شرح: (فتح الجليل للعبد الذليل)

محمد نصيف

New member
إنضم
13/06/2009
المشاركات
536
مستوى التفاعل
2
النقاط
18
الإقامة
المدية المنورة
بسم الله الرحمن الرحيم​

الحمد لله الرحيم الرحمن، والصلاة والسلام على من شرفه الله بالقرآن،صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
يقول ربنا في كتابه العزيز:
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}[الرحمن :1-13].
افتتحت هذه السورة المليئة بالنعم باسم من أسماء الله الحسنى ...الرحمن...وهو اسم تحبه القلوب بما تضمنه من الدلالة على الرحمة التي يتمناها ويطلبها كل مؤمن بالله واليوم الآخر فالافتتاح بهذا الاسم الكريم " فيه تشويق جميع السامعين إلى الخبر الذي يخبر به عنه إذ كان المشركون لا يألفون هذا الاسم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}، [الفرقان: 60]، فهم إذا سمعوا هذه الفاتحة ترقبوا ما سيرد من الخبر عنه، والمؤمنون إذا طرق أسماعهم هذا الاسم استشرفوا لما سيرد من الخبر المناسب لوصفه هذا مما هم متشوقون إليه من آثار رحمته"،واللافت للانتباه أن أول نعمة طرقت أسماع المشتاقين بعد هذا الاسم الكريم هي نعمة تعليم القرآن، ولعل تقديم هذه النعمة على غيرها من النعم الكثيرة في هذه السورة العظيمة هو الذي دفع الشيخ السعدي أن يقول في تفسيره: "وهذا أعظم منة ورحمة رحم بها عباده، حيث أنزل عليهم قرآنا عربيا بأحسن ألفاظ، وأحسن تفسير، مشتمل على كل خير، زاجر عن كل شر"، وقد استشعر أسلافنا عظمة هذه المنة فانشغلوا بالقرآن حفظاً ودراسة وتفسيرا في قائمة طويلة يصعب حصرها ويتعجب المطلع عليها من كثرتها لولا أن المخدوم هو كلام الله.
ومن الجوانب التي اهتم بها العلماء في خدمة الكتاب العزيز بلاغته ونظمه، وكانت عنايتهم بهذا الجانب كبيرة ، فمن ذلك أنهم أن أولوا بعض الآيات والسور مزيد عناية واهتمام عن طريق إفرادها بالتأليف أو بسط العبارة عليها ضمن بعض مؤلفاتهم([1]) ، وكان من أولئك العلماء العلامة :جلال الدين السيوطي المتوفى:911ه حيث ألف كتابه: "فتح الجليل للعبد الذليل"، وجعله منحصرا في استخراج النكات البلاغية من قوله تعالى:
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].
مع الإشارة إلى بعض المسائل العلمية المرتبطة بالآية نفسها، وقد اخترت هذا الكتاب لأقوم بشرحه في هذا الملتقى شرحا مطنباً أميل فيه- بإذن الله- إلى التفصيل والتدقيق سعياً بي وبالقراء الكرام إلى تصور واسع إلى كيفية استجلاء الأسرار البلاغية للآيات القرآنية، مع الاهتمام قدر الإمكان بربط هذا الكتاب بالمسائل البلاغية المذكورة في متنِ (مائة المعاني والبيان) لابن الشحنة، وشرحِه الذي كتبته على صفحات هذا الملتقى من قبل، وسأشير بإذن الله إلى مائة المعاني أثناء الشرح بــــ: (النظم) بينما أشير إلى شرحها بـ: (الشرح) اختصاراً، رب يسر وأعن.

http://vb.tafsir.net/tafsir20258/

وبين يدي شرح الكتاب لا بد من وقفتين:

أولاً: طبعات الكتاب:
للكتاب –في حدود اطلاعي- ثلاث طبعات اطلعت على اثنتين منها:
الطبعة الأولى: طبعة دار البشير بالأردن ، بتحقيق: عبدالقادر أحمد عبد القادر، الطبعة الأولى:1412ه-1992م، وتقع هذه الطبعة في: تسع وخمسين صفحة بالفهارس.
الطبعة الثانية: طبعة مؤسسة الريان بلبنان، بعناية :د-محمد رفعت زنجير، الطبعة الأولى: 1423ه-2002م، وتقع هذه الطبعة في: ثمان وستين صفحة بالفهارس.
وقد أشار المعتني بهذه الطبعة إلى طبعة ثالثة فقال: "وهذه الرسالة طبعها الأستاذ: أحمد حافظ هداية، بمطبعة الهداية بطنطا منذ زمن"، ولم أطلع على هذه الطبعة المشار إليها، لكن يبدو أن طبعة الدكتور زنجير تغني عنها إذ جعلها أصلاً لطبعته لعدم عثوره على نسخة خطية.

وبمقارنة سريعة بين الطبعتين نجد أن:
1/ طبعة دار البشير اعتمدت على نسختين خطيتين خلافا للطبعة الأخرى .
2/ اعتنى محقق دار البشير بالفهارس الفنية ومن أهمها فهرس المصطلحات البلاغية وهو فهرس مهم يسهل على الباحثين مراجعة ما يحتاجونه من الكتاب، لكننا في المقابل نجد هذا المحقق قد اختصر جدا وأخل في كتابته لفهرس المحتوى عكس الدكتور زنجير المعتني بطبعة مؤسسة الريان الذي اعتنى بهذا الفهرس التفصيلي للمحتوى دون وضع أي فهارس فنية.
3/ يبدو أن الدكتور زنجير صاحب طبعة الريان أكثر عناية ودقة في تعريفه للمصطلحات والدلالة على مظانها، ولعل هذا يظهر ويكون أكثر دقة في الحكم من خلال الشرح، والله أعلم.

ثانياً: فكرة الكتاب:

تقوم فكرة الكتاب على استخراج أكبر عدد من الفنون البديعية -ويقصد بها ما يشمل علوم البلاغة الثلاثة- من آية قرآنية واحدة، مع الإشارة في آخر الكتاب إلى مسائل علمية مستنبطة من الآية نفسها لكنها تتعلق بفنون أخرى، وهي: المعاني -أحد علوم البلاغة الثلاثة-، وأصول الدين، وأصول الفقه، والفقه، والنحو، والسلوك.
هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم.

_______________
(1) انظر وصف هذه الجهود في بحث قيد النشر بعنوان: الأنموذج التطبيقي في التراث البلاغي-عرض ودراسة-" أعده الدكتور:مبارك بن شتيوي الحبيشي، والبحث يتكلم عما هو أعم من دراسة آية واحدة، بل هو شامل لدراسة الحديث والشعر أيضاً.

 
شرح :(فتح الجليل للعبد الذليل) الدرس الثاني



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد:
في بداية الشرح أحب التنبيه إلى أنني سألتزم بطبعة دار البشير لاعتمادها على نسختين خطيتين، ولن أشير إلى ما في طبعة مؤسسة الريان إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.كما أود أن أنبه أن من الطرق المفيدة للانتفاع بمثل هذا الشرح أن يحاول القاريء أن يشرح عبارة السيوطي بما عنده من معلومات سابقة في هذا العلم ثم يقارن بما كتب في هذه الأسطر، والله الموفق.
قال المؤلف رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

الحمد لله الذي تفضل بتولي أحبائه، وأعرض عمن تولى عنه وأعد له أليم عذابه، وأودع عجائب البلاغة في الألفاظ اليسيرة في آيات كتابه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وبعد:
الشرح:
سبق في: (شرح النظم) في الكلام على الخاتمة المعقودة في آخر علم البديع أن من مواضع التأنق في الكلام الابتداءَ؛ لأنه أوّل ما يسمعه الإنسان؛ فإن كان أنيقًا أقبل على الكلام ووعاه، وإلا أعرض عنه ولو كان الباقي في نهاية الحسن؛ ولذلك كان من عادة أهل العلم تزيين مقدمات كتبهم ببعض المحسنات البديعية، ومن أبرز تلك المحسنات السجعُ الذي يمتع السمع ويشد صاحبه إلى الإنصات إلى ما بعده، لكن الحرص عليه قد يُلجيء إلى التكلف والإغراب، والمتأمل في مقدمة هذا الكتاب يلاحظ السجع ظاهراً ، لكن لا يظهر فيه التكلف أو الإغراب، كما أنه ليس متميزا عن نظائره مما يقع من السجع في مقدمات الكتب، بل هو سجع مألوف ليس فيه حسن زائد، ويلاحظ أن قوله (أحبائه) أخل بالسجع ، وقد جاء في نسخة مؤسسة الريان بلفظ(أحبابه) وهو أولى لأن السجع معتاد في مثل هذا المقام.
كما أنه قد سبق في : (شرح النظم) بيان أن أحسن الابتداء ما اشتمل على ما يُشير إلى ما سِيق الكلامُ لأجله، وأنه يُسمّى: (براعة الاستهلال)، وبراعةُ الاستهلال في مقدمة المؤلف تظهر في أمرين:
1/الإشارة إلى الآية التي سيتكلم عليها المؤلف في هذه الرسالة ، وذلك في قوله: "تفضل بتولي أحبابه "إلى قوله:" عذابه"؛ فإن هذا هو نفس مضمون الآية التي سيتحدث عنها.
2/ الإشارة إلى الهدف من دراسة الآية وهو إظهار اشتمال الآية الواحدة على النكات البلاغية الكثيرة، وذلك في قوله: "وأودع عجائب البلاغة في الألفاظ اليسيرة..."إلخ.
وبهذا زاد حُسْن الابتداء عند المؤلف بما في مقدمته من براعة الاستهلال، مع ما سبق فيه من سجع غير متكلف.
وأما قوله : (وبعد) فهذا انتقال من المقدمة إلى المقصود ، والانتقال يعد من مواضع التأنق في الكلام -أيضاً- ، وقد سبق في شرح النظم أن لهذا الانتقال حاليْن:
الحالة الأولى: الانتقال مع وجود ملائمة بين الموضوع السابق واللاحق، ويُسمَّى الانتقال حينئذ ( حسن التخلص )، وقد اهتم به المتأخرون .
الحالة الثانية: الانتقال بدون مناسبة، ويُسمَّى:(الاقتضاب)، وهو مذهب العرب في الجاهلية وكذلك من بعدهم من المخضرمين، وهو كثير لا يحتاج إلى تمثيل، ولا يعد قادحاً في البلاغة.
وقول المؤلف:"وبعد" يعد عند البلاغيين من الاقتضاب، لكنه قريب عندهم من حسن التخلص كما أشار إليه القزويني في تلخيص المفتاح ؛لأن فيه إشعاراً ما بالانتقال، مما يهيء النفس له بخلاف ما لو وقع الانتقال فجأة دون مناسبة ولا تنبيه.
تنبيه: "أما بعد" أولى من قول المؤلف " وبعد"؛ لأنه الوارد في السنة مع كونه الأصح في اللغة –كذا قيل، والمسألة تحتاج إلى تحرير-.
ثمَّ قال المؤلف –رحمه الله:
فقد وقع الكلام في قوله تعالى: )اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)) ، وقررت فيها بضعة عشر نوعا من الأنواع البديعية، ثم وقع التأمل بعد ذلك، ففتح الله بزيادة على ذلك حتى جاوزت الأربعين، ثم قدحت الفكر، فلم تزل تستخرج وتنمو إلى أن وصلت بحمد الله إلى مائة وعشرين نوعاً، وقد أردت تدوينها في هذه الكراسة ليستفيد من له غرض في الوقوف على أسرار التنـزيل، راجيا من الله الهداية إلى أقوم سبيل.
الشرح:
يلاحظ في هذه المقدمة أمور:
الأمر الأول: أن استنباط الإمام السيوطي لما في الآية من أنواع بديعية مر بمراحل:
1/الكلام والتقرير، والظاهر أن هذا كان ابتداء على البديهة.
2/التأمل فالفتح، والتأمل فيه تفعُّلٌ أثمر الفتح من الله.
3/قدح الفكر مما جعل الأنواع تزيد وتنمو.
وهذا كله يحث الواحد منا على طول التأمل وإعادة النظر لاستخراج الفوائد البلاغية من الكتاب العزيز، وقد أشار الأخضري إلى الحاجة إلى هذه الملازمة لآيات كتاب الله في منظومته الجوهر المكنون فقال :
ثم صلاة الله ما ترنما حادٍ يسوق العيس في أرض الحمى
...إلى أن قال:
ما عكف القلب على القرآنِ مرتقياً لحضرة العرفانِ
فعكوف القلب على كلام الله مطلبٌ رئيسٌ لمن أراد أن يفتح عليه في هذا الباب-أسال الله لي ولكم من فضله-.
الأمر الثاني: قول المؤلف : (مائة وعشرين نوعاً) مخالف لعدد الأنواع البديعية المذكورة في الكتاب، وسيظهر ذلك بجلاء من خلال عدها ضمن شرح الكتاب بإذن الله، ولعل المؤلف كتب المقدمة بعد أن استخرج العدد المذكور، ثم عاد فأضاف أنواعاً بديعية أخرى دون أن يغير المقدمة، والله أعلم.
الأمر الثالث: كثير من الأنواع البديعية التي سيشير إليها المؤلف ليست داخلة في علم البديع بل هي من مسائل علمي المعاني والبيان، ويبدو أن المؤلف مشى على طريقة من يطلق البديع على البلاغة كلها، وهو إطلاق مشهور أشار إله القزويني في تلخيص المفتاح.
هذا، وقد فاتني في الدرس السابق أن أنبه على ما في عنوان هذا الكتاب "فتح الجليل على العبد الذليل" من لمسات بلاغية لطيفة فقد اشتمل على عدد من المحسنات البديعية، وقبل التنبيه على تلك المحسنات أرى أن من المناسب التنبيه أن وضعَ عنوان لأي كتاب مقام يقتضي أموراً منها:
1/الاختصار قدر الإمكان؛ لأنه أعون على حفظ العنوان، وعدم نسيانه مع الأيام.
2/الجمال اللفظي الذي يمتع الأذن ويجذب إلى القراءة، كما أنه يعين على الحفظ –أيضاً-.
3/الإشارة إلى مقصود الكتاب، وهو مطلب قد لا يتيسر للمؤلف لكنه إن وقع شوَّق للقراءة بإعطائه تصوراً مجملاً عن مضمون الكتاب.
ثم إنَّ من المحسنات الموجودة في عنوان هذا الكتاب :
1/السجع، وهو من المحسنات اللفظية التي ذكرت في النظم في قوله:
ضربان؛ لفظيٌ كـ: تجنيس وردّ وسجع او قلبٍ وتشريعٍ وردْ
وقد مرَّ في شرح النظم أن السجع هو: "تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد"، وهو ظاهر بين الجليل والذليل ، كما تم التنبيه فيه إلى أن" بلاغة السجع تظهر-بشكل عام-في إمتاع الأذن إمتاعاً يشدها إلى الكلام ويحثها على السماع دون ملل أو فتور"، ولكن هذا الذي ذُكر لا يصح القول به في بيان نكتة السجع وفائدته في هذا الموضع –كما هو ظاهر-؛ إذ أن عنوان الكتاب هو أول ما يصل القاريء منه –عادة-، وبالتالي فإنه ليس مظنة تطرق الملل والفتور، لكن في هذا السجع من جمال اللفظ وتناسبه ما يعين على حفظ ذلك العنوان، وهو أحد الأمور التي يقتضيها وضع العنوان –كما مرَّ-،ومما زاد هذا السجع حسناً تساوي القرائن ، لأن أحسن السجع عند البلاغيين ما تساوت فيه القرائن؛ لأن الإمتاع للأذن فيه أشد، وهو مطلب يُسعى إليه في هذا المقام –وقد مر التنبيه إليه-، ولو سمى الإمام السيوطي كتابه :فتح الرب الجليل للعبد الذليل لزادت القرينة الأولى على الثانية، ولقل الحسن بسبب هذا التفاوت في الطول، بل إن زيادة الجملة الأولى على الثانية معدود عند بعضهم قبيحاً.
2/ الجناس بين الجليل والذليل، وهو من المحسنات اللفظية التي ذكرها ابن الشحنة في نظمه في نفس البيت المشار إليه قبل أسطر.
وقد مرَّ في شرح النظم أن الجناس هو : " تشابه اللفظين في التلفظ"، كما مرَّ معنا أن الجناس تام وغيرتام ، والجناس هنا من غير التام –كما هو ظاهر –لأن الكلمتين اختلفتا في نوع الحروف ، ولما كان مخرجا الحرفين متقاربين؛إذ الجيم من وسط اللسان، والذال من طرفه = فإنه يعد من الجناس المضارع ، ولا يخفى أن هذا التقارب يجعل السامع يتوهم التكرار للفظ فإذا تأمل أدرك أن لا تكرار، وهذه المخادعة أكثر ظهورا في الجناس إذا كان تاماً، وهي في الجناس المضارع-الذي نحن بصدده- أظهر من الجناس اللاحق الذي مر في شرح النظم أنه الجناس الذي اختلف فيه نوع الحرف بين متباعدين في المخرج.
ثم إن اجتماع الجناس مع السجع في نفس الكلمتين( الجليل- الذليل) زاد الكلام جمالاً وحسناً وقرب ما بين اللفظين أكثر مما لو كانا مسجوعين دون تجنيس.
3/الطباق بين نفس الكلمتين: الجليل والذليل ، وهو من المحسنات المعنوية التي ذكرها ابن الشحنة بقوله -ضمن سرده للمحسنات المعنوية-:
والقول بالموجب والتجريد والجد والطباق والتأكيد
وقد مر في شرح النظم أن الطباق هو الجمع بين متضادين في كلام واحد، أو ما هو كالكلام الواحد في الاتصال، وبين الجليل والذليل تضاد ؛فالجليل مشتق من الجلالة وهي العظمة، والذليل مشتق من الذلة، وكأن هذه إشارة إلى أن هذا التضاد بين صفة العبد وصفة الرب هي الحالة المطلوبة التي تؤذن بالفتح من الله لعبده، بخلاف من وضع نفسه في موضع لا يناسب عبوديته فتكبر فإنه يحرم ذلك الفتح المرجو ، قال تعالى:[FONT=QCF_BSML]ﭽ [/FONT][FONT=QCF_P168]ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ[/FONT][FONT=QCF_P168]ﮓ[/FONT][FONT=QCF_P168] ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ [/FONT][FONT=QCF_BSML]ﭼ[/FONT]الأعراف: ١٤٦]، جاء عن ابن عيينة كما في الطبري وابن أبي حاتم بإسنادهما: ": أَنْزِعُ عَنْهُمْ فَهْمَ الْقُرْآنِ، وَأَصْرِفُهُمْ عَنْ آيَاتِيَ"
وقد مر في الشرح أن بلاغة الطباق- إذا خلا من التكلف- تظهر في أمور منها:
1/ أن الأشياء تتميز بأضدادها.
2/ إثارة الفكر للتأمل وعقد المقارنات.
أما التكلف فهو منفي عن هذا العنوان لأن التكلف في مثل هذا المقام يكون بأن يؤتى باللفظ لمجرد الطباق دون أن يكون هناك داع معنوي يدعو إليه، والمعنى هنا هو الذي استدعى هاتين الكلمتين الدالَّتين على هذين المعنيين المتضادين لأن الفتح الذي ظهر في هذه الرسالة الصغيرة إنما ناله المؤلف في حال الذل والافتقار، واستشعار عظمة العظيم ذي الجلال؛ فكان في عنوان الكتاب اعتراف ضمني من المؤلف بفقره وذلته، وأن العظيم ذا الجلال هو الذي فتح له ما كان مغلقاً، وأمده من أنوار الآية بما أمده به، وضمن هذا الاعتراف رسالة لكل من يريد الفتح من الله مضمونها ما قاله ابن عطاء الله في حكمه : " تحقق بأوصاف عبوديتك، يمدك بأوصاف ربوبيته"، وقوله :"صحح الفقر والفاقة لديك ، يأذن بورود المواهب عليك".
هذا ، وقد مرَّ أن المحسنات المعنوية أهم عند البلاغيين من اللفظية، ولذلك كان لهذا الطباق أثر أكبر على حسن العنوان من أثر السجع والجناس اللذيْن مضى الحديث عنهما.
وفي الختام أطرح سؤالاً للمدارسة:
1/ ما الفرق بين:"فتح الجليل للعبد الذليل" ، وبين : " فتح الجليل على العبد الذليل"؟
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
 
شرح فتح الجليل (الدرس الثالث)​


الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله، أما بعد:
لا بد قبل شرح ما استنبطه المؤلف من الآية الكريمة من وقفة متأنية مع أمر مهم أغفله،ألا وهو بيان الحال الذي نزلت فيه سورة البقرة عموماً وهذه الآية خصوصاً، وهو أمر يغيب بدرجات متفاوتة عن كثير ممن يتكلم في بلاغة القرآن ، رغم أنه قد مر في النظم وشرحه أن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فكلما كان القاريء أعرف بالحال التي قيل فيها الكلام كان أقدر على إدراك ما في الكلام من بلاغة، وبيان هذه الحال التي نزلت فيها الآية يحتاج إلى سبع وقفات:

الوقفة الأولى: مدنية السورة:
هذه السورة مدنية بالاتفاق ، وللسور المدنية –عموماً -حال خاصة؛ إنها حال إقامة الدولة الإسلامية ، والمكلفون بهذه المهمة العظيمة – ويقودهم سيد ولد آدم – صلى الله عليه وسلم- هم الصحابة الكرام الذين تربوا على القرآن في العهد المكي[1] بما تحمله الآيات المكية من ترسيخ العقيدة وذكر الأصول الكلية لهذا الدين العظيم، فحالهم – بما فيها من قوة إيمان، وتصور لأصول هذا الدين ، واستعداد لإقامة دين الله في الأرض- تقتضي إنزال الأحكام الشرعية التفصيلية مع عدم غياب الخطاب الإيماني عنهم، وهذا ظاهر في الآية وما قبلها وما بعدها كما سيأتي.

الوقفة الثانية: تأريخ نزول السورة:
تعد سورة البقرة أول ما نزل بالمدينة – وحكى ابن حجر في فتح الباري ( 8/160) الاتفاق عليه-، وهذه الأولية في النزول تفيد في معرفة بعض مقاصدها كما سيأتي ، وقد روى ابن إسحاق –وعنه الطبري- عن ابن عباس من طريق محمد بن أبي محمد[2] أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها، نزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود، من المنافقين من الأوس والخزرج" ، ومع هذه الأولية في النزول إلا أن نزول السورة الكريمة استمر إلى أواخر العهد المدني، بل إن قوله تعالى في أواخر سورة البقرة ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) هو آخر ما نزل من القرآن –على خلاف مشهور في ذلك- ،وكأن هذه السورة ظلت تربي الصحابة طوال العهد المدني –تقريباً-، وكانت لهم عناية ظاهرة بها فقد جاء في المسند ( 3/298-طبعة التركي- ) عَنْ كَثِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ عَبَّاسٌ وَأَبُو سُفْيَانَ مَعَهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَخَطَبَهُمْ، وَقَالَ: " الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ "، وَقَالَ: " نَادِ: يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ "، وقال محققو المسند : إسناده صحيح على شرط الشيخين ، و القصة في غزوة حنين وأصلها في صحيح مسلم، وكأن ابن عاشور نبَّه إلى قريب من هذا في قوله: "وَإِذْ كَانَتْ أَوَّلَ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَقَدْ عُنِيَ بِهَا الْأَنْصَارُ وَأَكَبُّوا عَلَى حِفْظِهَا، يَدُلُّ لِذَلِكَ مَا جَاءَ فِي السِّيرَةِ أَنَّهُ لَمَّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ..." وساق قريبا من حديث المسند الذي ذكرته، والكلام في هذه المسألة –أعني عناية الصحابة بهذه السورة – يطول...، المهم أن هذه السورة الكريمة من أعظم سور القرآن وقد تربى عليها الصحابة لسنوات طوال تكاد تستغرق العهد المدني، والمتأمل لأسباب النزول الثابتة في السورة يدرك واقع تلك التربية العظيمة التي تمت للصحابة بهذه السورة الحكيمة، وقد ثبت بإسناد حسن –على ما قال جامع مرويات الإمام مالك في التفسير- أن ابن عمر ظل يتعلم سورة البقرة أربع سنوات.

الوقفة الثالثة: وقت نزول الآية:
قد جاء ما يحدد وقت نزول ( لا إكراه فى الدين ....) وهي التي سبقت آية: (الله ولي الذين آمنوا) مباشرة، فقد روى أبو داود وابن حبان وغيرهما عن ابن عباس، قال: كانت المرأة تكون مقلاتاً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) قال أبو داود: المقلات: التي لا يعيش لها ولد، وقد صحح الحديثَ الألبانيُ ومحققُ ابن حبان وغيرهما، وفي تحديد تأريخ غزوة بني النضير خلاف لا يصلح المقام لعرضه (انظر السيرة النبوية الصحيحة للعمري: 1/304 فما بعدها) لكن هذه الغزوة على كل الأحوال كانت في فترة حرجة نقضت فيها اليهود العهود، وبدأت تحرض قريشاً على غزو المدينة حتى كانت غزوة الأحزاب بعدُ، فالمقام يقتضي حث المؤمنين ورفع هممهم استعدادا للمهام العظيمة التي تنتظرهم، وعلى كل فليس عندنا ما يثبت وقت نزول الآية المدروسة ، لكنها وقعت مع آية : (لا إكراه في الدين) في سياق واحد متصل، والله أعلم.

الوقفة الرابعة: المقصود العام للسورة :
يقول العلامة ابن عاشور:" وَإِذْ قَدْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ عَهْدٍ بِإِقَامَةِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَتِهِمْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ تَصْفِيَةُ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَنْ تَخْتَلِطَ بِعَنَاصِرَ مُفْسِدَةٍ لِمَا أَقَامَ اللَّهُ لَهَا مِنَ الصَّلَاحِ سَعْيًا لِتَكْوِينِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ النَّقِيَّةِ مِنْ شَوَائِبِ الدَّجَلِ وَالدَّخَلِ "، وهذا الذي أشار إليه ابن عاشور يمثل جزءا من السورة كما سبقت الإشارة إليه في أثر ابن عباس ، لكن لما كانت هذه السورة هي أطول سور القرآن مع الامتداد الزمني لنزولها فإنها لم تتمحض لموضوعها الرئيس إقامة الدولة –أو تكوين المدينة الفاضلة كما عبر ابن عاشور- بل تخللتها أغراض أخر ، يقول ابن عاشور : " وَكَانَتْ فِي خِلَالِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَغْرَاضٌ شَتَّى سَيقَتْ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِطْرَادِ فِي مُتَفَرِّقِ الْمُنَاسَبَاتِ تَجْدِيدًا لِنَشَاطِ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ، كَمَا يُسْفِرُ وَجْهُ الشَّمْسِ إِثْرَ نُزُولِ الْغُيُوثِ الْهَوَامِعِ، وَتَخْرُجُ بَوَادِرُ الزَّهْرِ عَقِبَ الرُّعُودِ الْقَوَارِعِ، مِنْ تَمْجِيدِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ: اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْبَقَرَة: 255]، وَرَحْمَتِهِ وَسَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ، وَضَرْبِ أَمْثَالٍ: أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: 19] وَاسْتِحْضَارِ نَظَائِرَ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ [الْبَقَرَة: 74]"، ويهمنا في هذا النقل إشارة ابن عاشور إلى أن آية الكرسي وقعت استطرادا، وقد تلتها آية: ( لا إكراه فى الدين ...) ثم آية : ( الله ولى الذين ءامنوا)، ثم إن هذا الاستطراد الإيماني جاء ضمن آيات الأمر بالإنفاق فقد سبقها الأمر بالإنفاق وتلاها الحث عليه والتحذير من المن فيه ...إلخ، ويتضح هذا بشكل أكبر عند النقطتين الآتيتين.

الوقفة الخامسة: موقع المقطع الذي وردت فيه الآية:
سورة البقرة هي أطول سورة في القرآن، ولذلك لا بد من تصور عام للسورة حتى ندرك موقع المقطع الذي جاءت فيه الآية التي هي موضوع كتاب الإمام السيوطي –رحمه الله-، و للعلماء طرق شتى في تقسيم السورة القرآنية –عموماً-، وهذا التقسيم محل اجتهاد كما لا يخفى ، وقد قسم سورةَ البقرة سعيد حوَّى في تفسيره المتميز - في جانب تقسيم السور وتحديد مقاصدها ومواضيعها الرئيسة- إلى مقدمة وثلاثة أقسام ثم خاتمة.
أما المقدمة فقد جاءت في أول عشرين آية من السورة وكانت عن كل من المتقين والكافرين والمنافقين وسماتهم الرئيسة.
وأما القسم الأول ( من الآية: 21وحتى: 167) فقد بدأ بدعوة الناس لسلوك طريق العبادة والتوحيد وصولا إلى التقوى، ثم سار القسم ليناقش الكفر ويعمق قضية السير في طريق التقوى.
وأما القسم الثاني(من الآية: 168 إلى: 207) فإنه يكمل الدلالة على التقوى ويفصل فيما يدخل فيها من أمور كالصيام والقصاص والوصية والحج ،كما جاءت في هذا القسم الثاني آية البر وفيها تعريف مفصل للمتقين ، ومن خلال القسمين الأول والثاني نعرف الأركان الخمسة.
أما القسم الثالث (من الآية : 208إلى: 284) فمداره على الأمر بالدخول في السلم كافة[3] ولأن الآية التي نحن بصددها ضمن هذا القسم فلا بد من التفصيل فيه بعض الشيء، وقد اشتمل هذا القسم على مقطعين:
أما المقطع الأول: ففيه ذكر لأحكام القتال،وأحكام الطلاق مع قصتين متعلقتين بأمر القتال.
وأما المقطع الثاني: ففيه ملامح النظام المالي في الإسلام: من الزكاة وإنظار المعسر مع تحريم الربا، يقول سعيد حوى: " ومجيء ذلك كله في سياق الأمر بالدخول في الإسلام كله يشعر بأنه ما لم يقم أمر المال على شرع الله فإن الناس لايكونون قد دخلوا في الإسلام كله" [4]، ويقول : " ومجيء ذلك كله في أواخر السورة يشعر بالاحتياجات التربوية الكثيرة للنفس البشرية ، لتستقيم على أمر الله"[5].
وفي أثناء هذا المقطع –الذي يتحدث عن النظام المالي في الإسلام جاءت آية الكرسي وآيتان بعدها ثانيهما هي آية (الله ولى ) التي نحن بصدد دراستها من خلال كلام السيوطي –رحمه الله-، ثم ختمت السورة بدعوات جمعت كل التطلعات التي يتطلع إليها المؤمنون.
وبناء على كل ما سبق فإن المقطع الذي وردت فيه الآية مقطع يتحدث عن النظام المالي في الإسلام عموماً وعن النفقة بوجه خاص -إذا نظرنا إلى السياق الأقرب-، كما أن هذا المقطع قد وقع ضمن القسم الذي يدعو إلى الدخول في الإسلام بكل تشريعاته.

الوقفة السادسة: موقع الآية ضمن مقطعها:
مما تكاد أن تتفق عليه المراجع التي تهتم بالسياق في حدود اطلاعي أن الآيات التي جاءت ضمنها : (الله ولي الذين آمنوا) هي آيات وقعت من باب الاستطراد ضمن آيات الحث على النفقة ،وقد أشار البقاعي وابن عاشور وسيد قطب إلى أن الحديث عن النفقة متصل بالحديث عن الجهاد إذ عماد الجهاد النفقةُ[6]، كما أن لذكر النفقة في هذا الموضع خصوصية نبه إليها البقاعي بقوله: " وجزم هنا بالأمر لأنه لما رغب في النفقة من أول السورة إلى هنا مرة بعد أخرى في أساليب متعددة صارت دواعي العقلاء في درجة القبول لما تندب إليه من أمرها وإن كان الخروج عما في اليد في غاية الكراهة إلى النفس"، وكـأن سياق الأمر بالصدقة بلغ أعلى درجاته عند هذا الموضع الذي وقع فيه الاستطراد المشار إليه ، فاتضح من كل ما سبق أن السياق في الأمر بالنفقة ، لكن ذكر النفقة جاء مرتبطاً بكونها أساساً في الجهاد في سبيل الله، وأن النفقة ذكرت في السورة قبل هذا الموضع كثيراً، وعلينا ألا ننسى أن السياق الأعم هو الأمر بالدخول في الإسلام بكل تشريعاته- الذي هو موضوع وبداية القسم الثالث-.
وفي سر هذا الاستطراد بين آيات النفقة يقول سعيد حوى: "إن الكلام عن الله وأدلة اليوم الآخر قد جاء بين الأمر بالإنفاق قبله، والحض على الإنفاق بعده؛ لأن موضوع الإنفاق في سبيل الله مرتبط بالإيمان بالله واليوم الآخر؛ فغير المؤمن بالله واليوم الآخر لا ينفق إلا إذا عاد عليه الإنفاق بمنفعة ما ، أما المؤمن فإنه ينفق لأن الله أمر، ولأن الله سيثيبه في الدنيا والآخرة على ما أنفق..." [7]، وكأن الصحابة يحتاجون إلى تجديد الإيمان وتقويته حتى يستجيبوا أتم استجابة لما سيكلفون به من مَهام.
ونستطيع أن نقسم هذا الاستطراد إلى قسمين:
القسم الأول: آية الكرسي والآيتان بعدها.
القسم الثاني: القصص الثلاثة المبدوءة بقوله ( ألم تر).

أما القسم الأول فهو الذي ذكرت الآية المدروسة ضمنه، وقد بدأ القِسْمُ بآية الكرسي التي يقول ابن عاشور في ارتباطها بما قبلها: " لَمَّا ذَكَرَ هَوْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ اسْتَأْنَفَ بِذِكْرِ تمجيد الله تعالى وَذِكْرِ صِفَاتِهِ إِبْطَالًا لِكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَقَطْعًا لِرَجَائِهِمْ، لِأَنَّ فِيهَا مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءً لِآيَاتِ تَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ، وَأُودِعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ هُنَا لِأَنَّهَا كَالْبَرْزَخِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ."، ويقول صاحب الظلال : "...وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان... بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته، وأوضح سماته. وهي آية جليلة الشأن، عميقة الدلالة، واسعة المجال..."، بينما يقول سعيد حوى بعد ذكره لآية الكرسي : " من كان هذا شأنه ألا ينفق الإنسان في سبيله؟ ومن كان هذا شأنه كيف لا يدخل الإنسان في دينه؟ إذا فهمنا هذه العبارة أدركنا حكمة مجيء هذه الآية بين قوله تعالى ( أنفقوا) وبين قوله تعالى بعدها ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، وإذا أدركنا مجيئها في سياق الدخول في السلام كله فالذين لا يعرفون الله هم الذين يظنون أنه لا دخل له في شؤون عباده، أو أن تشريعه ليس هو الأكمل ، كيف وهو القيوم المحيط علماً؟" [8] .
ثم تلتها آية ( لا إكراه فى الدين) ، وفي ارتباطها بما قبلها يقول البقاعي : "ولما اتضحت الدلائل لكل عالم وجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه فيه فقال: {لا إكراه في الدين} " ، ويقول ابن عاشور:" اسْتِئْنَاف بياني نَاشِئٌ عَنِ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: 244] إِذْ يَبْدُو لِلسَّامِعِ أَنَّ الْقِتَالَ لِأَجْلِ دُخُولِ الْعَدُوِّ فِي الْإِسْلَامِ فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا إِكْرَاهَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ..."، ثم يضيف ابن عاشور نفسه فيقول:"وَتَعْقِيبُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ بِهَاتِهِ الْآيَةِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَعَظَمَةِ الْخَالِقِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ شَوَائِبِ مَا كَفَرَتْ بِهِ الْأُمَمُ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسُوقَ ذَوِي الْعُقُولِ إِلَى قَبُولِ هَذَا الدِّينِ الْوَاضِحِ الْعَقِيدَةِ، الْمُسْتَقِيمِ الشَّرِيعَةِ، بِاخْتِيَارِهِمْ دُونَ جَبْرٍ وَلَا إِكْرَاهٍ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجْعَلَ دَوَامَهُمْ عَلَى الشِّرْكِ بِمَحَلِّ السُّؤَالِ: أَيُتْرَكُونَ عَلَيْهِ أَمْ يُكْرَهُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا..."، ويقول سعيد حوى:
" كأنه من خلال آية الكرسي قامت الحجة على كل إنسان بهذا الدين ؛ إذ من يستطيع أن يصف الله بهذا الوصف، وبمثل هذا الكمال إلا الله؛ فجاءت هذه الآية"[9]، والمتأمل في هذه النقول يجدها متقاربة في معناها وإن اختلفت في ألفاظها.
ثم تلتها الآية محل الدراسة ( الله ولي الذين آمنوا )
يقول ابن عاشور: " وَقَعَ قَوْلُهُ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: (لَا انْفِصامَ لَها) لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالطَّاغُوتِ وَآمَنُوا بِاللَّهِ قَدْ تَوَلَّوُا اللَّهَ فَصَارَ وَلِيَّهُمْ، فَهُوَ يُقَدِّرُ لَهُمْ مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ وَهُوَ ذَبُّ الشُّبُهَاتِ عَنْهُمْ، فَبِذَلِكَ يَسْتَمِرُّ تَمَسُّكُهُمْ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَيَأْمَنُونَ انْفِصَامَهَا، أَيْ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فَإِنَّ اللَّهَ يَزِيدُهُ هُدًى".
وقال البقاعي : " ولما قرر ذلك وأرشد السياق إلى شيء اقتضت البلاغة طيه إرشاداً إلى البعد منه والهرب عنه لبشاعته وسوء مغبته وهو ومن يؤمن بالطاغوت ويكفر بالله فلا يتمسك له والله يهويه إلى الجحيم، كأنه قيل: فمن يخلص النفس من ظلمات الهوى والشهوة ووساوس الشيطان؟ فقال مستأنفاً: {الله}..."
ويقول سيد قطب : "... وعند ما يصل السياق بهذه الآية إلى إيضاح قواعد التصور الإيماني في أدق جوانبها، وبيان صفة الله وعلاقة الخلق به هذا البيان المنير.. ينتقل إلى إيضاح طريق المؤمنين وهم يحملون هذا التصور ويقومون بهذه الدعوة وينهضون بواجب القيادة للبشرية الضالة الضائعة:
«لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
...ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال.. يصور كيف يأخذ الله- ولي الذين آمنوا- بأيديهم، فيخرجهم من الظلمات إلى النور. بينما الطواغيت- أولياء الذين كفروا- تأخذ بأيديهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات! إنه مشهد عجيب حي موح. والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء، جيئة من هنا وذهاباً من هناك. بدلاً من التعبير الذهني المجرد، الذي لا يحرك خيالاً، ولا يلمس حساً، ولا يستجيش وجداناً، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ...".
بينما يقول سعيد حوى:" ...وإذا كان الله ولي الذين آمنوا ...أفلا ينبغي أن يبذل هؤلاء المؤمنون أموالهم في سبيله جل جلاله؟
وإذا كان ربنا كذلك ...أفلا ينبغي أن ندخل في الإسلام كله ، ونقيم شرائعه كلها؟"، والملاحظ أن حوَّى قد ربط الآية بسياقها القريب – وهو الإنفاق في سبيل الله-، وبسياقها البعيد – وهو الدخول في السلم كافة.

أما القسم الثاني من الاستطراد فهو الذي حوى القصص الثلاثة ، وقد قال البقاعي في بدايتها : " ولما ذكر ما له سبحانه وتعالى من الإحاطة والعظمة وأتبعه أمر الإيمان وتوليه حزبه وأمر الكفران وخذلانه أهله أخذ يدل على ذلك بقصة المحاج للخليل والمار على القرية مذكراً بقصة الذين قال لهم موتوا ثم أحياهم في سياق التعجيب من تلك الجرأة" ، ثم قال : "ولما كان الإحياء والإماتة من أظهر آيات الربانية وأخصها بها أظهر سبحانه وتعالى الغيرة عليها تارة بإبهات المدعي للمشاركة، وتارة بإشهاد المستبعد في نفسه وغيره بفعل ربه، وتارة بإشهاد المسترشد في غيره بنفسه ... " إلخ كلامه وهو نفيس، وقال ابن عاشور في القصص الثلاثة المذكورة:" جَرَى هَذَا الْكَلَامُ مَجْرَى الْحُجَّةِ عَلَى مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْمِثَالِ لَهَا فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَأَنَّ الطَّاغُوتَ يُخْرِجُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، سَاقَ ثَلَاثَةَ شَوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ هَذَا أَوَّلُهَا وَأَجْمَعُهَا لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى ضَلَالِ الْكَافِرِ وَهُدَى الْمُؤْمِنِ، فَكَانَ هَذَا فِي قُوَّةِ الْمِثَالِ." .
وقال سيد قطب: " هذه الآيات الثلاث تتناول موضوعاً واحداً في جملته: سر الحياة والموت، وحقيقة الحياة والموت. وهي بهذا تؤلف جانبا من جوانب التصور الإسلامي يضاف إلى القواعد التي قررتها الآيات السابقة منذ مطلع هذا الجزء وتتصل اتصالاً مباشراً بآية الكرسي وما قررته من صفات الله تعالى.. وهي جميعاً تمثل جانباً من جوانب الجهد الطويل المتجلي في القرآن الكريم لإنشاء التصور الصحيح لحقائق هذا الوجود في ضمير المسلم وفي إدراكه.
الأمر الذي لا بد منه للإقبال على الحياة بعد ذلك إقبالاً بصيراً، منبثقاً من الرؤية الصحيحة الواضحة، وقائماً على اليقين الثابت المطمئن. فنظام الحياة ومنهج السلوك وقواعد الأخلاق والآداب.. ليست بمعزل عن التصور الاعتقادي بل هي قائمة عليه، مستمدة منه. وما يمكن أن تثبت وتستقيم ويكون لها ميزان مستقر إلا أن ترتبط بالعقيدة، وبالتصور الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطاته بخالقه الذي وهبه الوجود.. ومن ثم هذا التركيز القوي على إيضاح قواعد التصور الاعتقادي الذي استغرق القرآن المكي كله وما يزال يطالع الناس في القرآن المدني بمناسبة كل تشريع وكل توجيه في شؤون الحياة جميعاً. "
بينما قال عبد الكريم الخطيب في تفسيره (التفسير القرآني للقرآن): "" لما ذكر الله هذا الحكم، لفت النبىّ الكريم إليه سبحانه، ليريه له الأمثال والشواهد فى الناس، ثم قدم له سبحانه شاهدين من التاريخ، ليكونا مثلين للمؤمنين والكافرين.. أولياء، الله وأولياء الطاغوت.. والمثل البارز لأولياء الطاغوت هو ذلك الذي حاج إبراهيم فى ربه، أما المثل الآخر لأولياء الله فهو ذلك الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها..."، ثم قال عند قول إبراهيم عليه السلام : (رب أرنى أنظر إليك) : " في هذه الآية صورة أخرى، تمثل المؤمن الذي يطلب المزيد من الإيمان، ليقتل فى نفسه كل وسواس، وليخمد فى صدره كل همسة من همسات الشيطان! .. ثم هى مثل آخر لمن كان وليّا لله.: يخرجه من الظلمات إلى النور.
وهذا الموقف- كما قلنا- لا ينتقص من إيمان المؤمن، إذ كانت غايته طلب المزيد من النور، والجديد من العلم. فذلك طريق لا نهاية له، ولا ضلالة فيه!"
ومما قاله سعيد حوى ملخِّصا موقع هذه القصص مع ربطها بآية الكرسي وما بعدها : " ...فكان تسلسل الآيات أمرا بالإنفاق في سبيل الله من قبل أن يأتي يوم القيامة، ثم كان حديثا عن الله وقدرته التي لا يعجزها أن تقيم القيامة..." [10]

هذا ما أردت ذكره قبل الكلام على ما ذكره المؤلف من مسائل بلاغية ، وقد اختصرت فيه قدر الإمكان إلا أنني اضطرت إلى كثرة النقول لسببين:
1/تعريف القاريء بمظان الكلام على هذه المسائل.
2/ التنبيه على التقارب بين المفسرين في كلامهم على السياق في كثير من الأحيان.
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا وسلم.


_____________________
[1] يدخل في هذا الأنصار فقد جاءهم مصعب وابن أم مكتوم وكانا يقرآنهما القرآن كما ثبت في صحيح البخاري (3952)، ( 4941)، وقال البراء بن عازب – رضي الله عنه- في نهاية ذكره للقصة: " فَمَا جَاءَ [أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ]حَتَّى قَرَأْتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا " ، وفي لفظ :"فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} فِي سُوَرٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ".
[2] وهي طريق اختلف في قوتها، وقد حسنها بعض أهل العلم ، بينما أعلها آخرون بجهالة محمد بن أبي محمد، انظر الخلاف في : "أسانيد نسخ التفسير...." للدكتور عطية الفقيه:234-235 ، وقد توقف صاحب البحث في الحكم على الإسناد، وانظر كذلك مقدمة التفسير الصحيح للدكتور :حكمت بشير ياسين.
[3] أي في شرائع الإسلام كلها كما رجح الطبري وابن كثير.
[4] الأساس:1/592.
[5]الأساس:1/592.
[6] وقد مر أن المقطع الأول من القسم يتحدث في كثير من آياته عن الجهاد.
[7] الأساس:1/594.
[8] الأساس:1/594.
[9] الأساس:1/599.
[10] الأساس:1/612.
 
جزاكم الله خيراً ونفع الله بكم
 
شرح (فتح الجليل للعبد الذليل) الدرس الرابع :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:
فهذه عودة إلى شرح كتاب " فتح الجليل للعبد الذليل" بعد طول انقطاع شغلني الله وإياكم بطاعته، وملأ قلوبنا بمحبته، هذا، وقد طالت المقدمات التي قدمت بها قبل الشروع في شرح المسائل البلاغية التي ذكرها المؤلف –رحمه الله-، ولم يبق منها سوى تفسير الآية تفسيراً موجزاً –أعتمد فيه تفسير الإمام الطبري- حتى يكون فهم معنى الآية حاضراً عند القاريء الكريم، وهنا لا بد من التنبيه أن الإمام الطبري يرجح أن قوله تعالى ( لا إكراه في الدين )قبل هذه الآية ليس محمولاً على العموم بل هو مخصوص بأهل الكتاب والمجوس وكل من تقبل منهم الجزية، وعليه فقد مال إلى أن المراد بالذين كفروا في قوله تعالى : (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت): والنصارى والمرتدون عن الإسلام دون عامة الكفار، وبالتالي فإن المراد بالإخراج من النور لهؤلاء هو نقلهم من الإيمان الذي كانوا عليه إلى الكفر؛ فالنصارى كانوا على ملة عيسى والمرتدون كانوا من قبل مسلمين، كما رجح الإمام أن الطاغوت هو كُلُّ ذِي طُغْيَانٍ عَلَى اللَّهِ فَعُبِدَ مِنْ دُونِهِ، إِمَّا بِقَهْرٍ مِنْهُ لِمَنْ عَبَدَهُ، وَإِمَّا بِطَاعَةٍ مِمَّنْ عَبَدَهُ لَهُ، وَإِنَسَانًا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْبُودُ، أَوْ شَيْطَانًا، أَوْ وَثنا، أَوْ صَنَمًا، أَوْ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ.
وبناء على هذا يكون معنى الآية : الله نصير الذين آمنوا وظهيرهم يتولاهم بعونه وتوفيقه يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، والذين كفروا بعد إيمانهم نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم الأنداد والأوثان التي يعبدونهم من دون الله يخرجونهم من الإيمان إلى ظلمات الكفر.
والخلاف في الآية الأولى –وهو في الثانية متفرع عنه- خلاف طويل، وقد اعتمدت ترجيح الطبري هنا لإمامته في التفسير، وتدقيقه في المعاني، ومراعاته للسياق، مع كون الخلاف في الآيتين شائكاً يحتاج تحريره إلى وقت طويل، فآثرت تقليد هذا الإمام العلَم ،والله أعلم.
ونبدأ بعد كل هذا في متابعة شرح كلام المؤلف رحمه الله تعالى:
قال الإمام السيوطي -رحمه الله-:
فأقول: في هذه الآية الكريمة الطباق، وهو الجمع بين الضدين وذلك في ثلاثة مواضع: بين "آمنوا" و"كفروا"، وبين "النور" و"الظلمات" في الموضعين.
الشرح :
أشار المؤلف هنا إلى وجود ثلاثة مواضع للطباق في الآية الكريمة، وهي:
1/ آمنوا و كفروا.
2/النور والظلمات في الموضع الأول.
3/ الظلمات والنور في الموضع الثاني.
وقد مر معنا ضمن المحسنات المعنوية أن الطباق هو: الجمع بين متضادين في كلام واحد، أو ما هو كالكلام الواحد في الاتصال، وقد عرفه المؤلف بنفس التعريف مع اختصار بعض قيوده كما هو ظاهر ، والتضاد بين الكلمات المذكورة لايخفى، ولا يحتاج إلى شرح.
وهنا لا بد من وقفة مع التعريف الدقيق للكلمات التي وقع فيها الطباق:
أما الإيمان فهو : تصديق معه أمن –كما أفاده الراغب- أي طمأنينة إلى الحق ، وأما الكفر فهو مأخوذ من التغطية والستر- كما هو مشهور؛لأن الكافر يستر دلائل وحدانية الله ويجحدها-،وأما الظلمات فهي جمع ظلمة وهي عكس النور والضياء -كما في مقاييس ابن فارس- ، وفي نظم الدرر –نقلاً عن الحرالي- أن الظلمة هي : " ما يطمس الباديات حساً أو معنى" وأن النور هو:" ما يظهر الباديات حساً أو معنىً "؛وعليه فإن الظلمة قرينة الخطأِ في التصور، والضلالِ في الطريق، بعكس النور الذي يكشف لك الحقيقة، ويهديك سواء السبيل.
ثم إن الذي ينبغي أن يعتني به الراغب في تذوق بلاغة الكلام هو بيان وجه الجمال في الطباق في الآية الكريمة؛ وقد مر معنا في الشرح أن بلاغة الطباق –عموماً- تكمن في :
1/ أن الأشياء تتميز بأضداداها. 2/ إثارة الفكر للتأمل وعقد المقارنات.
فإذا تذكرنا أن الآية جاءت في سياق رفع همم المؤمنين للتمسك بالعروة الوثقى، والإنفاق، والجهاد في سبيل الله فإن ما في الآية من طباق يزيد من تصور الإيمان وحضور معناه في القلب بما فيه من راحة وطمأنينة وانسجام مع الفطرة وتمييزها ، وذلك عن طريق استحضار ضده وهو الكفر بما فيه من وحشة وكآبة ومخالفة لحقائق الكون التي لخصتها آية الكرسي السابقة للآية التي نتكلم عنها، كما إن استحضار الفرق الشاسع بين الظلمات التي كانوا فيها وذاقوا ويلاتها، وكانوا بسببها عمياً أو كالعمي، والنور الذي أبصروا فيه بعد ذلك العمى وتغيرت به حياتهم كلها يرفع الهمم ويقوي العزائم ويهون كل العقبات، إن لفظة الإيمان تعني الكثير للمؤمنين؛ إنها تذكر بالأمن الذي يعيشونة والراحة التي تملا صدورهم، ولفظة الكفر تذكر بهذا الإنسان البائس الذي يصادم الكون الدال بكل ذرة من ذراته على خالقه –سبحانه-، وباجتماع الكلمتين يزداد لفظ الإيمان نوراً على نوره ، بينما يزداد لفظ الكفر ظلمة على ظلمته.
هذا، وإن بعض أهل العلم –كابن حجة في خزانة الأدب- نبهوا إلى أن الطباق ينبغي أن يرشح بلون آخر من المحسنات ليزداد بهجة وبهاء، ولعل هذا الأمر يتضح أكثر من خلال بقية الشرح – بإذن الله تعالى-.
وأخيراً فإن الإحساس بهذه المعاني المشار إليها وتذوقها لايحصل غالباً لمن قرأ القرآن قراءة عابرة سريعة؛ بل لابد للمؤمن من ساعة يخلو فيها بربه يقرأ فيها القرآن ويحاول أن ينقل اللفظ من اللسان إلى القلب ، وذلك من خلال تصور المعنى ماثلاً أمامك كأنك تراه، ولا يتحقق مثل هذا التصور على أتم صورة مثلما يتحقق عند قراءة القرآن في الصلاة ، وخاصة في جوف الليل، في خلوة بين العبد وبين سيده ومولاه،وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى على نبينا سيد ولد آدم، وعلى آله وصحبه وسلم.
 
شرح فتح الجليل (الدرس الخامس)
قال الإمام السيوطي –رحمه الله-:
وفيها المقابلة في ثمانية مواضع:
بين "الجلالة" و"الطاغوت" و"ولي" و"أولياء"، لأن المفرد يقابله الجمع في هذا الفن.
وبين "آمنوا" و "كفروا" و"يخرج" و"يخرجونهم" لما ذكر.
وبين "من " و"إلى" في الموضعين، لأن "من" لابتداء الغاية و "إلى" لانتهائها- وهما متقابلان-، وقد أورد أهل البديع بالمقابلة قول الشاعر:

أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي

وقالوا: إن بين "لي" و"بي" مقابلة.
وبين "الظلمات" و"النور"، و"النور" و"الظلمات".
الشرح:
أشار المؤلف هنا إلى وجود ثمانية مواضع للمقابلة في الآية الكريمة، لكن باعتبار أن كل مقابَل مقابِل -ولابد- فإن المقابلات في الآية أربعة، وهي:
1/ (الله ولي) و( أولياؤهم الطاغوت) .
2/(آمنوا يخرجهم) و(كفروا...يخرجونهم).
3/ (من...إلى)، و(من ...إلى).
4/ (الظلمات ...النور)(النور...الظلمات)
وابتداء فالمقابلة مصطلح لم يمر معنا في منظومة مائة المعاني والبيان التي تم شرحها في الملتقى من قبل، وربما كان إعراض ابن الشحنة عنها لأنها صورة من صور الطباق عند القزويني فقد قال في تلخيص المفتاح(95) بعد ذكر الطباق: " و دخل فيه ما يختص باسم المقابلة، وهي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو أكثر بما يقابل ذلك على الترتيب..."؛ فكأن المقابلة على هذا التعريف طباق متعدد، ولكن الجمهور يعدون المقابلة فنا بديعياً مستقلاً لاختصاصه بأمور:
أ-أنها تبدأ بتلاؤم أجزاء جملة أو جمل ثم بالتضاد بعد ذلك؛ بخلاف الطباق فإنه مبني على التضاد من أول الأمر.
ب- أن التلاؤم الموجود في كل جملة في المقابلة يولد حسنا صوتياً بما فيه تجانس بين الألفاظ، وتوازن بين الجمل، مما يؤثر على النفس أبلغ تأثير، وهذا ليس موجودا في الطباق.
ولنعد إلى الآية محاولين اقتباس شيء من أنوارها من خلال هذه المقابلات الموجودة فيها، ولنقف مع الكلمات التي شاركت في هذه الصورة العظيمة محاولين استحضار معانيها؛ فكلمة (الله) -وقد قيل إنه الاسم الأعظم- تحضر في الذهن كل ماتحته من صفات تناسب المقام كالربوبية والإكرام، والرحمة واللطف ....وقل ما شئت من الأوصاف المناسبة للخبرِ:( ولي) الذي يدل على القرب و النصرة ، والتطمين والتثبيت، ثم جاء قوله( آمنوا) فأحضر أولئك العباد الذين بلغوا في الصدق منزلة الأمن البعيد عن الاضطراب وتعلقوا برب الأرباب ومسبب الأسباب فنالوا بذلك ولايته –سبحانه- ونصرته، وعونه ومحبته، وقد أفضت هذه الجملة إلى الجملة التي بعدها فجاءت كالمفسرة لها – وسيشير إلى هذا السيوطي في المحسن السادس والعشرين والسابع والعشرين-؛ إذ أن قوله تعالى: ( الله ولي الذين آمنوا ) مجمل مما يجعل نفس السامع تطلب التفصيل فيأتيها قوله ( يخرجهم من الظلمات إلى النور) فيصور ولاية الله أجمل تصوير وأبدعه؛ إذ يذكر أن النقلة العظيمة والتحول الكبير الذي غير حياتهم قد كان من الله – ولي الذين آمنوا- كما يذكرهم بماضيهم المظلم بكل ما فيه من وحشة وبعد ، وبحاضرهم ومستقبلهم المنوَّر المشرق بما فيه من إنشراح وأنس، وفي حرفي الجر ( من ) و ( إلى ) تنبيه على تلك النقلة أوالرحلة؛ فقد تولاهم الله من بدايتها حتى أوصلهم إلى نهايتها، أكرمني الله وإياكم وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وأدخلنا برحمته الجنة دار الحور والقصور.
ولما انتهت هاتان الجملتان ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) بما فيهما من تلاؤم ظاهر أشرت إلى شيء منه بدأت المقابلة فقال( والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) ويلاحظ ابتداء التناسق الصوتي الذي حصل بالمقابلة، مع كون كل لفظة قابلت لفظة سابقة زادتها جلاء وانعكست كلٌ منهما على الأخرى...تأمل في (الله –الطاغوت)(ولي - أولياء) (يخرجهم – يخرجونهم)(الظلمات -النور) ( من – إلى)لتزداد في قلبك جلالة العظيم وتفاهة الحقير، وحسن الجميل ، وذمامة القبيح، وكل هذا التأمل والاستحضار يحتاج إلى وقت وفراغ ذهن كما أشرت وأكرر وأعيد دائماً؛ فكن منه على ذُكر.
وليعلم أن غاية ما ذكره البلاغيون من المقابلة مقابلة ستة معانِ بستة، كقول عنترة:
على رأس عبد تاج عز يزينه / وفي رجل حر قيد ّل يشينه
وقد تجاوزت الآية ذلك فقابلت ثمانية بثمانية مع البعد عن أدنى تكلف.
واللافت أن المقابلة هنا خرجت على شرط البلاغيين حيث لم تأتِ موافقة لتعريفهم " يؤتى بمعنيين متوافقين أو أكثر بما يقابل ذلك على الترتيب "؛ فقد تقدم ( كفروا) على (الطاغوت) خلافا لتقدم ( الله) على ( آمنوا)، لكن هذا الخروج عن طريقتهم جعل الآية أبلغ ، وسيشير السيوطي إلى هذا التغيير في النوع العشرين والواحد والعشرين، ونتكلم هناك –بإذن الله- على سره، والمخالفة لشرط البلاغيين في المقابلة ، وكذا ترك المقابلة أو التخفف منها كثير في القرآن، وهو ملحظ يستحق بحثا مستقلاً يكشف أسراره.
وبهذا انتهى المؤلف من ذكر ثلاثة طباقات وثمانِ مقابلات فالمجموع أحد عشر محسناً، والله أعلم ، وصلى الله على سيد ولد آدم، وعلى آله وصحبه وسلم.
 
شرح فتح الجليل ل( الدرس السادس):
أحببت أن أعود إلى تلخيص الحال الملابس للآية التي ندرسها حتى يكون إظهار ما في الآية من جمال ومطابقة لمقتضى الحال أيسر وأظهر فأقول:
إن حال نزول هذه السورة هي حالُ إقامة الدولة الإسلامية التي تقتضي إنزال الأحكام الشرعية التفصيلية مع عدم غياب الخطاب الإيماني،وقد ظلت السورة – كما مرَّ-تربي الصحابة طوال العهد المدني –تقريباً-، وقد جاءت الآية المدروسة ضمن القسم الثالث من السورة الذي مداره على الأمر بالدخول في السلم كافة، وجاءت -تحديداً- بعد المقطع الأول الذي يتحدث عن الجهاد الذي هو من أصعب التكاليف على النفوس، وضمن المقطع الثاني: الذي فيه ملامح النظام المالي في الإسلام، وقد وقعت استطرادا ضمن آيات الحث على النفقة المتصلة بالحديث عن الجهاد - إذ عماد الجهاد النفقةُ-،وكـأن سياق الأمر بالصدقة بلغ أعلى درجاته عند هذا الموضع،وكأن الصحابة يحتاجون إلى تجديد الإيمان وتقويته حتى يستجيبوا أتم استجابة لما سيكلفون به من مَهام؛ فكان هذا التعريف العظيم بالله جل في علاه في آية الكرسي، ثم الإعلان لحرية الاختيار للدين الذي يريده الإنسان، ثم جاءت الآية التي اشتملت على الوعد العظيم والتطمين الكبير بعاقبة الفريقين، وللكلام بقية تأتي بإذن الله عند شرح كلام المؤلف.
قال السيوطي –رحمه الله -:
وفيها ثماني مجازات في:
"يخرجهم" بمعنى يمنعهم من الدخول فيه ابتداءً.
وفي "يخرجونهم" كذلك.
وفي نسبة الإخراج إلى الطاغوت، لأنه سبب، وفاعل الخير والشر على الحقيقة هو الله تعالى.
وفي أصحاب النار.
، وفي إطلاق "الظلمات" على الكفر، و"النور" على الإيمان في الموضعين.
الشرح :
أشار المؤلف إلى ثمان مجازات، ونحتاج أن نقف معها الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى: المجاز الأول ، والثاني في ( يخرجهم ) ، و( يخرجونهم)، وقد بين وجه كونه مجازا من خلال تفسير معناه فقال: " يمنعهم من الدخول فيه ابتداء" ، وتأويله هذا مبني على قول في الآية، وطرائق العلماء في تأويل الإخراج في الآية في الموضعين متعددة جداً، ومنشأ الخلاف يعود إلى أن ظاهر الآية أن الذين آمنوا قد انتقلوا من الكفر – الظلمات- إلى الإيمان –النور، وأن الذين كفروا بالعكس قد انتقلوا من الإيمان إلى الكفر ؛ فكان لابد من التأول في الآية بتخصيص العام ( الذين ءامنوا )، و( الذين كفروا) ، أو بحمل الإخراج على غير ظاهره لأن هناك من المؤمنين –ولا بد- من ولد من أبوين مسلمين ونشا مسلما فلم يُسبق إيمانه بكفر، كماأن هناك من الكفار كثيرون لم يسبق كفرهم بإيمان، ثم إن تتبع طرائق العلماء في تأولهم للآية يطول، ويكفي هنا أن نبين أن المؤلف تأول لفظ الإخراج في المرتين(يخرجهم)، و(يخرجونهم) فحمله على المجاز وهو هنا مجاز لغوي علاقته المشابهة ، فهو على هذا استعارة ، وهي استعارة تصريحية تبعية حيث صرح بلفظ المستعار منه وهو الإخراج ، كما أن الاستعارة وقعت في الفعل لا في المصدر ، وقد مر بيان كل هذه المصطلحات في الشرح، ويمكن أن يقال في إجراء هذه الاستعارة: شبه المنع من الدخول بالإخراج بجامع عدم البقاء في المكان في كل ثم حذف لفظ المشبه (المنع) وأبقي المشبه به(الإخراج) ثم استعير من المصدر ( الإخراج) الفعل المضارع (يخرج ) على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
ويظهر الجمال في الاستعارة هنا في أن التعبير بالإخراج رغم أنه لم يقع دخول أصلا يشعر –في جانب المؤمنين- بشدة دواعي الوقوع في الظلمات والدخول فيها لولا لطف الله ورعايته وعنايته بالمؤمنين حتى كأنه قد وقع فعلاً، كما يشعر في جانب الكفار بشدة دواعي الفطرة والدخول في الأنوار لولا الاستجابة للطواغيت وتوليها ، وكأن الحالتين العجيبتين تذكرنا بمثل قوله تعالى: ( وهديناه النجدين)، وقوله تعالى: ( ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها)، ويزيد التصوير بالتعبير بالمضارع الذي يفيد هنا الاستمرار التجددي مما يشعر أن المنة على المؤمنين متكررة ، والضرر على الكفار متكرر أيضاً، وسيشير المؤلف إلى دلالة المضارع على الاستمرار في آخر الكتاب، بالإضافة إلى ما مر من الطباق بين الكلمتين والذي زاد الكلام حُسْناً.
ولعل القاريء الكريم تنبه إلى أن تأول المؤلف مخالف لما اختاره الإمام الطبري وذكرناه سابقاً، وقد أشار الطبري إلى ما اختاره المؤلف، وجعله احتمالا مرجوحاً في الآية.
الوقفة الثانية: المجاز الثالث في إسناد الإخراج إلى الطاغوت؛ إذ الذي يهدي ويضل هو الله ، وإنما الطاغوت سبب ، وعليه فهو مجاز عقلي علاقته السببية حيث أسند الفعل إلى سببه المباشر له وهو الطاغوت، وفي هذا تحذير عظيم من الخطر الطاغوت حتى جعل وكأنه الفاعل الحقيقي للفعل لشدة تأثيره وخطره.
ثالثاً: المجاز الرابع في ( أصحاب النار) ، حيث عبر باسم الفاعل (صاحب) الموضوع في اللغة لــ: (ذات تم تحققها بالوصف) عن وصف سيحصل التلبس به في المستقبل، ونظيره قوله تعالى( وإن الدين لواقع)؛ فهو مجاز مرسل علاقته المستقبلية، وفائدته الإشعار بأن مصاحبتهم للنار –والعياذ بالله – أمر متحقق الوقوع ، فهم وإن لم يصاحبوها بعد إلا أنهم في حكم من قد صاحبها.
هذا، وقد اعترض المؤلف في كتابه شرح عقود الجمان على اعتبار التعبير باسم الفاعل عن الأمر المستقبل مجازا ، وانظر الاعتراض والرد عليه في شروح التلخيص.
رابعاً: المجازات من الخامس إلى الثامن ، وهي كلمة (الظلمات ) مرتين ، و (النور) مرتين، وقد مر بيان أن ههنا طباقاً ، ومضى الحديث عن شيء من الجمال والتصوير فيه من جهة كونه طباقا بما فيه من تضاد تتميز به المتضادات، أما المجاز المشار إليه في هذه المواضع فهو من باب الاستعارة لأن العلاقة بين الكفر والظلمات، وكذا بين الإيمان والنور هي المشابهة؛ فهو مجاز لغوي علاقته المشابهة، وهي استعارة تصريحية أصلية حيث صرح بالمستعار منه ( الظلمات والنور) وهما أسماء جامدة ولذلك قلت إنها استعارةأصلية، ،ويظهر جمال هذه الاستعارة العجيبة في نقلها للمعاني الذهنية ( الإيمان ) و(الكفر) وتصويرها في صورة المحسوس الذي يعرفه كل ذي عينين، فالظلمات أمر مخيف مجهول العواقب لا يأنس به أحد، والنور أمر محبوب لكل النفوس يعطيها الأمل والطمأنينة، والأمن من كل خوف.
وبهذه المجازات الثمانية يكون مجموع المحسنات التي ذكرها المؤلف حتى هذا الموضع تسعة عشر محسناً، والله أعلم، وصلى على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم.
 
أحب أن أذكِّر أن هذا الشرح محل أخذ ورد ، وهو محض اجتهاد مني لعدم وجود شرح للكتاب في حدود علمي، وإني لأفرح جدا بأي ملاحظة أو مدارسة تفيد في فهم هذه الآية الكريمة بلاغياً، والله أعلم.
 
شرح فتح الجليل ( الدرس السابع):
قال السيوطي -رحمه الله-:
وفيه التقديم و التأخير في ثلاثة مواضع؛ أحدها: أنه قدم في الجملة الأولى الجلالة وفي الثانية "الذين كفروا" ولم يقدم "الطاغوت" حذرا من جعله مقابلا لله، فإنه أحقر من ذلك.
والثاني أنه: قدم الاسم الكريم على الولي، فجعله مبتدأ وأخبر عنه بالولي، وقدم "أولياءهم" على "الطاغوت" فجعل الأولياء مبتدأ وأخبر عنه بالطاغوت، للإشارة إلى أن الطاغوت شيء مجهول، تحقيرا له. فإن القاعدة النحوية: جعل الأعرف مبتدأ، و الأخفى خبراً.
الثالث: قدم "فيها" على "خالدون" مراعاة للفاصلة.
أشار المؤلف هنا إلى ثلاثة مواضع في الآية وقع فيها تقديم وتأخير، و مما ينبغي التنبيه عليه أن متأخري البلاغيين –أتباع مدرسة السكاكي- لا يهتمون -غالباً- بالتقديم إلا إذا كان تقديماً لما حقه التأخير، خلافا للمفسرين المعتنين بالبلاغة، والمؤلفين في علوم القرآن فإنهم نظروا إلى التقديم والتأخير نظرة أوسع بكثير، ثم إن مبحث التقديم له أهمية كبيرة في البلاغة ، وقد كتب فيه عبدالقاهر الجرجاني بحثا مطولا يستحق المراجعة بل الدراسة ضمن كتابه دلائل الإعجاز، ومفهوم التقديم والتأخير في كلام المؤلف هنا جارٍ على طريقة المفسرين بدليل أنه ذكر ثلاثة مواضع متنوعة للتقديم:
الموضع الأول: نظر فيه إلى التقديم في الجملتين المتقابلتين فوجد أن المتقدم في الجملة الأولى(الله) قد تأخر ما جُعل مقابلاً له في الجملة الثانية(الطاغوت)، وأن المتأخر في الجملة الأولى(آمنوا) قد قُدم مقابله في الجملة الثانية(كفروا) ؛وذلك كي لايكون الطاغوت – ولو في الذكر –مقابلا لله لأن الطاغوت أحقر من ذلك، وهو ملحظ لطيف للغاية ، يدلنا على بلاغة القرآن من جهة، كما يربينا من جهة أخرى على مراعاة عدم المساواة بين المذكورين على جهة المقابلة إذا كان بينهما تباين في المنزلة، ويبغي للمؤمن أن يكون مرهف الحس في مثل هذا الأمر فلا يرمي بكلامه جزافاً دون مراعاة لمنازل من يذكرهم في كلامه، بل ينبغي أن يعم هذا غير الأقوال من التصرفات والمعاملات، وكثيرا ما يُغفل عن مثل هذا فتخرج من الإنسان –عن غير قصد- عبارات غير لائقة سواء في حديثه عن الله جل جلاله أو الأنبياء أو العلماء أو غيرهم ممن لهم منزلة معتبرة شرعا أو عرفاً، ومثل هذه النظرة إلى التقديم على مستوى الجملتين ليس محل عناية كتب البلاغة المتأخرة كما أشرت، والله أعلم.
ويمكن أن يضاف إلى ما ذكره المؤلف أن تقديم لفظ الجلالة وجعله أول كلمة في الآية حصلت به أمور:
1/الربط الشديد بآية الكرسي التي عرفت بالله؛ فكانت أول كلمة في هذه الآية مذكرة بالله الذي حصل التعريف به هناك فامتلأت القلوب بتعظيمه؛ فكان في هذه الكلمة تجديدٌ لذلك التعظيم .
2/ما يحصل في الآية المبدوءة بهذا الاسم العظيم (الله) من لفت للانتباه وهيبة في القلوب ، ونظير هذه الآية في البدء بلفظ الجلالة كثير.
تنبيه: قول المؤلف : " حذراً من جعله..." الخ فيما يظهر لي غير مناسب إذ أنه نسب الحذر للمتكلم بالقرآن وهو الله –سبحانه وتعالى-، ولو قال : "كي لا يجعل " لخرج من الإشكال، والله أعلم.
الموضع الثاني: نظر المؤلف مرة أخرى إلى التقديم في الجملتين المتقابلتين فوجد أن لفظ الجلالة في الجملة الأولى قد جعل مبتدأ وأخبر عنه بأنه ولي الذين آمنوا، بينما تقدم لفظ أولياء –المقابل لولي- في الجملة الثانية فجعل مبتدأ وجعل الطاغوت خبراً، وبما أن من المعلوم في النحو أن الأعرف يكون مبتدأ والأخفى الأقل في المعرفية يكون نكرة؛ فكأن الآية تشير إلى أن الطاغوت خفي لا يعرف وفي هذا تحقير له كما لا يخفى، هذا ما ذكره المؤلف وهو جيد، ويمكن أن يضاف إليه أن لفظ الجلالة هو أعرف المعارف –كما هو معلوم- ، فكأن الآية تقول وليكم معروف بل هو الأعرف ، وطاغوتهم خفي حقير لا يكاد يعرف، وهذا كله يستلزم تعظيم الله وأن كل ما يعيد سواه حقير .
وبهاتين النظرتين من المؤلف يزداد تعظيم الله في قلوب المؤمنين، كما يزداد تحقير الطاغوت وعدم الالتفات إليه وهذا كله يتناسب مع مقصود الآية ضمن سياقها المشار إليه فيما سبق أكثر من مرة.
الموضع الثالث: تقديم الجار والمجرور( فيها ) على الخبر (خالدون) ، وهو تقديم لما حقه التأخير، وهو الذي يهتم به متأخرو البلاغيين –عادة-، وقد أشار المؤلف إلى سره وهو مراعاة الفاصلة، وكون مراعاة الفاصلة نكتة بلاغية تستقل بالتعليل لإظهار بلاغة تركيبٍ ما مسألة فيها خلاف طويل؛ فبعض العلماء يرى أن مراعاة الفاصلة نكتة مستقلة معروفة في الكلام البليغ فيمكن أن يكتفى في الكلام على التقديم أو غيره بأن يقال إنه جاء لمراعاة الفاصلة، بينما يذهب آخرون إلى أنه لابد مع هذه النكتة اللفظية من نكتة أخرى معنوية، وقد ألفت بعض الكتب المعاصرة لنصرة هذا القول، مع أن ظاهر صنيع إمام المفسرين الإمام الطبري-رحمه الله-، وهو منصوص العلامة ابن عاشور –رحمه الله- أن مراعاة الفاصلة نكتة كافية، والله أعلم.
وقد يعلل بعض المفسرين في مثل هذا التقديم بأنه للاهتمام لكن هذا التعليل غير كاف ، فلابد لمن قال إن التقديم للاهتمام من بيان وجه الاهتمام بالنظر إلى السياق، وقد مرت الإشارة إلى شيء من هذا في شرح المنظومة عند البيت الرابع والثلاثين، وقد قال شيخ البلاغة عبد القاهر الجرجاني:" وقد وَقعَ في ظنونِ الناسِ أَنَّه يكفي أنْ يقالَ: إِنه قُدِّم للعناية، ولأنَّ ذكْرَه أَهمُّ"، مِنْ غير أن يُذْكَر، مِنْ أين كانت تلك العنايةُ؟ وبمَ كانَ أهمَّ؟ ولِتخيُّلهِم ذلك، قد صَغُر أمرُ التقديمِ والتأخيرِ في نفوسهم، وهَوَّنوا الخَطْبَ فيه، حتى إِنك لتَرى أكثرَهم يَرى تَتبُّعَه والنظرَ فيه ضرباً من التكلُّف، ولم ترَ ظنّاً أَزرى على صاحبهِ من هذا وشبهه"–دلائل الإعجاز: 108-، ومع وجاهة ما ذكر الشيخ وتلقي العلماء له بالقبول لكن يمكن أن يقال إن الاهتمام نكتة عامة يمكن الاكتفاء بها إذا لم يظهر للمتأمل وجه العناية والاهتمام، مع التسليم بوجود أمر في السياق وغيره دعا إلى الاهتمام، وهذا القول وسط يقي من التكلف الذي ينبغي الحذر منه عند الكلام في القرآن ، وعند البحث عن سر الاهتمام في هذه الآية -خصوصاً- نلاحظ أن هناك آيات أخرى كثيرة تتشابه معها مع نوع اختلاف بين تقديم وتأخير( خالدين فيها)(هم فيها خالدون) وبين ذكر للتأبيد (خالدين فيها أبداً) وعدم ذكر له إلى غير ذلك من صور التنوع التي تجعل الكلام فيها متوقفا على استقراء تام لتلك الآيات ، وهذا مما تضيق عنه هذه الصفحات ، فلعل في هذه الإشارة ما يكفي للتنبيه على عدم العجلة في الكلام على الآية بلاغيا قبل نظائرها ومشابهاتها.
وبهذا تبلغ المحسنات التي ذكرها المؤلف اثنان وعشرين محسناً، والله أعلم
وصلى الله وسلم ، على سيد ولد آدم، والحمدلله رب العالمين.
 
شرح فتح الجليل ( الدرس الثامن)
قال الإمام السيوطي:
"وفيها التفنن في ثلاثة مواضع:
أفرد "النور" وجمع "الظلمات" في الموضعين، لأن الإيمان شيء واحد، وطريق الحق واحدة والكفر أنواع والضلالات شتى، والأهواء والبدع متفرقة، وشاهده قوله تعالى: )وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله(، وقوله r: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة منها في الجنة، واثنتان وسبعون في النار"، وأفرد ولي المؤمنين، لأنه واحد وجمع أولياء الكفار لتعدد معبودهم".
الشرح :
ذكر المؤلف هنا محسن التفنن ، ورغم تداول هذه اللفظة في كتب البلاغيين والمفسرين إلا أنني لم أجد من عرفها في الاصطلاح ، ويبدو -بحسب أصل معناه في اللغة - أن المقصود به هو التنويع في الكلام بنحو ما ذكر المؤلف من إفراد وجمع –مثلاً، وقد أشار المؤلف إلى ثلاثة مواضع وقع فيها التفنن:
الموضع الأول والثاني : جاء فيهما إفراد النور وجمع الظلمات، وتعليل المؤلف لهذا التغاير والتفنن ظاهر تؤيده نصوص عدة، وقد نص عليه كثير من أهل العلم كالزركشي في البرهان وابن جماعة في كشف المعاني وغيرهما، ويمكن أن يضاف إلى هذا – والعلم عند الله- أن إفراد النور المشعر بوحدته يجعل قلب المؤمن يبحث عن الحق الواحد الذي تكون به نجاته ، بخلاف جمع الظلمات المشعر بتعددها حيث يزيد من الخوف من الوقوع فيها لكثرة صورها وتعدد الأسباب المفضية إليها.
الموضع الثالث: أفرد فيه ولي الذين آمنوا بينما جمع أولياء الذين كفروا، وتعليل المؤلف له لا يعدو أن يكون تصحيحا لهذا التنوع وأنه جاء موافقا للواقع، ولا ينبغي أن ينتهي كلام البلاغي عند مثل هذا، ويمكن أن يقال –والعلم عند الله- أن كون ولي الذين آمنوا واحداً يطمئن القلوب المؤمنة لأن المرء الذي يتولاه أكثر من واحد يضيع ويتشتت صاحبه؛ فكيف إذا كان الولي الواحد هو الله، ولفظ الجلالة هنا –كما مضت الإشارة – له عظمته وأثره فهو أنسب هنا من أي اسم آخر من أسمائه الحسنى جل في علاه، كما أن أولياء الذين كفروا لو أفردوا لأشعر بتوحدهم، والتوحد يظهر نوع قوة فيهم أو اتحاداً في الرأي –مثلا-، أما الجمع فهو يدل على تفرقهم وتنوعهم ، وهذا التنوع من لوازمه في الغالب التشتت والتفرق المؤدي إلى الضعف، وبهذا تبلغ المحسنات التي ذكرها المؤلف خمسة وعشرين محسناً، والله أعلم ، وصلى الله وسلم ، على سيد ولد آدم، والحمدلله رب العالمين.
ملاحظة: غيرت في نص الكتاب بما في النسخ الأخرى التي أشار إليها المحقق في الهامش حتى يكون الكلام أكثر تناسباً، والله أعلم.
 
جزاكم الله خيرا د محمد نصيف
على هذا الجهد المبارك
أسأل الله أن يتقبله منك وينفع بك
سؤال : هل أتمتم الشرح في موضوع آخر ؟ أم تنوى استكامله هنا بارك الله فيك ؟
 
عودة
أعلى