من مقدمة كتاب الأستاذ أبي الأعلى المودودي رحمه الله تعالى (تفهيم القرآن، الجزء الأول من الفاتحة إلى آل عمران).
يعرف كل إنسان أن القرآن يقول بتقديمه الهداية للإنسانية كلها، لكنه ما أن يقرأه حتى يجده موجهاً في أساسه إلى العرب الذين كانوا يعاصرون نزوله، ورغم أنه يخاطب غيرهم حيناً ويوجه كلامه إلى البشرية قاطبة أحياناً، إلا أنه يناقش بشكل أساسي تلك الأشياء التي يألفها ذوق العرب، وتتصل ببيئتهم وتاريخهم وعاداتهم، وهذا بالطبع يجعل المرء يتساءل: إذا كان القرآن موجهاً للبشرية كلها، فلماذا يضم بين سوره عديداً من العناصر المحلية والقومية المرتبطة بوقت تنزيله؟ والذين لا يفهمون حكمة هذا الأمر يُجمعون على أن القرآن كان مقصوداً به إصلاح العرب آنذاك، ثم ادعى فيما بعد أنه نزل لهداية البشرية كلها في جميع آونتها ودهورها.
وإذا كان من يثير مثل هذه الاعتراضات لا يدفعه إليها حبه للاعتراض في ذاته، بل يبغي الوصول إلى حقيقة الأمر بالفعل، فإني أسأله أن يقرأ القرآن ويستخرج من بين آياته ما يثير في ذهنه هذا الشك، وينتقي منه عقيدة أو فكرة أو مبدأ قد يكون المقصود به العرب آنذاك دون سواهم، ويتصيد مبدأ أو قاعدة سلوكية خالية من الصبغة العمومية الشاملة وموجهة إلى العرب وحدهم حينذاك.
إن مجرد كون القرآن ـ حقيقة ـ يدحض العقائد الوثنية الكافرة، ويدين العادات المبنية على الشرور والمفاسد في قوم بعينهم يعيشون في وقت ومكان محدد معلوم، ثم يقيم أدلته وبراهينه في إثبات وحدانية الله متخذاً المادة الاجتماعية من بيئتهم عمادة في ذلك، فهذا ليس دليلاً دامغاً يثبت الزعم بأن دعوته كانت محلية مؤقتة، وعلينا أن نتفحص المسألة عن كثب وببصيرة متقدة، ثم نقرر ما إذا كان قوله مقصوراً على كفار الجزيرة وحدهم أم لا، وما إذا كانت دعوته تشكل حقيقة تنطبق وكل زمان ومكان أم لا، وما إذا كنا نستطيع أو لا نستطيع في أي مكان وآن تقديم نفس الأدلة والحجج التي يقدمها القرآن بنفس القوة لإزهاق الكفر ودمغه، وما إذا كان في مقدورنا في أي عصر ووقت استخدام الدلائل التي يعرضها القرآن لإثبات وحدانية الله ـ مع تغيير طفيف ـ أم لا، فإن جاءت إجابة هذه الأسئلة بالقبول والإيجاب فليس هناك ما يدعو لضرورة وصف هذا الوحي العام والتنزيل الشامل، بأنه محلي مؤقت بحجة واهية هي أنه يخاطب مجتمعاً خاصاً في فترة خاصة.
ونحن لا نعرف فلسفة ولا منهج حياة ولا عقيدة قط في العالم تفسر وتشرح كل شيء من مبتدأه إلى منتهاه بالنظر والتجريد دون أن تشير إلى حالات خاصة، أو تستدل بأمثلة وشواهد؛ إذ من المستحيل ـ بداهة ـ أن يتأسس نموذج للحياة على أساس النظر وحده، وحتى إذا فرضنا جدلاً إمكان تحقق هذا، فبالتأكيد أن مثل هذا النظام سيبقى مجرد نظرية مخطوطة على الورق، ولن ترى النور في الواقع العملي.
وفوق هذا، ليس من الضروري ولا من المجدي بدء أية حركة فكرية ـ جعلت لتكون حركة عالمية ـ منذ أول أمرها على خطوط وأسس عالمية، وإنما الطريقة المثلى لبدئها أن تنشأ في بلدها الأصلي الأول، ثم تقدم بوضوح نظرياتها ومبادئها الأساسية التي تكون عمد نظام الحياة المطلوب، وهنا يتحتم على أنصارها وأشياعها أن يقروا مبادئها وأسسها في أذهان شعبهم الذي يتكلم لغة واحدة، وله عاداته، وظروفه الواحدة، ثم ينبغي عليهم قبل كل شيء أن يحققوا مبادئ حركتهم في داخل بلدهم ويبرهنوا على صلاحيتها وكفاءتها بتحقيقهم نظاماً حياتياً سعيداً ناجحاً، وهذا بالطبع سوف يجذب إليه أمماً أخرى وستُقبل أقوامها العاقلة على تفهم الحركة، وتنكب على دراستها وتعقلها ليشرعوا من بعد في تطبيقها بينهم، إن أي نظام فكري لا يصبح ذا صبغة قومية محلية لمجرد أنه قدم أول أمره إلى أمة بعينها ووجهت أدلته وحججه إلى شعب بعينه، والحق أن ما يميز بين النظام المحلي والنظام العالمي، ويفرق بين النظام المؤقت والنظام الدائم أن النظام المحلي يهدف إما إلى بسط سيادته ورفعته أو دعوته الخاصة على الأمم الأخرى، وإما إلى تقديم مبادئ ونظريات لا تصلح ـ من حيث طبيعتها ـ لأن تقدم إلى أمم أخرى غيره، ومن جهة أخرى فإن النظام العالمي يعطي البشرية كلها درجات ورتباً وحقوقاً متساوية ويقدم مبادئ ذات روح عامة وتطبيق شامل، أما النظام المحلي فهو لا يفعل هذا، كذلك تتسم مبادئ النظام الدائم بقابليتها للتطبيق في أي وقت، على حين تفقد مبادئ النظام المؤقت واقعيتها وإمكانية تطبيقها بمرور الزمن وتوالي العصور، ولو تدبر المرء القرآن في ضوء ما تقدم فلسوف يخلص إلى أن تعاليمه ذات سمة عامة وتطبيق شمولي واسع.
يعرف كل إنسان أن القرآن يقول بتقديمه الهداية للإنسانية كلها، لكنه ما أن يقرأه حتى يجده موجهاً في أساسه إلى العرب الذين كانوا يعاصرون نزوله، ورغم أنه يخاطب غيرهم حيناً ويوجه كلامه إلى البشرية قاطبة أحياناً، إلا أنه يناقش بشكل أساسي تلك الأشياء التي يألفها ذوق العرب، وتتصل ببيئتهم وتاريخهم وعاداتهم، وهذا بالطبع يجعل المرء يتساءل: إذا كان القرآن موجهاً للبشرية كلها، فلماذا يضم بين سوره عديداً من العناصر المحلية والقومية المرتبطة بوقت تنزيله؟ والذين لا يفهمون حكمة هذا الأمر يُجمعون على أن القرآن كان مقصوداً به إصلاح العرب آنذاك، ثم ادعى فيما بعد أنه نزل لهداية البشرية كلها في جميع آونتها ودهورها.
وإذا كان من يثير مثل هذه الاعتراضات لا يدفعه إليها حبه للاعتراض في ذاته، بل يبغي الوصول إلى حقيقة الأمر بالفعل، فإني أسأله أن يقرأ القرآن ويستخرج من بين آياته ما يثير في ذهنه هذا الشك، وينتقي منه عقيدة أو فكرة أو مبدأ قد يكون المقصود به العرب آنذاك دون سواهم، ويتصيد مبدأ أو قاعدة سلوكية خالية من الصبغة العمومية الشاملة وموجهة إلى العرب وحدهم حينذاك.
إن مجرد كون القرآن ـ حقيقة ـ يدحض العقائد الوثنية الكافرة، ويدين العادات المبنية على الشرور والمفاسد في قوم بعينهم يعيشون في وقت ومكان محدد معلوم، ثم يقيم أدلته وبراهينه في إثبات وحدانية الله متخذاً المادة الاجتماعية من بيئتهم عمادة في ذلك، فهذا ليس دليلاً دامغاً يثبت الزعم بأن دعوته كانت محلية مؤقتة، وعلينا أن نتفحص المسألة عن كثب وببصيرة متقدة، ثم نقرر ما إذا كان قوله مقصوراً على كفار الجزيرة وحدهم أم لا، وما إذا كانت دعوته تشكل حقيقة تنطبق وكل زمان ومكان أم لا، وما إذا كنا نستطيع أو لا نستطيع في أي مكان وآن تقديم نفس الأدلة والحجج التي يقدمها القرآن بنفس القوة لإزهاق الكفر ودمغه، وما إذا كان في مقدورنا في أي عصر ووقت استخدام الدلائل التي يعرضها القرآن لإثبات وحدانية الله ـ مع تغيير طفيف ـ أم لا، فإن جاءت إجابة هذه الأسئلة بالقبول والإيجاب فليس هناك ما يدعو لضرورة وصف هذا الوحي العام والتنزيل الشامل، بأنه محلي مؤقت بحجة واهية هي أنه يخاطب مجتمعاً خاصاً في فترة خاصة.
ونحن لا نعرف فلسفة ولا منهج حياة ولا عقيدة قط في العالم تفسر وتشرح كل شيء من مبتدأه إلى منتهاه بالنظر والتجريد دون أن تشير إلى حالات خاصة، أو تستدل بأمثلة وشواهد؛ إذ من المستحيل ـ بداهة ـ أن يتأسس نموذج للحياة على أساس النظر وحده، وحتى إذا فرضنا جدلاً إمكان تحقق هذا، فبالتأكيد أن مثل هذا النظام سيبقى مجرد نظرية مخطوطة على الورق، ولن ترى النور في الواقع العملي.
وفوق هذا، ليس من الضروري ولا من المجدي بدء أية حركة فكرية ـ جعلت لتكون حركة عالمية ـ منذ أول أمرها على خطوط وأسس عالمية، وإنما الطريقة المثلى لبدئها أن تنشأ في بلدها الأصلي الأول، ثم تقدم بوضوح نظرياتها ومبادئها الأساسية التي تكون عمد نظام الحياة المطلوب، وهنا يتحتم على أنصارها وأشياعها أن يقروا مبادئها وأسسها في أذهان شعبهم الذي يتكلم لغة واحدة، وله عاداته، وظروفه الواحدة، ثم ينبغي عليهم قبل كل شيء أن يحققوا مبادئ حركتهم في داخل بلدهم ويبرهنوا على صلاحيتها وكفاءتها بتحقيقهم نظاماً حياتياً سعيداً ناجحاً، وهذا بالطبع سوف يجذب إليه أمماً أخرى وستُقبل أقوامها العاقلة على تفهم الحركة، وتنكب على دراستها وتعقلها ليشرعوا من بعد في تطبيقها بينهم، إن أي نظام فكري لا يصبح ذا صبغة قومية محلية لمجرد أنه قدم أول أمره إلى أمة بعينها ووجهت أدلته وحججه إلى شعب بعينه، والحق أن ما يميز بين النظام المحلي والنظام العالمي، ويفرق بين النظام المؤقت والنظام الدائم أن النظام المحلي يهدف إما إلى بسط سيادته ورفعته أو دعوته الخاصة على الأمم الأخرى، وإما إلى تقديم مبادئ ونظريات لا تصلح ـ من حيث طبيعتها ـ لأن تقدم إلى أمم أخرى غيره، ومن جهة أخرى فإن النظام العالمي يعطي البشرية كلها درجات ورتباً وحقوقاً متساوية ويقدم مبادئ ذات روح عامة وتطبيق شامل، أما النظام المحلي فهو لا يفعل هذا، كذلك تتسم مبادئ النظام الدائم بقابليتها للتطبيق في أي وقت، على حين تفقد مبادئ النظام المؤقت واقعيتها وإمكانية تطبيقها بمرور الزمن وتوالي العصور، ولو تدبر المرء القرآن في ضوء ما تقدم فلسوف يخلص إلى أن تعاليمه ذات سمة عامة وتطبيق شمولي واسع.