أغلق عليه بابه أوإذا أغلق فمه ! أما قبضة الجبار فهي مسلطة عليه أينما حل وأينما سار وأما رقابة الله فهي مسلطة على الضمائر والأسرار . . فكيف ؟ .. كيف بهذا الإنسان في هذه القبضةوتحت هذه الرقابة ؟! )
[8]
فيا ويل الغافلين .. ويا ويح المفرطين .. فالعجب كل العجب ممن يخشى من رقابة البشر الذين ينعسون وينامون وينسون ويغفلون ولا يخشى من رقابة الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (النساء108)
وهكذا إذا علم المسلم عظمة رقابة الله المطلقة راقب الله في تصرفاته وعباداته ومعاملاته وسائر أحواله وفي ذلك صلاح دنياه وآخرته وبلوغه أعلى درجات الإيمان وهو الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
(إنه عالم واسع يفيض بالحب، ويفيض بالتقوى، ويفيض بالأمل، ويفيض بالرهبة، ويفيض بالنور .. الإنسان في مواجهة مولاه بنفسه جميعاً .. بكل جوارحها وكل خلجاتها .. بظاهرها وباطنها .. بدقائقها ولطائفها .. بأسرارها وما هو أخفى من الأسرار وكلها مكشوفة لله .. يا الله! إنها الرهبة والقشعريرة تملأ النفوس ... عين الله البصيرة النافذة إلى كل شيء في هذا الوجود إلى كل نأمة وكل خاطرة وكل فكرة وكل شعور.. إنها تراك وترقبك سواء كنت متيقظاً لهذه المراقبة أم غافلاً عنها وسواء أعددت نفسك لها أم كنت من المعرضين.وإنه لخير لك أن ترى الله كما يراك.. خير لك أن تتوجه إلى حيث ترقبك العين البصيرة النافذة فتأمن المفاجأة !
إنها الرهبة في الحالين .. الرهبة في حضرة المولى العزيز العليم القوي الجبار.. ولكنها الرهبة والأمل هنا والرهبة والذعر هناك!
الرهبة والأمل وأنت متوجه إلى الله مخلص له قلبك عامل على رضاه
والرهبة والذعر حين تتوجه بعيداً عنه وهو من ورائك محيط ! فخير لك إذن أن تعبد الله كأنك تراه !.. وحين تتوجه إليه بنفسك جميعاً.. ظاهرها وباطنها.. وسرها ونجواها .. وحين تتوجه إليه وفي نفسك شعور التقوى الخاشعة والرهبة العميقة .. فلا شك أنك ستنظف نفسك وتحرص على نظافتها)
[9]
[1]آيات الله في خلق الكون ونشأة الحياة في السماء الدنيا والسموات السبع ص 242 .. د. ماهر الصوفي
[2] تفسير آية الكرسي .. الشيخ ابن العثيمين رحمه الله
[3] رواه مسلم (179) .. سبحات : جمع سُبحة وهي ما يفيض عن الذات الجميلة من لآلي النور ونوابض الحسن وأشعة الجمال .. وهذا دليل عَلَى عظمة الله عَزَّ وَجَلَّ، وعلى أنه لا يستطيع البشر أن يتخيلوا ولا أن يدركوا كنه ذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو كما قَالَ(وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(طه110)
[4]آيات الله في خلق الكون ونشأة الحياة في السماء الدنيا والسموات السبع ص 243
[5] في ظلال القرآن ج1 ص 287
[6]تفسير الشعراوي ج2 ص 1097
[7]أسماء الله الحسني الهادية إلي الله والمعرفة به ص 171.. د. عمر الأشقر
[8]في ظلال القرآن ج6 ص3362
[9] قبسات من الرسول لمحمد قطب ص83- 85 بتصرف