شهوة النَّشر

إنضم
01/07/2013
المشاركات
134
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
السعودية
شهوة النَّشر

[align=justify]في عام 1415هـ كتبتُ رسالةً تتضمن توجيهات للإخوة الذين تحت أيديهم عمّال وخَدَم، فلما فرغتُ منها؛ ظننتها لا تحتاج لكبير تصحيح ولا تعديل! فعرضتُ الرسالة على أحد إخوان الصدق والنصح، الذي سبقني علماً وسنّا وتجربةً في التأليف، فرجعتْ إليّ الرسالة بعدد غير قليل من الملاحظات، فحمدتُ الله أنني لم أخرجها.
وبعد عشرين سنةٍ بالضبط يتكرر الموقف، لكن هذه المرّة مع شابٍ حديثِ التخرّجِ في كلية الشريعة، دفعَ إليّ ما كَتب في تفسير بعض سور القرآن، فوجدتُ كتابته لائقةً بحداثة سنّه، وقلة تجربته، وفهمتُ منه أنه يريد النشر، مع خطورة هذا العلم الذي كتب فيه، والذي كان يُسميه بعض السلف: الرواية عن الله.
وأذكر أن أحد طلاب العلم كان يضع على صفحة الغلاف الأخير لكتبه، أسماء لبضع عشرة رسالة وكتاب، ما بين تأليف وتحقيق، وأضعافها تحت الطبع، وهو لم يزل طالباً يدرس في الكلية، فقلتُ حينها: هذا إذا بلغ الأربعين كم ستكون مؤلفاته؟!
إن هذه المواقف وغيرها، إنما هي شواهد على ما يمكن تسميته بشهوةٍ تعتري بعض طلاب العلم الذين يتعجّلون نشر ما يكتبون.
وإذا افترضنا سلامة المقصد تماماً -وما أعزّه!- فإن ثمةَ ما ينغّص على ذلك، ألا وهو أن التأليف في بواكير الطلب مظنّة كثرة الخطأ، والمعالجةِ السطحية للمسائل، وكثرةِ النقل الذي يُعوِزه التحرير، إلى غير ذلك من الآفات.
ولهذا نجد في بعض كتب التراجم نماذج لعلماء ندموا على بعض كتبهم، ويلاحظ أن هذه الكتب التي ندموا على إخراجها، وودّوا أنهم لم يستعجلوا في نشرها وبثّها بين الناس؛ كانت من بواكير إنتاجهم العلمي، ومن ذلك:
- أن المبرد ألّف كتاباً في الرد على سيبويه وعنونه بـ"مسائل الغلط"، ثم لما تقدمت به السنُّ اعتذر من ذلك وكتب في مقدمة كتابه "المقتضب": "هذا شيءٌ كنا رأيناه في أيام الحداثة، فأما الآن فلا"([1]).
- ما جاء في ترجمة الفقيه المالكي عبدالحق بن محمد الصقلي (466هـ) أنه ندم على أوّل كتابٍ ألّفه، وتغيرت نظرتُه إليه، فتولاه بالتغيير، ورجع عن كثير من اختياراته وتعليلاته، وكان يقول: لو قدرت على جمعه وإخفائه لفعلت!
- وأعجبُ منه أن بعض المتأخرين ألّف كتاباً، فندم على تأليفه، وعزم على أن يشتريه ممن لقيه عنده، ويحرقه بالنار!
إن هذه الأماني التي ذكرها هؤلاء المصنِّفون تحمل في طياتها رسالةً لطالب العلم الذي يتشوف للنشر في وقت مبكّر، قبل أن يستوي عُودُه في الباب الذي يَكتب فيه، ولم تكتمل آلتُه أو تُقارِب ذلك، تلكم الرسالة تنادي بالأناة والتريّث، وعدم التعجّل في النشر.
كما أن التعجل في النشر يشغل عن الإتقان، وضبط العلم، ويحتاج صاحبُه إلى مدافعة غائلة العُجْب أكثر من غيره.
وهذا كلّه لا يعني مَنْعَ أن يكتب طالبُ العلم ويجمَع! لكن هذا شيء والنشر شيء آخر، فإن من صنّف ونشر، "فقد جعل عقلَه على طبق يعرضه على الناس"، كما قال الخطيب البغدادي([2]) رحمه الله تعالى.
وقد جرّب بعضُ الناس طريقةً حَمِدَ عاقبتها كثيراً، وهي أنه لا يُقْدمُ على نشر شيء حتى يستشير فيه اثنين أو أكثر ممن عهد منهم النصح، والإتقان لذلك الفن أو الموضوع الذي يكتب فيه، حتى قال هذا الأخ: كم من بحثٍ ورسالةٍ تركتها، ولم أنشرها؛ امتثالاً لنصح إخواني، ولا أزال أعيد النظر، وأقلّبُه فيها على فترات متقطّعة، فأزداد حمْداً لربي، وشكراً لعيْبَةِ نصحي، الذي جعلني أتمهّل في النشر.
ولئن كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه))([3]) عاماً في كل شيء؛ فإنه في هذا الباب من أظهر ما يكون؛ لأن العلم أمانة، وروايةٌ عن صاحب الشرع، ومزلةُ قدم.
وقد أحسن القائل:
ولا تسبقـنّ النّاسَ بالرّأي واتّئد *** فـإنّك إنْ تَعْجَل إلى القولِ تـزللِ
ولكن تصفّح رأي مَنْ كان حاضراً *** وقل بعدهم رِسْلاً، وبالحقّ فاعملِ​
"أما الاشتغال بالتأليف النافع لمن قامت أهليته، واستكمل أدواته، وتعددت معارفه، وتمرّس به بحثاً ومراجعة ومطالعة وجرداً لمطولاته، وحفظاً لمختصراته، واستذكاراً لمسائله، فهو من أفضل ما يقوم به النبلاء من الفضلاء"([4]).
ومهما يكن من أمر؛ فإن النيّة في جميع مراحل العُمُر، وعند الإقدام على النشر، واجبةُ المراعاة، حَريّةٌ بالتفقّد، كما أن تعاهدها بعد النشر من علامة التوفيق، فالكتاب كالولد، لا يزال بحاجة للتعاهد بالدعاء، فإن النية شَرود، والنفسُ ضعيفة، ولا يبقى إلا ما كان لله، والله المستعان.

ــــــــــــــــــــ
([1]) ينظر: الخصائص (1/ 207).
([2]) سير أعلام النبلاء (18/ 281).
([3]) صحيح مسلم ح(2594).
([4]) حلية طالب العلم (ص: 199).
[/align]
* رابط المقال على الموقع: http://almuqbil.com/play-4365.html
 
عودة
أعلى