صحة الاستشهاد بالحديث النبوي في النحو

إنضم
29/10/2023
المشاركات
50
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
الإقامة
ليبيا
على الرغم من أن جمهور المحدّثين سلفًا وخلفًا يجوزون الرواية بالمعنى(1) فإن كلامَهم في آداب الرواية(2)، وما أُثِرَ عنهم مِن التحري والدقة والضبط(3)، والنظرَ في عروبة الرواة وعدمِها(4)، وفي روايات الحديث – كل ذلك وغيرُه يدل على أن الأصل في رواية الحديث أن يكون على لفظِه، لا بالمعنى، وهذا الأصل لا يُعدَلُ عنه إلا بدليلٍ يوجب ذلك، وليس اليقينُ شرطًا في صحة الاستشهاد، بل غلبةُ الظن تكفي، وهي حاصلةٌ هنا(5)، لكن هذا القول إنما يكون مُسلَّمًا به بالنسبة للحديث المعيَّن المستشهَد به إذا تَحَصَّلَتْ غلبةُ الظن من خلال دراستِه والنظرِ في أحواله وما احتفَّ به من قرائن، وأما بالنسبة للأحاديث عمومًا فلا يكفي ذلك؛ لأن الحديث المعيَّن المستشهَد به يَتَطرق إليه احتمالُ وقوعِ الرواية بالمعنى(6)، فالراجح أن ذلك الأصل تقعيدٌ عامٌّ لا يَصدُقُ على كل حديثٍ بعينه، وإنما يجب دراسةُ كلِّ حديثٍ بخصوصه، والبحثُ في طرقه وألفاظه للوصول إلى أرجحِ الروايات للاستشهاد بها على أنها مِن كلامِ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقينًا أو ظنًّا، والباقي من الروايات نَتَتَبَّعُ مصدرَها، فما ثبت منها عمَّن يُحتج بكلامه جازَ الاستشهاد بها على أنها كلامٌ مستقِلٌّ نُقِلَ عن أحد فصحاء العرب، والعكس بالعكس، وكذلك إن ثبت أن بعض الروايات شاذ أو منكر فإننا لا نستشهد بها.
وكذلك يقال في مسألة الاعتماد على القرائن التي قال بها كثير من المتوسطين، فهذه القرائن مع أن الغاية منها والوصولُ إلى غلبة الظن أو اليقين بأن الحديث لم يُتصرَّف في ألفاظِه، إلا أنه يُشْكِل عليها أنه قد وقع في كثير من الأحاديث التي احتفت بها تلك القرائن اختلافٌ في ألفاظها(7)، كما يحتمل أن يتفرد ببعضها من رُمي باللحن في الحديث، فمجرد وجود الداعي لروايتها باللفظ واحتفافها بالقرائن لا يعني أنها رويت كذلك حقيقةً ولم يقع فيها تصرف مطلقًا بقصد أو بغير قصد( 8 ).
فالطريقة العمليّة التي يؤيدها البحثُ العلميُّ والاستقراءُ: أن قبولَ الاستشهاد بالحديث أو رَدَّه يجب أن يُبنى على تخريج كل حديثٍ بعينه، ودراسةِ أسانيده، وتتبعِ ألفاظه ورواياته وأحوال رواته، فإذا ظهر من ذلك أن محلَّ الشاهد(9 ) محفوظٌ في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عمَّن دونه ممن يُحتج بكلامه في اللغة؛ فإنه يصح الاستشهاد به، مع مراعاة التمييز بين ما ثبت أنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وما ثبت أنه كلامُ مَن دونه ممن يُحتج بكلامه؛ فيُحتج بالأول على أنه من الحديث، وبالثاني على أنه في منزلة الأثر.
وإنْ ظهر من الدراسة أن مَدارَ الطُّرُقِ(10) على راوٍ متأخرٍ لا يُستشهد بكلامه في اللغة فإن كان اللفظُ محفوظاً عنه، وصح الإسناد منه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو مَن دونه ممن يُحتج بكلامه، وليس في رواة السند من رُمي باللحن في حديثه(11)، ولم يظهر من خلال دراسة الحديث وقوع الرواية بالمعنى فيه أو وقوع الخطإ أو التصحيف في روايته - فإنه يصح الاستشهاد به؛ اعتمادًا على الأصل؛ إذ الأصل أنه روي باللفظ، لكن مع ذلك يظل دليلًا ضعيفًا؛ لتطرق الاحتمال إليه، ولكنه ربما يزداد قوة إذا احتفت به قرائن تدل على أنه روي بلفظه.
وأما إن ظهر من الدراسة أن اللفظ المستشهد به غير محفوظ في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو من دونه ممن يحتج بكلامه؛ فإنه لا يصح الاستشهاد به، وكذلك إذا تكافأت روايتان أو أكثر من حيث القوة بحيث لا يمكن الباحثَ الترجيحُ بينها(12) وكان بين هذه الروايات اختلافٌ بحيث يوجد في بعضها محل الشاهد ولا يوجد في بعضها الآخر؛ فإنه يُتوقف في الاستشهاد به؛ لأن كل روايةٍ من الروايات المختلفة يُحتمل أن تكون هي الأصلية ويحتمل في الوقت نفسه أن تكون مِن تصرف الرواة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
وهذه الطريقة المقرَّرة يؤيدها قول المعلِّمي: «يمكن بالنظر في رواياتِ الأحاديث وأحوالِ رواتِها أن يُعرف في طائفةٍ منها أنها بلفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بلفظ الصحابي أو بلفظ التابعي، وهو ممن يُحْتج به في العربية، لكن تحقيق ذلك يَصْعُبُ على غير أهله...»(13)، وقولُ الشنقيطي: «الذي يظهر لي في هذه المسألة -والله أعلم- هو التفصيل فيها: فما غلب على الظن أنه من لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- كبعض الأحاديث التي اتفق فيها جميع الرواة أو معظمهم على لفظ واحد فإنه حجة في اللغة، وما غلب على الظن أنه من لفظ الراوي بالمعنى، (14) لا يحتج بقوله في العربية، فلا يُـحتج بلفظه»(15).
وإنَّ صحةَ الحديثِ -في الجملة- لا تكفي للحكم بصحة الاستشهاد بلفظه على مسائل النحو، بل لا بد من ثبوت لفظِ الشاهد خاصةً، فكثيرٌ من الأحاديث هي من حيث السند صحيحةٌ بل متواترةٌ معنًى، ومع ذلك لا يصح الاستشهاد بها في النحو؛ لِكَوْنِ الرواةِ اختلَفوا في ألفاظِ الشاهد منها، وتَبَيَّنَ من خلال النظر في رواياتهم أن اللفظَ المستشهَدَ به قد حصل فيه تصرُّفٌ من الرواة، أو لم يمكن من خلال النظر في الروايات ترجيحُ وجهٍ على آخر؛ فهنا يُتوقف في الاستشهاد بها؛ لكونِ كلِّ وجهٍ محتمِلًا لأنْ يكون هو الذي وقع فيه التصرف، إلا إن كان اللفظُ المستشهَد به ثابتًا عن راوٍ يُحتج بكلامه في اللغة فحينئذ يصح الاستشهاد به على أنه مِن لفظِ ذلك الراوي. ومِثْلُ هذا يقال في الضعف؛ فَضَعْفُ الحديث أيضًا لا يعني ضعفَ الاستشهاد به في النحو مطلقًا؛ لأن اللفظ قد يَثْبُتُ عن راوٍ يستشهَد بكلامه في اللغة، ويكون هذا الراوي من جهة الرواية ضعيفًا، أو رَوَى الحديثَ مرسلًا، أو نحو ذلك، فحينئذ يمكن الاستشهاد بلفظِ الشاهد على أنه من كلام ذلك الراوي على الأقل(16).
ملخص من رسالتي للماجستير: (الأحاديث التي ساقها النحاة مساق الاحتجاج: أثرها ومنزلتها في مسائلها).
-----------------------------
(1) ينظر: «الباعث الحثيث» (297).
(2) تراجع هذه الضوابط في: «المحدِّث الفاصل» (530)، و«الكفاية» (1/ 391- 452)، و«أصول السرخسي» (1/ 355- 356)، و«مقدمة ابن الصلاح» (394-397)، و«كشف الأسرار» (3/ 55- 59)، و«فتح المغيث» (3/ 137- 14
icon_cool.gif
1730842826212.gif، و«تدريب الراوي» (1/ 532- 539)، و«توجيه النظر» (298- 315).
(3) ينظر: «مقدمة ابن الصلاح» (400).
(4) ينظر: «مدرسة البصرة» (257)، و«النحاة والحديث النبوي» (50- 51)، و«موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث» (397- 39
icon_cool.gif
1730842826225.gif، و«الاستشهاد بالحديث في المسائل النحوية» (1/ 149- 150).
(5) ينظر: «مقدمة ابن الصلاح» (391)، و«تعليق الفرائد» (4/241- 242)، و«الأنوار الكاشفة» (79).
(6 ) ينظر: «الاستشهاد بالحديث» (1/ 120).
(7) ينظر: «الشواهد الحديثية في الأبواب النحوية» (1/ 26) (2/ 483). وللوقوف على أمثلةٍ لذلك يُنظر -على سبيل المثال-: «أَصْلُ صفةِ صلاة النبي –صلى الله عليه وسلم-»، فقد حوى عددًا من أحاديث الأدعية والأذكار مع العناية ببيان الاتفاق والاختلاف في ألفاظِها.
( 8 ) ينظر: «الشواهد الحديثية».
( 9) ولا يكفي ثبوتُ أصلِ الحديث فقط –كما سيأتي-.
( 10) أي: الموضع الذي يدور عليه الإسناد ويرجع إليه، أي هو ملتقى طُرُقِه. ينظر: «نزهة النظر» (64).
( 11) هذا القيد مهم؛ وذلك لأن المعتبَر هنا هو اللحنُ في روايةِ لَفْظِ مَتْنِ الحديث خاصة. وأما وقوع الراوي في اللحن في كلامه العادي أو نطق أسماء الرواة أو نحو ذلك دون روايته للحديث فهذا لا يؤثر. ينظر: «الاستشهاد بالحديث» (1/ 150- 152).
( 12) وهذا التكافؤ نسبيٌّ إضافيٌّ لا مطلقٌ؛ فقد يمكن الترجيح لبعض الناس ويتعذر على بعضهم، فمدارك الناس وعلومهم تختلف.
( 13) «الأنوار الكاشفة» (79)، وينظر المرجع نفسه (249).
( 14) هكذا النص في طبعتَي الكتاب المشهورتين: طبعة مكتبة العلوم والحِكَم، وطبعة عالم الفوائد، وهو تركيبٌ غير واضح، ولعله سقطٌ في الطبعة الأصل نُقِلَ بحذافيره في الطبعات التي اعتَمَدَت عليه. ولعل أصل الكلام: (وكان لا يُحتج...) فسقَطَتْ (كان).
(15 ) «مذكرة في أصول الفقه» (16
icon_cool.gif
1730842826235.gif.
( 16) ينظر: «الاستشهاد بالحديث» (1/ 74).
 
عودة
أعلى