محمد كالو
New member
- إنضم
- 30/03/2004
- المشاركات
- 297
- مستوى التفاعل
- 1
- النقاط
- 18
- الإقامة
- تركيا
- الموقع الالكتروني
- www.facebook.com
صدر حديثاً: العدد الأول من سلسلة المفهومات القرآنية
المدخل إلى دراسة المفهومات القرآنية
الدكتور عبد الرحمن حللي
حلب: دار الملتقى، دمشق: دار الريادة
ط.1، 2011.
مقدمة الكتاب:
الحمد لله منزل الكتاب، "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" [هود / 1 ]، والصلاة والسلام على رسوله محمد خاتم النبيين، خاطبه ربه فقال:"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [الشورى /52 ]، وبعد:
فلقد حظي القرآن الكريم بعدد من العلوم نشأت في الحضارة الإسلامية لفهمه واكتناه معانيه، وكانت هذه العلوم ولا تزال تتطور وتثري الدرس القرآني وتعمق المعرفة بدقائق نظم القرآن وإحكام آياته وتفاصيلها.
وإن طبيعة الدراسات القرآنية تقتضي أن يظل فيها التجدد والإبداع مستمراً، إذ موضوعها هو الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، لكن هذا الإبداع لا يتأتى إلا من خلال الضبط المنهجي واستثمار ما أمكن من العلوم والأدوات الصالحة لذلك، والعمق العلمي هو مؤشر الجدَّة والإضافة في هذا المجال، وهذا العمق يحتاج إلى مقدمات منهجية قلما يصبر عليها الدارسون، وغالباً ما يسيء المرتجلون والعجلون في الدراسات القرآنية، إذ تتحول أعمالهم إلى مسخٍ مشوَّه، أو نسخٍ مُمَزق، أو جمعٍ مُفَرق، كل ذلك يجري بالرغم من وجود تراكم معرفي ـ تراثي ومعاصر ـ مهم حول منهجية الدرس القرآني وآفاقه، ولا يزال هذا التراكم ينمو وتضاف إليه لبنات معاصرة تعكس وعياً معمقاً بالآفاق الرحبة لدراسة القرآن الكريم والعلوم المتصلة به.
وتأتي هذه السلسلة حول "المفهومات القرآنية" إثراء للمعارف القرآنية، فتضع مدخلاً منهجياً يكشف عن أفق هذا اللون من الدرس القرآني، وتجسد هذا الطموح بنماذج تطبيقية وعملية لدراسة المفهومات القرآنية كنموذج للتدبر في محكم القرآن وتفصيل آياته، والمتجلي بوضوح في ضبط المفهومات الكلية المعبَّر بها عن تكامل المعنى القرآني في أماكن ورودها التفصيلية، وستكون هذه السلسلة خطاً يشتمل على نماذج من الدراسات المفهومية التي تنضبط بالمحددات المنهجية التي يرسمها المدخل لدراسة هذه المفهومات، والتي تنم عن الآفاق التي يرومها هذا اللون من الدرس، وهي إن بدت دراسات متفرقة في عناوين أجزائها فإن الخيط المفهومي الجامع بينها سيقود القارئ إلى الوصل بينها وبين المفهومات القرآنية الأخرى، وإن كل مفهوم منها يمثل وحدة متكاملة وعنصراً في حقل مفهومي أشمل، ولا يدرك معناه في سياق فلكه المفهومي ما لم يدرس مستقلاً أولاً.
وستجعل دراسة هذه المفهومات ـ كنموذج ـ قارئ القرآن بعدها يتذوق معنى جديداً فيه، هو لون من ألوان الإحكام والتفصيل والتشابه بين آياته.
وبكلمة يمكن القول .. إنها مقاربات في التدبر تبحث عن التي هي أقوم.
الخاتمة
رغم عناية المسلمين الفائقة بالقرآن على مدار العصور، إلا أن الظروف التاريخية التي مرت بها المعرفة الإسلامية جعلت الدراسات القرآنية أسيرة لمدونات تفسيرية معينة، وهي مدونات علمية ومهمة بطبيعة الحال، ولم تكن هناك إضافات نوعية كبيرة فيما استجد من دراسات، بما في ذلك دراسة المفهومات والمصطلحات، ويرجع ذلك إلى أزمة المنهجية في تلك الدراسات، فالإسقاط كان ولا يزال آفة الدراسات القرآنية سواء أكان التأويل فيها يرجع لرؤى عقدية أو مذهبية، بقصد أو بدونه، ودراسة النص من خلال بنيته ومفاتيحه بعيداً عن القبليات كمخرج من هذا المأزق بحاجة إلى تأطير وضبط منهجي، فكان هذا المدخل محاولة لتسليط الضوء على الآليات التي يمكن أن تسهم في تجلية معاني المفردات القرآنية المفتاحية (المفهومات)، ولا تنفصل هذه الآليات عن علوم اللغة المجال الرئيسي لفهم المعاني، فحاولنا توضيح المدخل اللغوي لفهم المفردات القرآنية، وأشرنا في هذا الصدد إلى دور الدراسات اللغوية المعاصرة في تطوير هذا المنهج، وخلصنا إلى تحديد عناصر وخطوات يمكن من خلالها الإحاطة بالمعنى المحتمل للمفردة.
لكن خطوات أساسية في هذا المجال تصطدم بعائق لغوي أشمل هو انعدام التدرج التاريخي في المعاجم العربية، لاسيما فيما يخص مرحلة ما قبل النزول، إذ معرفتها أساسية لإدراك التحول القرآني بالمفردة، وكذلك الأمر بالنسبة لخطوات أخرى تتعلق بجوانب تاريخية يمكنها أن تضيء جوانب من المعنى المبحوث عنه، إلا أن عناصر أساسية في المنهج الذي رسمنا ملامحه متوفرة، فيمكن من خلال جمع موسوعي للمادة اللغوية للمفردة أن يتوصل إلى معنى مركزي لها يستضاء به في رحلة المفردة في السياق القرآني، ومن خلال استعمالها المستقصى والمقارن مع إدراك علاقاتها بالسياق الخاص في موضوع ورودها وفي بنية النص القرآني عموماً –كما أوضحناه في الخطوات المنهجية- يمكن اكتشاف المعنى المركزي القرآني وإدراك تنزلاته في مختلف السور والآيات، وبالتالي معرفة التحول القرآني بالمفردة من معناها اللغوي العام إلى معنى قرآني يؤسس مع المفردات المفتاحية الأخرى النظام الشامل الذي يجلِّيه القرآن حول الإنسان والكون والحياة، ولعل في هذه الخطوات المختزلة ما يمكن الباحثين من العناصر المنهجية الكفيلة فيما نرى بتقديم إضافة نوعية في تدبر القرآن، والكشف عن وجوه جديدة من إعجازه البنيوي، وفهم عالميته وطرحه الكوني.
لقد انطلقنا في بيان ما ذكر على افتراض البعد المفتاحي للمفردة في النص، وهذا البعد ليس مرتبطاً باللفظ معزولاً عن سياقه في الآية خصوصاً أو القرآن عموماً، فالمفهوم لا يفهم إلا من خلال البنية التي تَنَزَّل فيها، والحركة التي ارتبطت به، لذلك كان تأكيدنا على بنية القرآن كمدخل للفهم وإعادة القراءة، فمجمل العلاقات التي يرتبط بها المفهوم تلعب دوراً أساسياً في ضبطه، ومن خلال هذه الحركة الشاملة للمفهوم نكتشف النظام المفهومي الذي ينتمي إليه، ومكانة هذا المفهوم في الحقل الذي يَخُصُّه ضمن النظام العام الذي تَنَزَّل به وهو القرآن، وكان عرضنا لمجهود إيزوتسو تمثيلاً لصورة العلاقات التي يقوم بها المفهوم.
فالباحث في المفهومات القرآنية مضطر أن يتحرك من خلال مجموعة من المعارف والمصادر التي يشترط معرفياً أن يمر من خلالها:
أولاً- النظر في مدلول الكلمة قبل عصر النزول، من خلال مصادر الشعر الجاهلي وكتب اللغة، أو أي مصدر يمكن أن يسهم في ذلك، وهذا الجانب ليس بمتيسر دائماً نظراً لقلة المصادر التي يمكن أن تسعف به.
ثانياً- النظر في كتب اللغة والمعاجم، للوقوف على أصل الكلمة في الوضع والاستعمال، وجذر الكلمة والاشتقاقات، وما يؤول إليه الدرس اللغوي من معنى يرتبط بهذا الجذر لاسيما اشتقاقاته المستعملة في القرآن، مع محاولة التحقيب التاريخي لتطور المعنى اللغوي عبر التاريخ.
ثالثاً- الجمع الإحصائي مع سبر وتقسيم لأماكن ورود المفردة في القرآن، يرافقه رصد ما هو مكي وما هو مدني، وما يمكن لحظه من قرائن استعملت مع كل لفظ في كل سياق، مع مراعاة طريقة استعمالات الاشتقاقات والمقارنة بينها، وملاحظة اختلاف الاستعمال القرآني للمفردة بين المستوى اللغوي والمستوى المفهومي والمستوى الاصطلاحي.
رابعاً – النظر في فهم المفسرين للمفردة من خلال المصادر المختلفة: (كتب الوجوه والنظائر، وكتب غريب القرآن ومعانيه، وكتب التفسير)، وقد يقتضي بعض المفهومات تتبع الاستعمال العلمي للمفهوم القرآني عبر الكتب العلمية المختصة التي استعملته.
خامساً- النظر في استعمال المفهوم في نصوص السنة إن اقتضى المفهوم ذلك، لاسيما تلك التي تتصل بفهم النص القرآني.
سادساً-المقارنة بين مختلف هذه الأنساق التي تم المرور بها، باستحضار كل مرحلة في التي تليها.
وأخيراً..يمكن القول: إن من يمر بهذه المراحل بدقة علمية، لن يحتاج إلى أي إرشاد في كيفية استخلاص الطريقة الأفضل لعرض دراسته للمفهوم أو الوقوف على ما يكشفه المفهوم من عمق وآفاق، فمجموع ما ذكر من خطوات سيجعل قارئ القرآن يصل إلى نتائج باهرة تكشف عنها بنية النص القرآني، وسيجد علاقات وثيقة ومتينة بين كل مفهوم وآخر، وبين كل آية وكل سياق وكل موضوع، وسيتجلى للباحث من خلال تلك المراحل النظام المفهومي في القرآن، الذي يكشف عن المعاني والموضوعات التي تتصل بالحقل الذي ينتمي إليه المفهوم، وستكون نتيجة الدراسة المفهومية طرفاً مما أرى تسميته "التفسير البنيوي للقرآن" والذي يقود إلى لحظ "الإعجاز البنيوي" للنص.
وبطبيعة الحال ستتفاوت الدراسات للمفهومات القرآنية بحسب المفهوم المقترح دراسته، ودرجة حضوره ومركزيته في القرآن، فليست كل المفهومات على درجة واحدة في التواتر والأهمية، وكذلك بحسب ما تسعف به المصادر المختلفة من معلومات عنه، كما ستتفاوت مسالك النظر في المفهومات بحسب عمق ثقافة القارئ واختصاصه، وصلته بالعلوم اللغوية لاسيما الحديث منها، والعلوم الشرعية، والحقل الذي ينتمي إليه المفهوم، لكن أياً يكن الأمر فإن حداً أدنى من الإضافة سيجده أي باحث يسلك ما ذكرناه من خطوات، وهي ليست المسلك الوحيد في درس المفهومات، فيمكن اجتراح مسالك أخرى، لكن ما ذكرناه يشمل كل المسالك التي تؤول إلى المفهوم بصلة، ولن يجد القارئ مصداق ذلك ما لم يجرب الدرس المفهومي أو يقرأ نماذج تطبيقية، نأمل أن نقدم أمثلة لها في أعداد من هذه السلسلة.