حاتم القرشي
New member
شَيْخُ العُلَماءِ وبَلِيْغُ الأُدَبَاءِ
بَكْرٌ أبو زَيْدٍ
«ابنُ القَيِّمِ الصَّغِيْرُ»
رَحِمَهُ الله
المَولُوْدُ (1365) المُتَوَفَّى (27/1/1429)
شَهْرَانِ وأرْبَعَةٌ وسِتِّونَ عَامًا
تَألِيْفُ
الحَمْدُ لله الكَرِيْمِ الهَادِي، مُنْطِقِ البُلَغَاءِ باللُّغَى والأيَادِي، ومُجْرِي ألْسُنَ اللُّسُنِ في الحَضَرِ والبَوَادِي، وبَاعِثِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الهَادِي، أفْصَحَ مَنْ نَطَقَ بالضَّادِ دُوْنَ ضَوَادِي، وخَيْرَ مَنْ حَضَرَ النَّوَادِي، صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وعَلى آلِهِ وزَوْجَاتِهِ نُجُوْمِ الدَّآدِي، وعلى أصْحَابِهِ اللُّيُوْثِ العَوَادِي، ومَنْ تَبِعَهُم بإحْسَانٍ إلى يَوْمِ التَّنَادِي .
وبَعْدُ : فَهَذِهِ تَعْزِيَةٌ هَاجِمَةٌ، ومَخْبَرَةٌ وَاجِمَةٌ، ألْقَتْ بعَصَاهَا، وخَذَفَتْ بحَصَاهَا؛ حِيْنَ جَاءَ نَعِيُ شَيْخِ العُلَماءِ، بَلْهَ بَلِيْغِ الأدَبَاءِ، العَالمِ الكَامِلِ، والأدِيْبِ الفَاضِلِ، بكْرٍ أبو زَيْدٍ، فَعِنْدَهَا اضْطَرَبَ قَلَمِي في سُقُوْطٍ، وكَادَ يأخُذُني اليَأسُ والقُنُوْطُ، لَوْلا رَحَماتٌ أتَذَاكَرُهَا، وتَرْجِيْعَاتٌ أتَرَادَدُهَا، فرَحِمَكَ الله أبَا عَبْدِ الله، وإنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ!
وقَدْ قِيْلَ :
تَنَكَّرَ لي دَهْرِي ولَـمْ يَدْرِي أنَّنِي أعِـزُّ وأحْدَاثُ الزَّمَانِ تَهُوْنُ
وبَاتَ يُرِيْنِي الخَطْبَ كَيْفَ اعْتِدَاؤُهُ وبِتُّ أُرِيْهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُوْنُ
* * *
فَهُنَا؛ غَلَبَتْنِي المَغَالِبُ، ورَزَأتْنِي الرَّزَايَا، وهَمْهَمَتِ النَّفْسُ بالصُّعَدَاءِ، وأبْدَتِ العَيْنَ البُكَاءَ، وحَشْرَجَ الصَّدْرُ بالآهَاتِ والنِّدَاءِ، يَوْمَ جَاءَ الخَبَرُ يَجُرُّ النَّفْيْرَ، ويُهَيِّجُ الزَّفِيْرَ!
ومَا أحْسَنَ مَا قَالَهُ أبو الحَسَنِ البَرْمَكِيُّ :
رَحَلْتُمْ فَكَمْ مِنْ أنَّـةٍ بَعْدَ زَفْـرَةٍ مُبَيِّنَـةٍ للنَّـاسِ شَوْقِي إلَيْكُمُ
وقَدْ كُنْتُ أعْتَقْتُ الجُفُوْنَ مِنَ البُكَا فَقَدْ رَدَّهَا في الرِّقِّ حُزْني عَلَيْكُمُ
* * *
ومِنْ ضُرُوْبِ الأسَفِ؛ أنِّي بَيْنَا أنَا آخِذٌ بلِجَامِ القَلَمِ رَاكِضًا في نَمْنَمَةِ ومُرَاجَعَةِ كِتَابي «ظَاهِرَةِ الفِكْرِ التَّربَوِيِّ» تَبْيِيْضًا وتَرْوِيْضًا إذْ طَنَّتْ نَائِحَةُ اللُّغَةِ عَزَاءً في فَقِيْدِهَا وعَمِيْدِهَا الشَّيْخِ بَكْرٍ أبو زَيْدٍ رَحِمَهُ الله، فَجَمَحَ القَلَمُ بيَدِي، وهَزَّ عَضُدِي، وأذْرَفَ هُنَا دَمْعَةً مِهْرَاقَةً في رِثَاءِ شَيْخِي وشَيْخِهِ :
فَيَا أيُّها اليَلْمَعُ العَرُوْفُ، والمَعْمَعُ اليَهْفُوْفُ : لَقَدْ مَاتَ بَلِيْغُ نَجْدٍ وأدِيْبُهَا، حَارِسُ حِيَاضِ العَقِيْدَةِ ورِيَاضِهَا، المُتَفَرِّعُ عَنِ اللَّغَةِ بأفْنَانٍ وفُنُوْنٍ، وعَنْ دَوْحَاتِهَا بخِيْطَانٍ وغُصُوْنٍ، فَلَمْ يَكُنْ يَرْضَى مِنَ الفِقْهِ بالسَّافِيَةِ عَنِ الشَّحْوَاءِ، ولا ممَّنْ اهْتَافَ بِهِ رِيْحُ الشَّقَاءِ!
وبَعْدُ؛ فَهَذِهِ طِلْبَةٌ واسْتِجْدَاءٌ لرُوَّامِ العِلْمِ وطُلاَّبِهِ بَعْدَ وَفَاةِ حَبِيْبِ النَّفْسِ أدِيْبِ الحِسِّ، بكَرٍ أبو زَيْدٍ : مَنْ يَأخُذِ القَلَمَ بحَقِّهِ؟!
* * *
مَاتَ شَيْخُنَا بَكْرُ بنُ عَبْدِ الله أبُو زَيْدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ بَكْرِ بنِ عُثَمانَ بنِ يَحْيَى بنِ غَيْهَبِ بنِ مُحَمَّدٍ القُضَاعِيُّ، مِنْ قَبِيْلَةِ بنِي زَيْدٍ القُضَاعِيَّةِ المَشْهُوْرَةِ في حَاضِرَةِ الوَشْمِ، وعَالِيَةِ نَجْدٍ، وفِيْهَا مَسْقَطُ رَأسِهِ، وذَلِكَ عَامُ ألْفٍ وثَلاثْمائَةٍ وخَمْسٍ وسِتِّيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ (1365)، فرَحِمَهُ الله، وجَعَلَ الجَنَّةَ مَأوَاهُ، وطَيَّبَ ذِكْرَهُ ومَثْوَاهُ، آمِيْنَ يَا رَبَّ العَالمِيْنَ!
* * *
نَعَمْ؛ مَاتَ مَنْ جُبِلَ على العِلْمِ طَبْعُهُ، وعُمِّرَ بحُبِّ الفَضْلِ رَبْعُهُ، فَظَلَّ للعَقِيْدَةِ حَارِسًا أمِيْنًا، وللُّغَةِ صَاحِبًا قَرِيْنًا، وللآدَابِ سَمِيْرًا خَدِيْنًا، قَدْ عُجِنَتْ بالظَّرَافَةِ طِيْنَتُهُ، وسِيْرَتْ باللَّطَافَةِ سِيْرَتُهُ، كَانَ سَحَابَةَ عِلْمٍ على الطَّالِبِ والوَافِدِ، وعُبَابَ أدَبٍ لا تُكَدِّرُهُ دِلاءُ الصَّادِرِ والوَارِدِ، لَهُ مِنَ الأدَبِ مَآدِبُ تُغَذِّي الأرْوَاحَ، ومِنَ الكَلامِ لَهُ سُلافَةٌ تَهُزُّ الأعْطَافَ المِرَاحَ .
وقَالَ بَعْضُهُم :
أرَى العِلْمَ نُوْرًا والتَّأدُّبَ حِلْيَةً فَخُذْ مِنْهُما في رَغْبَةٍ بنَصِيْبِ
ولَيْسَ يَتِمُّ العِلْمُ في النَّاسِ للْفَتَى إذَا لم يَكُنْ في عِلْمِهِ بأدِيْبِ
وقَالَ آخَرُ :
مَنْ كَانَ مُفْتَخِرًا بالمَالِ والنَّسَبِ فإنَّمَـا فَخْرُنَـا بـالعِلْمِ والأدَبِ
لا خَيْرَ في رَجُلٍ حُرٍّ بِـلا أدَبٍ لا، لا، وإنْ كَانَ مَنْسُوْبًا إلى العَرَبِ
* * *
فسَقَى الله؛ تِلْكَ الأيَّامَ الخَالِيَةَ، وتِيْكَ المَجَالِسَ الرَّاوِيَةَ، يَوْمَ كَانَتْ وكُنَّا مَعَ شَيْخِنَا في إفَادَةٍ، ومَعَ عُلْمِهِ وآدَابِهِ في زِيَادَةٍ، ومَعَ حِلْمِهِ ومَآدِبِهِ في وِفَادَةٍ، فَكَانَتْ مَجَالِسُهُ لألْفَاظِ المَسَرَّاتِ كالمَعَاني، ولنُكَاتِ العِلْمِ كالمَبَاني، فِيْهَا أثْمارُ أطَايِبِ الأمَاني، مِنْ أشْجَارِ وِصَالِ الغَوَاني، فرَحِمَكَ الله أبَا عَبْدِ الله!
بكرٌ أبو زَيْدٍ، ومَا أدْرَاكَ مَا بَكْرٌ؟ خَيْرُ قَوْلُهُ، وطَيِّبٌ فِعْلُهُ، رَافِعُ ألْوِيَةِ الفَصَاحَةِ والبَيَانِ، ومَالِكُ رِقَابِ البَلاغَةِ والتِّبْيَانِ، ونَاشِرُ أرْدِيَةِ العِلْمِ والتَّألِيْفِ، وعَامِرُ أبْنِيَةِ الأدَبِ والتَّصْنِيْفِ :
للهِ دَرُّ إمَـامٍ كُلُّـهُ أدَبُ بفَضْلِهِ يَتَحَلَّى العُجْمُ والعَرَبُ
* * *
الله يَعْلَمُ أنِّي وإنْ شَطَّ بِنَا المَزَارُ، ونَأتْ عَنَّا الدِّيَارُ، لا أنْسَاهُ ولا أُقْلِيْهِ، بَلْ حُبُّهُ تَخَلَّلَ الشِّغَافَ والسُّوَيْدَاءَ، وبِرُّهُ تَدَثَّرَ بالذِّكْرِ والدُّعَاءِ، فَلَهُ عَليَّ أفَاضِلُ الأفْنَانِ ، ومَحَاسِنُ التَّصَانِيْفِ والبَيَانِ .
وكَيْفَ أُعْذَلُ في ثَنَائِهِ، أمْ كَيْفَ أُعَاتَبُ في دُعَائِهِ؟ وهُوَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ( )، قَدْ شَرَحُوا للآدَابِ صَدْرِي، وأجْرُوا بالبَلاغَةِ قَلَمِي وفِكْرِي، وسَقَوْني كُؤُوْسَ العِلْمِ وأحْشَائِي صَادِيَةٌ، وكَسَوْني حُلَلَ الفَضْلِ وعَوْرَاتي بَادِيَةٌ، فَلَهُم مِنِّي العُتْبَى في الدُّعَاءِ، وإلَيْهِم العُقْبَى في الدِّلاءِ!
* * *
لَقَدْ دَانَ للشَّيْخِ في العَقِيْدَةِ والفِقْهِ واللُّغَةِ كُلُّ دَانٍ وقَاصِي، واعْتَرفَ بفَضْلِهِ المُوَافِقُ والمُخَالِفُ، على رُغْمِ أنُوْفِ الجَلاَّدِيْنَ، وإكْفَارِ المُتَعَالمِيْنَ .
فَلَهُ الذِّكْرُ والصِّيْتُ في المَجَالِسِ والمَحَافِلِ، ولَهُ الحُظْوَةُ والهَيْبَةُ بَيْنَ الأكَابِرِ والأمَاثِلِ، فَفِي حَيَاتِهِ أحَاطَتْ بِهِ التَّقَارِيْظُ والإطْرَاءُ، وبَعْدَ مَوْتِهِ اهْتَجَّتْ بِهِ المَدَائِحُ والثَّنَاءُ .
فَلا تَسْتَبْعِدْ مَا هُنَا فالشَّيْخُ قَدِ انْتَشَرتْ للعَالمِيْنَ لطَائِفُ حِلْمِهِ وعِلْمِهِ، وظَهَرَتْ للمُتَعَلِّمِيْنَ طَرَائِفُ آدَابِهِ وشِيَمِهِ، فَقَدْ أخَذَ بنَاصِيَةِ اللُّغَةِ يَقُوْدُهَا في ارْتِجَالٍ، وأمْسَكَ بأعْنَاقِ البَلاغَةِ يَسُوْدُهَا في جَمَالٍ .
* * *
كَانَ رَحِمَهُ الله إمَامًا هُمَامًا بِلا مُدَافَعٍ، وفَاضِلاً مُنَاضِلاً بِلا مُنَازَعٍ، سَلِيْمَ العَقِيْدَةِ والمَنْهَجِ، نَقِيَّ المَدْخَلِ والمَخْرَجِ، حَسَنَ السِّيْرَةِ، مُحْسِنَ السَّرِيْرَةِ، صَافيَ المَشْرَبِ، طَيِّبَ المَطْلَبِ، عَلَيْهِ طَلاوَةٌ، وفِيْهِ حَلاوَةٌ، تَعْرِفُ مِنْهُ ولا تُنْكِرُ، وَاضِحُ العِبَارَةِ، سَانِحُ الإشَارَةِ، مَنْهُوْمُ عِلْمٍ وأذْكَارٍ، مَقْرُوْمُ تَألِيْفٍ وأسْطَارٍ، رُحْلَةٌ رَحَّالَةٌ خَفِيْفٌ، مُحَقِّقٌ مُدَقِّقٌ ظَرِيْفٌ، غَايَةٌ في التَّحْرِيْرِ، نِهَايَةٌ في التَّقْرِيْرِ .
هَكَذَا مَنْ خَالَطَهُ وعَرَفَهُ يَنْسُبُنِي إلى التَّقْصِيْرِ في وَصْفِهِ، ومَنْ جَهِلَهُ وغَالَطَهُ يَنْسُبُنِي إلى التَّغَالي فِيْهِ، مَعَ أنَّني لا ادَّعِي عِصْمَتَهُ، ولا أقُوْلُ بإجْمَاعِ كِلْمَتِهِ، بَلْ هُوَ بَشَرٌ مِنَ البَشَرِ، لَهُ وعَلَيْهِ، ويُؤخَذُ مِنْهُ ويُرَدُّ عَلَيْهِ، والله حَسِيْبُهُ، ولا نُزَكِّي على الله أحَدًا!
* * *
لاجَرَمَ؛ فَقَدْ تَوَاقَفَتْ عِنْدَهُ التَّألِيْفُ، و تَثَاقَفَتْ مِنْهُ التَّصَانِيْفُ، بَارِعُ السَّبْكِ، رَافِعُ الشَّكِّ، لَهُ تَنْقَادُ البَلاغَةُ إرْسَالا، ومِنْهُ تَأتي الفَصَاحَةُ إسْلَالاً، لَيْسَ عَنْهُ أئِمَّةُ اللُّغَةِ والبَلاغَةِ ببَعِيْدٍ، ولا سَحْبَانُ والجَاحِظُ بفَرِيْدٍ، ولا الرَّافِعِيُّ وشَاكِرٌ بشَرِيْدٍ، قَدْ اكْتَسَى مِنَ الكِسَائِي بكِسَاءٍ، وتَدَثَّرَ مِنَ الفَرَّاءِ بفِرَاءٍ، وانْتَهَلَ مِنَ مَعَيْنِ النُّحَاةِ بدِلاءٍ، وارْتَوَى مِنْ كَأسِ البُلَغَاءِ بصَفَاءٍ .
ولَوْلا التَّطَاوُلُ والتِّقْوَالُ، لَقُلْتُ : كَادَ أنْ يَقِفَ فَلَكُ اللُّغَةِ بَعْدَ بَكْرٍ، لَكِنْ لم تَزَلْ بَقِيَّةٌ في تمِيْمٍ وبَكْرٍ، ومَا زَالَ في بِلادِ الرَّافِدَيْنِ وأرْضِ الكِنَانَةِ مِنْ ذِكْرٍ!
نَعَمْ؛ فإنَّ اللُّغَةَ لم تَزَلْ أبِيَّةً قَوِيَّةً، سَلِيْمَةً سَوِيَّةً، فلِرِجَالهَا قُدْمَةٌ وحَمِيَّةٌ، فَهُمْ حُمَاةٌ لهَا يَقَظَةٌ، وحُرَّاسٌ عِنْدَهَا بُلَغَةٌ، لِذَا فأنْسَابُها بالأمْوَاتِ مُتَأصِّلٌ، وسُلالَتُهَا بالأحْيَاءِ مُتَّصِلٌ!
وقَدْ قِيْلَ في مِثْلِهِ :
وإذَا نَمْنَمَتْ بَنَانُـكَ خَطًّـا مُعْرِبًـا عَنْ إصَابَةٍ وسَدَادِ
عَجِبَ النَّاسُ مِنْ بَيَاضِ مَعَانٍ يُجْتَنَى مِنْ سَوَادِ ذَاكَ المِدَادِ
* * *
دَعَتْهُ هِمَّتُهُ، ودَفَعَتْهُ نَهْمَتُهُ فَجَابَ البِلادَ بَحْثًا ومُبَاحَثَةً، وسَائِلاً نَائِلاً، فَطَافَ بَعْضَ البِلادِ، وطَوَّفَ في المُؤتَمرَاتِ والتِّلادِ، فالْتَقَى بأفَاضِلِ العُلَماءِ، وأمَاثِلِ الأدَبَاءِ، وأخَذَ مِنْهُم وأعْطَى، وأفَادَ مِنْهُم وأبْدَى، فَكَانَ طَالِبًا مَطْلُوْبًا، وعَالمًا أدِيْبًا!
فَأصْبَحَ بَيْنَهُم ثِقَةً مَوْثُوْقًا، وأضْحَى عِنْدَهُم بأرْفَعِ طَرَفٍ مَرْمُوْقًا، وأمْسَى لَدَيْهِم مِنْ رَوِيِّ الكَأسِ مَصْبُوْحًا مَغْبُوْقًا، فَقَدْ هَدَاهُ الله لأرْشَدِ الطُّرُقِ المُسْتَقِيْمَةِ، وأرَاهُ أقْوَمَ السُّبُلِ القَوِيْمَةِ، فاسْتَمْسَكَ بعُرْوَةٍ مِنَ الدِّيْنِ وَثِيْقَةٍ، وثَبَتَ مِنَ الاسْتِقَامَةِ على بَصِيْرَةٍ وحَقِيْقَةٍ، والله يَهْدِي لفَضْلِهِ مَنْ يَشَاءُ، ومِنَ الله العَوْنُ والسَّدَادُ!
لعَمْرُ أبِيْكَ مَا نَسِبَ المُعَلَّى إلى كَرِيْمٍ وفي الدُّنْيَا كَرِيْمُ
ولكِنَّ البِلادَ إذَا اقْشَعَرَّت وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الهَشِيْمُ
* * *
وممَّا يَدُلُّ على إنَاخَةِ كَلْكَلِ الزَّمَانِ بَعْدَ النَّبَاهَةِ عَلَيْهِ، وصَرْفِ صُرُوْفِهِ بَعْدَ البَلاغَةِ إلَيْهِ، مَا كَتَبَهُ وحَرَّرَهُ في مَجامِيْعِ كُتُبِهِ، ومَضَامِيْنِ رَسَائِلِهِ، ومُخْتَارَاتِ مَشَارِيْعِهِ، ومُجَوَّدَاتِ أطَارِيْحِهِ، وأفْنَانِ مَوَاضِيْعِهِ، فَدُوْنَكَ مَا سَطَّرَهُ وأمْلاهُ، ومَا اخْتَارَهُ وجَنَاهُ، ففِيْهَا كِفَايَةٌ ومَقْنَعٌ، لكُلِّ طَالِبٍ ومُصْقَعٍ، وشَارِبٍ ومُكْرَعٍ!
فَإذَا كَانَ غَيْرُهُ يَكْتُبُ كَما يُرَادُ، فَشَيْخُنَا يَكْتُبُ كَما يُرِيْدُ، وبَيْنَ الحَالَيْنِ بَوْنٌ بَعِيْدٌ، وكَيْفَ جَرَى الأمْرُ ففَرْقٌ بَيْنَ الرَّائِدِ والمُرِيْدِ، ولَهُ التَّصَانِيْفُ السَّائِرَةُ، والتَّآلِيْفُ الرَّائِدَةُ، قَضَى بحُسْنِهَا وتَحْسِيْنِهَا أهْلُ الشَّرْقِ والغَرْبِ، وحَكَمَ ببَيَانِهَا وتَبْيِيْنِهَا أهْلُ العِلْمِ والأدَبِ .
فَكَانَ مِنْهَا مَا يَأخُذُ بلُبِّ الحَازِمِ اللَّبِيْبِ، ومِنْهَا مَا يَمْلِكُ لُبَابَ كُلِّ أدِيْبٍ، وبَيْنَهَا مَا يَقْمَعُ المُتَعَالمَ والمَجَاهِيْلَ، ومِنْهَا مَا يَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ المَرْأةِ والأرَاجِيْلِ .
إذَا ثَنَى قَلَمَهُ في بَحْثِ مَسْألَةٍ فحَدِّثْ ولا حَرَجَ، وإذَا اسْتَرْسَلَ في مَوْضُوْعٍ لا يَكَادُ عَنْهُ يَخْرُجُ، مَعَ فَصَاحَةِ لِسَانٍ، وبَلاغَةِ تِبْيَانٍ، لَهُ اليَدُ الطُّوْلى في حُسْنِ التَّصْنِيْفِ، وسَبْكِ العِبَارَةِ والتَّحْذِيْفِ، وبَرَاعَةِ التَّرتِيْبِ والتَّقْسِيْمِ، وجَوْدَةِ التَّحَرِّي والتَّقْوِيْمِ .
* * *
شَيْخُ العُلُوْمِ الدِّيْنِيَّةِ، وابنُ بَجْدَةِ الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ، وقَاضِي الأحْكَامِ الفِقْهِيَّةِ، وخِرِّيْتُ المَسَائِلِ النَّازِلَةِ العَصْرِيَّةِ، فإلَيْهِ الغَايَةُ، وعِنْدَهُ النِّهَايَةُ، بَحْرٌ زَاخِرٌ بالنَّقْلِيَّاتِ، وحَبْرٌ مَتَلَفِّعٌ بالعَقْلِيَّاتِ، نَسِيْجُ وَحْدِهِ، وفَرِيْدُ عَصْرِهِ، تَقْصُرُ العِبَارَةُ عَنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ على التَّفْصِيْلِ، وتَعْجَزُ الإشَارَةُ عَنْ إحَاطَةِ شَمائِلِهِ على وَجْهِ التَّكْمِيْلِ، ولَوْ شُرِعَ في تَفَاصِيْلِهَا لأوْقِرَ مِنْهَا الأحْمَالُ، ولثَقُلَتْ بِها أقْتَابُ الجِمالِ .
مَا زَالَ يَسْبِقُ حَتَّى قَالَ حَاسِدُهُ لَهُ طَرِيْقٌ إلى العَلْيَاءِ مُخْتَصَرُ
* * *
بَلْ كَانَ رَحِمَهُ الله رَجُلاً قوَّالاً بالحَقِّ، أمَّارًا بالمَعْرُوْفِ نهَّاءً عَنِ المُنْكَرِ، تَبَّاعًا للسُّنَنِ وأقْوَالِ الصَّحَابَةِ، قَفَّاءً لآثَارِ السَّلَفِ أوْلي الإنَابَةِ، يَتَوَقَّدُ ذَكَاءً، ويَتَلألأ زَكَاءً، إمَامٌ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وهُمَامٌ لا يَمِيْلُ إلى حَلاوَةٍ مِنَ المِنَّةِ .
نَعَم؛ هُوَ شَيْخُنا الإمَامُ الرَّبَّانيُّ، والسَّيْفُ اليَمانيُّ، المَسْلُوْلُ على المُتَعَالمِيْنَ والمُخَالِفِيْنَ، والشَّوْكَةُ الشَّجِيَّةُ في حُلُوْقِ أهْلِ الأهْوَاءِ المُبْتَدِعِيْنَ، قُدْوَةُ الخَلَفِ، وبَقِيَّةُ السَّلَفِ، رَجُلٌ ذَكِيْرٌ، وفَحْلٌ كَبِيْرٌ، ثَقْفٌ لَقْفٌ رَامٍ رَاوٍ، وَرِعٌ في تَصَوُّنٍ وزَهَادَةٍ، مُقْتَصِدٌ في الدُّنْيَا والقِيَادَةِ، لا يَكْتَرِثُ بنَضْرَتِها وبِهْجَةِ نَضَارِهَا، ولا يَلْتَفِتُ إلى دِرْهَمِهَا ودِيْنَارِهَا، طَنَّتْ بذِكْرِهِ الأمْصَارُ، وضَنَّتْ بمِثْلِهِ الأعْصَارُ!
أمَّا مَشَايِخُهُ، وإجَازَاتُهُ العِلْمِيَّةُ :
فَقَدْ تَتَلْمَذَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله على أئِمَّةٍ أعْلامٍ، وعُلَماءٍ كِرَامٍ، فَقَدَ أخَذَ عِلْمَ «المَيْقَاتِ» عَنْ شَيْخِهِ القَاضِي صَالِحِ بنِ مُطْلَقٍ رَحِمَهُ الله (1385)، وقَرَأ عَلَيْهِ خَمسًا وعِشْرِيْنَ مَقَامَةً مِنْ «مَقَامَاتِ الحَرِيْرِي» رَحِمَهُ الله (516)، وكَذَا أخَذَ عَلَيْهِ كِتَابَ البُيُوْعِ مِنْ كِتَابِ «زَادِ المُسْتَقْنِعِ» .
وكَذَا أخَذَ عَنْ شَيْخِ الإسْلامِ الحُجَّةِ الرَّبَّانيِّ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ بَازٍ رَحِمَهُ الله (1421)، كِتَابَ الحَجِّ مِنْ «مُنْتَقَى الأخْبَارِ» للمَجْدِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله (652)، وكَانَ ذَلِكَ في حَجِّ عَامِ (1385) .
وقَدْ لازَمَ الشَّيْخَ العَلاَّمَةَ المُفَسِّرَ الأصُوليَّ العَالمَ الرَّبَّانيَّ فَقِيْهَ المَذَاهِبِ مُحمَّدَ الأمِيْنَ الشِّنْقِيْطِيَّ رَحِمَهُ الله، نَحْوَ عَشَرَ سِنِيْنَ؛ حَتَّى وَفَاتِهِ عَامَ (1393)، فَقَرَأ عَلَيْهِ في تَفْسِيْرِهِ «أضْوَاءَ البَيَانِ»، ورِسَالَتَهُ «آدَابَ البَحْثِ والمُنَاظَرَةِ»، وانْفَرَدَ أيْضًا بأخْذِ عِلْمِ النَّسَبِ عَنْهُ، كَما قَرَأ عَلَيْهِ كِتَابَ «القَصْدِ والأمَمِ»، وأيْضًا بَعْضَ كِتَابِ «الأنْبَاهِ» كِلاهُمَا لابنِ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ الله (463)، وكَذَا بَعْضَ الرَّسَائِلِ .
* * *
ولشَيْخِنَا رَحِمَهُ الله عِنَايَةٌ بالإجَازَاتِ العِلْمِيَّةِ؛ حَيْثُ اسْتَجَازَ بَعْضَ أهْلِ العِلْمِ المَعْنِيِّيْنَ بالإجَائِزِ، حَيْثُ أخَذَ مِنَ الشَّيْخِ سُلَيْمانَ بنِ عَبْدِ الرَّحمَنِ الحَمْدَانَ النَّجْدِيِّ الحَنْبَليِّ (1397)، ولَدَيْهِ نَحْوَ عِشْرِيْنَ إجَازَةً مِنْ عُلَماءِ الحَرَمَيْنِ والرِّيَاضِ والمَغْرِبِ والشَّامِ والهِنْدِ وإفْرِيقِيَا وغَيْرِهَا، وقَدْ جَمَعَهَا في ثَبَتٍ مُسْتَقِلٍّ، ولم يُطْبَعْ بَعْدُ!
أعْمَالُهُ ومَنَاصِبُهُ :
فَقَدْ أسْبَغَ الله على شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله وَافِرَ نِعَمِهِ، وألْبَسَهُ ثَوْبَ العِلْمِ وقَدَّمَهُ؛ حَيْثُ نَالَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله شَرَفَ الإمَامَةِ والخَطَابَةِ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ خَمْسَ سِنِيْنَ مَا بَيْنَ عَامِ (1391) إلى عَامِ (1396)، قَضَاهَا نَوْبَةً مَعَ إخْوَانِهِ أهْلِ العِلْمِ والنَّبَاهَةِ، فَكَانَ خَطِيْبًا مُفَوَّهًا، وإمَامًا مُجَوِّدًا، وكَذَا جَلَسَ للتَّدْرِيْسِ والتَّعْلِيْمِ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَشْرَ سِنِيْنَ مَا بَيْنَ عَامِ (1390) إلى عَامِ (1400) .
ومَا زَالَ شَيْخُنَا في دُوْرِ العِلْمِ يُعْطِي ويُعَلِّم؛ حَتَّى عُيِّنَ للقَضَاءِ في المَدِيْنَةِ النَّبَوِيَّةِ ثَلاثَ عَشَرَةَ سَنَةً، مَا بَيْنَ عَامِ (1388) إلى عَامِ (1400)، ثُمَّ عُيِّنَ أيْضًا وَكِيْلاً عَامًا لوَزَارَةِ العَدْلِ فمَكَثَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً، مَا بَيْنَ عَامِ (1400) إلى عَامِ (1412)!
وفي عَامِ (1412) صَدَرَ أمْرٌ مَلَكِيٌّ بتَعْيِيْنِهِ عُضْوًا في اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ للبُحُوْثِ العِلْمِيَّةِ والإفْتَاءِ، وهَيْئَةِ كِبَارِ العُلَماءِ .
وفي عَامِ (1405) صَدَرَ أَمْرٌ مَلَكِيٌّ بتَعْيِيْنِهِ مُمثِّلاً للمَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السُّعُوْدِيَّةِ في مَجْمَعِ الفِقْهِ الإسْلامِيِّ الدَّوْليِّ المُنْبَثِقِ عَنْ مُنَظَّمَةِ المُؤْتَمرِ الإسْلامِيِّ، وفِيْهَا أيْضًا اخْتِيْرَ رَئِيْسًا للمَجْمَعِ، وكَذَا في عَامِ (1406) عُيِّنَ عُضْوًا في المَجْمَعِ الفِقْهِي برَابِطَةِ العَالمِ الإسْلامِيِّ .
وهَكَذَا كَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله يَتَقَلَّبُ في أنْعُمٍ وَفِيْرَةٍ، ومَنَاقِبَ شَهِيْرَةٍ، فرَحِمَهُ الله وَبَلَّ بالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ!
مِحنِتُهُ العِلْمِيَّةُ :
وبَيْنَا شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله في صَوْلاتٍ عِلْمِيَّةٍ، وجَوْلاتٍ أدَبِيَّةٍ، هُنَا وهُنَاكَ إذْ دَبَّتْ إلَيْهِ مَكَائِدُ غَوِيَّةٍ، ودَفَائِنُ مَطْوِيَّةٍ، مِنْ مَجَاهِيْلِ أدْعِيَاءِ السَّلَفِيَّةِ، وتَنَابِيْلِ أغْبِيَاءِ الخَلَفِيَّةِ، ومِنْ وَرَائِهِم مَجَامِيْلُ في المُنَازَعَةِ، ومَخَاتِيْلُ في المُخَادَعَةِ، فَرَدَّ الله كَيْدَ كُلٍّ في نَحْرِهِ، ونَجَّاهُ بلُطْفِ مِنْهُ وتَدْبِيْرٍ، وجَعَلَ أعْدَاءهُ في دَبِيْرٍ، فَلَمْ يُبْقِ لهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ، ومَا جَرَتْ لهُم سَاقِيَةٌ، والله نَاصِرُ أوْلِيَائِهِ، في الحَيَاةِ وبَعْدَ المَمَاتِ!
فَلمَّا أحَسَّ شَيْخُنا بمَكَرَةِ اللَّيْلِ، وتَسَامَعَ بمَهَرَةِ التَّضْلِيْلِ؛ قَامَ رَحِمَهُ الله يَزْأرُ كَأنَّهُ غِظَنْفَرٌ هِزَبْرٌ، مُقْبِلٌ مُدْبِرٌ، كَأنَّهُ جُمْلُوْدُ صَخْرٍ، انْحَطّ مِنْ رَأسِ جَبَلِ وَعْرٍ، ليَقْضِيَ الله أمْرًا كَانَ مَقْدُوْرًا، فعِنْدَهَا أشْهَرَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله سَيْفَ أقْلامِهِ، وأطْلَقَ الأعِنَّةِ لإقْدَامِهِ، فأخَذَهُم أخْذَةَ أسَفٍ، واقْتَادَهُم إرْسَافًا في كِتَابِهِ العُجَابِ «تَصْنِيْفِ النَّاسِ بَيْنَ الظَّنِّ واليَقِيْنِ»!
فَعِنْدَهَا أصْبَحَ هَذَا الكِتَابُ تَسْلِيَةً للمُصَابِيْنَ مِنْ وَخَزِ إخْوَانِهِمُ الجَرَّاحِيْنَ، وكَانَ أيْضًا مَوْعِظَةً وتَذْكِيْرًا للأدْعِيَاءِ المُفْلِسِيْنَ، فانْظُرْهُ لِزَامًا ففِيْهِ امْتِدَادُ يَدٍ مَاسِحَةٍ على جُرُوْحِ أهْلِ العِلْمِ والدَّعْوَةِ، وتَسْلِيَةٌ يتَعَزَّى بِها أهْلُ الغُرْبَةِ السَّلَفِيِّيْنَ، وسَيَأتي لبَعْضِ كُتُبِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله بَعْضُ التَّوَاصِيْفِ إنْ شَاءَ الله .
* * *
وعَوْدًا بَعْدَ بَدْءٍ؛ ومَعَ هَذَا وذَاكَ فَقَدَ غَلَّبَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله جَانِبَ العُزْلَةِ، ورَجَّحَ صَفَاءَ الخَلْوَةِ، فارْتَاضَتْ نَفْسُهُ للوَحْدَةِ، وتَسَامَحَ مَعَ النَفْسِ الفَرْدَةِ، واكْتَفَى بالتَّألِيْفِ والتَّقْيِيْدِ، والقِرَاءةِ والتَّصْيِيْدِ، فانْجَمَعَ عَنِ النَّاسِ، واجْتَمَعَ إلى نَفْسِهِ بإيْنَاسِ .
فَلا يُخَالِطُ إلاَّ على نُدُرٍ، ولا يُجَالِسُ إلاَّ على قَدَرٍ، فَكَانَ فِيْهِ مِنَ النَّاسِ نُفْرَةٌ، ولَهُ في المَاضِيْنَ عِبْرَةٌ، وفِيْهِ مِنَ الحَنَابِلَةِ نَزْعَةٌ، إذْ كَانُوا يَجِدُوْنَ في الخَلْوَةِ مُتْعَةً
* * *
ولَيْسَ ذَا بعَيْبٍ يُعِيْبُهُ، ولا رَيْبٍ يُرِيْبُهُ! لاسِيَّما والرَّجُلُ للنَّاسِ بكُتُبِهِ نَافِعٌ، ولنَفْسِهِ باللَّحْظِ جَامِعٌ، ولرَبِّهِ بالعِبَادَةِ طَائِعٌ! هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ شَرَّ الزَّمَانِ في ازْدِيَادٍ، وأهْلَهُ في رِيْبٍ وعِنَادٍ، والهَوَى غَالِبٌ غَلاَّبِ، والجَهْلُ جَالِبٌ جَلاَّبٌ، والسَّاعَةُ قَابَ قَوْسَيْنَ أو أدْنَى؟!
ومَا وَرَاءَ شَيْخِنَا إذَا اسْتَكَانَ طَبْعُهُ، ورَاضَ قَلْبُهُ، بحَدِيْثِ النَّبِيِّ ﷺ : «أمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وابْكِ على خَطِيْئَتِكَ» التَّرمِذِيُّ .
ولله دَرُّ القَائِلِ :
تَوَارَيْتُ مِنْ دَهْرِي بظِلِّ جَنَاحِـهِ فعَيْنِي تَرَى دَهْرِي ولَيْسَ يَرَاني
ولَوْ تَسْألُ الأيَّامُ مَا اسْمِي لمَا دَرَتْ وأيْنَ مَكَاني مَـا عَرَفْنَ مَكَاني
* * *
ومِنْ هُنَا (؟!) دَخَلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله ووَلَجَ، ولَوْلا مَا هُنَا لكُمَلَ وخَرَجَ؛ حَيْثُ اعْتَرَاهُ بَعْضُ الأحَايِيْنِ، مَضَائِقُ أخْلاقٍ في لِيْنٍ، وجَفْوَةٌ للغَرِيْبِ يَكَادُهَا ولا يُبِيْنُ، لِذَا تَجَافَلَ عَنْهُ طُلابُهُ، وتَقَالَلَ أحْبَابُهُ، إلاَّ نَزْرٌ في إقْلالٍ، وقَطْرَةٍ في قِلالِ، لكِنَّهُ إذَا اسْتَكَانَ لزَائِرِهِ وقَاصِدِهِ، كَانَ وَدِيْعًا بَدِيْعًا لعَائِدِهِ، سَهْلاً مَلِيْحًا في مُحَادَثَتِهِ، طَيِّبًا كَرِيمًا في مُبَاحَثَتِهِ ... لَكِنَّ الكَمالَ عَزِيْزٌ، وشَيْخُنَا عَزِيْزٌ!
ومَا أجْمَلَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله :
تَصَبَّرْ على مُرِّ الجَفَا مِنْ مُعَلِّمٍ فَـإنَّ رُسُوْبَ العِلْمِ في نَفَرَاتِهِ
ومَنْ لم يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةًً تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهْلِ طُوْلَ حَيَاتِهِ
* * *
فكَانَ رَحِمَهُ الله مُنْكَفًّا على نَفْسِهِ في قِرَاءَةٍ وتَألِيْفٍ، أغْلَقَ بَابَهُ على التَّدْقِيْقِ والتَّصْنِيْفِ، رَاضٍ بخَلَوَاتِهِ مُسْتَأنِسٌ، مَاضٍ في طَلَعَاتِهِ مُتَحَسِّسٌ، صَبُوْرٌ فَخُوْرٌ، فَلِمَاذَا حِيْنَئِذٍ التَّشَكِّي؟!
وقَدْ حَادَثْتُهُ مَرَّةً فَأبَى، ورَاجَعْتُهُ أخْرَى فَنَبَى، فبَايَنَنِي بالحَدِيْثِ وتَنَهَّدَ، وسَارَرَني بكَوَائِنِ الزَّمَانِ وعَدَّدَ، وحَذَّرَني مِنْ بَنَاتِ طَبَقٍ، ومِنْ زَبَدِ مَفَالِيْسِ اللَّفَقِ .
ومَا أجْمَلَ مَا قَالَهُ الأحَيْمِرُ السَّعْدِيُّ :
عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأنَسْتُ بالذِّئْبِ إذْ عَوَى وصَوَّتَ إنْسَانٌ فَكِدْتُ أطَيْرُ
رَأى اللهُ أنِّــي لـلأنِيْسِ لشَـانِـئٌ وتُبْغِضُهُم لـي مُقْلَةٌ وضَمِيْرُ
* * *
وهَكَذَا لم يَزَلْ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله يُدَافِعُ الأيَّامَ ويُزْجِيْهَا، ويُعَلِّلُ العُزْلَةَ ويُرَجِّيْهَا، فَامْتَطَى غَارِبَ الأمَلِ إلى الغُرْبَةِ، ورَكِبَ مُتُوْنَ التَّألِيْفِ مَعَ قِلَّةِ الصُّحْبَةِ، فَما زَالَ مَعَ الزَّمَانِ في تَفْنِيْدٍ وعِتَابٍ؛ حَتَّى رَضِيَ مِنَ الغَنِيْمَةِ بالإيَابِ، ومِنَ النَّاسِ بقِلَّةِ الأصْحَابِ، ممَّنْ ارْتَضَى خَلائِقَهُم، وأمِنَ بَوَائِقَهُم .
فَعِنْدَهَا تَسَلَّى بمُلازَمَةِ القَلَمِ والكِتَابِ، ومُطَالَعَةِ صَحَائِفِ أوْلي الألْبَابِ، مَا شَغَلَهُ عَنْ كَثْرَةِ المُخَالَطَةِ، وألهَاهُ عَنْ تَوَقِّي المُغَالَطَةِ، فَظَفَرَ مِنْهَا بضَالَّتِهِ المَنْشُوْدَةِ، وبُغْيَةِ نَفْسِهِ المَفْقُوْدَةِ، فجَعَلَ يَرْتَعُ بَيْنَ أزْهَارِ حَدَائِقِهَا، ويَسْتَمْتِعُ بحُسْنِ حَقَائِقِهَا .
وهَكَذَا اعْتَقَدَ مَقَامُهُ بذَلِكَ الجَنَابِ؛ حَتَّى تَوَارَى تَحْتَ التُّرابِ، فرَحِمَهُ الله الغَفُوْرُ التَّوَّابُ!
إذَا مَـا الدَّهْرُ بيَّتَنِي بجَيْشٍ طَلِيْعَتُهُ اغْتِنَـامٌ واكْتِئَـابُ
شَنَنْتُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِي كَمِيْنًا أمِيْرَاهُ الذُّبَالَـةُ والكِتَابُ
وبِتُّ أنُصُّ مِنْ شِيَمِ اللَّيَالي عَجَائِبَ في حَقَائِقِهَا ارْتِيَابُ
بِها أُجْلي هُمُومِي مُسْتَرِيْحًا إذَا جَلَّى هُمُوْمَهُمُ الشَّرَابُ
ولِسَانُ حَالِهِ، كَما قَالَ غَيْرُهُ :
وأدَّبَني الزَّمَـانُ فَمَا أُبَالـي هُجِرْتُ فَلا أُزَارُ ولا أزُوْرُ
ولَسْتُ بقَائِلٍ مَا عِشْتُ يَوْمًا أَسَارَ الجُنْدُ أمْ رَحَلَ الأمِيْرُ؟
* * *
صِفَاتُهُ الخَلْقِيَّةُ :
فَكَانَ رَحِمَهُ الله يَعْلُوْهُ بَيَاضٌ في حُمْرَةٍ، وتَكْسُوْهُ ممَاسِحُ سُمْرَةٍ، رِبْعَةٌ مِنَ الرِّجَالِ، لا قَصِيْرٌ ولا مِطْوَالٌ، ضَخْمُ القَامَةِ، عَظِيْمُ الهَامَةِ، شَثْنُ الكَفَّيْنِ والقَدَمَيْنِ، ضَخْمُ الرَّأسِ أدْعَجُ العَيْنَيْنِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، ضَلِيْعُ الفَمِّ والهَيْئَةِ، بَادِنٌ مُتَماسِكٌ، مُعْتَدِلٌ مُتَمالِكٌ!
مُؤلَّفَاتُ ابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ :
أمَّا مَزْبُوْرَاتُ تَآلِيْفِهِ، ومَسْطُوْرَاتُ تَصَانِيْفِهِ، فمَعْلُوْمَةٌ مَشْهُوْرَةٌ، مَعْرُوْفَةٌ مَأثُوْرَةٌ، سَارَ بِها الرُّكْبَانِ، وطَارَ بِها الطِّلْبَانِ، فَاقَتْ عُقُوْدَ الجُمانِ، وسَابَقَتْ قَلائِدَ العِقْيَانِ، تَضَوَّعَ مِسْكُ ثَنَايَاهَا، وتَفَوَّحَ عَبِيْرُ خَفَايَاهَا، تَنْهَلُ مِنْهَا المَوَارِدُ، وتَصْدُرُ عَنْهَا المَزَاوِدُ، آثَارُهَا في العَالمِيْنَ مَكْتُوْبَةٌ، وثِمارُهَا في الخَافِقِيْنَ مَجْلُوْبَةٌ، فَهِيَ بحُسْنِ سَبْكِهَا غُرَّةٌ في جَبْهَةِ الزَّمَانِ، ودَلَّةٌ يقْتَدِي بِها أهْلُ العَدْلِ والإحْسَانِ، كَأنَّها صُنُوْجُ العَسْجَدِ تُصَفَّقُ، أو دَنَانِيْرُ مِنَ الإبْرِيْزِ تَبْرُقُ ...!
وحَسْبُهُ أنَّ الله تَعَالى نَشَرَ كُتُبَهُ في حَيَاتِهِ، وحَفِظَهَا بطُلابٍ بَعْدَ ممَاتِهِ، وجَعَلَ لهَا قَبُوْلاً في مَشَارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبِهَا، وإقْبَالاً مِنْ أهْلِ السُّنَّةِ وطُلابِهَا، ارْتَضَاهَا أهْلُ العِلْمِ على اخْتِلافِ مَشَارِبِهِم، وتَنَوُّعِ طَرَائِقِهِم وأفْكَارِهِم ، فللَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ!
ولَيْسَ الإطْنَابُ فِيْهَا بكَثِيْرٍ، ولكِنْ يَكْفِي مِنَ القِلادَةِ مَا أحَاطَ بالعُنُقِ .
* * *
فلشَيْخِنَا رَحِمَهُ الله مِنَ التَّآلِيْفِ العِلْمِيَّةِ، والرَّسَائِلِ القَيِّمَةِ، والتَّحْقِيْقَاتِ المُجَوَّدَةِ، والفَتَاوَى المُحَرَّرَةِ مَا يُقَارِبُ السَّبْعِيْنَ أو يَزِيْدُ، والمَطْبُوْعُ مِنْهَا قَرَابَة بِضْعٍ وسِتِّيْنَ فِيْما أعْلَمُ، كَما أنَّه رَحِمَهُ الله قَدْ أكَّدَ لخَوَاصِهِ مِنَ طُلابِ العِلْمِ، وكَذَا قَدْ وَعَدَ في مَثَاني كُتُبِهِ أنَّهُ عَازِمٌ على إخْرَاجِ بَعْضِ الكُتُبِ المُفِيْدَةِ، والرَّسَائِلِ العَدِيْدَةِ ... فمِنْهَا مَا أظْهَرَ اسْمَهَا، وأُخْرَى قَدْ أضْمَرَ رَسْمَهَا، ونَحْنُ في انْتِظَارٍ لاسِيَّما مِنْ أبْنَائِهِ النُّجَبَاءِ، وطُلابِهِ الأكْفَاءِ، والوُعُوْدُ عُهُوْدٌ .
وهَذِهِ ثَانِيَةً؛ أنَّهُ رَحِمَهُ الله كَانَ لَهُ عِنَايَةٌ تَامَّةٌ لامَّةٌ بكُتُبِ شَيْخِ الإسْلامِ الإمَامِ الحَافِظِ أبي عَبْدِ الله مُحمَّدِ بنِ أبي بَكْرٍ أيُّوْبَ ابنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ الله (751)، وهَذَا مَا يَشْهَدُ لَهُ أهْلُ العِلْمِ والحِجَى، بَلْ أصْبَحَ اسْمُ بَكْرٍ قَرِيْنًا باسْمِ ابنِ القَيِّمِ، فَلا يُذْكَرُ أحَدُهُما إلاَّ وذُكِرَ الآخَرُ، فللَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ، و«المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ»! مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وثَالِثَةً؛ أنَّ مَجْمُوْعَ أطَارِيْحِهِ رَحِمَهُ الله (المَاجِسْتِيْر والدَّكْتُوْرَاه) كَانَتْ دِرَاسَةً مُحَرَّرَةً عَنْ فِقْهِ ابنِ القَيِّمِ، فرِسَالَتُهُ (للمَاجِسْتِيْر) كَانَتْ بعُنْوَانِ «الحُدُوْدِ والتَّعْزِيْرَاتِ عِنْدَ ابنِ القَيِّمِ»، ورِسَالَتُهُ العَالمِيَّةُ (الدُّكْتُوْرَاه) كَانَتْ بعُنْوَانِ «أحْكَامِ الجِنَايَةِ على النَّفْسِ ومَا دُوْنَها عِنْدَ ابنِ القَيِّمِ»، مَعَ ضَمايِمَ دَائِرَةٍ في فَلِكَ عُلُوْمِ ابنِ القَيَّمِ رَحِمَهُ الله، مِثْلُ : «ابنِ قِيِّمِ الجَوْزِيَّةِ، حَيَاتُهُ وآثَارُهُ»، و«التَّقْرِيْبِ لعُلُوْمِ ابنِ القَيِّمِ»، وغَيْرِهَا مِنْ مَعْلَمَةِ ابنِ القَيِّمِ .
حَتَّى كَانَ مِنْ آخِرِهَا وأنْفَعِهَا وأوْسَعِهَا : المَشْرُوْعُ القَيِّمِ، الجَامِعُ لعَلُوْمِ وكُتُبِ ابنِ القَيِّمِ، وذَلِكَ بإخْرَاجِ تُرَاثِ مَعْلَمَةِ ابنِ القَيِّمِ العِلْمِيِّةِ، وتَقْرِيْبُهَا لعَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ؛ حَيْثُ قَامَ رَحِمَهُ الله بفِكْرَةِ إخْرَاجِ المَعْلَمَةِ القَيِّمَةِ لمَجَامِيْعِ عُلُوْمِ ابنِ القَيِّمِ وآثَارِهِ العِلْمِيَّةِ، وذَلِكَ تَحْتَ إشْرَافِهِ، فعِنْدَهَا خَرَجَتْ طَلائِعُ كُتُبِ ابنِ القَيِّمِ في مَجْمُوْعَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، بَعْدَ تَنْضِيْدِهَا ومُرَاجَعَتِهَا، وإخْرَاجِهَا بتَحْقِيْقَاتٍ عِلْمِيَّةٍ، وطَبَعَاتٍ قِيَّمِةٍ، وبأسْعَارٍ زَهِيْدَةٍ . وقَدْ خَرَجَ مِنْهَا حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ مَجْمُوْعَتَانِ في ثَمانِيَةَ عَشَرَ مُجلَّدًا، فَجَزَاهُ الله عَنْ ابنِ القَيِّمِ والمُسْلِمِيْنَ خَيْرَ الجَزَاءِ!
وهَكَذَا اعْتَنَى شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله بعُلُوْمَ ابنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ الله، عِنَايَةً فَائِقَةً لَيْسَ لهَا نَظِيْرُ فِيْمَا سَبَقَ، بَلْ إخَالُكَ تَجْزِمُ قَطْعًا أنَّ أحَدًا لم يَخْدِمْ كُتُبَ وعُلُوْمَ ابنِ القَيِّمِ مِثْلَما خَدَمَهَا وقَرَّبَها شَيْخُنَا بَكْرٌ رِحِمَهُ الله!
بَلْ إذَا قِيْلَ : إنَّ ابنَ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله كَانَ مِنْ أبَرِّ طُلابِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّة في عُلُوْمِهِ، فَلا جَرَمَ أنَّ أبرَّ النَّاسِ بابنِ القَيِّمِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ مِنْ شَيْخِنَا بَكْرٍ أبو زَيْدٍ، فعِنْدَهَا كَانَ حَقًّا أنْ يُلَقَّبَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله : بابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ!
ومِنَ الإدْلالِ هُنَا؛ إذَا قِيْلَ : إنَّ أحَدًا لَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ على الإمَامِ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله، إلاَّ مَا كَانَ منْ البَيْهَقِيِّ، فَكَذَا القَوْلُ هُنَا : لَيْسَ لأحَدٍ حَسَنَةٌ على الإمامِ ابنِ القَيِّمِ، إلاَّ مَا كَانَ مِنْ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله تَعَالى .
* * *
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ النَّسَبَ ثَلاثَةٌ : نِسْبَةُ طِيْنٍ، ونِسْبَةُ دِيْنٍ، ونِسْبَةُ عِلْمٍ، فَأمَّا الطِّيْنِيَّةُ فَلِلأبَوَيْنِ، وأمَّا الدِّيْنِيَّةُ فللمُؤمِنِيْنَ، وأمَّا العِلْمِيَّةِ فلأهْلِ العِلْمِ، فَكَانَ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ حَازَ شَيْخُنَا مِنْ شَيْخِهِ ابنِ القَيِّمِ نِسْبَتَيْنِ : نِسْببَةً دِيْنِيَّةً وعِلْمِيَّةً، فَلْيَهْنَأكَ النِّسْبَةَ أبَا عَبْدِ الله، وجمَعَكَ بشَيْخِكَ في عِلِّيْيِنَ، مَعَ العُلَماءِ الرَّبَّانِيِّينَ!
* * *
وأمَّا كُتُبُ ابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ، فكَثِيرَةٌ جِدًّا، قَدَ مَضَى بَعْضُهَا، وبَقِيَ بَعْضٌ، فمِنْهَا (لا كُلُّهَا) :
كِتَابُ «تَصْنِيْفِ النَّاسِ بَيْنَ الظَّنِّ واليَقِيْنِ»، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا .
وكَذَا كِتَابُ «المَدْخَلِ المُفَصَّلِ إلى مَذْهَبِ الإمَامِ أحمَدَ بنِ حَنْبَلٍ» في مُجَلَّدَيْنِ كَبِيْريْنِ، ويُعَدُّ هَذَا الكِتَابُ مِنْ أنْفَعِ كُتُبِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله؛ حَيْثُ جَمَعَ شَتَاتَ مُتَفَرِّقَاتِ كُتُبِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ وأعْلامِهِ في حُسْنِ تَألِيْفٍ وتِقْسِيْمٍ، وجَوْدَةِ تَرْكِيْبٍ وتَرْقِيْمٍ، وكَذَا تَحْرِيْرٍ وتَقْوِيْمٍ، وسَبْكٍ لم يُسْبَقْ إلَيْهِ، وجَمْعٍ مَا سُبِقَ عَلَيْهِ .
فَهُو عُمْدَةُ الحَنَابِلَةِ في هَذَا العَصْرِ، وبِهِ جَمُلَ المَذْهَبُ وزَانَ، وتمَهَّدَ طَرِيْقُهُ ولاَنَ، وكُلُّ مْنَ ألَّفَ في هَذَا الفَنِّ فَهُمْ عِيَالٌ عَلَيْهِ، ومَعَ هَذَا ففِيْهُ بَعْضُ فَوَائِتٌ مُسْتَدْرَكَةٌ!
ولَهُ أيْضًا كِتَابُ «مُعْجَمِ المَنَاهِي اللَّفْظِيَّةِ» في مُجْلَدٍ كَبِيْرٍ، وهُوَ كِتَابٌ بَدِيْعٌ نَافِعٌ، ومُحرَّرٌ جَامِعٌ، ولَهُ فِيْهِ تَرْتِيْبٌ وتَبْوِيْبٌ، على طَرِيْقَةِ المَعَاجِمِ اللُّغَوِيَّةِ، وفِيْهَ تَقْيِدَاتٌ وانْتِقَاءَاتٌ قَوِيَّةٌ، لم يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أحَدٌ فِيْما أعْلَمُ؛ حَيْثُ جَمَعَ فِيْهِ وأوْعَى، وأفَادَ فِيْهِ وأشْفَى، وفَاتَهُ شَيء كَثِيرٌ، وقَدْ رَأيْتُ مَنِ اسْتَدْرَكَهُ مُؤخَّرًا في مُجَلَّدٍ مُتَوَسِّطٍ قِيِّمٍ!
ولَهُ أيْضًا كِتَابُ «طَبَقَاتُ النَّسَّابِيْنَ» في مُجَلَّدٍ، فَهُوْ جَامِعٌ نَافِعٌ، جَاءَ بِكُلِّ جَدِيْدٍ، وضَمَّهُ كُلَّ مُفِيْدٍ، ومَعَ هَذَا ففِيْهِ اسْتِدْرَاكَاتٌ وفَوَائِتُ يَسِيْرةٌ، وأحْرُفٌ غَيرُ مُحرَّرَةٍ!
ولَهُ أيْضًا كِتَابُ «حِرَاسَةِ الفَضِيْلَةِ»، وهَذَا الكِتَابُ مِنْ أنْفَسِ الكُتُبِ وأنْفَعِهَا؛ حَيْثُ خَرَجَ في الوَقْتِ الَّذِي شَالَتْ فِيْهِ العَلْمانِيَّةُ بأذْنَابِهَا في نَشْرِ الرَّذِيْلَةِ، ودَفْعِ المَرْأةِ المُسْلِمَةِ إلى سُوْقِ الشَّهَوَاتِ بَيْعًا وشِرَاءً، فَالله طَلِيْبُهُم!
لِذَا كَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله مُوَفَّقًا مُسَدَّدًّا في تَسْطِيْرِ هَذَا الكِتَابِ؛ حَيْثُ جَمَعَ فِيْهِ خُلاصَةَ مَنْ سَبَقَهُ، مَعَ زِيَادَاتٍ عِلْمِيَّةٌ، وتَحرِيْرَاتٍ قَوِيَّةٍ، ومُنَاقَشَاتٍ نَقْلِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، فَجَاءَ الكِتَابُ وَاسِطَةَ العِقْدِ لمنَ سَبَقَهُ، وائْتَمَّ بِهِ مَنْ لحِقَهُ، فعِنْدَهَا انْتَشَرَ انْتِشَارَ الماءِ في عُرُوْقِ الوَرْدِ، والرُّوْحِ في الجَسَدِ، فطُبِعَ مِنْهُ عَشَرَاتُ الألافِ في أشْهُرٍ يَسِيْرةٍ كَما أخْبرني بِهِ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله، ثُمَّ تَوَالَتْ طَبَعَاتُه ممَّا يَعْسُرُ عَدُّهَا، وذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ!
وكَذَا كِتَابُ «حِلْيَةِ طَالِبِ العِلْمِ»، وهُوَ كِتَابٌ مُهِمٌّ لطَالِبِ العِلْمِ، ورَائِمِ عُلُوِّ الهِمَمِ؛ حَيْثُ أتَي فِيْهِ وزَادَ بِمَا يَدُلُّ على عُلُوِّ كَعْبِ صَاحِبِهِ، ويَقْطَعُ بنُبُوْغِ وبَيَانِ قَلَمِ كَاتِبِهِ، ممَّا يُرَغِّبُ الطَّالِبَ في مُطَالَعَتِهِ، والعَالمَ الجِهْبَذَ في مُقَارَعَتِهِ .
فَكَانَ مِنْ لَبُوْسِ القَبُوْلِ أنَّ شَيْخَنَا العَلامَةَ محَمَّدًا العُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ الله قَدْ شَرَحَ كِتَابَ «الحِلْيَةِ» لطُلابِهِ في عُنَيْزَةَ، والشَّيْخُ بَكْرٌ حَيٌّ يُرْزَقُ، وهَلْ هَذَا إلاَّ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بفَضْلِ أهْلِ العِلْمِ؟ وهَلْ العِلْمُ إلاَّ رَحِمٌ بَيْنَ أهْلِهِ؟ فرَحِمَ الله العُلَماءَ الَّذِيْنَ يُقَدِّرُوْنَ العِلْمَ وأهْلَهُ مَهْمَا كَانَ المُتَكَلِّمُ والكَاتِبُ صَغْيرًا كَانَ أو كَبِيرًا .
وكَذَا كِتَابُ «التَّعَالمِ»، وهَذَا الكِتَابُ مِنْ مُسْتَطَابَاتِ كُتُبِ الشَّيْخِ ونَوَادِرِهَا، ومُهِمَّاتِ الكُتُبِ وفَرَائِدِهَا، فَهُوَ بَابَاتُ طُلابِ العِلْمِ لمَعْرِفَةِ زَغَلِ العِلْمِ ودُخُولاتِهِ، ومَيَاسِمُ كَيٍّ لأدْعِيَاءِ العِلْمِ، فخُذْهُ بيَمِيْنِكَ، وابْصِرْهُ بعَيْنِكَ، فَهُوَ كِتَابٌ عُبَابٌ، ومَرْجِعٌ لُبَابٌ .
وكَذَا كِتَابُ «المَدَارِسِ الأجْنَبِيَّةِ»، وهَذَا الكِتَابُ، نَادِرَةٌ فَارِدَةٌ، مخْتَصَرٌ مُعْتَصَرٌ، جَامِعٌ نَافِعٌ، جَاءَ فِيْهِ بخَلائِصِ مَنْ سَلَفَ، وأتَى على دُرَرِهِ مَنْ خَلَفَ، ففِيْهِ نَقْضٌ لأدْعِيَاءِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَةِ، وكَشْفٌ لمُخَطَّطَاتِ (التَّنْصِيْرِ) الصَّلِيْبِيَّةِ، وتَحْذِيْرٌ لأبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ مِنَ الدَّعَوَاتِ الإرْسَالِيَّةِ، وفِيْهِ بَقِيَّةُ حَقَائِقَ ووَثَائِقَ مَيْدَانِيَّةٍ، فَدُوْنَكُهُ .
وكَذَا كِتَابُ «حُكْمِ الانْتِماءِ»، وهُوَ كِتَابٌ مُهِمٌّ في ضَبْطِ جمَاعَةِ المُسْلِمِيْنَ، وجمْعِ كَلِمَتِهِم، ووِحْدَةِ صَفِّهِم، وأخْذِهِم بالكِتَابِ والسُّنَّةِ للانْضَوَاءِ تحْتَ مُبَايَعَةِ وَليِّ الأمْرِ، ومُنَابَذَةِ التَّفْرِقَةِ وشَقِّ عَصَا جمَاعَةِ المُسْلِمِيْنَ ...!
ومَعَ هَذَا فَقَدْ لاقَى هَذَا الكِتَابُ بَعْضَ الرُّدُوْدِ والتَّعَقُّبَاتِ مِنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِنَ خَارِجِ هَذِهِ البِلادِ، ولكُلٍّ وُجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيْهَا، فالكِتَابُ إذَا ضَاقَ ببَعْضِ البِلادِ الإسْلامِيَّةِ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لأهْلِ هَذِهِ البِلادِ، فَتَأمَّلْ!
* * *
ومِنْ وَرَائِهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، ورَسَائِلُ عِلْمِيَّةٌ، لَيْسَ هَذَا مُقَامَ ذِكْرِهَا على وَجْهِ التَّفْصِيْلِ، فَخُذْهَا في مُعَنْوَنَاتِها للتَّذْكِيْرِ والتَّدْبِيْرِ، في حِيْنَ أنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ الله قَدْ جمَعَ مُتَفَرِّقَاتِ كُتُبِهِ، ولَـمَّ ضَمايِمَهَا في مجَلَّدَاتٍ كِبَارٍ كَيْ تَكُوْنَ سَهْلَةَ المنَالِ، وتَبْقَى قَرِيْبَةَ النِّوَالِ، فَدُوْنَكُهَا في مجَلَّدَاتِها الآتِيَةِ، كَما يَلي :
أحَدُهَا : كِتَابُ «ابنِ القَيِّمِ، حَيَاتُهُ، وآثَارُهُ، ومَوَارِدُهُ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لسِيرَةِ حَيَاةِ شَيْخِهِ الإمَامِ الهُمامِ شَيْخِ الإسْلامِ ابن قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ الله رَحْمَةً وَاسِعَةً، المُتَوَفَّى سَنَةَ (751) .
وثَانِيْهَا : كِتَابُ «النَّظَائِرِ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لأرْبَعِ رَسَائِلَ، كَما يَلي : «التَّراجِمُ الذَّاتِيَّةُ»، و«التَّحَوُّلُ المَذْهَبِيُّ»، و«لطَائِفُ الكَلِمِ في العِلْمِ» .
وثَالِثُهَا : كِتَابُ «الرُّدُوْدِ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لسِتَّةِ كُتُبٍ، كَما يَلي : «الرَّدُّ على المُخَالِفِ»، و«بَرَاءَةُ أهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الوَقِيْعَةِ في عُلَماءِ الأمَّةِ»، و«التَّحْذِيْرُ مِنْ مُختَصَرَاتِ الصَّابُوني في التَّفْسِيرِ»، و«تَصْنِيْفِ النَّاسِ بَيْنَ الظَّنِّ واليَقِيْنِ»، و«عَقِيْدَةِ ابنِ أبي زَيْدٍ القَيْرَوانيِّ، وعَبْثُ بَعْضِ المُعَاصِرِيْنَ بِهِ» .
ورَابِعُهَا : كِتَابُ «التَّقْرِيْبُ لعُلُوْمِ ابنِ القَيِّمِ» في مُجَلَّدٍ، وهَذَا الكِتَابُ جَامِعٌ لمُتَفَرِّقَاتِ مَعْلَمَةِ ابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله في مُفَهْرَسَاتٍ وجَدْولاتٍ مُهِمَّةٍ مُفِيْدَةٍ، غَيْرَ أنَّه في حَاجَةٍ إلى تَجْدِيْدِ عِزْوِ مَوْضُوْعَاتِهِ وإحَالاتِهِ إلى المَصَادِرِ الجَدِيْدَةِ في مَطْبُوْعَاتِهَا السَّائِرَةِ، لاسِيَّما إصْدَارَاتُ مَجَامِيْعِ وآثَارِ ابنِ القَيِّمِ الجَدِيْدَةِ الَّتِي أشْرَفَ عَلَيْهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله، لِذَا كَانَ مِنْ الأرْفَقِ والأوْفَقِ ألاَّ يُطْبَعُ هَذَا الكِتَابُ حَتَّى تَكْتَمِلَ آثَارُ ابنِ القَيِّمِ لتَقْيِيْدِ الإحَالاتِ والعَزْوِ، والله المُوَفِّقُ .
وخَامِسُهَا : كِتَابُ «المَجْمُوْعَةُ العِلْمِيَّةُ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لخَمْسِ رَسَائِلَ، كَما يَلي : «التَّعَالمُ»، و«آدَابُ طَالِبِ العِلْمِ» و«حِلْيَةُ طَالِبِ العِلْمِ»، و«الرَّقَابَةُ على التُّراثِ»، و«تَغْرِيْبُ الألْقَابِ العِلْمِيَّةِ» .
وسَادِسُهَا : كِتَابُ «الأجْزَاءِ الحَدِيْثِيَّةِ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لخَمْسَةِ أجْزَاءٍ، كَما يَلي : «جُزْءٌ في حَدِيْثِ الحَوَالَةِ»، و«جُزْءٌ في مَسْحِ الوَجْهِ باليَدَيْنِ بَعْدَ رَفْعِهِما للدُّعَاءِ»، و«جُزْءٌ في زِيَارَةِ النِّسَاءِ للقُبُوْرِ»، و«جُزْءٌ في كَيْفِيَّةِ النُّهُوْضِ في الصَّلاةِ»، و«جُزْءٌ في مَرْوِيَّاتِ دُعَاءِ خَتْمِ القُرْآنِ» .
* * *
وهُنَاكَ ضَمَايِمُ عِلْمِيَّةٌ، وبُحُوْثٌ تَأصِيْلِيَّةٌ، أدْرَجَهَا شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله في مُجَلَّدَيْنِ، تَحْتَ عُنْوَانِ «فِقْهِ النَّوَازِلِ»، وكُلُّ مُجلَّدٍ يَضُمُّ بَيْنَ دَفَّتَيْهِ خَمْسَ رَسَائِلَ، كَما يَلي :
الأوَّلُ مِنْهُما : «التَّقْنِيْنُ والإلْزَامُ»، و«المُوَاضَعَةُ في الاصْطِلاحِ»، و«خِطَابُ الضَّمانِ البَنْكِي»، و«جِهَازُ الإنْعَاشِ، وعَلامَةُ الوَفَاةِ»، و«طُرُقُ الإنْجَابِ في الطِّبِّ الحَدِيْثِ» .
والثَّاني مِنْهُما : «التَّشْرِيْحُ الجُثْماني»، و«النَّقْلُ والتَّعْوِيْضُ الإنْسَاني»، و«المُرَابَحَةُ للآمِرِ بالشِّرَاءِ»، و«حَقُّ التَّألِيْفِ، تَارِيخًا وحُكْمًا»، و«الحِسَابُ الفَلَكِيُّ لأوَائِلِ الشُّهُوْرِ العَرَبِيَّةِ»، و«دِلالَةُ البَوْصَلَةِ على القِبْلَةِ» .
وبِهَذَا نَكْتَفِي مِنْ ذِكْرِ كُتُبِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله، ومِنْ تَوْصِيْفِ مَضَامِيْنِهَا، وتَفَاصِيْلِ مَوْضُوْعَاتِها إلى أجَلٍ قَرِيْبٍ إنْ شَاءَ الله .
* * *
ومَهْما يَكُنْ؛ فَفِي سَابِقِ عِلْمِنَا أنَّ شَيْخَنَا رَحِمَهُ الله قَدِيْرٌ وجَدِيْرٌ (نَحْسَبُهُ كَذَلِكَ!) بأنْ يَتَصَدَّى ويتَصَدَّرَ لتَفْسِيْرِ كِتَابِ الله، وتَوْضِيْحِ السُّنَّةِ، و شَرْحِ مَا سِوَاهُمَا مِنْ كُتُبِ : العَقِيْدَةِ السَّلَفِيَّةِ، ومُخْتَصَرَاتِ الفِقْهِ الحَنْبلِيَّةِ في غَيْرِهَا، ولَوْ فَعَلَ رَحِمَهُ الله لأتَى بالعَجَبِ العُجَابِ وفَوْقَهُ، ولا نُزَكِّيْهِ على الله تَعَالى .
لكِنَّهُ رَحِمَهُ الله وَقَفَ نَفْسَهُ، وحَبَسَ قَلَمَهُ في إخْرَاجِ مَا يَحتَاجُهُ المُسْلِمُوْنَ اليَوْمَ، ومَا يُرِيْدُوْنَه في وَاقِعِهِم، فَكَانَ كَمَا أرَادَ رَحِمَهُ الله، في حِيْنَ أنَّه لَوْ أخْرَجَ أسْفَارًا عَدِيْدَةً، ومُجلَّدَاتٍ مَبْسُوْطَةً في تَفْسِيْرٍ أو شَرْحٍ أو غَيْرِهِ، فَلَنْ يَأتي على مَوَاقِعِ حَاجَاتِ إخْوَانِهِ المُسْلِمِيْنَ اليَوْمَ كَما هِيَ حَاجَتُهُم في «حِرَاسَةِ الفَضِيْلَةِ»، و«تَصْنِيْفِ النَّاسِ» و«المَدَارِسِ الأجْنَبِيَّةِ»، و«التَّعَالمِ»، وغَيْرِهَا مِنْ محَاسِنِ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ المُبَارَكَةِ النَّافِعَةِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، والله على كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ!
* * *
فإنْ أبَيْتَ يَا رَعَاكَ الله؛ فَانْظُرْ طَلِيْعَةَ مَشْرُوْعِهِ الحَدِيْثِيِّ المَوْسُوْعِيِّ، في مُجلَّدِهِ الأوَّلِ تَحْتَ عُنْوَانِ «التَّأصِيْلِ في أصُوْلِ التَّخْرِيْجِ، وقَوَاعِدِ الجَرْحِ والتَّعْدِيْلِ»، الَّذِي يُعَدُّ مُقَدِّمَةً وتَوْطِئَةً لمَا يَتْبَعُهُ مِنْ مُجلَّدَاتٍ ... فمَنْ نَظَرَ فِيْهِ عَلِمَ رُسُوْخَ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله في عُلُوْمِ الحَدِيْثِ، وغَوْرَ عِلْمِهِ، وبُعْدَ نَظَرِهِ، وقُوَّةَ بَحْثِهِ ... ولَوْ أكْمَلَهُ رَحِمَهُ الله (أو أخْرَجَهُ) لصَارَ آيَةً في عُلُوْمِ الحَدِيْثِ، ومَرْجِعًا لكُلِّ مُحَدِّثٍ وأثَرِيٍّ ... لكِنَّ كَما قَالَ الله تَعَالى : «ومَنْ يُؤتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أوْتيَ خَيْرًا كَثِيْرًا»، وقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ : «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لمَا خُلِقَ لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، والله يَهْدِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* * *
وأمَّا المَشَارِيْعُ العِلْمِيَّةُ لابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ فَكَثِيْرَةٌ، مِنْهَا :
أوَّلهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ ومَا لحِقَهَا مِنْ أعْمَالٍ»، حَيْثُ خَرَجَتْ في مَجْمُوعَاتٍ مُتَعَاقِبَةً، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها، وسَتَخْرُجُ تِبَاعًا كَامِلَةً إنْ شَاءَ اللهُ، وقَدْ خَرَجَ مِنْهَا حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ ثَلاثُ مَجْمُوعَاتٍ، قَدْ حَوَتَ ثَلاثَةَ عَشَرَ مُجلَّدًا .
وسَتَخْرُجُ تِبَاعًا كَامِلَةً إنْ شَاءَ اللهُ، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها .
ثَانِيْهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ الإمَامِ ابنِ قيِّمِ الجَوزِيَّةِ ومَا لحِقَهَا مِنْ أعْمَالٍ» حَيْثُ خَرَجَتْ في مَجْمُوعَاتٍ مُتَعَاقِبَةً، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها، وسَتَخْرُجُ تِبَاعًا كَامِلَةً إنْ شَاءَ اللهُ، وقَدْ خَرَجَ مِنْهَا حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ مَجمُوْعَتَانِ، قَدْ حَوَتْ ثَمانِيَةَ عَشَرَ مجَلَّدًا .
ثَالِثُهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ الشَّيْخِ العَلامَةِ مُحَمَّدِ الأمِيْنِ الشِّنْقِيْطِيِّ»، حَيْثُ خَرَجَتْ كَامِلَةً ولله الحَمْدُ، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها، فَكَانَتْ في تَسْعةَ عَشَرَ مجَلَّدًا
رَابِعُهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ الشَّيْخِ العَلامَةِ عَبْدِ الرَّحمَنِ المُعَلِّمِي»، وسَتَخْرُجُ قَرِيْبًا إنْ شَاءَ الله، كَما هِيَ في خِطَّةِ المَشْرُوْعِ العِلْمِيِّ المُبَارَكِ .
في حِيْنَ أنَّنِي أُنَاشِدُ إخْواني طُلابَ العِلْمِ المُعْتَنِيْنَ بمُتَابَعَةِ هَذَا المَشْرُوْعِ العِلْمِيِّ تَحقِيْقًا ومُرَاجَعَةً، وطِبَاعَةً وتَمْوِيْلاً أنْ يَقُوْمُوا بإخْرَاجِ «آثَارِ الشَّيْخِ العَلامَةِ بَكْرٍ أبُو زَيْدٍ»، وَفَاءً لَهُ، وبِرًّا بِهِ، واسْتِجَابَةً لطُلابِهِ ومُحبِّيْهِ مِنْ عُمُوْمِ المُسْلِمِيْنَ( ) .
فَكَانَ فَضْلُ هَذِهِ المَشَارِيْعِ العِلْمِيَّةِ : لله تعالى أوَّلاً وآخِرَ، ثُمَّ لشِيْخِنَا رَحِمَهُ الله، حيث أوْلاهَا إشْرَافًا ومُتَابَعَةً . وقَدْ شَرُفَتْ أيْضًا مَكْتَبَةُ «دَارِ عَالَمِ الفَوَائِدِ»، للقِيَامِ بإصْدَارَاتِ وطِبَاعَةِ هَذِهِ المَشَارِيْعِ العِلْمِيَّةِ، ثُمَّ يَعُوْدُ الفَضْلُ أيْضًا للرَّجُلِ المُحْسِنِ المُوْسِرِ : سُلَيْمانَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ الرَّاجِحِيِّ حَفِظَهُ الله، الَّذِي قَامَ بتَمْويْلِ طِبَاعَةِ هَذِهِ المَشَارِيْعِ، فجَزَاهُ الله تَعَالى عَنِ العِلْمِ وأهْلِهِ خَيْرًا .
فَهَذِهِ عُجَالَةٌ في سِيْرَةِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله أرْسَلْتُ فِيْهَا عَنَانَ القَلَمِ، ودَوَّنْتُ فِيْهَا بَعْضُ الفِهَمِ، لَعَلَّ وعَسَى أنْ أنْشَطَ في تَحرِيْرِهَا وتَتْمِيْمِهَا، وتَحْبِيرِهَا وتَنْمِيْمِهَا إذْا شَاءَ الله تَعَالى، فَشُهْرَةُ ذِكْرِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله تُغْنِي عَنِ الإطْنَابِ، وعُلُوْمُ فِكْرِهِ تَكْفِي عَنِ الإسْهَابِ، وبِهَذا جَرَى القَلَمُ بِما أرِيْدُ ودُوْنَ مَا أرِيْدُ، ولا يَكُوْنَ إلاَّ مَا شَاءَهُ الله، فَهُوَ الفَعَّالُ لمَا يُرِيْدُ( )!
كَمَا في هَذِهِ العُجَالَةِ اليَسِيْرَةِ فُتُوْحَاتُ أبْوَابٍ مُؤصَدَةٍ، وتَلْقِيْحُ أفْكَارٍ ممْتَدَّةٍ، تَدْفَعُ رُوَّامَ العِلْمِ لاسِيَّما طُلابَ الشَّيْخِ رَحِمَهُ الله إلى تَدْوِيْنِ تَرْجَمَتِهِ في سِيْرةٍ مَبْسُوْطَةٍ، آخِذَةً بِما للشَّيْخِ مِنْ فَوَائِدِ وفَرَائِدِ مَخْطُوْطَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ على وَجْهِ التَّفْصِيْلِ والتَّكْمِيْلِ، والله مِنْ وَرَاءِ القَصْدِ!
* * *
أمَّا وَفَاةُ ابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ، فَهَاكَهَا لاشِيَةَ فِيْهَا :
فَأقُوْلُ : إنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ، مِنْ حَادِثَة تَفُتُّ العَضُدَ، وتُضَاعِفُ الكَمَدَ، وتُوْهِي القَلْبَ، وتُوهِنُ اللُبَّ ... يَوْمَ جَاءَ الأجَلُ بقَضَاءٍ وقَدَرٍ، وجَاءَتِ المَنِيَّةُ بقَضَاءِ الأمْرِ؛ حَيْثُ مَاتَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله ظُهْرَ يَوْمِ الثُّلاثَاءِ، لثَلاثٍ بَقِيْنَ مِنْ شَهْرِ الله المُحَرَّمِ، لعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وتِسْعٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ، (27/1/1429).
عَنْ عُمُرٍ قَارَبَ الشَهْرَيْنِ وأرْبَعَةٍ وسِتِّيْنَ عَامًا قَضَاهَا في العِلْمِ والتَّعْلِيْمِ، والتَّألِيْفِ والتَّصْنِيْفِ؛ حَتَّى إذَا ضَعُفَتْ قُوَاهُ عَنْ دَرْكِ الآمَالِ، وعَجِزَ عَنْ مَعَارِكِ الزَّمَانِ والنِّزَالِ، إذْ ضَمَّتِ البَسِيْطَةُ إخْوَانَهُ، وحَجَبَ الجَدِيْدَانِ أقْرَانَهُ .
فعِنْدَهَا ألْقَى عَصَا العِلْمِ بفِنَاءِ الأرْضِ الفَسِيْحِ، ليُقِيْمَ تَحْتَ أكْنَافِهَا ليَسْتَرِيْحَ، وذَلِكَ بَعْدَ مُقَاوَمَةِ الأمْرَاضِ والأخْطَارِ، ومُدَافَعَةِ الابْتَلاءِ بالاصْطِبَارِ، ومُطَالَبَةِ الأجْرِ بتَمْحِيْصِ الأوْزَارِ، ومُشَارَفَةٍ للهَلاكِ غَيْرَ مَرَّةِ على البَوَارِ، فَكَانَ شِعَارُهُ كُلمَّا عَلا لهَا قَتَبًا، أو قَطَعَ مِنْهَا سَبَبًا :«لَقَدْ لَقِيْنَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا»، فرَحِمَهُ الله رَحْمةً وَاسِعَةً، آمِيْنَ!
* * *
ولَيْتَكَ رَأيْتَ طَلابَهُ ومُحِبِّيْهِ، وإخْوَانَهُ ومُعَزِّيْهِ؛ وهُم يُشَيِّعُوْنَ جَنَازَتَهُ؟!
أم لَيْتَكَ اطَّلَعْتَ على تِلْكُمُ الجُمُوْعِ الغَفِيْرَةِ الكَثِيْرَةِ وهُم صُفُوْفٌ أمَامَهَا صُفُوْفِ، وجُمُوْعٌ خَلْفَهَا جُمُوْعٌ : كَيْ يُصَلَّوُا عَلَيْهِ في دُعَاءٍ، وليَقِفُوا بَيْنَ يَدَي الله أُمَنَاءَ وشُهَدَاءَ؟!
فعِنْدَهَا سَتَعْلَمُ قَانُوْنَ أهْلِ السُّنَّةِ وشِعَارَهُم عِنْدَ الجَنَائِزِ : بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ الجَنَائِزُ!
ومَا أحْسَنَ مَا قَالَهُ الجَزَرِيُّ :
أخِلاَّيَ إنْ شَطَّ الحَبَيْبُ ورَبْعُهُ وعَـزَّ تَلاقِيْـهِ ونَاءَتْ مَنَازِلُه
وفَاتَكُمْ أنْ تُبْصِرُوْهُ بعَيْنِكُـمْ فَمَا فَـاتَكُمْ بالعَيْنِ هَذِهِ شَمَائِلُه
هَذَا آخِرُ مَا عَلَّقْتُهُ مِنْ هَذِهِ التَّرَاجِمِ المُوَفَّقَةِ، بِما جَادَتْ بِهِ القَرِيحَةُ المُغْلَقَةُ، وأنَا ألْتَمِسُ ممَّنْ سَلِمَتْ بَصِيْرَتُهُ، وطَابَتْ سَرِيْرَتُهُ، أنْ يَغُضَّ الطَّرْفَ عَمَّا يَرَى مِنَ الإخْلالِ والإجْحَافِ، وأنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا بعَيْنِ الحِلْمِ والإنْصَافِ، فَإنِّي ما سَحَبْتُ ذَيْلَ هَذِهِ الكَرَائِمِ لتِيْكَ التَّراجِمِ إلاَّ مِنْ بَابِ التَّطَفُّلِ والهُجُوْمِ، إذْ لم أقِفْ لهُم على سَابِقِ خَبْرٍ مِنَ العُلُوْمِ، فَإنْ أحْسَنْتُ فَرَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ، وإنْ أخْطَأتُ فمَعْذِرَةٌ أطْلُبُهَا عِنْدَ الكِرَامِِ، والله الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* * *
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُوْلِه الأمِيْنِ
وكَتبَهُ مُعَزِّيًا مُصَابًا عَصْرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ قُبَيْلَ المَغْرِبِ، للثَّالِثِ مِنْ رَبِيْعِ الأوَّلِ لعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وتِسْعَةٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ
وكَتبَهُ
الطَّائِفُ المَأنُوْسُ
(3/3/1429)
المصدر
http://www.islamlight.net/
بَكْرٌ أبو زَيْدٍ
«ابنُ القَيِّمِ الصَّغِيْرُ»
رَحِمَهُ الله
المَولُوْدُ (1365) المُتَوَفَّى (27/1/1429)
شَهْرَانِ وأرْبَعَةٌ وسِتِّونَ عَامًا
تَألِيْفُ
الحَمْدُ لله الكَرِيْمِ الهَادِي، مُنْطِقِ البُلَغَاءِ باللُّغَى والأيَادِي، ومُجْرِي ألْسُنَ اللُّسُنِ في الحَضَرِ والبَوَادِي، وبَاعِثِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الهَادِي، أفْصَحَ مَنْ نَطَقَ بالضَّادِ دُوْنَ ضَوَادِي، وخَيْرَ مَنْ حَضَرَ النَّوَادِي، صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وعَلى آلِهِ وزَوْجَاتِهِ نُجُوْمِ الدَّآدِي، وعلى أصْحَابِهِ اللُّيُوْثِ العَوَادِي، ومَنْ تَبِعَهُم بإحْسَانٍ إلى يَوْمِ التَّنَادِي .
وبَعْدُ : فَهَذِهِ تَعْزِيَةٌ هَاجِمَةٌ، ومَخْبَرَةٌ وَاجِمَةٌ، ألْقَتْ بعَصَاهَا، وخَذَفَتْ بحَصَاهَا؛ حِيْنَ جَاءَ نَعِيُ شَيْخِ العُلَماءِ، بَلْهَ بَلِيْغِ الأدَبَاءِ، العَالمِ الكَامِلِ، والأدِيْبِ الفَاضِلِ، بكْرٍ أبو زَيْدٍ، فَعِنْدَهَا اضْطَرَبَ قَلَمِي في سُقُوْطٍ، وكَادَ يأخُذُني اليَأسُ والقُنُوْطُ، لَوْلا رَحَماتٌ أتَذَاكَرُهَا، وتَرْجِيْعَاتٌ أتَرَادَدُهَا، فرَحِمَكَ الله أبَا عَبْدِ الله، وإنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ!
وقَدْ قِيْلَ :
تَنَكَّرَ لي دَهْرِي ولَـمْ يَدْرِي أنَّنِي أعِـزُّ وأحْدَاثُ الزَّمَانِ تَهُوْنُ
وبَاتَ يُرِيْنِي الخَطْبَ كَيْفَ اعْتِدَاؤُهُ وبِتُّ أُرِيْهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُوْنُ
* * *
فَهُنَا؛ غَلَبَتْنِي المَغَالِبُ، ورَزَأتْنِي الرَّزَايَا، وهَمْهَمَتِ النَّفْسُ بالصُّعَدَاءِ، وأبْدَتِ العَيْنَ البُكَاءَ، وحَشْرَجَ الصَّدْرُ بالآهَاتِ والنِّدَاءِ، يَوْمَ جَاءَ الخَبَرُ يَجُرُّ النَّفْيْرَ، ويُهَيِّجُ الزَّفِيْرَ!
ومَا أحْسَنَ مَا قَالَهُ أبو الحَسَنِ البَرْمَكِيُّ :
رَحَلْتُمْ فَكَمْ مِنْ أنَّـةٍ بَعْدَ زَفْـرَةٍ مُبَيِّنَـةٍ للنَّـاسِ شَوْقِي إلَيْكُمُ
وقَدْ كُنْتُ أعْتَقْتُ الجُفُوْنَ مِنَ البُكَا فَقَدْ رَدَّهَا في الرِّقِّ حُزْني عَلَيْكُمُ
* * *
ومِنْ ضُرُوْبِ الأسَفِ؛ أنِّي بَيْنَا أنَا آخِذٌ بلِجَامِ القَلَمِ رَاكِضًا في نَمْنَمَةِ ومُرَاجَعَةِ كِتَابي «ظَاهِرَةِ الفِكْرِ التَّربَوِيِّ» تَبْيِيْضًا وتَرْوِيْضًا إذْ طَنَّتْ نَائِحَةُ اللُّغَةِ عَزَاءً في فَقِيْدِهَا وعَمِيْدِهَا الشَّيْخِ بَكْرٍ أبو زَيْدٍ رَحِمَهُ الله، فَجَمَحَ القَلَمُ بيَدِي، وهَزَّ عَضُدِي، وأذْرَفَ هُنَا دَمْعَةً مِهْرَاقَةً في رِثَاءِ شَيْخِي وشَيْخِهِ :
فَيَا أيُّها اليَلْمَعُ العَرُوْفُ، والمَعْمَعُ اليَهْفُوْفُ : لَقَدْ مَاتَ بَلِيْغُ نَجْدٍ وأدِيْبُهَا، حَارِسُ حِيَاضِ العَقِيْدَةِ ورِيَاضِهَا، المُتَفَرِّعُ عَنِ اللَّغَةِ بأفْنَانٍ وفُنُوْنٍ، وعَنْ دَوْحَاتِهَا بخِيْطَانٍ وغُصُوْنٍ، فَلَمْ يَكُنْ يَرْضَى مِنَ الفِقْهِ بالسَّافِيَةِ عَنِ الشَّحْوَاءِ، ولا ممَّنْ اهْتَافَ بِهِ رِيْحُ الشَّقَاءِ!
وبَعْدُ؛ فَهَذِهِ طِلْبَةٌ واسْتِجْدَاءٌ لرُوَّامِ العِلْمِ وطُلاَّبِهِ بَعْدَ وَفَاةِ حَبِيْبِ النَّفْسِ أدِيْبِ الحِسِّ، بكَرٍ أبو زَيْدٍ : مَنْ يَأخُذِ القَلَمَ بحَقِّهِ؟!
* * *
مَاتَ شَيْخُنَا بَكْرُ بنُ عَبْدِ الله أبُو زَيْدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الله بنِ بَكْرِ بنِ عُثَمانَ بنِ يَحْيَى بنِ غَيْهَبِ بنِ مُحَمَّدٍ القُضَاعِيُّ، مِنْ قَبِيْلَةِ بنِي زَيْدٍ القُضَاعِيَّةِ المَشْهُوْرَةِ في حَاضِرَةِ الوَشْمِ، وعَالِيَةِ نَجْدٍ، وفِيْهَا مَسْقَطُ رَأسِهِ، وذَلِكَ عَامُ ألْفٍ وثَلاثْمائَةٍ وخَمْسٍ وسِتِّيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ (1365)، فرَحِمَهُ الله، وجَعَلَ الجَنَّةَ مَأوَاهُ، وطَيَّبَ ذِكْرَهُ ومَثْوَاهُ، آمِيْنَ يَا رَبَّ العَالمِيْنَ!
* * *
نَعَمْ؛ مَاتَ مَنْ جُبِلَ على العِلْمِ طَبْعُهُ، وعُمِّرَ بحُبِّ الفَضْلِ رَبْعُهُ، فَظَلَّ للعَقِيْدَةِ حَارِسًا أمِيْنًا، وللُّغَةِ صَاحِبًا قَرِيْنًا، وللآدَابِ سَمِيْرًا خَدِيْنًا، قَدْ عُجِنَتْ بالظَّرَافَةِ طِيْنَتُهُ، وسِيْرَتْ باللَّطَافَةِ سِيْرَتُهُ، كَانَ سَحَابَةَ عِلْمٍ على الطَّالِبِ والوَافِدِ، وعُبَابَ أدَبٍ لا تُكَدِّرُهُ دِلاءُ الصَّادِرِ والوَارِدِ، لَهُ مِنَ الأدَبِ مَآدِبُ تُغَذِّي الأرْوَاحَ، ومِنَ الكَلامِ لَهُ سُلافَةٌ تَهُزُّ الأعْطَافَ المِرَاحَ .
وقَالَ بَعْضُهُم :
أرَى العِلْمَ نُوْرًا والتَّأدُّبَ حِلْيَةً فَخُذْ مِنْهُما في رَغْبَةٍ بنَصِيْبِ
ولَيْسَ يَتِمُّ العِلْمُ في النَّاسِ للْفَتَى إذَا لم يَكُنْ في عِلْمِهِ بأدِيْبِ
وقَالَ آخَرُ :
مَنْ كَانَ مُفْتَخِرًا بالمَالِ والنَّسَبِ فإنَّمَـا فَخْرُنَـا بـالعِلْمِ والأدَبِ
لا خَيْرَ في رَجُلٍ حُرٍّ بِـلا أدَبٍ لا، لا، وإنْ كَانَ مَنْسُوْبًا إلى العَرَبِ
* * *
فسَقَى الله؛ تِلْكَ الأيَّامَ الخَالِيَةَ، وتِيْكَ المَجَالِسَ الرَّاوِيَةَ، يَوْمَ كَانَتْ وكُنَّا مَعَ شَيْخِنَا في إفَادَةٍ، ومَعَ عُلْمِهِ وآدَابِهِ في زِيَادَةٍ، ومَعَ حِلْمِهِ ومَآدِبِهِ في وِفَادَةٍ، فَكَانَتْ مَجَالِسُهُ لألْفَاظِ المَسَرَّاتِ كالمَعَاني، ولنُكَاتِ العِلْمِ كالمَبَاني، فِيْهَا أثْمارُ أطَايِبِ الأمَاني، مِنْ أشْجَارِ وِصَالِ الغَوَاني، فرَحِمَكَ الله أبَا عَبْدِ الله!
بكرٌ أبو زَيْدٍ، ومَا أدْرَاكَ مَا بَكْرٌ؟ خَيْرُ قَوْلُهُ، وطَيِّبٌ فِعْلُهُ، رَافِعُ ألْوِيَةِ الفَصَاحَةِ والبَيَانِ، ومَالِكُ رِقَابِ البَلاغَةِ والتِّبْيَانِ، ونَاشِرُ أرْدِيَةِ العِلْمِ والتَّألِيْفِ، وعَامِرُ أبْنِيَةِ الأدَبِ والتَّصْنِيْفِ :
للهِ دَرُّ إمَـامٍ كُلُّـهُ أدَبُ بفَضْلِهِ يَتَحَلَّى العُجْمُ والعَرَبُ
* * *
الله يَعْلَمُ أنِّي وإنْ شَطَّ بِنَا المَزَارُ، ونَأتْ عَنَّا الدِّيَارُ، لا أنْسَاهُ ولا أُقْلِيْهِ، بَلْ حُبُّهُ تَخَلَّلَ الشِّغَافَ والسُّوَيْدَاءَ، وبِرُّهُ تَدَثَّرَ بالذِّكْرِ والدُّعَاءِ، فَلَهُ عَليَّ أفَاضِلُ الأفْنَانِ ، ومَحَاسِنُ التَّصَانِيْفِ والبَيَانِ .
وكَيْفَ أُعْذَلُ في ثَنَائِهِ، أمْ كَيْفَ أُعَاتَبُ في دُعَائِهِ؟ وهُوَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ( )، قَدْ شَرَحُوا للآدَابِ صَدْرِي، وأجْرُوا بالبَلاغَةِ قَلَمِي وفِكْرِي، وسَقَوْني كُؤُوْسَ العِلْمِ وأحْشَائِي صَادِيَةٌ، وكَسَوْني حُلَلَ الفَضْلِ وعَوْرَاتي بَادِيَةٌ، فَلَهُم مِنِّي العُتْبَى في الدُّعَاءِ، وإلَيْهِم العُقْبَى في الدِّلاءِ!
* * *
لَقَدْ دَانَ للشَّيْخِ في العَقِيْدَةِ والفِقْهِ واللُّغَةِ كُلُّ دَانٍ وقَاصِي، واعْتَرفَ بفَضْلِهِ المُوَافِقُ والمُخَالِفُ، على رُغْمِ أنُوْفِ الجَلاَّدِيْنَ، وإكْفَارِ المُتَعَالمِيْنَ .
فَلَهُ الذِّكْرُ والصِّيْتُ في المَجَالِسِ والمَحَافِلِ، ولَهُ الحُظْوَةُ والهَيْبَةُ بَيْنَ الأكَابِرِ والأمَاثِلِ، فَفِي حَيَاتِهِ أحَاطَتْ بِهِ التَّقَارِيْظُ والإطْرَاءُ، وبَعْدَ مَوْتِهِ اهْتَجَّتْ بِهِ المَدَائِحُ والثَّنَاءُ .
فَلا تَسْتَبْعِدْ مَا هُنَا فالشَّيْخُ قَدِ انْتَشَرتْ للعَالمِيْنَ لطَائِفُ حِلْمِهِ وعِلْمِهِ، وظَهَرَتْ للمُتَعَلِّمِيْنَ طَرَائِفُ آدَابِهِ وشِيَمِهِ، فَقَدْ أخَذَ بنَاصِيَةِ اللُّغَةِ يَقُوْدُهَا في ارْتِجَالٍ، وأمْسَكَ بأعْنَاقِ البَلاغَةِ يَسُوْدُهَا في جَمَالٍ .
* * *
كَانَ رَحِمَهُ الله إمَامًا هُمَامًا بِلا مُدَافَعٍ، وفَاضِلاً مُنَاضِلاً بِلا مُنَازَعٍ، سَلِيْمَ العَقِيْدَةِ والمَنْهَجِ، نَقِيَّ المَدْخَلِ والمَخْرَجِ، حَسَنَ السِّيْرَةِ، مُحْسِنَ السَّرِيْرَةِ، صَافيَ المَشْرَبِ، طَيِّبَ المَطْلَبِ، عَلَيْهِ طَلاوَةٌ، وفِيْهِ حَلاوَةٌ، تَعْرِفُ مِنْهُ ولا تُنْكِرُ، وَاضِحُ العِبَارَةِ، سَانِحُ الإشَارَةِ، مَنْهُوْمُ عِلْمٍ وأذْكَارٍ، مَقْرُوْمُ تَألِيْفٍ وأسْطَارٍ، رُحْلَةٌ رَحَّالَةٌ خَفِيْفٌ، مُحَقِّقٌ مُدَقِّقٌ ظَرِيْفٌ، غَايَةٌ في التَّحْرِيْرِ، نِهَايَةٌ في التَّقْرِيْرِ .
هَكَذَا مَنْ خَالَطَهُ وعَرَفَهُ يَنْسُبُنِي إلى التَّقْصِيْرِ في وَصْفِهِ، ومَنْ جَهِلَهُ وغَالَطَهُ يَنْسُبُنِي إلى التَّغَالي فِيْهِ، مَعَ أنَّني لا ادَّعِي عِصْمَتَهُ، ولا أقُوْلُ بإجْمَاعِ كِلْمَتِهِ، بَلْ هُوَ بَشَرٌ مِنَ البَشَرِ، لَهُ وعَلَيْهِ، ويُؤخَذُ مِنْهُ ويُرَدُّ عَلَيْهِ، والله حَسِيْبُهُ، ولا نُزَكِّي على الله أحَدًا!
* * *
لاجَرَمَ؛ فَقَدْ تَوَاقَفَتْ عِنْدَهُ التَّألِيْفُ، و تَثَاقَفَتْ مِنْهُ التَّصَانِيْفُ، بَارِعُ السَّبْكِ، رَافِعُ الشَّكِّ، لَهُ تَنْقَادُ البَلاغَةُ إرْسَالا، ومِنْهُ تَأتي الفَصَاحَةُ إسْلَالاً، لَيْسَ عَنْهُ أئِمَّةُ اللُّغَةِ والبَلاغَةِ ببَعِيْدٍ، ولا سَحْبَانُ والجَاحِظُ بفَرِيْدٍ، ولا الرَّافِعِيُّ وشَاكِرٌ بشَرِيْدٍ، قَدْ اكْتَسَى مِنَ الكِسَائِي بكِسَاءٍ، وتَدَثَّرَ مِنَ الفَرَّاءِ بفِرَاءٍ، وانْتَهَلَ مِنَ مَعَيْنِ النُّحَاةِ بدِلاءٍ، وارْتَوَى مِنْ كَأسِ البُلَغَاءِ بصَفَاءٍ .
ولَوْلا التَّطَاوُلُ والتِّقْوَالُ، لَقُلْتُ : كَادَ أنْ يَقِفَ فَلَكُ اللُّغَةِ بَعْدَ بَكْرٍ، لَكِنْ لم تَزَلْ بَقِيَّةٌ في تمِيْمٍ وبَكْرٍ، ومَا زَالَ في بِلادِ الرَّافِدَيْنِ وأرْضِ الكِنَانَةِ مِنْ ذِكْرٍ!
نَعَمْ؛ فإنَّ اللُّغَةَ لم تَزَلْ أبِيَّةً قَوِيَّةً، سَلِيْمَةً سَوِيَّةً، فلِرِجَالهَا قُدْمَةٌ وحَمِيَّةٌ، فَهُمْ حُمَاةٌ لهَا يَقَظَةٌ، وحُرَّاسٌ عِنْدَهَا بُلَغَةٌ، لِذَا فأنْسَابُها بالأمْوَاتِ مُتَأصِّلٌ، وسُلالَتُهَا بالأحْيَاءِ مُتَّصِلٌ!
وقَدْ قِيْلَ في مِثْلِهِ :
وإذَا نَمْنَمَتْ بَنَانُـكَ خَطًّـا مُعْرِبًـا عَنْ إصَابَةٍ وسَدَادِ
عَجِبَ النَّاسُ مِنْ بَيَاضِ مَعَانٍ يُجْتَنَى مِنْ سَوَادِ ذَاكَ المِدَادِ
* * *
دَعَتْهُ هِمَّتُهُ، ودَفَعَتْهُ نَهْمَتُهُ فَجَابَ البِلادَ بَحْثًا ومُبَاحَثَةً، وسَائِلاً نَائِلاً، فَطَافَ بَعْضَ البِلادِ، وطَوَّفَ في المُؤتَمرَاتِ والتِّلادِ، فالْتَقَى بأفَاضِلِ العُلَماءِ، وأمَاثِلِ الأدَبَاءِ، وأخَذَ مِنْهُم وأعْطَى، وأفَادَ مِنْهُم وأبْدَى، فَكَانَ طَالِبًا مَطْلُوْبًا، وعَالمًا أدِيْبًا!
فَأصْبَحَ بَيْنَهُم ثِقَةً مَوْثُوْقًا، وأضْحَى عِنْدَهُم بأرْفَعِ طَرَفٍ مَرْمُوْقًا، وأمْسَى لَدَيْهِم مِنْ رَوِيِّ الكَأسِ مَصْبُوْحًا مَغْبُوْقًا، فَقَدْ هَدَاهُ الله لأرْشَدِ الطُّرُقِ المُسْتَقِيْمَةِ، وأرَاهُ أقْوَمَ السُّبُلِ القَوِيْمَةِ، فاسْتَمْسَكَ بعُرْوَةٍ مِنَ الدِّيْنِ وَثِيْقَةٍ، وثَبَتَ مِنَ الاسْتِقَامَةِ على بَصِيْرَةٍ وحَقِيْقَةٍ، والله يَهْدِي لفَضْلِهِ مَنْ يَشَاءُ، ومِنَ الله العَوْنُ والسَّدَادُ!
لعَمْرُ أبِيْكَ مَا نَسِبَ المُعَلَّى إلى كَرِيْمٍ وفي الدُّنْيَا كَرِيْمُ
ولكِنَّ البِلادَ إذَا اقْشَعَرَّت وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الهَشِيْمُ
* * *
وممَّا يَدُلُّ على إنَاخَةِ كَلْكَلِ الزَّمَانِ بَعْدَ النَّبَاهَةِ عَلَيْهِ، وصَرْفِ صُرُوْفِهِ بَعْدَ البَلاغَةِ إلَيْهِ، مَا كَتَبَهُ وحَرَّرَهُ في مَجامِيْعِ كُتُبِهِ، ومَضَامِيْنِ رَسَائِلِهِ، ومُخْتَارَاتِ مَشَارِيْعِهِ، ومُجَوَّدَاتِ أطَارِيْحِهِ، وأفْنَانِ مَوَاضِيْعِهِ، فَدُوْنَكَ مَا سَطَّرَهُ وأمْلاهُ، ومَا اخْتَارَهُ وجَنَاهُ، ففِيْهَا كِفَايَةٌ ومَقْنَعٌ، لكُلِّ طَالِبٍ ومُصْقَعٍ، وشَارِبٍ ومُكْرَعٍ!
فَإذَا كَانَ غَيْرُهُ يَكْتُبُ كَما يُرَادُ، فَشَيْخُنَا يَكْتُبُ كَما يُرِيْدُ، وبَيْنَ الحَالَيْنِ بَوْنٌ بَعِيْدٌ، وكَيْفَ جَرَى الأمْرُ ففَرْقٌ بَيْنَ الرَّائِدِ والمُرِيْدِ، ولَهُ التَّصَانِيْفُ السَّائِرَةُ، والتَّآلِيْفُ الرَّائِدَةُ، قَضَى بحُسْنِهَا وتَحْسِيْنِهَا أهْلُ الشَّرْقِ والغَرْبِ، وحَكَمَ ببَيَانِهَا وتَبْيِيْنِهَا أهْلُ العِلْمِ والأدَبِ .
فَكَانَ مِنْهَا مَا يَأخُذُ بلُبِّ الحَازِمِ اللَّبِيْبِ، ومِنْهَا مَا يَمْلِكُ لُبَابَ كُلِّ أدِيْبٍ، وبَيْنَهَا مَا يَقْمَعُ المُتَعَالمَ والمَجَاهِيْلَ، ومِنْهَا مَا يَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ المَرْأةِ والأرَاجِيْلِ .
إذَا ثَنَى قَلَمَهُ في بَحْثِ مَسْألَةٍ فحَدِّثْ ولا حَرَجَ، وإذَا اسْتَرْسَلَ في مَوْضُوْعٍ لا يَكَادُ عَنْهُ يَخْرُجُ، مَعَ فَصَاحَةِ لِسَانٍ، وبَلاغَةِ تِبْيَانٍ، لَهُ اليَدُ الطُّوْلى في حُسْنِ التَّصْنِيْفِ، وسَبْكِ العِبَارَةِ والتَّحْذِيْفِ، وبَرَاعَةِ التَّرتِيْبِ والتَّقْسِيْمِ، وجَوْدَةِ التَّحَرِّي والتَّقْوِيْمِ .
* * *
شَيْخُ العُلُوْمِ الدِّيْنِيَّةِ، وابنُ بَجْدَةِ الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ، وقَاضِي الأحْكَامِ الفِقْهِيَّةِ، وخِرِّيْتُ المَسَائِلِ النَّازِلَةِ العَصْرِيَّةِ، فإلَيْهِ الغَايَةُ، وعِنْدَهُ النِّهَايَةُ، بَحْرٌ زَاخِرٌ بالنَّقْلِيَّاتِ، وحَبْرٌ مَتَلَفِّعٌ بالعَقْلِيَّاتِ، نَسِيْجُ وَحْدِهِ، وفَرِيْدُ عَصْرِهِ، تَقْصُرُ العِبَارَةُ عَنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ على التَّفْصِيْلِ، وتَعْجَزُ الإشَارَةُ عَنْ إحَاطَةِ شَمائِلِهِ على وَجْهِ التَّكْمِيْلِ، ولَوْ شُرِعَ في تَفَاصِيْلِهَا لأوْقِرَ مِنْهَا الأحْمَالُ، ولثَقُلَتْ بِها أقْتَابُ الجِمالِ .
مَا زَالَ يَسْبِقُ حَتَّى قَالَ حَاسِدُهُ لَهُ طَرِيْقٌ إلى العَلْيَاءِ مُخْتَصَرُ
* * *
بَلْ كَانَ رَحِمَهُ الله رَجُلاً قوَّالاً بالحَقِّ، أمَّارًا بالمَعْرُوْفِ نهَّاءً عَنِ المُنْكَرِ، تَبَّاعًا للسُّنَنِ وأقْوَالِ الصَّحَابَةِ، قَفَّاءً لآثَارِ السَّلَفِ أوْلي الإنَابَةِ، يَتَوَقَّدُ ذَكَاءً، ويَتَلألأ زَكَاءً، إمَامٌ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وهُمَامٌ لا يَمِيْلُ إلى حَلاوَةٍ مِنَ المِنَّةِ .
نَعَم؛ هُوَ شَيْخُنا الإمَامُ الرَّبَّانيُّ، والسَّيْفُ اليَمانيُّ، المَسْلُوْلُ على المُتَعَالمِيْنَ والمُخَالِفِيْنَ، والشَّوْكَةُ الشَّجِيَّةُ في حُلُوْقِ أهْلِ الأهْوَاءِ المُبْتَدِعِيْنَ، قُدْوَةُ الخَلَفِ، وبَقِيَّةُ السَّلَفِ، رَجُلٌ ذَكِيْرٌ، وفَحْلٌ كَبِيْرٌ، ثَقْفٌ لَقْفٌ رَامٍ رَاوٍ، وَرِعٌ في تَصَوُّنٍ وزَهَادَةٍ، مُقْتَصِدٌ في الدُّنْيَا والقِيَادَةِ، لا يَكْتَرِثُ بنَضْرَتِها وبِهْجَةِ نَضَارِهَا، ولا يَلْتَفِتُ إلى دِرْهَمِهَا ودِيْنَارِهَا، طَنَّتْ بذِكْرِهِ الأمْصَارُ، وضَنَّتْ بمِثْلِهِ الأعْصَارُ!
أمَّا مَشَايِخُهُ، وإجَازَاتُهُ العِلْمِيَّةُ :
فَقَدْ تَتَلْمَذَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله على أئِمَّةٍ أعْلامٍ، وعُلَماءٍ كِرَامٍ، فَقَدَ أخَذَ عِلْمَ «المَيْقَاتِ» عَنْ شَيْخِهِ القَاضِي صَالِحِ بنِ مُطْلَقٍ رَحِمَهُ الله (1385)، وقَرَأ عَلَيْهِ خَمسًا وعِشْرِيْنَ مَقَامَةً مِنْ «مَقَامَاتِ الحَرِيْرِي» رَحِمَهُ الله (516)، وكَذَا أخَذَ عَلَيْهِ كِتَابَ البُيُوْعِ مِنْ كِتَابِ «زَادِ المُسْتَقْنِعِ» .
وكَذَا أخَذَ عَنْ شَيْخِ الإسْلامِ الحُجَّةِ الرَّبَّانيِّ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ بَازٍ رَحِمَهُ الله (1421)، كِتَابَ الحَجِّ مِنْ «مُنْتَقَى الأخْبَارِ» للمَجْدِ ابنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله (652)، وكَانَ ذَلِكَ في حَجِّ عَامِ (1385) .
وقَدْ لازَمَ الشَّيْخَ العَلاَّمَةَ المُفَسِّرَ الأصُوليَّ العَالمَ الرَّبَّانيَّ فَقِيْهَ المَذَاهِبِ مُحمَّدَ الأمِيْنَ الشِّنْقِيْطِيَّ رَحِمَهُ الله، نَحْوَ عَشَرَ سِنِيْنَ؛ حَتَّى وَفَاتِهِ عَامَ (1393)، فَقَرَأ عَلَيْهِ في تَفْسِيْرِهِ «أضْوَاءَ البَيَانِ»، ورِسَالَتَهُ «آدَابَ البَحْثِ والمُنَاظَرَةِ»، وانْفَرَدَ أيْضًا بأخْذِ عِلْمِ النَّسَبِ عَنْهُ، كَما قَرَأ عَلَيْهِ كِتَابَ «القَصْدِ والأمَمِ»، وأيْضًا بَعْضَ كِتَابِ «الأنْبَاهِ» كِلاهُمَا لابنِ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ الله (463)، وكَذَا بَعْضَ الرَّسَائِلِ .
* * *
ولشَيْخِنَا رَحِمَهُ الله عِنَايَةٌ بالإجَازَاتِ العِلْمِيَّةِ؛ حَيْثُ اسْتَجَازَ بَعْضَ أهْلِ العِلْمِ المَعْنِيِّيْنَ بالإجَائِزِ، حَيْثُ أخَذَ مِنَ الشَّيْخِ سُلَيْمانَ بنِ عَبْدِ الرَّحمَنِ الحَمْدَانَ النَّجْدِيِّ الحَنْبَليِّ (1397)، ولَدَيْهِ نَحْوَ عِشْرِيْنَ إجَازَةً مِنْ عُلَماءِ الحَرَمَيْنِ والرِّيَاضِ والمَغْرِبِ والشَّامِ والهِنْدِ وإفْرِيقِيَا وغَيْرِهَا، وقَدْ جَمَعَهَا في ثَبَتٍ مُسْتَقِلٍّ، ولم يُطْبَعْ بَعْدُ!
أعْمَالُهُ ومَنَاصِبُهُ :
فَقَدْ أسْبَغَ الله على شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله وَافِرَ نِعَمِهِ، وألْبَسَهُ ثَوْبَ العِلْمِ وقَدَّمَهُ؛ حَيْثُ نَالَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله شَرَفَ الإمَامَةِ والخَطَابَةِ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ خَمْسَ سِنِيْنَ مَا بَيْنَ عَامِ (1391) إلى عَامِ (1396)، قَضَاهَا نَوْبَةً مَعَ إخْوَانِهِ أهْلِ العِلْمِ والنَّبَاهَةِ، فَكَانَ خَطِيْبًا مُفَوَّهًا، وإمَامًا مُجَوِّدًا، وكَذَا جَلَسَ للتَّدْرِيْسِ والتَّعْلِيْمِ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَشْرَ سِنِيْنَ مَا بَيْنَ عَامِ (1390) إلى عَامِ (1400) .
ومَا زَالَ شَيْخُنَا في دُوْرِ العِلْمِ يُعْطِي ويُعَلِّم؛ حَتَّى عُيِّنَ للقَضَاءِ في المَدِيْنَةِ النَّبَوِيَّةِ ثَلاثَ عَشَرَةَ سَنَةً، مَا بَيْنَ عَامِ (1388) إلى عَامِ (1400)، ثُمَّ عُيِّنَ أيْضًا وَكِيْلاً عَامًا لوَزَارَةِ العَدْلِ فمَكَثَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً، مَا بَيْنَ عَامِ (1400) إلى عَامِ (1412)!
وفي عَامِ (1412) صَدَرَ أمْرٌ مَلَكِيٌّ بتَعْيِيْنِهِ عُضْوًا في اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ للبُحُوْثِ العِلْمِيَّةِ والإفْتَاءِ، وهَيْئَةِ كِبَارِ العُلَماءِ .
وفي عَامِ (1405) صَدَرَ أَمْرٌ مَلَكِيٌّ بتَعْيِيْنِهِ مُمثِّلاً للمَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السُّعُوْدِيَّةِ في مَجْمَعِ الفِقْهِ الإسْلامِيِّ الدَّوْليِّ المُنْبَثِقِ عَنْ مُنَظَّمَةِ المُؤْتَمرِ الإسْلامِيِّ، وفِيْهَا أيْضًا اخْتِيْرَ رَئِيْسًا للمَجْمَعِ، وكَذَا في عَامِ (1406) عُيِّنَ عُضْوًا في المَجْمَعِ الفِقْهِي برَابِطَةِ العَالمِ الإسْلامِيِّ .
وهَكَذَا كَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله يَتَقَلَّبُ في أنْعُمٍ وَفِيْرَةٍ، ومَنَاقِبَ شَهِيْرَةٍ، فرَحِمَهُ الله وَبَلَّ بالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ!
مِحنِتُهُ العِلْمِيَّةُ :
وبَيْنَا شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله في صَوْلاتٍ عِلْمِيَّةٍ، وجَوْلاتٍ أدَبِيَّةٍ، هُنَا وهُنَاكَ إذْ دَبَّتْ إلَيْهِ مَكَائِدُ غَوِيَّةٍ، ودَفَائِنُ مَطْوِيَّةٍ، مِنْ مَجَاهِيْلِ أدْعِيَاءِ السَّلَفِيَّةِ، وتَنَابِيْلِ أغْبِيَاءِ الخَلَفِيَّةِ، ومِنْ وَرَائِهِم مَجَامِيْلُ في المُنَازَعَةِ، ومَخَاتِيْلُ في المُخَادَعَةِ، فَرَدَّ الله كَيْدَ كُلٍّ في نَحْرِهِ، ونَجَّاهُ بلُطْفِ مِنْهُ وتَدْبِيْرٍ، وجَعَلَ أعْدَاءهُ في دَبِيْرٍ، فَلَمْ يُبْقِ لهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ، ومَا جَرَتْ لهُم سَاقِيَةٌ، والله نَاصِرُ أوْلِيَائِهِ، في الحَيَاةِ وبَعْدَ المَمَاتِ!
فَلمَّا أحَسَّ شَيْخُنا بمَكَرَةِ اللَّيْلِ، وتَسَامَعَ بمَهَرَةِ التَّضْلِيْلِ؛ قَامَ رَحِمَهُ الله يَزْأرُ كَأنَّهُ غِظَنْفَرٌ هِزَبْرٌ، مُقْبِلٌ مُدْبِرٌ، كَأنَّهُ جُمْلُوْدُ صَخْرٍ، انْحَطّ مِنْ رَأسِ جَبَلِ وَعْرٍ، ليَقْضِيَ الله أمْرًا كَانَ مَقْدُوْرًا، فعِنْدَهَا أشْهَرَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله سَيْفَ أقْلامِهِ، وأطْلَقَ الأعِنَّةِ لإقْدَامِهِ، فأخَذَهُم أخْذَةَ أسَفٍ، واقْتَادَهُم إرْسَافًا في كِتَابِهِ العُجَابِ «تَصْنِيْفِ النَّاسِ بَيْنَ الظَّنِّ واليَقِيْنِ»!
فَعِنْدَهَا أصْبَحَ هَذَا الكِتَابُ تَسْلِيَةً للمُصَابِيْنَ مِنْ وَخَزِ إخْوَانِهِمُ الجَرَّاحِيْنَ، وكَانَ أيْضًا مَوْعِظَةً وتَذْكِيْرًا للأدْعِيَاءِ المُفْلِسِيْنَ، فانْظُرْهُ لِزَامًا ففِيْهِ امْتِدَادُ يَدٍ مَاسِحَةٍ على جُرُوْحِ أهْلِ العِلْمِ والدَّعْوَةِ، وتَسْلِيَةٌ يتَعَزَّى بِها أهْلُ الغُرْبَةِ السَّلَفِيِّيْنَ، وسَيَأتي لبَعْضِ كُتُبِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله بَعْضُ التَّوَاصِيْفِ إنْ شَاءَ الله .
* * *
وعَوْدًا بَعْدَ بَدْءٍ؛ ومَعَ هَذَا وذَاكَ فَقَدَ غَلَّبَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله جَانِبَ العُزْلَةِ، ورَجَّحَ صَفَاءَ الخَلْوَةِ، فارْتَاضَتْ نَفْسُهُ للوَحْدَةِ، وتَسَامَحَ مَعَ النَفْسِ الفَرْدَةِ، واكْتَفَى بالتَّألِيْفِ والتَّقْيِيْدِ، والقِرَاءةِ والتَّصْيِيْدِ، فانْجَمَعَ عَنِ النَّاسِ، واجْتَمَعَ إلى نَفْسِهِ بإيْنَاسِ .
فَلا يُخَالِطُ إلاَّ على نُدُرٍ، ولا يُجَالِسُ إلاَّ على قَدَرٍ، فَكَانَ فِيْهِ مِنَ النَّاسِ نُفْرَةٌ، ولَهُ في المَاضِيْنَ عِبْرَةٌ، وفِيْهِ مِنَ الحَنَابِلَةِ نَزْعَةٌ، إذْ كَانُوا يَجِدُوْنَ في الخَلْوَةِ مُتْعَةً
* * *
ولَيْسَ ذَا بعَيْبٍ يُعِيْبُهُ، ولا رَيْبٍ يُرِيْبُهُ! لاسِيَّما والرَّجُلُ للنَّاسِ بكُتُبِهِ نَافِعٌ، ولنَفْسِهِ باللَّحْظِ جَامِعٌ، ولرَبِّهِ بالعِبَادَةِ طَائِعٌ! هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ شَرَّ الزَّمَانِ في ازْدِيَادٍ، وأهْلَهُ في رِيْبٍ وعِنَادٍ، والهَوَى غَالِبٌ غَلاَّبِ، والجَهْلُ جَالِبٌ جَلاَّبٌ، والسَّاعَةُ قَابَ قَوْسَيْنَ أو أدْنَى؟!
ومَا وَرَاءَ شَيْخِنَا إذَا اسْتَكَانَ طَبْعُهُ، ورَاضَ قَلْبُهُ، بحَدِيْثِ النَّبِيِّ ﷺ : «أمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وابْكِ على خَطِيْئَتِكَ» التَّرمِذِيُّ .
ولله دَرُّ القَائِلِ :
تَوَارَيْتُ مِنْ دَهْرِي بظِلِّ جَنَاحِـهِ فعَيْنِي تَرَى دَهْرِي ولَيْسَ يَرَاني
ولَوْ تَسْألُ الأيَّامُ مَا اسْمِي لمَا دَرَتْ وأيْنَ مَكَاني مَـا عَرَفْنَ مَكَاني
* * *
ومِنْ هُنَا (؟!) دَخَلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله ووَلَجَ، ولَوْلا مَا هُنَا لكُمَلَ وخَرَجَ؛ حَيْثُ اعْتَرَاهُ بَعْضُ الأحَايِيْنِ، مَضَائِقُ أخْلاقٍ في لِيْنٍ، وجَفْوَةٌ للغَرِيْبِ يَكَادُهَا ولا يُبِيْنُ، لِذَا تَجَافَلَ عَنْهُ طُلابُهُ، وتَقَالَلَ أحْبَابُهُ، إلاَّ نَزْرٌ في إقْلالٍ، وقَطْرَةٍ في قِلالِ، لكِنَّهُ إذَا اسْتَكَانَ لزَائِرِهِ وقَاصِدِهِ، كَانَ وَدِيْعًا بَدِيْعًا لعَائِدِهِ، سَهْلاً مَلِيْحًا في مُحَادَثَتِهِ، طَيِّبًا كَرِيمًا في مُبَاحَثَتِهِ ... لَكِنَّ الكَمالَ عَزِيْزٌ، وشَيْخُنَا عَزِيْزٌ!
ومَا أجْمَلَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله :
تَصَبَّرْ على مُرِّ الجَفَا مِنْ مُعَلِّمٍ فَـإنَّ رُسُوْبَ العِلْمِ في نَفَرَاتِهِ
ومَنْ لم يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةًً تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهْلِ طُوْلَ حَيَاتِهِ
* * *
فكَانَ رَحِمَهُ الله مُنْكَفًّا على نَفْسِهِ في قِرَاءَةٍ وتَألِيْفٍ، أغْلَقَ بَابَهُ على التَّدْقِيْقِ والتَّصْنِيْفِ، رَاضٍ بخَلَوَاتِهِ مُسْتَأنِسٌ، مَاضٍ في طَلَعَاتِهِ مُتَحَسِّسٌ، صَبُوْرٌ فَخُوْرٌ، فَلِمَاذَا حِيْنَئِذٍ التَّشَكِّي؟!
وقَدْ حَادَثْتُهُ مَرَّةً فَأبَى، ورَاجَعْتُهُ أخْرَى فَنَبَى، فبَايَنَنِي بالحَدِيْثِ وتَنَهَّدَ، وسَارَرَني بكَوَائِنِ الزَّمَانِ وعَدَّدَ، وحَذَّرَني مِنْ بَنَاتِ طَبَقٍ، ومِنْ زَبَدِ مَفَالِيْسِ اللَّفَقِ .
ومَا أجْمَلَ مَا قَالَهُ الأحَيْمِرُ السَّعْدِيُّ :
عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأنَسْتُ بالذِّئْبِ إذْ عَوَى وصَوَّتَ إنْسَانٌ فَكِدْتُ أطَيْرُ
رَأى اللهُ أنِّــي لـلأنِيْسِ لشَـانِـئٌ وتُبْغِضُهُم لـي مُقْلَةٌ وضَمِيْرُ
* * *
وهَكَذَا لم يَزَلْ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله يُدَافِعُ الأيَّامَ ويُزْجِيْهَا، ويُعَلِّلُ العُزْلَةَ ويُرَجِّيْهَا، فَامْتَطَى غَارِبَ الأمَلِ إلى الغُرْبَةِ، ورَكِبَ مُتُوْنَ التَّألِيْفِ مَعَ قِلَّةِ الصُّحْبَةِ، فَما زَالَ مَعَ الزَّمَانِ في تَفْنِيْدٍ وعِتَابٍ؛ حَتَّى رَضِيَ مِنَ الغَنِيْمَةِ بالإيَابِ، ومِنَ النَّاسِ بقِلَّةِ الأصْحَابِ، ممَّنْ ارْتَضَى خَلائِقَهُم، وأمِنَ بَوَائِقَهُم .
فَعِنْدَهَا تَسَلَّى بمُلازَمَةِ القَلَمِ والكِتَابِ، ومُطَالَعَةِ صَحَائِفِ أوْلي الألْبَابِ، مَا شَغَلَهُ عَنْ كَثْرَةِ المُخَالَطَةِ، وألهَاهُ عَنْ تَوَقِّي المُغَالَطَةِ، فَظَفَرَ مِنْهَا بضَالَّتِهِ المَنْشُوْدَةِ، وبُغْيَةِ نَفْسِهِ المَفْقُوْدَةِ، فجَعَلَ يَرْتَعُ بَيْنَ أزْهَارِ حَدَائِقِهَا، ويَسْتَمْتِعُ بحُسْنِ حَقَائِقِهَا .
وهَكَذَا اعْتَقَدَ مَقَامُهُ بذَلِكَ الجَنَابِ؛ حَتَّى تَوَارَى تَحْتَ التُّرابِ، فرَحِمَهُ الله الغَفُوْرُ التَّوَّابُ!
إذَا مَـا الدَّهْرُ بيَّتَنِي بجَيْشٍ طَلِيْعَتُهُ اغْتِنَـامٌ واكْتِئَـابُ
شَنَنْتُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِي كَمِيْنًا أمِيْرَاهُ الذُّبَالَـةُ والكِتَابُ
وبِتُّ أنُصُّ مِنْ شِيَمِ اللَّيَالي عَجَائِبَ في حَقَائِقِهَا ارْتِيَابُ
بِها أُجْلي هُمُومِي مُسْتَرِيْحًا إذَا جَلَّى هُمُوْمَهُمُ الشَّرَابُ
ولِسَانُ حَالِهِ، كَما قَالَ غَيْرُهُ :
وأدَّبَني الزَّمَـانُ فَمَا أُبَالـي هُجِرْتُ فَلا أُزَارُ ولا أزُوْرُ
ولَسْتُ بقَائِلٍ مَا عِشْتُ يَوْمًا أَسَارَ الجُنْدُ أمْ رَحَلَ الأمِيْرُ؟
* * *
صِفَاتُهُ الخَلْقِيَّةُ :
فَكَانَ رَحِمَهُ الله يَعْلُوْهُ بَيَاضٌ في حُمْرَةٍ، وتَكْسُوْهُ ممَاسِحُ سُمْرَةٍ، رِبْعَةٌ مِنَ الرِّجَالِ، لا قَصِيْرٌ ولا مِطْوَالٌ، ضَخْمُ القَامَةِ، عَظِيْمُ الهَامَةِ، شَثْنُ الكَفَّيْنِ والقَدَمَيْنِ، ضَخْمُ الرَّأسِ أدْعَجُ العَيْنَيْنِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، ضَلِيْعُ الفَمِّ والهَيْئَةِ، بَادِنٌ مُتَماسِكٌ، مُعْتَدِلٌ مُتَمالِكٌ!
مُؤلَّفَاتُ ابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ :
أمَّا مَزْبُوْرَاتُ تَآلِيْفِهِ، ومَسْطُوْرَاتُ تَصَانِيْفِهِ، فمَعْلُوْمَةٌ مَشْهُوْرَةٌ، مَعْرُوْفَةٌ مَأثُوْرَةٌ، سَارَ بِها الرُّكْبَانِ، وطَارَ بِها الطِّلْبَانِ، فَاقَتْ عُقُوْدَ الجُمانِ، وسَابَقَتْ قَلائِدَ العِقْيَانِ، تَضَوَّعَ مِسْكُ ثَنَايَاهَا، وتَفَوَّحَ عَبِيْرُ خَفَايَاهَا، تَنْهَلُ مِنْهَا المَوَارِدُ، وتَصْدُرُ عَنْهَا المَزَاوِدُ، آثَارُهَا في العَالمِيْنَ مَكْتُوْبَةٌ، وثِمارُهَا في الخَافِقِيْنَ مَجْلُوْبَةٌ، فَهِيَ بحُسْنِ سَبْكِهَا غُرَّةٌ في جَبْهَةِ الزَّمَانِ، ودَلَّةٌ يقْتَدِي بِها أهْلُ العَدْلِ والإحْسَانِ، كَأنَّها صُنُوْجُ العَسْجَدِ تُصَفَّقُ، أو دَنَانِيْرُ مِنَ الإبْرِيْزِ تَبْرُقُ ...!
وحَسْبُهُ أنَّ الله تَعَالى نَشَرَ كُتُبَهُ في حَيَاتِهِ، وحَفِظَهَا بطُلابٍ بَعْدَ ممَاتِهِ، وجَعَلَ لهَا قَبُوْلاً في مَشَارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبِهَا، وإقْبَالاً مِنْ أهْلِ السُّنَّةِ وطُلابِهَا، ارْتَضَاهَا أهْلُ العِلْمِ على اخْتِلافِ مَشَارِبِهِم، وتَنَوُّعِ طَرَائِقِهِم وأفْكَارِهِم ، فللَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ!
ولَيْسَ الإطْنَابُ فِيْهَا بكَثِيْرٍ، ولكِنْ يَكْفِي مِنَ القِلادَةِ مَا أحَاطَ بالعُنُقِ .
* * *
فلشَيْخِنَا رَحِمَهُ الله مِنَ التَّآلِيْفِ العِلْمِيَّةِ، والرَّسَائِلِ القَيِّمَةِ، والتَّحْقِيْقَاتِ المُجَوَّدَةِ، والفَتَاوَى المُحَرَّرَةِ مَا يُقَارِبُ السَّبْعِيْنَ أو يَزِيْدُ، والمَطْبُوْعُ مِنْهَا قَرَابَة بِضْعٍ وسِتِّيْنَ فِيْما أعْلَمُ، كَما أنَّه رَحِمَهُ الله قَدْ أكَّدَ لخَوَاصِهِ مِنَ طُلابِ العِلْمِ، وكَذَا قَدْ وَعَدَ في مَثَاني كُتُبِهِ أنَّهُ عَازِمٌ على إخْرَاجِ بَعْضِ الكُتُبِ المُفِيْدَةِ، والرَّسَائِلِ العَدِيْدَةِ ... فمِنْهَا مَا أظْهَرَ اسْمَهَا، وأُخْرَى قَدْ أضْمَرَ رَسْمَهَا، ونَحْنُ في انْتِظَارٍ لاسِيَّما مِنْ أبْنَائِهِ النُّجَبَاءِ، وطُلابِهِ الأكْفَاءِ، والوُعُوْدُ عُهُوْدٌ .
وهَذِهِ ثَانِيَةً؛ أنَّهُ رَحِمَهُ الله كَانَ لَهُ عِنَايَةٌ تَامَّةٌ لامَّةٌ بكُتُبِ شَيْخِ الإسْلامِ الإمَامِ الحَافِظِ أبي عَبْدِ الله مُحمَّدِ بنِ أبي بَكْرٍ أيُّوْبَ ابنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ الله (751)، وهَذَا مَا يَشْهَدُ لَهُ أهْلُ العِلْمِ والحِجَى، بَلْ أصْبَحَ اسْمُ بَكْرٍ قَرِيْنًا باسْمِ ابنِ القَيِّمِ، فَلا يُذْكَرُ أحَدُهُما إلاَّ وذُكِرَ الآخَرُ، فللَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ، و«المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ»! مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وثَالِثَةً؛ أنَّ مَجْمُوْعَ أطَارِيْحِهِ رَحِمَهُ الله (المَاجِسْتِيْر والدَّكْتُوْرَاه) كَانَتْ دِرَاسَةً مُحَرَّرَةً عَنْ فِقْهِ ابنِ القَيِّمِ، فرِسَالَتُهُ (للمَاجِسْتِيْر) كَانَتْ بعُنْوَانِ «الحُدُوْدِ والتَّعْزِيْرَاتِ عِنْدَ ابنِ القَيِّمِ»، ورِسَالَتُهُ العَالمِيَّةُ (الدُّكْتُوْرَاه) كَانَتْ بعُنْوَانِ «أحْكَامِ الجِنَايَةِ على النَّفْسِ ومَا دُوْنَها عِنْدَ ابنِ القَيِّمِ»، مَعَ ضَمايِمَ دَائِرَةٍ في فَلِكَ عُلُوْمِ ابنِ القَيَّمِ رَحِمَهُ الله، مِثْلُ : «ابنِ قِيِّمِ الجَوْزِيَّةِ، حَيَاتُهُ وآثَارُهُ»، و«التَّقْرِيْبِ لعُلُوْمِ ابنِ القَيِّمِ»، وغَيْرِهَا مِنْ مَعْلَمَةِ ابنِ القَيِّمِ .
حَتَّى كَانَ مِنْ آخِرِهَا وأنْفَعِهَا وأوْسَعِهَا : المَشْرُوْعُ القَيِّمِ، الجَامِعُ لعَلُوْمِ وكُتُبِ ابنِ القَيِّمِ، وذَلِكَ بإخْرَاجِ تُرَاثِ مَعْلَمَةِ ابنِ القَيِّمِ العِلْمِيِّةِ، وتَقْرِيْبُهَا لعَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ؛ حَيْثُ قَامَ رَحِمَهُ الله بفِكْرَةِ إخْرَاجِ المَعْلَمَةِ القَيِّمَةِ لمَجَامِيْعِ عُلُوْمِ ابنِ القَيِّمِ وآثَارِهِ العِلْمِيَّةِ، وذَلِكَ تَحْتَ إشْرَافِهِ، فعِنْدَهَا خَرَجَتْ طَلائِعُ كُتُبِ ابنِ القَيِّمِ في مَجْمُوْعَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، بَعْدَ تَنْضِيْدِهَا ومُرَاجَعَتِهَا، وإخْرَاجِهَا بتَحْقِيْقَاتٍ عِلْمِيَّةٍ، وطَبَعَاتٍ قِيَّمِةٍ، وبأسْعَارٍ زَهِيْدَةٍ . وقَدْ خَرَجَ مِنْهَا حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ مَجْمُوْعَتَانِ في ثَمانِيَةَ عَشَرَ مُجلَّدًا، فَجَزَاهُ الله عَنْ ابنِ القَيِّمِ والمُسْلِمِيْنَ خَيْرَ الجَزَاءِ!
وهَكَذَا اعْتَنَى شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله بعُلُوْمَ ابنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ الله، عِنَايَةً فَائِقَةً لَيْسَ لهَا نَظِيْرُ فِيْمَا سَبَقَ، بَلْ إخَالُكَ تَجْزِمُ قَطْعًا أنَّ أحَدًا لم يَخْدِمْ كُتُبَ وعُلُوْمَ ابنِ القَيِّمِ مِثْلَما خَدَمَهَا وقَرَّبَها شَيْخُنَا بَكْرٌ رِحِمَهُ الله!
بَلْ إذَا قِيْلَ : إنَّ ابنَ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله كَانَ مِنْ أبَرِّ طُلابِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّة في عُلُوْمِهِ، فَلا جَرَمَ أنَّ أبرَّ النَّاسِ بابنِ القَيِّمِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ مِنْ شَيْخِنَا بَكْرٍ أبو زَيْدٍ، فعِنْدَهَا كَانَ حَقًّا أنْ يُلَقَّبَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله : بابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ!
ومِنَ الإدْلالِ هُنَا؛ إذَا قِيْلَ : إنَّ أحَدًا لَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ على الإمَامِ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله، إلاَّ مَا كَانَ منْ البَيْهَقِيِّ، فَكَذَا القَوْلُ هُنَا : لَيْسَ لأحَدٍ حَسَنَةٌ على الإمامِ ابنِ القَيِّمِ، إلاَّ مَا كَانَ مِنْ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله تَعَالى .
* * *
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ النَّسَبَ ثَلاثَةٌ : نِسْبَةُ طِيْنٍ، ونِسْبَةُ دِيْنٍ، ونِسْبَةُ عِلْمٍ، فَأمَّا الطِّيْنِيَّةُ فَلِلأبَوَيْنِ، وأمَّا الدِّيْنِيَّةُ فللمُؤمِنِيْنَ، وأمَّا العِلْمِيَّةِ فلأهْلِ العِلْمِ، فَكَانَ والحَالَةُ هَذِهِ أنْ حَازَ شَيْخُنَا مِنْ شَيْخِهِ ابنِ القَيِّمِ نِسْبَتَيْنِ : نِسْببَةً دِيْنِيَّةً وعِلْمِيَّةً، فَلْيَهْنَأكَ النِّسْبَةَ أبَا عَبْدِ الله، وجمَعَكَ بشَيْخِكَ في عِلِّيْيِنَ، مَعَ العُلَماءِ الرَّبَّانِيِّينَ!
* * *
وأمَّا كُتُبُ ابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ، فكَثِيرَةٌ جِدًّا، قَدَ مَضَى بَعْضُهَا، وبَقِيَ بَعْضٌ، فمِنْهَا (لا كُلُّهَا) :
كِتَابُ «تَصْنِيْفِ النَّاسِ بَيْنَ الظَّنِّ واليَقِيْنِ»، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا .
وكَذَا كِتَابُ «المَدْخَلِ المُفَصَّلِ إلى مَذْهَبِ الإمَامِ أحمَدَ بنِ حَنْبَلٍ» في مُجَلَّدَيْنِ كَبِيْريْنِ، ويُعَدُّ هَذَا الكِتَابُ مِنْ أنْفَعِ كُتُبِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله؛ حَيْثُ جَمَعَ شَتَاتَ مُتَفَرِّقَاتِ كُتُبِ المَذْهَبِ الحَنْبَليِّ وأعْلامِهِ في حُسْنِ تَألِيْفٍ وتِقْسِيْمٍ، وجَوْدَةِ تَرْكِيْبٍ وتَرْقِيْمٍ، وكَذَا تَحْرِيْرٍ وتَقْوِيْمٍ، وسَبْكٍ لم يُسْبَقْ إلَيْهِ، وجَمْعٍ مَا سُبِقَ عَلَيْهِ .
فَهُو عُمْدَةُ الحَنَابِلَةِ في هَذَا العَصْرِ، وبِهِ جَمُلَ المَذْهَبُ وزَانَ، وتمَهَّدَ طَرِيْقُهُ ولاَنَ، وكُلُّ مْنَ ألَّفَ في هَذَا الفَنِّ فَهُمْ عِيَالٌ عَلَيْهِ، ومَعَ هَذَا ففِيْهُ بَعْضُ فَوَائِتٌ مُسْتَدْرَكَةٌ!
ولَهُ أيْضًا كِتَابُ «مُعْجَمِ المَنَاهِي اللَّفْظِيَّةِ» في مُجْلَدٍ كَبِيْرٍ، وهُوَ كِتَابٌ بَدِيْعٌ نَافِعٌ، ومُحرَّرٌ جَامِعٌ، ولَهُ فِيْهِ تَرْتِيْبٌ وتَبْوِيْبٌ، على طَرِيْقَةِ المَعَاجِمِ اللُّغَوِيَّةِ، وفِيْهَ تَقْيِدَاتٌ وانْتِقَاءَاتٌ قَوِيَّةٌ، لم يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أحَدٌ فِيْما أعْلَمُ؛ حَيْثُ جَمَعَ فِيْهِ وأوْعَى، وأفَادَ فِيْهِ وأشْفَى، وفَاتَهُ شَيء كَثِيرٌ، وقَدْ رَأيْتُ مَنِ اسْتَدْرَكَهُ مُؤخَّرًا في مُجَلَّدٍ مُتَوَسِّطٍ قِيِّمٍ!
ولَهُ أيْضًا كِتَابُ «طَبَقَاتُ النَّسَّابِيْنَ» في مُجَلَّدٍ، فَهُوْ جَامِعٌ نَافِعٌ، جَاءَ بِكُلِّ جَدِيْدٍ، وضَمَّهُ كُلَّ مُفِيْدٍ، ومَعَ هَذَا ففِيْهِ اسْتِدْرَاكَاتٌ وفَوَائِتُ يَسِيْرةٌ، وأحْرُفٌ غَيرُ مُحرَّرَةٍ!
ولَهُ أيْضًا كِتَابُ «حِرَاسَةِ الفَضِيْلَةِ»، وهَذَا الكِتَابُ مِنْ أنْفَسِ الكُتُبِ وأنْفَعِهَا؛ حَيْثُ خَرَجَ في الوَقْتِ الَّذِي شَالَتْ فِيْهِ العَلْمانِيَّةُ بأذْنَابِهَا في نَشْرِ الرَّذِيْلَةِ، ودَفْعِ المَرْأةِ المُسْلِمَةِ إلى سُوْقِ الشَّهَوَاتِ بَيْعًا وشِرَاءً، فَالله طَلِيْبُهُم!
لِذَا كَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله مُوَفَّقًا مُسَدَّدًّا في تَسْطِيْرِ هَذَا الكِتَابِ؛ حَيْثُ جَمَعَ فِيْهِ خُلاصَةَ مَنْ سَبَقَهُ، مَعَ زِيَادَاتٍ عِلْمِيَّةٌ، وتَحرِيْرَاتٍ قَوِيَّةٍ، ومُنَاقَشَاتٍ نَقْلِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ، فَجَاءَ الكِتَابُ وَاسِطَةَ العِقْدِ لمنَ سَبَقَهُ، وائْتَمَّ بِهِ مَنْ لحِقَهُ، فعِنْدَهَا انْتَشَرَ انْتِشَارَ الماءِ في عُرُوْقِ الوَرْدِ، والرُّوْحِ في الجَسَدِ، فطُبِعَ مِنْهُ عَشَرَاتُ الألافِ في أشْهُرٍ يَسِيْرةٍ كَما أخْبرني بِهِ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله، ثُمَّ تَوَالَتْ طَبَعَاتُه ممَّا يَعْسُرُ عَدُّهَا، وذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤتِيْهِ مَنْ يَشَاءُ!
وكَذَا كِتَابُ «حِلْيَةِ طَالِبِ العِلْمِ»، وهُوَ كِتَابٌ مُهِمٌّ لطَالِبِ العِلْمِ، ورَائِمِ عُلُوِّ الهِمَمِ؛ حَيْثُ أتَي فِيْهِ وزَادَ بِمَا يَدُلُّ على عُلُوِّ كَعْبِ صَاحِبِهِ، ويَقْطَعُ بنُبُوْغِ وبَيَانِ قَلَمِ كَاتِبِهِ، ممَّا يُرَغِّبُ الطَّالِبَ في مُطَالَعَتِهِ، والعَالمَ الجِهْبَذَ في مُقَارَعَتِهِ .
فَكَانَ مِنْ لَبُوْسِ القَبُوْلِ أنَّ شَيْخَنَا العَلامَةَ محَمَّدًا العُثَيْمِيْنَ رَحِمَهُ الله قَدْ شَرَحَ كِتَابَ «الحِلْيَةِ» لطُلابِهِ في عُنَيْزَةَ، والشَّيْخُ بَكْرٌ حَيٌّ يُرْزَقُ، وهَلْ هَذَا إلاَّ اعْتِرَافٌ مِنْهُ بفَضْلِ أهْلِ العِلْمِ؟ وهَلْ العِلْمُ إلاَّ رَحِمٌ بَيْنَ أهْلِهِ؟ فرَحِمَ الله العُلَماءَ الَّذِيْنَ يُقَدِّرُوْنَ العِلْمَ وأهْلَهُ مَهْمَا كَانَ المُتَكَلِّمُ والكَاتِبُ صَغْيرًا كَانَ أو كَبِيرًا .
وكَذَا كِتَابُ «التَّعَالمِ»، وهَذَا الكِتَابُ مِنْ مُسْتَطَابَاتِ كُتُبِ الشَّيْخِ ونَوَادِرِهَا، ومُهِمَّاتِ الكُتُبِ وفَرَائِدِهَا، فَهُوَ بَابَاتُ طُلابِ العِلْمِ لمَعْرِفَةِ زَغَلِ العِلْمِ ودُخُولاتِهِ، ومَيَاسِمُ كَيٍّ لأدْعِيَاءِ العِلْمِ، فخُذْهُ بيَمِيْنِكَ، وابْصِرْهُ بعَيْنِكَ، فَهُوَ كِتَابٌ عُبَابٌ، ومَرْجِعٌ لُبَابٌ .
وكَذَا كِتَابُ «المَدَارِسِ الأجْنَبِيَّةِ»، وهَذَا الكِتَابُ، نَادِرَةٌ فَارِدَةٌ، مخْتَصَرٌ مُعْتَصَرٌ، جَامِعٌ نَافِعٌ، جَاءَ فِيْهِ بخَلائِصِ مَنْ سَلَفَ، وأتَى على دُرَرِهِ مَنْ خَلَفَ، ففِيْهِ نَقْضٌ لأدْعِيَاءِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَةِ، وكَشْفٌ لمُخَطَّطَاتِ (التَّنْصِيْرِ) الصَّلِيْبِيَّةِ، وتَحْذِيْرٌ لأبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ مِنَ الدَّعَوَاتِ الإرْسَالِيَّةِ، وفِيْهِ بَقِيَّةُ حَقَائِقَ ووَثَائِقَ مَيْدَانِيَّةٍ، فَدُوْنَكُهُ .
وكَذَا كِتَابُ «حُكْمِ الانْتِماءِ»، وهُوَ كِتَابٌ مُهِمٌّ في ضَبْطِ جمَاعَةِ المُسْلِمِيْنَ، وجمْعِ كَلِمَتِهِم، ووِحْدَةِ صَفِّهِم، وأخْذِهِم بالكِتَابِ والسُّنَّةِ للانْضَوَاءِ تحْتَ مُبَايَعَةِ وَليِّ الأمْرِ، ومُنَابَذَةِ التَّفْرِقَةِ وشَقِّ عَصَا جمَاعَةِ المُسْلِمِيْنَ ...!
ومَعَ هَذَا فَقَدْ لاقَى هَذَا الكِتَابُ بَعْضَ الرُّدُوْدِ والتَّعَقُّبَاتِ مِنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِنَ خَارِجِ هَذِهِ البِلادِ، ولكُلٍّ وُجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيْهَا، فالكِتَابُ إذَا ضَاقَ ببَعْضِ البِلادِ الإسْلامِيَّةِ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لأهْلِ هَذِهِ البِلادِ، فَتَأمَّلْ!
* * *
ومِنْ وَرَائِهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، ورَسَائِلُ عِلْمِيَّةٌ، لَيْسَ هَذَا مُقَامَ ذِكْرِهَا على وَجْهِ التَّفْصِيْلِ، فَخُذْهَا في مُعَنْوَنَاتِها للتَّذْكِيْرِ والتَّدْبِيْرِ، في حِيْنَ أنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ الله قَدْ جمَعَ مُتَفَرِّقَاتِ كُتُبِهِ، ولَـمَّ ضَمايِمَهَا في مجَلَّدَاتٍ كِبَارٍ كَيْ تَكُوْنَ سَهْلَةَ المنَالِ، وتَبْقَى قَرِيْبَةَ النِّوَالِ، فَدُوْنَكُهَا في مجَلَّدَاتِها الآتِيَةِ، كَما يَلي :
أحَدُهَا : كِتَابُ «ابنِ القَيِّمِ، حَيَاتُهُ، وآثَارُهُ، ومَوَارِدُهُ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لسِيرَةِ حَيَاةِ شَيْخِهِ الإمَامِ الهُمامِ شَيْخِ الإسْلامِ ابن قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ الله رَحْمَةً وَاسِعَةً، المُتَوَفَّى سَنَةَ (751) .
وثَانِيْهَا : كِتَابُ «النَّظَائِرِ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لأرْبَعِ رَسَائِلَ، كَما يَلي : «التَّراجِمُ الذَّاتِيَّةُ»، و«التَّحَوُّلُ المَذْهَبِيُّ»، و«لطَائِفُ الكَلِمِ في العِلْمِ» .
وثَالِثُهَا : كِتَابُ «الرُّدُوْدِ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لسِتَّةِ كُتُبٍ، كَما يَلي : «الرَّدُّ على المُخَالِفِ»، و«بَرَاءَةُ أهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الوَقِيْعَةِ في عُلَماءِ الأمَّةِ»، و«التَّحْذِيْرُ مِنْ مُختَصَرَاتِ الصَّابُوني في التَّفْسِيرِ»، و«تَصْنِيْفِ النَّاسِ بَيْنَ الظَّنِّ واليَقِيْنِ»، و«عَقِيْدَةِ ابنِ أبي زَيْدٍ القَيْرَوانيِّ، وعَبْثُ بَعْضِ المُعَاصِرِيْنَ بِهِ» .
ورَابِعُهَا : كِتَابُ «التَّقْرِيْبُ لعُلُوْمِ ابنِ القَيِّمِ» في مُجَلَّدٍ، وهَذَا الكِتَابُ جَامِعٌ لمُتَفَرِّقَاتِ مَعْلَمَةِ ابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله في مُفَهْرَسَاتٍ وجَدْولاتٍ مُهِمَّةٍ مُفِيْدَةٍ، غَيْرَ أنَّه في حَاجَةٍ إلى تَجْدِيْدِ عِزْوِ مَوْضُوْعَاتِهِ وإحَالاتِهِ إلى المَصَادِرِ الجَدِيْدَةِ في مَطْبُوْعَاتِهَا السَّائِرَةِ، لاسِيَّما إصْدَارَاتُ مَجَامِيْعِ وآثَارِ ابنِ القَيِّمِ الجَدِيْدَةِ الَّتِي أشْرَفَ عَلَيْهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله، لِذَا كَانَ مِنْ الأرْفَقِ والأوْفَقِ ألاَّ يُطْبَعُ هَذَا الكِتَابُ حَتَّى تَكْتَمِلَ آثَارُ ابنِ القَيِّمِ لتَقْيِيْدِ الإحَالاتِ والعَزْوِ، والله المُوَفِّقُ .
وخَامِسُهَا : كِتَابُ «المَجْمُوْعَةُ العِلْمِيَّةُ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لخَمْسِ رَسَائِلَ، كَما يَلي : «التَّعَالمُ»، و«آدَابُ طَالِبِ العِلْمِ» و«حِلْيَةُ طَالِبِ العِلْمِ»، و«الرَّقَابَةُ على التُّراثِ»، و«تَغْرِيْبُ الألْقَابِ العِلْمِيَّةِ» .
وسَادِسُهَا : كِتَابُ «الأجْزَاءِ الحَدِيْثِيَّةِ» في مُجَلَّدٍ، وهُوَ جَامِعٌ لخَمْسَةِ أجْزَاءٍ، كَما يَلي : «جُزْءٌ في حَدِيْثِ الحَوَالَةِ»، و«جُزْءٌ في مَسْحِ الوَجْهِ باليَدَيْنِ بَعْدَ رَفْعِهِما للدُّعَاءِ»، و«جُزْءٌ في زِيَارَةِ النِّسَاءِ للقُبُوْرِ»، و«جُزْءٌ في كَيْفِيَّةِ النُّهُوْضِ في الصَّلاةِ»، و«جُزْءٌ في مَرْوِيَّاتِ دُعَاءِ خَتْمِ القُرْآنِ» .
* * *
وهُنَاكَ ضَمَايِمُ عِلْمِيَّةٌ، وبُحُوْثٌ تَأصِيْلِيَّةٌ، أدْرَجَهَا شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله في مُجَلَّدَيْنِ، تَحْتَ عُنْوَانِ «فِقْهِ النَّوَازِلِ»، وكُلُّ مُجلَّدٍ يَضُمُّ بَيْنَ دَفَّتَيْهِ خَمْسَ رَسَائِلَ، كَما يَلي :
الأوَّلُ مِنْهُما : «التَّقْنِيْنُ والإلْزَامُ»، و«المُوَاضَعَةُ في الاصْطِلاحِ»، و«خِطَابُ الضَّمانِ البَنْكِي»، و«جِهَازُ الإنْعَاشِ، وعَلامَةُ الوَفَاةِ»، و«طُرُقُ الإنْجَابِ في الطِّبِّ الحَدِيْثِ» .
والثَّاني مِنْهُما : «التَّشْرِيْحُ الجُثْماني»، و«النَّقْلُ والتَّعْوِيْضُ الإنْسَاني»، و«المُرَابَحَةُ للآمِرِ بالشِّرَاءِ»، و«حَقُّ التَّألِيْفِ، تَارِيخًا وحُكْمًا»، و«الحِسَابُ الفَلَكِيُّ لأوَائِلِ الشُّهُوْرِ العَرَبِيَّةِ»، و«دِلالَةُ البَوْصَلَةِ على القِبْلَةِ» .
وبِهَذَا نَكْتَفِي مِنْ ذِكْرِ كُتُبِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله، ومِنْ تَوْصِيْفِ مَضَامِيْنِهَا، وتَفَاصِيْلِ مَوْضُوْعَاتِها إلى أجَلٍ قَرِيْبٍ إنْ شَاءَ الله .
* * *
ومَهْما يَكُنْ؛ فَفِي سَابِقِ عِلْمِنَا أنَّ شَيْخَنَا رَحِمَهُ الله قَدِيْرٌ وجَدِيْرٌ (نَحْسَبُهُ كَذَلِكَ!) بأنْ يَتَصَدَّى ويتَصَدَّرَ لتَفْسِيْرِ كِتَابِ الله، وتَوْضِيْحِ السُّنَّةِ، و شَرْحِ مَا سِوَاهُمَا مِنْ كُتُبِ : العَقِيْدَةِ السَّلَفِيَّةِ، ومُخْتَصَرَاتِ الفِقْهِ الحَنْبلِيَّةِ في غَيْرِهَا، ولَوْ فَعَلَ رَحِمَهُ الله لأتَى بالعَجَبِ العُجَابِ وفَوْقَهُ، ولا نُزَكِّيْهِ على الله تَعَالى .
لكِنَّهُ رَحِمَهُ الله وَقَفَ نَفْسَهُ، وحَبَسَ قَلَمَهُ في إخْرَاجِ مَا يَحتَاجُهُ المُسْلِمُوْنَ اليَوْمَ، ومَا يُرِيْدُوْنَه في وَاقِعِهِم، فَكَانَ كَمَا أرَادَ رَحِمَهُ الله، في حِيْنَ أنَّه لَوْ أخْرَجَ أسْفَارًا عَدِيْدَةً، ومُجلَّدَاتٍ مَبْسُوْطَةً في تَفْسِيْرٍ أو شَرْحٍ أو غَيْرِهِ، فَلَنْ يَأتي على مَوَاقِعِ حَاجَاتِ إخْوَانِهِ المُسْلِمِيْنَ اليَوْمَ كَما هِيَ حَاجَتُهُم في «حِرَاسَةِ الفَضِيْلَةِ»، و«تَصْنِيْفِ النَّاسِ» و«المَدَارِسِ الأجْنَبِيَّةِ»، و«التَّعَالمِ»، وغَيْرِهَا مِنْ محَاسِنِ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ المُبَارَكَةِ النَّافِعَةِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، والله على كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ!
* * *
فإنْ أبَيْتَ يَا رَعَاكَ الله؛ فَانْظُرْ طَلِيْعَةَ مَشْرُوْعِهِ الحَدِيْثِيِّ المَوْسُوْعِيِّ، في مُجلَّدِهِ الأوَّلِ تَحْتَ عُنْوَانِ «التَّأصِيْلِ في أصُوْلِ التَّخْرِيْجِ، وقَوَاعِدِ الجَرْحِ والتَّعْدِيْلِ»، الَّذِي يُعَدُّ مُقَدِّمَةً وتَوْطِئَةً لمَا يَتْبَعُهُ مِنْ مُجلَّدَاتٍ ... فمَنْ نَظَرَ فِيْهِ عَلِمَ رُسُوْخَ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله في عُلُوْمِ الحَدِيْثِ، وغَوْرَ عِلْمِهِ، وبُعْدَ نَظَرِهِ، وقُوَّةَ بَحْثِهِ ... ولَوْ أكْمَلَهُ رَحِمَهُ الله (أو أخْرَجَهُ) لصَارَ آيَةً في عُلُوْمِ الحَدِيْثِ، ومَرْجِعًا لكُلِّ مُحَدِّثٍ وأثَرِيٍّ ... لكِنَّ كَما قَالَ الله تَعَالى : «ومَنْ يُؤتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أوْتيَ خَيْرًا كَثِيْرًا»، وقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ : «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لمَا خُلِقَ لَهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، والله يَهْدِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* * *
وأمَّا المَشَارِيْعُ العِلْمِيَّةُ لابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ فَكَثِيْرَةٌ، مِنْهَا :
أوَّلهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ ومَا لحِقَهَا مِنْ أعْمَالٍ»، حَيْثُ خَرَجَتْ في مَجْمُوعَاتٍ مُتَعَاقِبَةً، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها، وسَتَخْرُجُ تِبَاعًا كَامِلَةً إنْ شَاءَ اللهُ، وقَدْ خَرَجَ مِنْهَا حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ ثَلاثُ مَجْمُوعَاتٍ، قَدْ حَوَتَ ثَلاثَةَ عَشَرَ مُجلَّدًا .
وسَتَخْرُجُ تِبَاعًا كَامِلَةً إنْ شَاءَ اللهُ، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها .
ثَانِيْهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ الإمَامِ ابنِ قيِّمِ الجَوزِيَّةِ ومَا لحِقَهَا مِنْ أعْمَالٍ» حَيْثُ خَرَجَتْ في مَجْمُوعَاتٍ مُتَعَاقِبَةً، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها، وسَتَخْرُجُ تِبَاعًا كَامِلَةً إنْ شَاءَ اللهُ، وقَدْ خَرَجَ مِنْهَا حَتَّى سَاعَتِي هَذِهِ مَجمُوْعَتَانِ، قَدْ حَوَتْ ثَمانِيَةَ عَشَرَ مجَلَّدًا .
ثَالِثُهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ الشَّيْخِ العَلامَةِ مُحَمَّدِ الأمِيْنِ الشِّنْقِيْطِيِّ»، حَيْثُ خَرَجَتْ كَامِلَةً ولله الحَمْدُ، مَعَ تَحْقِيْقٍ عِلْمِيٍّ لأكْثَرِها، فَكَانَتْ في تَسْعةَ عَشَرَ مجَلَّدًا
رَابِعُهَا : مَشْرُوْعُ «آثَارِ الشَّيْخِ العَلامَةِ عَبْدِ الرَّحمَنِ المُعَلِّمِي»، وسَتَخْرُجُ قَرِيْبًا إنْ شَاءَ الله، كَما هِيَ في خِطَّةِ المَشْرُوْعِ العِلْمِيِّ المُبَارَكِ .
في حِيْنَ أنَّنِي أُنَاشِدُ إخْواني طُلابَ العِلْمِ المُعْتَنِيْنَ بمُتَابَعَةِ هَذَا المَشْرُوْعِ العِلْمِيِّ تَحقِيْقًا ومُرَاجَعَةً، وطِبَاعَةً وتَمْوِيْلاً أنْ يَقُوْمُوا بإخْرَاجِ «آثَارِ الشَّيْخِ العَلامَةِ بَكْرٍ أبُو زَيْدٍ»، وَفَاءً لَهُ، وبِرًّا بِهِ، واسْتِجَابَةً لطُلابِهِ ومُحبِّيْهِ مِنْ عُمُوْمِ المُسْلِمِيْنَ( ) .
فَكَانَ فَضْلُ هَذِهِ المَشَارِيْعِ العِلْمِيَّةِ : لله تعالى أوَّلاً وآخِرَ، ثُمَّ لشِيْخِنَا رَحِمَهُ الله، حيث أوْلاهَا إشْرَافًا ومُتَابَعَةً . وقَدْ شَرُفَتْ أيْضًا مَكْتَبَةُ «دَارِ عَالَمِ الفَوَائِدِ»، للقِيَامِ بإصْدَارَاتِ وطِبَاعَةِ هَذِهِ المَشَارِيْعِ العِلْمِيَّةِ، ثُمَّ يَعُوْدُ الفَضْلُ أيْضًا للرَّجُلِ المُحْسِنِ المُوْسِرِ : سُلَيْمانَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ الرَّاجِحِيِّ حَفِظَهُ الله، الَّذِي قَامَ بتَمْويْلِ طِبَاعَةِ هَذِهِ المَشَارِيْعِ، فجَزَاهُ الله تَعَالى عَنِ العِلْمِ وأهْلِهِ خَيْرًا .
فَهَذِهِ عُجَالَةٌ في سِيْرَةِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله أرْسَلْتُ فِيْهَا عَنَانَ القَلَمِ، ودَوَّنْتُ فِيْهَا بَعْضُ الفِهَمِ، لَعَلَّ وعَسَى أنْ أنْشَطَ في تَحرِيْرِهَا وتَتْمِيْمِهَا، وتَحْبِيرِهَا وتَنْمِيْمِهَا إذْا شَاءَ الله تَعَالى، فَشُهْرَةُ ذِكْرِ شَيْخِنَا رَحِمَهُ الله تُغْنِي عَنِ الإطْنَابِ، وعُلُوْمُ فِكْرِهِ تَكْفِي عَنِ الإسْهَابِ، وبِهَذا جَرَى القَلَمُ بِما أرِيْدُ ودُوْنَ مَا أرِيْدُ، ولا يَكُوْنَ إلاَّ مَا شَاءَهُ الله، فَهُوَ الفَعَّالُ لمَا يُرِيْدُ( )!
كَمَا في هَذِهِ العُجَالَةِ اليَسِيْرَةِ فُتُوْحَاتُ أبْوَابٍ مُؤصَدَةٍ، وتَلْقِيْحُ أفْكَارٍ ممْتَدَّةٍ، تَدْفَعُ رُوَّامَ العِلْمِ لاسِيَّما طُلابَ الشَّيْخِ رَحِمَهُ الله إلى تَدْوِيْنِ تَرْجَمَتِهِ في سِيْرةٍ مَبْسُوْطَةٍ، آخِذَةً بِما للشَّيْخِ مِنْ فَوَائِدِ وفَرَائِدِ مَخْطُوْطَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ على وَجْهِ التَّفْصِيْلِ والتَّكْمِيْلِ، والله مِنْ وَرَاءِ القَصْدِ!
* * *
أمَّا وَفَاةُ ابنِ القَيِّمِ الصَّغِيْرِ، فَهَاكَهَا لاشِيَةَ فِيْهَا :
فَأقُوْلُ : إنَّا لله وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُوْنَ، مِنْ حَادِثَة تَفُتُّ العَضُدَ، وتُضَاعِفُ الكَمَدَ، وتُوْهِي القَلْبَ، وتُوهِنُ اللُبَّ ... يَوْمَ جَاءَ الأجَلُ بقَضَاءٍ وقَدَرٍ، وجَاءَتِ المَنِيَّةُ بقَضَاءِ الأمْرِ؛ حَيْثُ مَاتَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ الله ظُهْرَ يَوْمِ الثُّلاثَاءِ، لثَلاثٍ بَقِيْنَ مِنْ شَهْرِ الله المُحَرَّمِ، لعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وتِسْعٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ، (27/1/1429).
عَنْ عُمُرٍ قَارَبَ الشَهْرَيْنِ وأرْبَعَةٍ وسِتِّيْنَ عَامًا قَضَاهَا في العِلْمِ والتَّعْلِيْمِ، والتَّألِيْفِ والتَّصْنِيْفِ؛ حَتَّى إذَا ضَعُفَتْ قُوَاهُ عَنْ دَرْكِ الآمَالِ، وعَجِزَ عَنْ مَعَارِكِ الزَّمَانِ والنِّزَالِ، إذْ ضَمَّتِ البَسِيْطَةُ إخْوَانَهُ، وحَجَبَ الجَدِيْدَانِ أقْرَانَهُ .
فعِنْدَهَا ألْقَى عَصَا العِلْمِ بفِنَاءِ الأرْضِ الفَسِيْحِ، ليُقِيْمَ تَحْتَ أكْنَافِهَا ليَسْتَرِيْحَ، وذَلِكَ بَعْدَ مُقَاوَمَةِ الأمْرَاضِ والأخْطَارِ، ومُدَافَعَةِ الابْتَلاءِ بالاصْطِبَارِ، ومُطَالَبَةِ الأجْرِ بتَمْحِيْصِ الأوْزَارِ، ومُشَارَفَةٍ للهَلاكِ غَيْرَ مَرَّةِ على البَوَارِ، فَكَانَ شِعَارُهُ كُلمَّا عَلا لهَا قَتَبًا، أو قَطَعَ مِنْهَا سَبَبًا :«لَقَدْ لَقِيْنَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا»، فرَحِمَهُ الله رَحْمةً وَاسِعَةً، آمِيْنَ!
* * *
ولَيْتَكَ رَأيْتَ طَلابَهُ ومُحِبِّيْهِ، وإخْوَانَهُ ومُعَزِّيْهِ؛ وهُم يُشَيِّعُوْنَ جَنَازَتَهُ؟!
أم لَيْتَكَ اطَّلَعْتَ على تِلْكُمُ الجُمُوْعِ الغَفِيْرَةِ الكَثِيْرَةِ وهُم صُفُوْفٌ أمَامَهَا صُفُوْفِ، وجُمُوْعٌ خَلْفَهَا جُمُوْعٌ : كَيْ يُصَلَّوُا عَلَيْهِ في دُعَاءٍ، وليَقِفُوا بَيْنَ يَدَي الله أُمَنَاءَ وشُهَدَاءَ؟!
فعِنْدَهَا سَتَعْلَمُ قَانُوْنَ أهْلِ السُّنَّةِ وشِعَارَهُم عِنْدَ الجَنَائِزِ : بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ الجَنَائِزُ!
ومَا أحْسَنَ مَا قَالَهُ الجَزَرِيُّ :
أخِلاَّيَ إنْ شَطَّ الحَبَيْبُ ورَبْعُهُ وعَـزَّ تَلاقِيْـهِ ونَاءَتْ مَنَازِلُه
وفَاتَكُمْ أنْ تُبْصِرُوْهُ بعَيْنِكُـمْ فَمَا فَـاتَكُمْ بالعَيْنِ هَذِهِ شَمَائِلُه
هَذَا آخِرُ مَا عَلَّقْتُهُ مِنْ هَذِهِ التَّرَاجِمِ المُوَفَّقَةِ، بِما جَادَتْ بِهِ القَرِيحَةُ المُغْلَقَةُ، وأنَا ألْتَمِسُ ممَّنْ سَلِمَتْ بَصِيْرَتُهُ، وطَابَتْ سَرِيْرَتُهُ، أنْ يَغُضَّ الطَّرْفَ عَمَّا يَرَى مِنَ الإخْلالِ والإجْحَافِ، وأنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا بعَيْنِ الحِلْمِ والإنْصَافِ، فَإنِّي ما سَحَبْتُ ذَيْلَ هَذِهِ الكَرَائِمِ لتِيْكَ التَّراجِمِ إلاَّ مِنْ بَابِ التَّطَفُّلِ والهُجُوْمِ، إذْ لم أقِفْ لهُم على سَابِقِ خَبْرٍ مِنَ العُلُوْمِ، فَإنْ أحْسَنْتُ فَرَمْيَةٌ مِنْ غَيْرِ رَامٍ، وإنْ أخْطَأتُ فمَعْذِرَةٌ أطْلُبُهَا عِنْدَ الكِرَامِِ، والله الهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ!
* * *
والحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُوْلِه الأمِيْنِ
وكَتبَهُ مُعَزِّيًا مُصَابًا عَصْرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ قُبَيْلَ المَغْرِبِ، للثَّالِثِ مِنْ رَبِيْعِ الأوَّلِ لعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وتِسْعَةٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ
وكَتبَهُ
الطَّائِفُ المَأنُوْسُ
(3/3/1429)
المصدر
http://www.islamlight.net/