شرح القرطبي ، أبي العباس لحديث كريب عن ابن عباس في رؤيه الهلال عند تباعد البلاد

إنضم
18/08/2005
المشاركات
506
مستوى التفاعل
10
النقاط
18
العمر
67
الإقامة
مصر
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة و هداية للعالمين و على آله و صحبه أجمعين أما بعد
فقد اختلف الناس – خاصتهم قبل عامتهم – في مشروعية ما سمي ب " توحيد رؤية الأهلة " - بجعل رؤية أهل بلد الهلال ( و بخاصة هلال شهر رمضان ) رؤية معتبرة شرعا لأهل غيره مما تباعد عنه من البلاد ؛ لتوحيد يوم بدء الصوم في كل الأقطار الإسلامية التي تشترك معه في جزء من الليل - و هو ما لا اعتبار له من جهة الشرع ، لمخالفته النص الصحيح و الإجماع الصريح ، على ما قاله الإمام أبي العباس القرطبي فيما سننقله عنه من كتابه " المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " ، و ذلك في شرحه حديث كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما ، و الذي أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " في :

( باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم ، و أنهم إذا رؤا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم ) :

( حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وبن حجر قال يحيى بن يحيى أخبرنا وقال الآخرون حدثنا إسماعيل وهو بن جعفر عن محمد وهو بن أبي حرملة عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال فقلت رأيناه ليلة الجمعة فقال أنت رأيته فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشك يحيى بن يحيى في نكتفي أو تكتفي) .

* * *


* قال الإمام أبو العباس القرطبي في " المفهم " في شرحه الحديث المذكور :

(( و قول ابن عباس : ( فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ، ثم قال في آخره : ( هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ): تصريح برفع ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم ، و بأمره به .فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز أو ما قارب ذلك ، فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره ،
و إن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم ؛ ما لم يحمل الناس على ذلك فلا تجوز مخالفته ؛ إذ المسألة اجتهادية مختلف فيها ، و لا يبقى مع حكم الأمام اجتهاد ، و لا تحل مخالفته .
ألا ترى أن معاوية أمير المؤمنين قد صام بالرؤية و صام الناس بها بالشام ، ثم لم يلتفت ابن عباس [ رضي الله عنهما ] إلى ذلك ، بل بقى على حكم رؤيته هو .

و وجه هذا يعرف من علم الهيئة [ يعني : الفلك ] و التعديل ، و ذلك أنه يتبين فيها : أن ارتفاعات الأقاليم مختلفة ؛ فتختلف مطالع الأهلة و مغاربها ، فيطلع الهلال ، و يغرب على قوم قبل طلوعه و غروبه على آخرين . و على هذا : فلا يظهر تأثير هذا إلا فيما بعد جدا ، لا فيما قرب . و الله تعالى أعلم .
و إلى ذلك صار ابن عباس ، و سالم ، و القاسم ، و عكرمة . و به قال إسحاق . و إليه أشار الترمذي ؛ حيث بوّب ( لأهل كل بلد رؤيتهم ) .
و حكى أبو عمر بن عبد البر : الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالأندلس من خراسان ،
قال : و لكل بلد رؤيتهم ، إلا ما كان كالمصر الكبير ، و ما تقاربت أقطاره من بلاد المسلمين )) .

قلت [ القرطبي ] : و هذا الإجماع الذي حكاه أبو عمر يدل : على أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنما هو فيما تقارب من البلاد ؛ و لم يكن في حكم القطر الواحد . و نحن نذكره إن شاء الله :
قال ابن المنذر : اختلف في الهلال يراه أهل بلد و لا يراه غيرهم :
فقال قوم : لأهل كل بلد رؤيتهم ، و ذكر من تقدم ذكر أكثرهم .
و قال آخرون : إذا ثبت أن أهل بلد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا . و هو قول الليث ، و الشافعي ، و أحمد . و لا أعلم إلا قول المزني ، و الكوفي .

- و قال شيوخنا : إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ، ثم نقل إلى غيرهم بشهادة شاهدين لزمهم الصوم . و قال عبد الملك : أما ثبوته بالشهادة فلا يلزم فيها الصوم إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة ، إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم الصيام .
و علل هذا : بأن البلاد كلها كبلد واحد ؛ إذ حكمه نافذ في الجميع .

قلت [ القرطبي ] : هكذا وقع نقل المشايخ لهذه المسألة ، لم يفرقوا بين البعيد و القريب من الأقاليم . و الصواب : الفرق ؛ بدليل الإجماع الذي حكاه أبو عمر ، فيحمل إطلاق المشايخ على البلاد المتقاربة . و الله أعلم . )) . انتهى


و نقله
د . أبو بكر عبد الستار خليل
غفر الله له و لآله


•----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* من كتاب " المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " ، للإمام أبي العباس القرطبي [ 578 – 656 هج ] ، ( كتاب الصوم ) ، ( باب لأهل كل بلد رؤيتهم عند التباعد ) ، جزء 3 ، صفحة 142 ، 143 ، 144 ، الطبعة الثانية ، 1420 ه – 1999 م ، دار ابن كثير ، دمشق – بيروت .


* * *

- و سأذكر هنا ما قاله تلميذه الإمام أبو عبد الله القرطبي (ت 671 هـ) في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " ؛ توكيدا لما قاله سلفه آنفا ؛ لشهرته عنه عند المعاصرين من عموم الناس ، و سنلحظ تشابه بل تطابق الكلامين ، و لا عجب في ذلك ؛ إذ القرطبي الثاني تلميذ للقرطبي الأول الذي هو شيخه .

• * من تفسير الجامع لاحكام القران/ القرطبي

________________________________________

قوله تعالى :

{ شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . [ اليقرة : 185 ] .
....
...
(( المسألة السادسة: وٱختلفوا إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد؛ فلا يخلو أن يَقْرُب أو يبعد، فإن قرب فالحكم واحد، وإن بَعُدَ فلأهل كل بلد رؤيتهم؛ روي هذا عن عِكرمة والقاسم وسالم، وروي عن ٱبن عباس، وبه قال إسحٰق، وإليه أشار البخاريّ حيث بوّب: «لأهل كل بلد رؤيتهم». وقال آخرون. إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد قد رأَوْه فعليهم قضاء ما أفطروا؛ هكذا قال الليث بن سعد والشافعيّ. قال ٱبن المنذر: ولا أعلمه إلا قول المُزَنيّ والكوفي.

قلت: ذكر الكِيَا الطبري في كتاب «أحكام القرآن» له: وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلد ثلاثين يوماً للرؤية، وأهل بلد تسعةً وعشرين يوماً أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوماً قضاء يوم. وأصحاب الشافعي لا يرون ذلك؛ إذ كانت المطالع في البلدان يجوز أن تختلف. وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى: { وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ } وثبت برؤية أهل بلد أن العدّة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها. ومخالفهم يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " الحديث، وذلك يوجب ٱعتبار عادة كل قوم في بلدهم. وحكى أبو عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بَعُد من البلدان كالأندلس من خراسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين. روى مسلم عن كُرَيب أن أمّ الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدِمت الشام فقضيت حاجتها وٱستُهِل عليّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدِمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيتَه؟ فقلت نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنّا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نُكمل ثلاثين أو نراه. فقلت:

أو لا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال علماؤنا: قول ٱبن عباس «هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» كلمة تصريح برفع ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وبأمره. فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته بدون رؤية غيره، وإن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم، ما لم يحمل الناسَ على ذلك، فإن حَمل فلا تجوز مخالفته.
وقال الكِيا الطبري: قوله «هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» يحتمل أن يكون تأوّل فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وقال ٱبن العربي: «وٱختلف في تأويل (قول) ٱبن عباس (هذا)؛ فقيل: ردّه لأنه خبر واحد، وقيل: ردّه لأن الأقطار مختلفة في المطالع؛ وهو الصحيح، لأن كُرَيْباً لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم الثابت أنه يجزى فيه خبر الواحد. ونظيره ما لو ثبت أنه أهلّ ليلة الجمعة بأَغْمات وأهّل بأشبِيلية ليلة السبت فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم؛ لأن سُهَيلا يُكشف من أَغْمات ولا يُكشف من أشبيلية؛ وهذا يدل على ٱختلاف المطالع».

قلت: وأما مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة فروى ٱبن وهب وٱبن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء. وروى القاضي أبو إسحٰق عن ٱبن الماجشون أنه إن كان ثبت بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل له فإنه يلزم غيرهم من أهل البلاد القضاء، وإن كان إنما ثبت عند حاكمهم بشهادة شاهدين لم يلزم ذلك من البلاد إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته، أو يكون ثبت ذلك عند أمير المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين. قال: وهذا قول مالك. )) .
انتهى



===============================
ملحوظة :
وقعت زيادة في كتابة العنوان ؛ بنسخ كلمة ( بسم الله ) مع العنوان ، و قد حاولت الاستدراك فلم أتمكن منه ؛ فأود مراعاته و حذفها من جانب الأخ المشرف .
 
و لكي ينضبط الكلام فيما نقل من إجماع عن الإمام ابن عبد البر - حافظ المغرب الكبير ، ت 463 ه - ينبغي علينا نقل أصل كلامه ذاك من كتابه " الاستذكار " ، قال رحمه الله :
[ واختلف العلماء في حكم هلال رمضان أو شوال يراه أهل بلد دون غيرهم :

فكان مالك - فيما رواه عنه بن القاسم والمصريون - : إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد رأوه فعليهم القضاء لذلك اليوم الذي أفطروه وصيامه غيرهم برؤية صحيحة .
وهو قول الليث والشافعي والكوفيين وأحمد
وروى المدنيون عن مالك - وهو قول المغيرة وبن دينار وبن الماجشون - : أن الرؤية لا تلزم غير أهل البلد الذي وقعت فيه إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك .
أما الاختلاف الأعمال والسلاطين فلا إلا في البلد الذي رأى فيه الهلال ، وفي عمله هذا بمعنى قولهم
وروي عن بن عباس أنه قال لكل قوم رؤيتهم .
وبه قال عكرمة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وإليه ذهب بن المبارك وإسحاق بن راهويه وطائفة .
قال أبو عمر : حجة من قال بهذا القول ما أخبرنا به أبو محمد عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو بكر محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا إسماعيل بن جعفر قال حدثني محمد بن أبي حرملة قال أخبرني كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني بن عباس ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال قلت رأيته ليلة الجمعة قال أنت رأيته قلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية قال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصومه حتى نكمل الثلاثين أو نراه فقلت أفلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه قال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب النسوي قال أخبرنا علي بن حجر قال أخبرنا إسماعيل بن جعفر قال حدثنا محمد بن أبي حرملة قال أخبرني كريب أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل علي هلال رمضان وذكر رمضان الحديث سواء كما تقدم لأبي بكر
قال أبو عمر : قد أجمعوا أنه لا تراعى الرؤية فيما أخر من البلدان كالأندلس من خراسان وكذلك كل بلد له رؤيته إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلاد المسلمين والله أعلم ] .
انتهى

* * *

و في كتابه " مجموع الفتاوى " لم ينكر ابن تيمية هذا الإجماع الذي ذكره ابن عبد البر :
( وقال رحمه الله :
( فصل مسألة رؤية بعض البلاد رؤية لجميعها ) : فيها اضطراب ، فانه قد حكى ابن عبد البر الاجماع على ان الاختلاف فيما يمكن اتفاق المطالع فيه فاما ما كان مثل الاندلس وخراسان فلا خلاف انه لا يعتبر . قلت أحمد اعتمد فى الباب على حديث الاعرابى الذي شهد انه اهل الهلال البارحة فامر النبى الناس على هذه الرؤية مع انها كانت فى غير البلد وما يمكن ان تكون فوق مسافة القصر ولم يستفصله ، وهذا الاستدلال لا ينافى ما ذكره ابن عبد البر ، لكن ما حد ذلك . وأما الهلال فطلوعه ورؤيته بالمغرب سابق لانه يطلع من المغرب وليس فى السماء ما يطلع من المغرب غيره ...] .
انتهى
 
عودة
أعلى