شرح فتح الجليل (الدرس الثالث)
الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله، أما بعد:
لا بد قبل شرح ما استنبطه المؤلف من الآية الكريمة من وقفة متأنية مع أمر مهم أغفله،ألا وهو بيان الحال الذي نزلت فيه سورة البقرة عموماً وهذه الآية خصوصاً، وهو أمر يغيب بدرجات متفاوتة عن كثير ممن يتكلم في بلاغة القرآن ، رغم أنه قد مر في النظم وشرحه أن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فكلما كان القاريء أعرف بالحال التي قيل فيها الكلام كان أقدر على إدراك ما في الكلام من بلاغة، وبيان هذه الحال التي نزلت فيها الآية يحتاج إلى سبع وقفات:
الوقفة الأولى: مدنية السورة:
هذه السورة مدنية بالاتفاق ، وللسور المدنية –عموماً -حال خاصة؛ إنها حال إقامة الدولة الإسلامية ، والمكلفون بهذه المهمة العظيمة – ويقودهم سيد ولد آدم – صلى الله عليه وسلم- هم الصحابة الكرام الذين تربوا على القرآن في العهد المكي[1] بما تحمله الآيات المكية من ترسيخ العقيدة وذكر الأصول الكلية لهذا الدين العظيم، فحالهم – بما فيها من قوة إيمان، وتصور لأصول هذا الدين ، واستعداد لإقامة دين الله في الأرض- تقتضي إنزال الأحكام الشرعية التفصيلية مع عدم غياب الخطاب الإيماني عنهم، وهذا ظاهر في الآية وما قبلها وما بعدها كما سيأتي.
الوقفة الثانية: تأريخ نزول السورة:
تعد سورة البقرة أول ما نزل بالمدينة – وحكى ابن حجر في فتح الباري ( 8/160) الاتفاق عليه-، وهذه الأولية في النزول تفيد في معرفة بعض مقاصدها كما سيأتي ، وقد روى ابن إسحاق –وعنه الطبري- عن ابن عباس من طريق محمد بن أبي محمد[2] أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها، نزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود، من المنافقين من الأوس والخزرج" ، ومع هذه الأولية في النزول إلا أن نزول السورة الكريمة استمر إلى أواخر العهد المدني، بل إن قوله تعالى في أواخر سورة البقرة
( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) هو آخر ما نزل من القرآن –على خلاف مشهور في ذلك- ،وكأن هذه السورة ظلت تربي الصحابة طوال العهد المدني –تقريباً-، وكانت لهم عناية ظاهرة بها فقد جاء في المسند ( 3/298-طبعة التركي- ) عَنْ كَثِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ عَبَّاسٌ وَأَبُو سُفْيَانَ مَعَهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:
فَخَطَبَهُمْ، وَقَالَ: " الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ "، وَقَالَ: " نَادِ: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ "، وقال محققو المسند : إسناده صحيح على شرط الشيخين ، و القصة في غزوة حنين وأصلها في صحيح مسلم، وكأن ابن عاشور نبَّه إلى قريب من هذا في قوله: "وَإِذْ كَانَتْ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَقَدْ عُنِيَ بِهَا الْأَنْصَارُ وَأَكَبُّوا عَلَى حِفْظِهَا، يَدُلُّ لِذَلِكَ مَا جَاءَ فِي السِّيرَةِ أَنَّهُ لَمَّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ..." وساق قريبا من حديث المسند الذي ذكرته، والكلام في هذه المسألة –أعني عناية الصحابة بهذه السورة – يطول...، المهم أن هذه السورة الكريمة من أعظم سور القرآن وقد تربى عليها الصحابة لسنوات طوال تكاد تستغرق العهد المدني، والمتأمل لأسباب النزول الثابتة في السورة يدرك واقع تلك التربية العظيمة التي تمت للصحابة بهذه السورة الحكيمة، وقد ثبت بإسناد حسن –على ما قال جامع مرويات الإمام مالك في التفسير- أن ابن عمر ظل يتعلم سورة البقرة أربع سنوات.
الوقفة الثالثة: وقت نزول الآية:
قد جاء ما يحدد وقت نزول
( لا إكراه فى الدين ....) وهي التي سبقت آية:
(الله ولي الذين آمنوا) مباشرة، فقد روى أبو داود وابن حبان وغيرهما عن ابن عباس، قال: كانت المرأة تكون مقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل
(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) قال أبو داود: المقلات: التي لا يعيش لها ولد، وقد صحح الحديثَ الألبانيُ ومحققُ ابن حبان وغيرهما، وفي تحديد تأريخ غزوة بني النضير خلاف لا يصلح المقام لعرضه (انظر السيرة النبوية الصحيحة للعمري: 1/304 فما بعدها) لكن هذه الغزوة على كل الأحوال كانت في فترة حرجة نقضت فيها اليهود العهود، وبدأت تحرض قريشاً على غزو المدينة حتى كانت غزوة الأحزاب بعدُ، فالمقام يقتضي حث المؤمنين ورفع هممهم استعدادا للمهام العظيمة التي تنتظرهم، وعلى كل فليس عندنا ما يثبت وقت نزول الآية المدروسة ، لكنها وقعت مع آية :
(لا إكراه في الدين) في سياق واحد متصل، والله أعلم.
الوقفة الرابعة: المقصود العام للسورة :
يقول العلامة ابن عاشور
:" وَإِذْ قَدْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ عَهْدٍ بِإِقَامَةِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَتِهِمْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ تَصْفِيَةُ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَنْ تَخْتَلِطَ بِعَنَاصِرَ مُفْسِدَةٍ لِمَا أَقَامَ اللَّهُ لَهَا مِنَ الصَّلَاحِ سَعْيًا لِتَكْوِينِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ النَّقِيَّةِ مِنْ شَوَائِبِ الدَّجَلِ وَالدَّخَلِ "، وهذا الذي أشار إليه ابن عاشور يمثل جزءا من السورة كما سبقت الإشارة إليه في أثر ابن عباس ، لكن لما كانت هذه السورة هي أطول سور القرآن مع الامتداد الزمني لنزولها فإنها لم تتمحض لموضوعها الرئيس إقامة الدولة –أو تكوين المدينة الفاضلة كما عبر ابن عاشور- بل تخللتها أغراض أخر ، يقول ابن عاشور :
" وَكَانَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَغْرَاضٌ شَتَّى سَيقَتْ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِطْرَادِ فِي مُتَفَرِّقِ الْمُنَاسَبَاتِ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ، كَمَا يُسْفِرُ وَجْهُ الشَّمْسِ إِثْرَ نُزُولِ الْغُيُوثِ الْهَوَامِعِ، وَتَخْرُجُ بَوَادِرُ الزَّهْرِ عَقِبَ الرُّعُودِ الْقَوَارِعِ، مِنْ تَمْجِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْبَقَرَة: 255]، وَرَحْمَتِهِ وَسَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ، وَضَرْبِ أَمْثَالٍ: أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: 19] وَاسْتِحْضَارِ نَظَائِرَ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ [الْبَقَرَة: 74]"، ويهمنا في هذا النقل إشارة ابن عاشور إلى أن آية الكرسي وقعت استطرادا، وقد تلتها آية:
( لا إكراه فى الدين ...) ثم آية :
( الله ولى الذين ءامنوا)، ثم إن هذا الاستطراد الإيماني جاء ضمن آيات الأمر بالإنفاق فقد سبقها الأمر بالإنفاق وتلاها الحث عليه والتحذير من المن فيه ...إلخ، ويتضح هذا بشكل أكبر عند النقطتين الآتيتين.
الوقفة الخامسة: موقع المقطع الذي وردت فيه الآية:
سورة البقرة هي أطول سورة في القرآن، ولذلك لا بد من تصور عام للسورة حتى ندرك موقع المقطع الذي جاءت فيه الآية التي هي موضوع كتاب الإمام السيوطي –رحمه الله-، و للعلماء طرق شتى في تقسيم السورة القرآنية –عموماً-، وهذا التقسيم محل اجتهاد كما لا يخفى ، وقد قسم سورةَ البقرة سعيد حوَّى في تفسيره المتميز - في جانب تقسيم السور وتحديد مقاصدها ومواضيعها الرئيسة- إلى مقدمة وثلاثة أقسام ثم خاتمة.
أما المقدمة فقد جاءت في أول عشرين آية من السورة وكانت عن كل من المتقين والكافرين والمنافقين وسماتهم الرئيسة.
وأما القسم الأول ( من الآية: 21وحتى: 167) فقد بدأ بدعوة الناس لسلوك طريق العبادة والتوحيد وصولا إلى التقوى، ثم سار القسم ليناقش الكفر ويعمق قضية السير في طريق التقوى.
وأما القسم الثاني(من الآية: 168 إلى: 207) فإنه يكمل الدلالة على التقوى ويفصل فيما يدخل فيها من أمور كالصيام والقصاص والوصية والحج ،كما جاءت في هذا القسم الثاني آية البر وفيها تعريف مفصل للمتقين ، ومن خلال القسمين الأول والثاني نعرف الأركان الخمسة.
أما القسم الثالث (من الآية : 208إلى: 284) فمداره على الأمر بالدخول في السلم كافة[3] ولأن الآية التي نحن بصددها ضمن هذا القسم فلا بد من التفصيل فيه بعض الشيء، وقد اشتمل هذا القسم على مقطعين:
أما المقطع الأول: ففيه ذكر لأحكام القتال،وأحكام الطلاق مع قصتين متعلقتين بأمر القتال.
وأما المقطع الثاني: ففيه ملامح النظام المالي في الإسلام: من الزكاة وإنظار المعسر مع تحريم الربا، يقول سعيد حوى: " ومجيء ذلك كله في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله يشعر بأنه ما لم يقم أمر المال على شرع الله فإن الناس لايكونون قد دخلوا في الإسلام كله" [4]، ويقول :
" ومجيء ذلك كله في أواخر السورة يشعر بالاحتياجات التربوية الكثيرة للنفس البشرية ، لتستقيم على أمر الله"[5].
وفي أثناء هذا المقطع –الذي يتحدث عن النظام المالي في الإسلام جاءت آية الكرسي وآيتان بعدها ثانيهما هي آية (الله ولى ) التي نحن بصدد دراستها من خلال كلام السيوطي –رحمه الله-، ثم ختمت السورة بدعوات جمعت كل التطلعات التي يتطلع إليها المؤمنون.
وبناء على كل ما سبق فإن المقطع الذي وردت فيه الآية مقطع يتحدث عن النظام المالي في الإسلام عموماً وعن النفقة بوجه خاص -إذا نظرنا إلى السياق الأقرب-، كما أن هذا المقطع قد وقع ضمن القسم الذي يدعو إلى الدخول في الإسلام بكل تشريعاته.
الوقفة السادسة: موقع الآية ضمن مقطعها:
مما تكاد أن تتفق عليه المراجع التي تهتم بالسياق في حدود اطلاعي أن الآيات التي جاءت ضمنها :
(الله ولي الذين آمنوا) هي آيات وقعت من باب الاستطراد ضمن آيات الحث على النفقة ،وقد أشار البقاعي وابن عاشور وسيد قطب إلى أن الحديث عن النفقة متصل بالحديث عن الجهاد إذ عماد الجهاد النفقةُ[6]، كما أن لذكر النفقة في هذا الموضع خصوصية نبه إليها البقاعي بقوله:
" وجزم هنا بالأمر لأنه لما رغب في النفقة من أول السورة إلى هنا مرة بعد أخرى في أساليب متعددة صارت دواعي العقلاء في درجة القبول لما تندب إليه من أمرها وإن كان الخروج عما في اليد في غاية الكراهة إلى النفس"، وكـأن سياق الأمر بالصدقة بلغ أعلى درجاته عند هذا الموضع الذي وقع فيه الاستطراد المشار إليه ، فاتضح من كل ما سبق أن السياق في الأمر بالنفقة ، لكن ذكر النفقة جاء مرتبطاً بكونها أساساً في الجهاد في سبيل الله، وأن النفقة ذكرت في السورة قبل هذا الموضع كثيراً، وعلينا ألا ننسى أن السياق الأعم هو الأمر بالدخول في الإسلام بكل تشريعاته- الذي هو موضوع وبداية القسم الثالث-.
وفي سر هذا الاستطراد بين آيات النفقة يقول سعيد حوى: "
إن الكلام عن الله وأدلة اليوم الآخر قد جاء بين الأمر بالإنفاق قبله، والحض على الإنفاق بعده؛ لأن موضوع الإنفاق في سبيل الله مرتبط بالإيمان بالله واليوم الآخر؛ فغير المؤمن بالله واليوم الآخر لا ينفق إلا إذا عاد عليه الإنفاق بمنفعة ما ، أما المؤمن فإنه ينفق لأن الله أمر، ولأن الله سيثيبه في الدنيا والآخرة على ما أنفق..." [7]، وكأن الصحابة يحتاجون إلى تجديد الإيمان وتقويته حتى يستجيبوا أتم استجابة لما سيكلفون به من مَهام.
ونستطيع أن نقسم هذا الاستطراد إلى قسمين:
القسم الأول: آية الكرسي والآيتان بعدها.
القسم الثاني: القصص الثلاثة المبدوءة بقوله
( ألم تر).
أما القسم الأول فهو الذي ذكرت الآية المدروسة ضمنه، وقد بدأ القِسْمُ بآية الكرسي التي يقول ابن عاشور في ارتباطها بما قبلها:
" لَمَّا ذَكَرَ هَوْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ اسْتَأْنَفَ بِذِكْرِ تمجيد الله تعالى وَذِكْرِ صِفَاتِهِ إِبْطَالًا لِكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَقَطْعًا لِرَجَائِهِمْ، لِأَنَّ فِيهَا مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءً لِآيَاتِ تَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ، وَأُودِعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ هُنَا لِأَنَّهَا كَالْبَرْزَخِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ."، ويقول صاحب الظلال : "...وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان... بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته، وأوضح سماته. وهي آية جليلة الشأن، عميقة الدلالة، واسعة المجال
..."، بينما يقول سعيد حوى بعد ذكره لآية الكرسي : " من كان هذا شأنه ألا ينفق الإنسان في سبيله؟ ومن كان هذا شأنه كيف لا يدخل الإنسان في دينه؟ إذا فهمنا هذه العبارة أدركنا حكمة مجيء هذه الآية بين قوله تعالى ( أنفقوا) وبين قوله تعالى بعدها
( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)،
وإذا أدركنا مجيئها في سياق الدخول في السلام كله فالذين لا يعرفون الله هم الذين يظنون أنه لا دخل له في شؤون عباده، أو أن تشريعه ليس هو الأكمل ، كيف وهو القيوم المحيط علماً؟" [8] .
ثم تلتها آية
( لا إكراه فى الدين) ، وفي ارتباطها بما قبلها يقول البقاعي :
"ولما اتضحت الدلائل لكل عالم وجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه فيه فقال: {
لا إكراه في الدين} " ، ويقول ابن عاشور
:" اسْتِئْنَاف بياني نَاشِئٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 244]
إِذْ يَبْدُو لِلسَّامِعِ أَنَّ الْقِتَالَ لِأَجْلِ دُخُولِ الْعَدُوِّ فِي الْإِسْلَامِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا إِكْرَاهَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ..."، ثم يضيف ابن عاشور نفسه فيقول
:"وَتَعْقِيبُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ بِهَاتِهِ الْآيَةِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَعَظَمَةِ الْخَالِقِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ شَوَائِبِ مَا كَفَرَتْ بِهِ الْأُمَمُ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسُوقَ ذَوِي الْعُقُولِ إِلَى قَبُولِ هَذَا الدِّينِ الْوَاضِحِ الْعَقِيدَةِ، الْمُسْتَقِيمِ الشَّرِيعَةِ، بِاخْتِيَارِهِمْ دُونَ جَبْرٍ وَلَا إِكْرَاهٍ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجْعَلَ دَوَامَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ بِمَحَلِّ السُّؤَالِ: أَيُتْرَكُونَ عَلَيْهِ أَمْ يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا..."، ويقول سعيد حوى:
" كأنه من خلال آية الكرسي قامت الحجة على كل إنسان بهذا الدين ؛ إذ من يستطيع أن يصف الله بهذا الوصف، وبمثل هذا الكمال إلا الله؛ فجاءت هذه الآية"[9]، والمتأمل في هذه النقول يجدها متقاربة في معناها وإن اختلفت في ألفاظها.
ثم تلتها الآية محل الدراسة
( الله ولي الذين آمنوا )
يقول ابن عاشور: "
وَقَعَ قَوْلُهُ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ:
(لَا انْفِصامَ لَها) لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالطَّاغُوتِ وَآمَنُوا بِاللَّهِ قَدْ تَوَلَّوُا اللَّهَ فَصَارَ وَلِيَّهُمْ، فَهُوَ يُقَدِّرُ لَهُمْ مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ وَهُوَ ذَبُّ الشُّبُهَاتِ عَنْهُمْ، فَبِذَلِكَ يَسْتَمِرُّ تَمَسُّكُهُمْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَيَأْمَنُونَ انْفِصَامَهَا، أَيْ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَإِنَّ اللَّهَ يَزِيدُهُ هُدًى".
وقال البقاعي :
" ولما قرر ذلك وأرشد السياق إلى شيء اقتضت البلاغة طيه إرشاداً إلى البعد منه والهرب عنه لبشاعته وسوء مغبته وهو ومن يؤمن بالطاغوت ويكفر بالله فلا يتمسك له والله يهويه إلى الجحيم، كأنه قيل: فمن يخلص النفس من ظلمات الهوى والشهوة ووساوس الشيطان؟ فقال مستأنفاً: {الله}..."
ويقول سيد قطب : "...
وعند ما يصل السياق بهذه الآية إلى إيضاح قواعد التصور الإيماني في أدق جوانبها، وبيان صفة الله وعلاقة الخلق به هذا البيان المنير.. ينتقل إلى إيضاح طريق المؤمنين وهم يحملون هذا التصور ويقومون بهذه الدعوة وينهضون بواجب القيادة للبشرية الضالة الضائعة:
«
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
...ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال.. يصور كيف يأخذ الله- ولي الذين آمنوا- بأيديهم، فيخرجهم من الظلمات إلى النور. بينما الطواغيت- أولياء الذين كفروا- تأخذ بأيديهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات! إنه مشهد عجيب حي موح. والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء، جيئة من هنا وذهاباً من هناك. بدلاً من التعبير الذهني المجرد، الذي لا يحرك خيالاً، ولا يلمس حساً، ولا يستجيش وجداناً، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ...".
بينما يقول سعيد حوى
:" ...وإذا كان الله ولي الذين آمنوا ...أفلا ينبغي أن يبذل هؤلاء المؤمنون أموالهم في سبيله جل جلاله؟
وإذا كان ربنا كذلك ...أفلا ينبغي أن ندخل في الإسلام كله ، ونقيم شرائعه كلها؟"، والملاحظ أن حوَّى قد ربط الآية بسياقها القريب – وهو الإنفاق في سبيل الله-، وبسياقها البعيد – وهو الدخول في السلم كافة.
أما القسم الثاني من الاستطراد فهو الذي حوى القصص الثلاثة ، وقد قال البقاعي في بدايتها :
" ولما ذكر ما له سبحانه وتعالى من الإحاطة والعظمة وأتبعه أمر الإيمان وتوليه حزبه وأمر الكفران وخذلانه أهله أخذ يدل على ذلك بقصة المحاج للخليل والمار على القرية مذكراً بقصة الذين قال لهم موتوا ثم أحياهم في سياق التعجيب من تلك الجرأة" ، ثم قال : "
ولما كان الإحياء والإماتة من أظهر آيات الربانية وأخصها بها أظهر سبحانه وتعالى الغيرة عليها تارة بإبهات المدعي للمشاركة، وتارة بإشهاد المستبعد في نفسه وغيره بفعل ربه، وتارة بإشهاد المسترشد في غيره بنفسه ... " إلخ كلامه وهو نفيس، وقال ابن عاشور في القصص الثلاثة المذكورة
:" جَرَى هَذَا الْكَلَامُ مَجْرَى الْحُجَّةِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْمِثَالِ لَهَا فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَأَنَّ الطَّاغُوتَ يُخْرِجُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، سَاقَ ثَلَاثَةَ شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ هَذَا أَوَّلُهَا وَأَجْمَعُهَا لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى ضَلَالِ الْكَافِرِ وَهُدَى الْمُؤْمِنِ، فَكَانَ هَذَا فِي قُوَّةِ الْمِثَالِ." .
وقال سيد قطب:
" هذه الآيات الثلاث تتناول موضوعاً واحداً في جملته: سر الحياة والموت، وحقيقة الحياة والموت. وهي بهذا تؤلف جانبا من جوانب التصور الإسلامي يضاف إلى القواعد التي قررتها الآيات السابقة منذ مطلع هذا الجزء وتتصل اتصالاً مباشراً بآية الكرسي وما قررته من صفات الله تعالى.. وهي جميعاً تمثل جانباً من جوانب الجهد الطويل المتجلي في القرآن الكريم لإنشاء التصور الصحيح لحقائق هذا الوجود في ضمير المسلم وفي إدراكه.
الأمر الذي لا بد منه للإقبال على الحياة بعد ذلك إقبالاً بصيراً، منبثقاً من الرؤية الصحيحة الواضحة، وقائماً على اليقين الثابت المطمئن. فنظام الحياة ومنهج السلوك وقواعد الأخلاق والآداب.. ليست بمعزل عن التصور الاعتقادي بل هي قائمة عليه، مستمدة منه. وما يمكن أن تثبت وتستقيم ويكون لها ميزان مستقر إلا أن ترتبط بالعقيدة، وبالتصور الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطاته بخالقه الذي وهبه الوجود.. ومن ثم هذا التركيز القوي على إيضاح قواعد التصور الاعتقادي الذي استغرق القرآن المكي كله وما يزال يطالع الناس في القرآن المدني بمناسبة كل تشريع وكل توجيه في شؤون الحياة جميعاً. "
بينما قال عبد الكريم الخطيب في تفسيره (التفسير القرآني للقرآن):
"" لما ذكر الله هذا الحكم، لفت النبىّ الكريم إليه سبحانه، ليريه له الأمثال والشواهد فى الناس، ثم قدم له سبحانه شاهدين من التاريخ، ليكونا مثلين للمؤمنين والكافرين.. أولياء، الله وأولياء الطاغوت.. والمثل البارز لأولياء الطاغوت هو ذلك الذي حاج إبراهيم فى ربه، أما المثل الآخر لأولياء الله فهو ذلك الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها..."، ثم قال عند قول إبراهيم عليه السلام :
(رب أرنى أنظر إليك) :
" في هذه الآية صورة أخرى، تمثل المؤمن الذي يطلب المزيد من الإيمان، ليقتل فى نفسه كل وسواس، وليخمد فى صدره كل همسة من همسات الشيطان! .. ثم هى مثل آخر لمن كان وليّا لله.: يخرجه من الظلمات إلى النور.
وهذا الموقف- كما قلنا- لا ينتقص من إيمان المؤمن، إذ كانت غايته طلب المزيد من النور، والجديد من العلم. فذلك طريق لا نهاية له، ولا ضلالة فيه!"
ومما قاله سعيد حوى ملخِّصا موقع هذه القصص مع ربطها بآية الكرسي وما بعدها :
" ...فكان تسلسل الآيات أمرا بالإنفاق في سبيل الله من قبل أن يأتي يوم القيامة، ثم كان حديثا عن الله وقدرته التي لا يعجزها أن تقيم القيامة..." [10]
هذا ما أردت ذكره قبل الكلام على ما ذكره المؤلف من مسائل بلاغية ، وقد اختصرت فيه قدر الإمكان إلا أنني اضطرت إلى كثرة النقول لسببين:
1/تعريف القاريء بمظان الكلام على هذه المسائل.
2/ التنبيه على التقارب بين المفسرين في كلامهم على السياق في كثير من الأحيان.
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا وسلم.
_____________________
[1] يدخل في هذا الأنصار فقد جاءهم مصعب وابن أم مكتوم وكانا يقرآنهما القرآن كما ثبت في صحيح البخاري (3952)، ( 4941)، وقال البراء بن عازب – رضي الله عنه- في نهاية ذكره للقصة: " فَمَا جَاءَ [أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ]حَتَّى قَرَأْتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا " ، وفي لفظ :"فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فِي سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ".
[2] وهي طريق اختلف في قوتها، وقد حسنها بعض أهل العلم ، بينما أعلها آخرون بجهالة محمد بن أبي محمد، انظر الخلاف في : "أسانيد نسخ التفسير...." للدكتور عطية الفقيه:234-235 ، وقد توقف صاحب البحث في الحكم على الإسناد، وانظر كذلك مقدمة التفسير الصحيح للدكتور :حكمت بشير ياسين.
[3] أي في شرائع الإسلام كلها كما رجح الطبري وابن كثير.
[4] الأساس:1/592.
[5]الأساس:1/592.
[6] وقد مر أن المقطع الأول من القسم يتحدث في كثير من آياته عن الجهاد.
[7] الأساس:1/594.
[8] الأساس:1/594.
[9] الأساس:1/599.
[10] الأساس:1/612.