شرح الشاطبية

إنضم
12/08/2005
المشاركات
84
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد

في أثناء تصفحي على الشبكة وجدت هذا الشرح البسيط للشاطبية فأردت أن يعم النفع بأذن الله علما بأن البيت رقم 31 لم يكن مشروحا فنقلته من الوافي شرح الشاطبية واني أرجو من أصحاب الفضل وأهل العلم أن يستكملوا هذا الشرح على نفس الطريقة وذلك لسهولته والسلام عليكم ورحمة الله


بسم الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

خطبة الكتاب


(1)
بَدَأْتُ بِبِسْمِ اْللهُ فيِ النَّظْمِ أوَّلاَ *** تَبَارَكَ رَحْمَاناً رَحِيماً وَمَوْئِلاَ

( بَدَأْتُ بِبِسْمِ اْللهُ ) وهذا تيمنا بالبسملة التي بُدِأت بها آيات سور القرآن الكريم، وبُدِأ بها كلام ربنا جل وجلاله.
( فيِ النَّظْمِ ) أي هذه المنظومة.
( تَبَارَكَ رَحْمَاناً رَحِيماً ) أثنى الإمام الشاطبي -رحمه الله- على الله تعالى بما يليق بجلاله من أسمائه وصفاته، وخيرها "الرحمن" و"الرحيم".
( وَمَوْئِلاَ ) أي مرجعا يرجع إليه السائلون بأسئلتهم، وأصحاب الحاجة بحاجاتهم موئل.

(2)
وَثَنَّيْتُ صَلَّى اللهُ رَبِّي عَلَى الِرَّضَا *** مُحَمَّدٍ الْمُهْدَى إلَى النَّاسِ مُرْسَلاَ

( وَثَنَّيْتُ صَلَّى اللهُ رَبِّي ) أي بعد ما بدأت بالبسملة ثَنَّيت بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
( عَلَى الِرَّضَا ) أي الذي ارتضاه الله عز وجل لنبوته، أن يكون نبي هذه الأمة.
( مُحَمَّدٍ الْمُهْدَى ) أي جعله الله بمثابة الهدية الربانية لهذه الأمة، خير نبي أُرسِل لخير أمة، نزل عليه خير كتب.
( إلَى النَّاسِ مُرْسَلاَ ) أرسله الله بهذه الرسالة للناس جميعا، و"الناس" هنا تدل على أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للناس كافة، قال الله تعالى:" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ "[سبأ:28].

(3)
وَعِتْرَتِهِ ثُمَ الصَّحَابَةِ ثُمّ مَنْ *** تَلاَهُمْ عَلَى اْلإِحْسَانِ بِالخَيْرِ وُبَّلاَ

▪ ( وَعِتْرَتِهِ ) والعِترة هم الأهل والأدنون والعشيرة وذوي القربى، عترة النبي صلى الله عليه وسلم.
▪ ( ثُمَ الصَّحَابَةِ ) بشكل عام، ومن السنة أن يقول الإنسان:( اللهم صل على محمد وآله وأصحابه أجمعين ).
▪ ( ثُمّ مَنْ تَلاَهُمْ عَلَى اْلإِحْسَانِ ) أي من تبِعهم بإحسان، قال تعالى:" وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ "[التوبة:100].
▪ ( بِالخَيْرِ وُبَّلاَ ) الوُبَّل مأخوذ من الوابل وهو المطر الغزير الكثيف الذي يروي الأرض.
فهنا يترضى على الأصحاب وعلى من اتبعهم واتبع الخير العظيم الذي جاؤوا به.

(4)
وَثَلَّثْتُ أنَّ اْلَحَمْدَ لِلهِ دائِماً *** وَمَا لَيْسَ مَبْدُوءًا بِهِ أَجْذَمُ الْعَلاَ

▪ ( وَثَلَّثْتُ أنَّ اْلَحَمْدَ لِلهِ ) ثم رجع بعد ذلك -رحمه الله- بالحمد، بدأ بالبسملة ثم بالحمدلة.
وسَوَّغ هذا الأمر وعلله بقوله:
▪ ( وَمَا لَيْسَ مَبْدُوءًا بِهِ أَجْذَمُ الْعَلاَ ) فيه إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم:[ كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بالحمد فهو أجذم ]، والأجذم معناه المقطوع، وأصيب بالجذام أي المرض الذي يأكل الأطراف ومنهم من قال أنه مرض جلدي.
به: هنا الضمير يعود على الحمد.
أجذم العلا: أي أعلاه مقطوع، والحمد تكون في أعلى الشيء.


(5)
وَبَعْدُ فَحَبْلُ اللهِ فِينَا كِتَابُهُ *** فَجَاهِدْ بِهِ حِبْلَ الْعِدَا مُتَحَبِّلاَ

▪ ( وَبَعْدُ فَحَبْلُ اللهِ ) بيان أن كتاب الله هو حبل الله، وقد جاءت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم:[ هو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله... ].
الحبل: لغة هو السبب، قال تعالى:" فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء "[الحج:15].
▪ ( فِينَا كِتَابُهُ ) وكأن هذا الكتاب هو سبب رِفعة الأمة وعزتها وكرامتها، وهذا معنى قول الله تعالى:" لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ "[الأنبياء:10].
▪ ( فَجَاهِدْ بِهِ حِبْلَ الْعِدَا )
الجهاد: من المجاهدة بالنفس، للأعداء، وصاحب القرآن في مجاهدة دائمة.
الحِبل: من الحبائل، حبائل الشيطان وهي المكائد.
▪ ( مُتَحَبِّلاَ ) أي متمسكا به، فإذا تمسكت به فإن مكائد الأعداء تزول، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول:[ تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وسنتي ].

(6)
وَأَخْلِقْ بهِ إذْ لَيْسَ يَخْلُقُ جِدَّةً *** جَدِيداً مُوَاليهِ عَلَى الْجِدِّ مُقْبِلاَ

▪ ( وَأَخْلِقْ بهِ ) أخلق من صيغ التعجب: أي ما أجدره أن يكون خليقا لأنه صاحب القرآن.
وأخلق بالقرآن أي أَعْظِم به للجهاد والتمسك.
▪ ( إذْ لَيْسَ يَخْلُقُ جِدَّةً ) {يخلُق} أو {يخلَق} من الشيء الخَلِق أي البالي، وفتح اللام الأقرب إلى الصواب.
جِدَّة: أي دائما متجدد.
▪ ( جَدِيداً مُوَاليهِ عَلَى الْجِدِّ مُقْبِلاَ ) المقصود به أنه لا يَبِلى حال أن هذا القرآن الكريم سمي ورفيع المكانة وعالي المقام، وكل من والاه وصافاه فهو مستقرّ في نفس المنزلة.
مواليه: أي من يكون مواليا له.
مقبلا: مقبل عليه يعرف الخير الذي فيه، فصاحب القرآن يأخذه قراءة وعلوما وعملا وتطبيقا وخُلُقا، ويشير بذلك إلى قول الله تعالى:" وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ "[العنكبوت:69]، وكذلك قوله تعالى:" فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ "[الروم:60].


(7)
وَقَارِئُهُ الْمَرْضِيُّ قَرَّ مِثَالُهُ *** كاَلاتْرُجّ حَالَيْهِ مُرِيحًا وَمُوكِلاَ

▪ ( وَقَارِئُهُ الْمَرْضِيُّ قَرَّ مِثَالُهُ ) هذا القارىء للقرآن الكريم استقر مثاله فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم كالاترج.
▪ ( كاَلاتْرُجّ ) ولعله يشير بذلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:[ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الاترجة ريحها طيب وطعمها طيب... ].
▪ ( حَالَيْهِ مُرِيحًا وَمُوكِلاَ ) فالاترجة بالحالتين لذيذة الطعم شهية المذاق، بالحالتين هي خيِّرة طيب المذاق والرائحة.
فحامل القرآن في داخله خير وفي ظاهره خير


(8)
هُوَ الْمُرْتَضَى أَمًّا إِذَا كَانَ أُمَّهً *** وَيَمَّمَهُ ظِلُّ الرَّزَانَةِ قَنْقَلاَ

▪ ( هُوَ الْمُرْتَضَى ) هي المحمودة السجايا.
▪ ( أَمًّا إِذَا كَانَ أُمَّهً ):
أمّا: بفتح الهمزة، القصد، أَمَّه يأمه أمّا، أي الذي يقصده الناس.
فحامل القرآن أمة لأنه جمع خصال الخير، ولهذا أثنى الله على نبيه إبراهيم عليه السلام:" إِِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ "[النحل:120].
▪ ( وَيَمَّمَهُ ظِلُّ الرَّزَانَةِ قَنْقَلاَ ) هذا البيت من الصفات التي فيها الانعكاس، الإنسان يذهب إلى الرزانة والخير، ولكن قال بل العكس الرزانة والخير والرجاح هي التي أمَّمته وجاءت تطلبه وتخطبه.
الرزانة: هي رجاحة العقل وفصاحة الفكر.
القنقل: هو كثير الرمل والكبير، فكأن هذه الأشياء الخيرة هي التي تُقبِل عليه، فهذه دلالة على عظم صاحب وحامل القرآن.

(9)
هُوَ الْحُرُّ إِنْ كانَ الْحَرِيّ حَوَارِياً *** لَهُ بِتَحَرّيهِ إلَى أَنْ تَنَبَّلاَ

هنا المؤلف -رحمه الله- يريد أن يعطي صفة جديدة لحامل القرآن الكريم أنه حر، لم تستعبده الدنيا ولم تَسْتَرِقُّهُ الأهواء، وكأنه الخبر الذي يريد من خلاله الأمر كأنه يقول: أنت ينبغي أن تكون هكذا إذا أردت أن تكون من أهل القرآن الكريم، تتحرى الخير ودقائق هذا العلم وما فيه من كنوز عظيمة جدا مكنونة.
حواري: هو الصاحب المخلص، كما قال الله تعالى:" يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ "[الصف:14]، وهنا في الأصل مشددة وما خُففت إلا لضرورة الشعر.
له: للقرآن الكريم.
بتحريه: ومتابعة ما فيه من استخراج مكنونه.
إلى أن تنبلا: أي إلى أن يكون نبيلا أو إلى الموت، ولا حرج من أن يُراد بها كلا المعنيين، ولذلك صاحب القرآن في ازدياد مستمر من العلم والخير والرقي والأجر والثواب.

(10)
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ *** وَأَغْنى غَنَاءٍ وَاهِباً مُتَفَضِّلاَ

▪ ( وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ ) فيه إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:[ إقرؤوا القرآن، فإنه يجيء يوم القيامة شفيعا لأصحابه ].
أَوْثَقُ شَافِعٍ: أي أكثر ما يشفع للناس القرآن.
▪ ( وَأَغْنى غَنَاءٍ وَاهِباً مُتَفَضِّلاَ )
وَأَغْنى غَنَاءٍ: أي أكثر غنى، وأغنى من أفعال التفضيل، فالقرآن يعني عن غيره ولا يغني عنه غيره.
وَاهِباً مُتَفَضِّلاَ: أي أكثر شيء هِبة تفضلا منه بهذا القرآن على صاحبه.
من الذي يهبه له ؟:
من حيث الأجر والثواب، قال صلى الله عليه وسلم:[ أتلوه فإن الله يأجركم عليه بكل حرف عشر حسنات، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ].

(11)
وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يَمَلُّ حَدِيثُهُ *** وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً

وَخَيْرُ جَلِيسٍ: وخير جليس في الزمان القرآن وهو خير الكلام، وعندما أقرأ القرآن أجالس الله، وهذا فيه أثر:(( لمن يحب أن يخاطب الله فليدخل في الصلاة، ومن يحب أن يخاطبه الله فليقرأ القرآن )).
لاَ يَمَلُّ: سماعه وعلى كثرة قراءته.
وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً: أي يزداد فيه الفتى تجملا، فإن قراءة القرآن تزيد صاحبها جمالا على جماله، أو ترداد القرآن يزداد تجملا وإشراقا وعطاء.

(12)
وَحَيْثُ الْفَتى يَرْتَاعُ فيِ ظُلُمَاتِهِ *** مِنَ اْلقَبرِ يَلْقَاهُ سَناً مُتَهَلِّلاً

هذه الأبيات فيها بيان عظمة القرآن الكريم، فخيره وفضله ليس في الدنيا فقط:
يَرْتَاعُ فيِ ظُلُمَاتِهِ مِنَ اْلقَبرِ: فظلمة القبر لا ينيرها إلا القرآن الكريم، يرتاع ويفزع فإذا بالقرآن يأتيه، وهذا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:[ يأتي القرآن صاحبه في القبر فيقول: تعرفني ؟ فيقول: ما أعرفك ] وفي بعض الروايات:[ يأتيه كالرجل الشاحب المصفر، فيقول: أنا القرآن أسهرتك في الظلمات...، فيدافع عنه ويمنع عنه عذاب القبر ].
وبعضهم يقول هو نور ليس في ظلمة القبر وحدها بل في كل ظلمة.
سَناً مُتَهَلِّلاً: أي يأتيه سنًا، والسنًا نور، نقول سناء ولكن الهمزة سقطت هنا لضرورة الشعر.
والمتهلل الوجه هو الباش، وتهلل وجه إذا بُشّ وسُرّ، والقرآن الكريم هو المسلي حين الوحدة.




(13)
هُنَالِكَ يَهْنِيهِ مَقِيلاً وَرَوْضَةً *** وَمِنْ أَجْلِهِ فِي ذِرْوَةِ الْعِزّ يُجْتَلَى

يَهْنِيهِ: أي يهنأ بمقيله وروضته التي هي روضة من رياض الجنة، وهذا أيضا إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم:[ القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ]، أي هنيئا له هذا المقيل القائلة التي هي الاستراحة.
وَمِنْ أَجْلِهِ: صحبته للقرآن الكريم يكون في ذروة العز.
ذِرْوَةِ: ذروة الأمر أي أعلاه.
أي هذا الإنسان القارىء للقرآن يرفعه الله درجات العلا في الدنيا وفي الآخرة، وهذا حديث للنبي صلى الله عليه وسلم:[ يُقال لصاحب القرآن إقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها ].

(14)
يُنَاشِدُ في إرْضَائِهِ لحبِيِبِهِ *** وَأَجْدِرْ بِهِ سُؤْلاً إلَيْهِ مُوَصَّلاَ

يُنَاشِدُ في إرْضَائِهِ لحبِيِبِهِ: القرآن الكريم يكون لصاحبه وحبيبه هذا نِعْم المدافع والمستنجِد له، ويطلب بشدة، والمناشدة هي الطلب في إلحاح.
وَأَجْدِرْ بِهِ سُؤْلاً إلَيْهِ مُوَصَّلاَ: إذا كان القرآن يطلب من الله والقرآن كلام الله، فلا شك أن الله يستجيب هذا الطلب للقرآن الكريم.


(15)
فَيَا أَيُّهَا الْقَارِى بِهِ مُتَمَسِّكاً *** مُجِلاًّ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلا

( فَيَا أَيُّهَا الْقَارِى بِهِ مُتَمَسِّكاً ) يبدأ الإمام الشاطبي -رحمه الله- بنداء على القارىء الذي تمسك بالقرآن الكريم، وكأنها إشارة من الإمام -رحمه الله- للقارىء القرآن أن يحرص على التمسك بما في القرآن الكريم.
كما يقول العلماء: حتى تكون القراءة مقبولة مرضية عند الله سبحانه أن يحفظ الحروف والحدود.
بِهِ مُتَمَسِّكاً: يقول العلماء: إذا تقدم الجار على المجرور أفاد الاختصاص.
به متمسكا لا بغيره.
( مُجِلاًّ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلا ) هذه الأوصاف التي أعطانا إياها الإمام -رحمه الله- لصحاب القرآن الكريم مُجِلا للقرآن، ويكون الإجلال له والتعظيم والتبجيل إنما يكون كما وصف لنا بعض سلف هذه الأمة: أن حامل القرآن حامل راية الإسلام، فلا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، وأن يترفع عن محقرات الأمور، وأن يعظم القرآن الذي في صدره.
فِي كُلِّ حَالٍ: فحال صاحب القرآن مع القرآن هي حال القرآن في الحقيقة.


بعد هذا الخطاب وهذه الأوصاف التي طلب الناظم -رحمه الله- من صاحب القرآن أن يتحلى بها، أعطاه بعد ذلك وهنأه المقام والقربى من الله سبحانه وتعالى:
(16)
هَنِيئاً مَرِيئاً وَالِدَاكَ عَلَيْهِما *** مَلاَبِسُ أَنْوَأرٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلاْ

( هَنِيئاً مَرِيئاً ) هنا وصفان، العلماء قالوا: إما أن يكون منصوبات على المفعولية ( صادفت هنيئا مريئا وخيرا كثيرا )، وإما أن يكون على الحالية ( حال كونك هنيئا مريئا ).
قد يكونان صفتان لمصدر مقدر.
أي أن الله سبحانه يُهنيه ويعيش عيشة كريمة، والتي فيها الكمال البشري.
ثم بعد ذلك يقول له أن هذا الخير لا يبقى عندك وحدك، بل يتعدى لوالديك:
( وَالِدَاكَ عَلَيْهِما مَلاَبِسُ أَنْوَأرٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلاْ ) وهذا يتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أبو داود -رحمه الله-:[ من قرأ القرآن وعمل بما فيه أُلْبِس والداه تاجا يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا، فما ظنكم بالذي يعمل بهذا ].

(17)
فَما ظَنُّكُمْ بالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ *** أُولئِكَ أَهْلُ اللهِ والصَّفَوَةُ المَلاَ

( فَما ظَنُّكُمْ بالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ ) أخذ اللفظة النبوية، أي إذا كان الوالدان هذا شأنهما، ولذلك في بعض الآثار الأخرى يقول:( ويكسيان حلة لا تقوم لها الدنيا فيقولان: يا رب بما كُسينا هذا ؟ فيقول جل جلاله: بأخذ ولدكما القرآن )، فهذا التكريم لذلك اليوم للوالدين بسبب أخذ الولد للقرآن، أما الولد فحدث ولا حرج والأحاديث جاءت مبينة لمقامه.
فَما ظَنُّكُمْ: هذا استفهام للتعظيم، أي ما تظنون هذا الظن العظيم الكبير في هذا الإنسان.
قال رسولنا صلى الله عليه وسلم مبينا لجزاء هذا النجل:[ يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتله في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها ]، وفي رواية:[ فهو في رقي ما دام في تلاوة ].
ثم أعطاه الوصف العظيم:
( أُولئِكَ أَهْلُ اللهِ والصَّفَوَةُ المَلاَ ) أعطاهم وصفان:
1- أَهْلُ اللهِ: وهذا في الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم الذي ورد:[ إن لله أهلين من الناس ] قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال:[ أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ].
2- الصَّفَوَةُ المَلاَ: مستدلا من خلال حديث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو القائل:[ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ]، وفي الحديث الآخر:[ أشراف أمتي حملة القرآن ]، وفي رواية:[ أشرف أمتي حملة القرآن ].

(18)
أُولُو الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى *** حُلاَهُمُ بِهَا جَاءَ الْقُرَانُ مُفَصَِّلاَ
هنا استمر في الحديث عن أهل القرآن الكريم في أوصافهم التي أرادها وبينها:
الْبِرِّ: حسن الخلق.
الْإِحْسَانِ: إحسان للغير.
فصاحب القرآن صاحب الخلق الحسن، وصاحب بر بغيره.
الصَّبْر: بأنواعه: الصبر على المصائب والطاعات وعن المعاصي.
بلا شك أن الإنسان لا ينال درجة صاحب القرآن العلم بما فيه إلا إذا صَبَّر نفسه على طاعة الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الكهف:28]، وقال أيضا: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [مريم:132] وهنا " اصْطَبِرْ " وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أي تبلغ في الصبر وبالغ فيه.
التُّقَى: تقوى الله سبحانه وتعالى، أن يراك الله تعالى حيث أمرك، وأن يفقدك حيث نهاك.
والتقوى أساس الأمر عند الإنسان.
حُلاَهُمُ: الحُلى جمع حلية، في الأصل ما يتحلى به الإنسان من الزينة، فملا كانت الأخلاق العظيمة بمثابة الحُلى من الجسد.
يعني ما يتحلون به من الأخلاق الفاضلة العظيمة الرزينة الرائعة موجودة مبثوثة في كتاب الله سبحانه وتعالى قال تعالى: ﴿ ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر:32]، أيضا: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر:34]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ❁ وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ [الإسراء:9-10].
الْقُرَانُ: هنا نقل الهمزة للراء على قراءة ابن كثير -رحمه الله- حتى لا ينكسر البيت.
مُفَصَِّلاَ: هي أدق من " مفصَّلا " وإن كان بعضهم يذكر قضية فتح الصاد، إلا أن كسر الصاد كون القرآن جاء مفصِّلا له.
أي مبينا لهذه الصفات العظيمة وموضحا لها.


(19)
عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافِساً *** وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلاَ

عَلَيْكَ بِهَا: أي عليك بهذه الأوصاف يا حافظ القرآن، إلزم بها.
عليك: إسم فعل بمعنى إلزم بهذه الأوصاف.
الهاء: الضمير عائد على الصفة.
مَا عِشْتَ: طول حياتك.
فِيهَا: أي في هذه الدنيا.
لذا قالوا في هذا البيت مقابلة.
مُنَافِساً: غيرك في أعمال الخير بحيث تكون أنت ترقى في الدرجات العلا، قال تعالى: ﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين:26]، وهناك حديث للنبي صلى الله عليه وسلم:[ لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله قرآنا فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار ...].
وركز هنا على كلمة " منافسا " أي لا يسبقنك إلى الله أحد، فاسبق واستبق وسارع، ولذلك جاء في الآيات القرآنية الحث في هذا: ﴿ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [آل عمران:133]، وقال: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴾ [الحديد:21].
( وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلاَ ) هذه المقابلة العجيبة يذكرها الغمام الشاطبي -رحمه الله-.
الدُّنْيَا: وصف للنفس.
أي هذه النفس الخسيسة بعها.
بِأَنْفَاسِهَا الْعُلاَ: هذه الأنفاس العظيمة، وهذه الأخلاق الفاضلة، وهذه الهمة العالية لتكن هي التي بين جنبيك، ولا تكن نفسك الضعيفة الخبيثة الخسيسة.
وارق بنفسك لتكون مع هذه الأنفاس العظيمة العالية حتى ترق بنفسك فتتأدب بأدب القرآن وتتحلى بحُلا القرآن.

هنا بداية الحديث عن الأئمة السبعة بعد أن فرغ الناظم من الحديث عن صاحب القرآن وعن عوام أهل القرآن، بدأ الحديث عن خواصهم وهم الذين وُجِدت الشاطبية للحديث عن قراءاتهم، وهذا كما يقال: الخاص بعد العام.

(20)
جَزَى اللهُ بِالْخَيْرَاتِ عَنَّا أَئِمَّةً *** لَنَا نَقَلُوا القُرْآنَ عَذْباً وَسَلْسَلاَ

جَزَى اللهُ بِالْخَيْرَاتِ عَنَّا: أي جزاهم الله خيرا، وخير معروف أسداه لنا وللأمة الإسلامية هؤلاء القراء هو نقلهم لنا القرآن غضا طريا كما نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
أَئِمَّةً: أي الأئمة السبعة الذين نقلوا القرآن لنا.
لَنَا نَقَلُوا القُرْآنَ: كأنه يقول أنهم خدمونا نحن وقدموه لنا وبذلوا جهدا كبيرا ليوصلوه لنا.
هذا العلم بالمشافهة ولهذا نجد كلمة "النقل" نقلوه عن غيرهم.
عَذْباً: العذب هو حلاوة الشيء، الماء العذب الحلو الذي لا ملوحة فيه، عكس الأجاج.
َسَلْسَلا: الذي يشربه الإنسان بسهولة ولا يكون فيه غصة أو كدارة.
ولذلك قالوا نقلوا لنا القرآن يمتاز بهذين الوصفين وهذا من باب التشبيه وإن كان كلام الله تعالى لا يشبهه شيء.
فهم لم يغيروا ولم يبدلوا ولم يحرفوا، وإنما نقلوه كما أخذوه، وهذا الذي يميز القراء عن غيرهم والثلاثة أيضا مثلهم، هذه القراءات الصحيحة تمتاز عن غيرها بأنها صحيحة النقل، بل تصل إلى حد التواتر كما أكد العلماء.

(21)
فَمِنْهُمْ بُدُورٌ سَبْعَةٌ قَدْ تَوَسَّطَتْ *** سَمَاءَ الْعُلَى واَلْعَدْلِ زُهْراً وَكُمَّلاَ

فَمِنْهُم: وهذا إنصاف من الشيخ أنه ليس فقط هؤلاء، ولما ذكر القراء السبعة كأنه يشير من خلال هذا البيت أنه هناك من هو في منزلتهم.
ومنهم تفيد التبعيض.
بُدُورٌ: والبدر الذي يستنير به الناس في ظلمة الليل.
وأكن الشيخ يشير إلى قضية تشبيه بالبدور، وتشبيه الناس دون القرآن بظلمة الجهل.
سَمَاءَ الْعُلَى واَلْعَدْلِ: أي على في بعد الناس عن القرآن وأي عدل إذا تنكب الناس القرآن.
زُهْراً وَكُمَّلاَ: البدر الأزهر والمنير، والبدر الكامل الذي يكون في ليلة الرابع عشر.
فكأنه يشير إلى كمالهم ولله الكمال المطلق في موضوع فيما يتعلق للقراءات التي نقلوها، وهذا الذي أكده الإمام الجزري -رحمه الله- قال:
(( تتبعت قراءات الأئمة العشرة فما وجدت حرفا منها خارجا عن النقل المتواتر الصحيح الموصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبعت القراءات صحيحها وشاذها فما وجدت قراءة صحيحة إلا وهي مضمنة بهذه العشرة )).

(22)
لَهَا شُهُبٌ عَنْهَا اُسْتَنَارَتْ فَنَوَّرَتْ *** سَوَادَ الدُّجَى حَتَّى تَفَرَّق وَانْجَلاَ

هذا البيت من خلاله يشير إلى الرواة الذي نقلوا القرآن عن البدور السبعة.
لَهَا: الضمير عائد على هذه السبعة.
شُهُبٌ: لهؤلاء القراء السبعة شهب، وهو الشهاب الثاقب الذي يبرز من النجم، ولذلك الرواة قراءتهم برزت وظهرت من القارىء.
عَنْهَا اُسْتَنَارَتْ: أي استنارت عنها، هذه الشهب استنارت ونورت وأعطت النور بسبب أنها متصلة بهؤلاء القراء.
فَنَوَّرَتْ سَوَادَ الدُّجَى: دائما يسمي الجهل ظلمة، فهؤلاء الذين علموا الناس القرآن وكيفية قراءته.
حَتَّى تَفَرَّق وَانْجَلاَ: لأن إذا جاء النور ذهب الظلام.

(23)
وَسَوْفَ تَرَاهُمْ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ *** مَعَ اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ مُتَمَثِّلاَ

وَسَوْفَ تَرَاهُمْ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ: أي في النظم القادم علينا سوف ترى هؤلاء القراء مع رواتهم.
مَعَ اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ مُتَمَثِّلاَ: وهذا منهج درج عليه العلماء أنهم يأخذون القارىء مع اثنين من الرواة.
السلف في قضية الاثنين أن القارىء عنده أكثر من خلاف، فلو أنه أخذ برواية واحدة لما استوعب الخلافات التي وردت عن القارىء، ولذلك لما سألوا الإمام عاصم -رحمه الله-: ما هذا الخلاف الذي بين حفص وشعبة وكلهم قد أخذوا عنك؟ فقال: أقرأت هذا بما أقرأنيه زر بن حبيش وأبو عبد الرحمن السلمي.
فهؤلاء الاثنان من الرواة يستوعبون قراءة القارىء، فمن فقدنا حرفه عند واحد وجدناه عند الآخر.
كما يؤكد العلماء هؤلاء الرواة الذين رووا عن القراء السبعة منهم من أخذه مباشرة عن شيخه مثلا:
شعبة وحفص أخذوها عن عاصم مباشرة.
أبو الحارث والدوري عن الكسائي.
هناك من الرواة من بينهم وبين القارىء واحد من الشيوخ وذلك أشار إليه في بيت سيأتي فيما بعد مثلا:
الدوري والسوسي أخذا عن أبي عمرو بواسطة يحي اليزيدي
وكذلك خلف وخلاد أخذا عن حمزة بواسطة سليم.
وهناك من بينه وبين القارىء أكثر من واحد مثل:
البزي وقنبل عن ابن كثير على سند.
وهشام وابن ذكوان بينهم وبين ابن عامر الشامي أكثر من راو.

(24)
تَخَيَّرَهُمْ نُقَّادُهُمْ كُلَّ بَارِعٍ *** وَلَيْسَ عَلَى قُرْآنِهِ مُتَأَكِّلاَ

تَخَيَّرَهُمْ: الضمير عائد على القارىء وعلى الراوي وعلى الطريق، يعني هذا الاختيار الذي حصل لهؤلاء القراء والرواة الذين عنهم اختيروا بدقة وعناية وبنقد.
كُلَّ بَارِعٍ: على هؤلاء القراء والرواة، يعني اختاروا البارع في القراءة أي الحاذق الماهر.
وَلَيْسَ عَلَى قُرْآنِهِ مُتَأَكِّلاَ: أي الذي لا يتأكل بالقرآن ويسترزق منه.
فهي إشارة من الإمام الشاطبي -رحمه الله- أن الإنسان ينبغي أن يحرص على أن يقدم هذا القرآن لله تعالى دون أن يلتفت إلى هذه الدنيا الحقيرة.

~ وقفة ~
أن مسألة تأصيل القراءات سواء كان اختيار القراء أو الرواة جاء عبثا.
هناك من كبار التابعين لكن اعتبر العلماء قراءاتهم من القراءات الشاذة مثل الحسن البصري، ولذلك فيه نقد في مسألة القراءة في تخير وتخيير، ولا نظن أن القراءات الشاذة الأربعة كل أفرادها مردودة، معظم ما فيها من أحرف صحيحة، لكن يكون قد خالف واحد بوجه من الوجوه.
وأيضا إذا قلنا هذه قراءة شاذة أننا نلمز صاحبها، الشاذ عند العلماء هو ما خالف فيه الثقة الثقات.

~ تنبيه للاصطلاحات ~
إذا قلنا:
قارىء: فهو أحد القراء السبعة ورد عنه ونقل لنا قراءته، ولذلك سنتعرف عن منهج الإمام الشاطبي -رحمه الله- أنه غالبا عندما يتكلم عن القراءة سيتكلم عنها من خلال أحد الراويين إلا إذا اجتمع على أمر واحد فيذكر القارىء.
راوي: فمن أخذ عنه مباشرة.
طريق: الذي أوصلتنا إلى الراوي.

هذان البيتان بدأ بهما الإمام الشاطبي -رحمه الله- بذكر القراء السبعة ورواتهم.
وكما هو معروف أن هذا المنهج عند علماء القراءات أنهم أخذوا القراء وأخذوا عن كل قارىء راويين، وبذلك سيستوعبون من خلال هذين الراويين ما ورد عن الإمام من وجوه الخلاف.

~ تنبيه ~
إن هذا المنهج لا يعني أن هذا القارىء ليس له إلا هذين الراويين، وإنما هما كما قال:(تخيرهم نقادهم).
فأول هؤلاء القراء (طبعا هنا الأولية ليست زمنية، فغيره أسبق منه)، لكن درج العلماء على أن يرتبوا القراء السبعة:
- الإمام نافع.
- الإمام ابن كثير.
- الإمام أبو عمرو البصري.
- الإمام ابن عامر الشامي.
- الإمام عاصم.
- الإمام حمزة.
- الإمام الكسائي.
وهذا الترتيب الذي جاء في كتاب (التيسير) وكتاب (السبعة) لابن مجاهد، وأيضا درج عليه من جاء بعده حتى ابن الجزري مع أنه أتى بالعشرة.

(25)
فَأَمَّا الْكَرِيمُ السِّرِّ في الطيِّبِ نَافِعٌ ... فَذَاكَ الَّذِي اخْتَارَ الْمَدينَةَ مَنْزِلاَ

الْكَرِيمُ السِّرّ: هذا الثناء العظيم، أي سره عظيم كريم وكيف لا وقد حوى القرآن الكريم.
ِفي الطيِّبِ: هذه إشارة من إشارات الإمام الشاطبي -رحمه الله- أنه كأنما يمس من طيب، قال العلماء:(( أنه لما كان يقرأ الإمام نافع كان يشم من فمه رائحة الطيب، فلما سألوه: أنت عندما تأتي إلى مجلس القرآن تتطيب؟ قال: ما أمس من طيب، ولكني رأيت في المنام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في فِيَّ القرآن، فمنذ ذلك الحين أشم هذه الرائحة )).
فبلا شك أن حامل القرآن جمع في فيه وفي جوفه ما هو أعظم من السمك ومن كل شيء في هذه الدنيا.
نَافِعٌ: نافع هو القارىء الأول.
اسمه: نافع ابن عبد الرحمن بن أبي نعيم، ويُكنى بأبي رُويم، وكما قال العلماء هو من أهل أصفهان، ولذلك كان أسود اللون.
وكان من أكثر العلماء عصره علما بالقراءات واللغة العربية.
فَذَاكَ الَّذِي اخْتَارَ الْمَدينَةَ مَنْزِلاَ: كان منزله المدينة المنورة، وبلا شك أن علمائنا وسلفنا الصالح كانوا يحرصون على الإقامة في المدينة بخبر النبي صلى الله عليه وسلم:[ والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ]، و[ إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية على جحرها ].
الرواة الذين نقلوا عنه: " قالون ".


(26)
وَقَالُونُ عِيسى ثُمَّ عُثْمانُ وَرْشُهُمْ ... بِصُحْبَتِهِ المَجْدَ الرَّفِيعَ تَأَثَّلاَ

قَالُونُ:
اسمه: عيسى ابن مينا بن وردان، وقالوا قالون هو لقب له لقبه شيخه نافع لجودة صوته، وقالوا قالون في لغة الروم معناه الجيد ( وهذا في الأصل يحتاج إلى تحقيق ).
عُثْمانُ: وهو ورش.
وهو عثمان بن سعيد بن عبد الله، وكان مصري الأصل، ولقبه شيخه بورش لشدة بياضه، وقالوا لأنه كان يشبه طائر الورشان كان نحيفا دقيق الساقين.

~ تنبيه ~
- عندما نقول " قارىء " فنحن نعني بذلك الإمام أحد الأئمة السبعة.
- وإذا قلنا " راو " هو الذي أخذ عن هؤلاء.
- وهناك " طريق " وهو ما كان منسوبا إلى من أخذ عن الراوي.

والقارىء الثاني هو الإمام عبد الله بن كثير وهو إمام أهل مكة:


(27)
وَمَكَّةُ عَبْدُ اللهِ فِيهَا مُقَامُهُ ... هُوَ اُبْنُ كَثِيرٍ كاثِرُ الْقَوْمِ مُعْتَلاَ

اُبْنُ كَثِيرٍ:
اسمه: عبد الله بن كثير بن المطلب القرشي.
كنيته: أبو معبد.
وهو إمام أهل مكة في القراءة.
كما يذكر العلماء أنه ولد سنة 45هـ ولذلك يبدو أنه من أقدم القراء ولادة، وذلك إذا أخذنا بالرأي الأول، الثاني لابن عامر لأنه فيه قولين في ولادة ابن عامر.
فهو من التابعين ولقي من الصحابة كما يقول العلماء: أبا أيوب الأنصاري وأنس بن مالك.
توفي سنة 120هـ.
كاثِرُ الْقَوْمِ مُعْتَلاَ: هذا ثناء من الإمام -رحمه الله-، كأنه يقول أكثر القوم اعتلاء ورفعة ومنزلة، والقوم اكر جماعته.
وكأنه يريد أن يعطيه صفة من اسمه.

(28)
رَوى أَحْمَدُ الْبَزِّي لَهُ وَمُحَمَّدٌ ... عَلَى سَنَدٍ وَهْوَ المُلَقَّبُ قُنْبُلاَ

الراويان اللذان للإمام ابن كثير:
- أحمد البزي: هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة، والبزة كما يقول العلماء هي القوة.
كان ضابطا محققا مقرئا، وقد أذن في الحرم المكي فترة من الزمن ثم انتهت إليه مشيخة الإقراء في مكة المكرمة.
توفي سنة 250هـ.
- محمد وهو قنبل: هو محمد بن عبد الرحمن بن خالد المكي الملقب بقنبل.
توفي سنة 291هـ.

ثم أشار -رحمه الله- إلى مسألة وهي القراءة بالرواية عن الشيخ بالسند، ولذلك قال:
عَلَى سَنَدٍ: أي كلاهما على سند، البزي وقنيل لم يلقيا ابن كثير وإنما قرأ على من قرأ عليه، ولكن اختيار العلماء لهم بلا شك له منزلة على غيرهم من خلال ضبط الرواية، إتقان القراءة فكانا أشبه الناس بقراءة ابن كثير.

(29)
وَأَمَّا الإْمَامُ المَازِنِيُّ صَرِيحُهُمْ ... أَبُو عَمْرٍو الْبَصْرِي فَوَالِدُهُ الْعَلاَ

القارىء الثالث من الأئمة السبعة ألا وهو الإمام " أبو عمرو البصري ".
وهو المولود سنة 68 هـ بالبصرة.
اختلف العلماء في اسمه:
- فمنهم من يقول وهو الأرجح: أن كنيته هي اسمه أي " أبو عمرو ".
- ومنهم من يقول: أن اسمه " زَبَّان ".
سواء كان هذا أو ذاك فالمشهور به " أبو عمرو البصري " -رحمه الله-.
لقد كانت له ميزة: كان أكثر القراء السبعة شيوخا، والإمام ابن كثير كان من شيوخ أبي عمرو.

~ مسألة ~
س: إذن لماذا خالف الإمام أبو عمرو شيخه ابن كثير؟
ج: هذه قضية واسعة، أنه أخذ عنه عن غيره، لذلك لما ألف قراءته خالف القارىء من هذا القبيل، وانفرد بطريقة معينة له يقرأ بها.

توفي سنة 154هـ وكانت وفاته -رحمه الله- بالكوفة.

والراويان اللذان أخذا عن أبي عمرو هما:
- الدوري هو حفص بن عمر بن عبد العزيز الدوري.
- السوسي هو صالح بن زياد السوسي.
صَرِيحُهُمْ: أي كان عربيا أصيلا، وهذا سيذكره في بيت قادم.
هنا أيضا الدوري والسوسي أخذا عن أبي عمرو بالرواية والواسطة.
المَازِنِيُّ: نسبة إلى قبيلة.

(30)
أَفَاضَ عَلَى يَحْيَى الْيَزيدِيِّ سَيْبَهُ ... فَأَصْبَحَ بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ مُعَلَّلاَ

يَحْيَى الْيَزيدِيِّ: هو تلميذ من تلاميذ أبي عمرو، أقرأه قارءة، فكان كأنما يقرأ أبو عمرو البصري، فتتلمذ له الدوري والسوسي، فهما أخذا على يحي اليزيدي قراءة أبي عمرو.
ولهذا امتدح يحي اليزيدي.
سَيْبَهُ: أي عطاءه المتدفق من القراءات ووجوهها.
بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ: كناية عن صفاء الرواية وعن دقة الأداء.
مُعَلَّلاَ: شرب عللا أي يشرب مرة بعد مرة حتى يرتوي فلا يبقى له مسلكا.
أي الذي أعطاه إياه أبو عمرو البصري هو كله مروي بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه إلا رواية خالصة صحيحة لا إشكال فيها ولا شذوذ ولا علة.

(31)
أَبُو عُمَرَ الدُّورِي وَصَالِحُهُمْ أَبُو ... شُعَيْبٍ هُوَ السُّوسِيُّ عَنْهُ تَقَبَّلاَ
المازني نسبه لبني مازن . والصريح الخالص النسب . والإفاضة الإفراغ . والسيب العطاء . والمراد به هنا العلم . والفرات العذب وجمع بينهما للتأكيد . والمعلل الذي يسقى مرة بعد أخرى .
المعنى : الإمام الثالث أبو عمرو البصري المازني ، ولد سنة ثمان وستين وقرأ بالبصرة والكوفة ومكة والمدينة ، وهو أكثر القراء السبعة شيوخا ، ومن شيوخهع عبد الله بن كثير ، وسمع أنس بن مالك وغيره ، وتوفي بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائة ، أفاض أبو عمرو سيبه الذي هو العلم على يحيى اليزيدي فأصبح يحيى ببركة إفاضة أبي عمرو العلم عليه معللا ربان من العلم ، ويحيى هذا هو السند المتوسط بين أبو عمرو ورواييه وهما أبو عمر الدوري وأبو شعيب السوسي . فأما الدوري فهو حفص بن عمر بن عبد العزيز وكنيته أبو عمر أمام القراء في عصره وهو أول من جمع القراء ولد سنة خمسين ومائة في الدور وهو موضع قرب بغداد وتوفى سنة ستة وأربعين ومائتين . وأما السوسي هو صالح بن زياد السوسي توفي سنة إحدى وستين ومائتين وقد قارب التسعين وأخذ كل من الدوري والسوسي القراءة عن يحيى اليزيدي عن أبي عمرو البصري ز


(32)

وَأَمَّا دِمَشْقُ الشَّامِ دَارُ ابْنِ عَامِرٍ ***فَتلِكَ بِعَبْدِ اللهِ طَابَتْ مُحَلَّلاَ

وَأَمَّا دِمَشْقُ الشَّامِ: في مستهل هذا الشرح مع شيخ الشاميين عبد الله بن عامر التابعي الجليل -رحمه الله-، وهو من كبار التابعين وأقدم القراء مولدا، وفي بعض الروايات تقول أنه ولد سنة 8 هـ، ولكنه لا يعد صحابيا لأنه لم يلقى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان -رحمه الله- تلميذا لأبي الدرداء -رضي الله عنه- مقرىء الشام، والرواية تقول أن أبا الدرداء -رضي الله عنه- كان يقرىء في مسجد دمشق وكان يقسم تلاميذه عشرة عشرة، وكان ابن عامر عريفا على عشرة من هؤلاء، فلما توفي أبو الدرداء -رضي الله عنه- حل ابن عامر مكانه.
توفي -رحمه الله- سنة 118 هـ.
دَارُ ابْنِ عَامِرٍ فَتلِكَ بِعَبْدِ اللهِ طَابَتْ مُحَلَّلاَ: أي أنه لما حل بها طابت به، لأن طيب المكان بطيب أهله.

(33)
هِشَامٌ وَعَبْدُ اللهِ وَهْوَ انْتِسَابُهُ *** لِذَكْوَانَ بِالإِسْنَادِ عَنْهُ تَنَقَّلاَ

راويا ابن عامر هما اثنان اللذان ذكرهما:
هِشَامٌ: هو هشام بن عمار بن نصير، كنيته أبو الوليد إمام أهل الشام وخطيبهم.
توفي -رحمه الله- سنة 245 هـ.

نلاحظ أنهم أخذوا القراءة على ابن عامر بالإسناد، ولذلك قال:
لِذَكْوَانَ بِالإِسْنَادِ عَنْهُ تَنَقَّلاَ: أي أكثر من شيخ بينهم وبين ابن عامر.
توفي ابن ذكوان -رحمه الله- سنة 242 هـ.
لقد اختارهم العلماء لأنهم أضبط الرواة الذين نقلوا قراءة ابن عامر الشامي.

هذه الأبيات الثلاثة بدأت تتحدث عن قراء الكوفة
(34)
وَبِالْكُوفَةِ الْغَرَّاءِ مِنْهُمْ ثَلاَتَةٌ *** أَذَاعُوا فَقَدْ ضَاعَتْ شَذاً وَقَرَنْفُلاَ
الْغَرَّاءِ: كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم:[ تبعثون من أثر الوضوء غرا محجلين ]، والغرة هي البياض الذي في وجه المُهر، فسماها الكوفة البيضاء الغراء من كثرة العلماء وكثرة القراء الذين منها، فلما ننظر إلى القراء العشرة منهم أربعة من الكوفة من العشرة(عاصم، حمزة، الكسائي وخلف) وثلاثة من السبعة.
أَذَاعُوا: أي نشروا هذا العلم وهذا القرآن.
ضَاعَتْ: من تضوع المسك، وانتشرت هذه الرائحة الزكية ولا أزكى من رائحة القرآن الكريم وأهله.
شَذاً وَقَرَنْفُلاَ: وهذا من أنواع الروائح الزكية.
الشذى هو العود.
والقرنفل ذلك النبات المعروف.

ثم بدأ بهم هؤلاء الثلاث بأولهم:
(35)
فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ اسْمُهُ *** فَشُعْبَةُ رَاوِيهِ المُبَرِّزُ أَفْضَلاَ

عَاصِمٌ: وهو عاصم بن بهدلة بن أبي النجود، ويُقال أن بهدلة اسم أبيه، ويقال أنه اسم أمه.
وكنيته أبو بكر.
وله راويان: شعبة.
توفي -رحمه الله- سنة 127 هـ.
شُعْبَةُ: هو شعبة بن عياش بن سالم.
كنيته أبو بكر.
ولد سنة 95 هـ.
رَاوِيهِ المُبَرِّزُ أَفْضَلاَ: أي امتدحه هنا، أفضل رواته.

شعبة وحفص أخذا لا بالواسطة مباشرة عن عاصم بن أبي النجود.
(36)
وَذَاكَ ابْنُ عَيَّاشٍ أَبُو بَكْرٍ الرِّضَا *** وَحَفْصٌ وَبِاْلإتْقَانِ كانَ مُفضَّلاَ

حَفْصٌ: هو حفص بن سليمان الكوفي، وكان ربيب عاصم(ابن زوجته).
وَبِاْلإتْقَانِ كانَ مُفضَّلاَ: هنا نستغرب من أفضل ممن؟ الذي هو راويه مبرز أفضلا؟ وإلا حفص وبالإتقان كان مفضلا؟
كأنه يمتدح حفصا بأنه أفضل القراء تحملا لقراءة عاصم بدقة وعناية لم تعهد عن غيره.

هذان البيتان حديث عن حمزة وراويه:
(37)
وَحَمْزَةُ مَا أَزْكاهُ مِنْ مُتَوَرِّعٍ *** إِمَاماً صَبُوراً لِلقُرانِ مُرَتِّلاَ

وَحَمْزَةُ مَا أَزْكاهُ مِنْ مُتَوَرِّعٍ: هذا المدح والإطراء والثناء لحمزة.
حَمْزَةُ: هو حمزة بن حبيب القارىء، وكان يحب أن يسمى القارىء.
كنيته الزيات لأنه كان يجلب الزيت ويبيعه.
فهو من المتقدمين ومن كبار التابعين، ويُقال أنه أدرك بعض الصحابة -رضي الله عنهم-، وكان إماما لقراءة بالكوفة بعد عاصم.
لِلقُرانِ: بدون همزة حتى لا ينكسر البيت.
(38)
رَوَى خَلَفٌ عَنْهُ وَخَلاَّدٌ الَّذِي *** رَوَاهُ سُلَيْمٌ مُتْقَناً وَمُحَصَّلاَ

رَوَى خَلَفٌ عَنْهُ وَخَلاَّدٌ الَّذِي: خلف وخلاد أيضا راويان عن حمزة بالواسطة الذي هو أبي سُليْم.
خَلَفٌ: هو خلف بن هشام البزار البغدادي، وهو الذي صار فيما بعد أحد القراء الثلاثة المتممين للعشرة.
كنيته أبو محمد.
خَلاَّدٌ: هو خلاد بن خالد الشيباني الصيرفي الكوفي.
كنيته أبو عيسى، إمام في القراءة.
أخذا كلاهما على سُليْم الذي هو من أحد تلامذة حمزة.

هذان البيتان يتحدثان عن الإمام الكسائي:
(39)
وَأَمَّا عَلِيٌّ فَالْكِسَائِيُّ نَعْتُهُ *** لِمَا كانَ في الْإِحْرَامِ فِيهِ تَسَرْبَلاَ

الْكِسَائِيُّ: وهو الإمام الثالث من أئمة الكوفة.
علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي الكوفي.
كنيته أبو الحسن، انتهت إليه كذلك رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة.
لُقِّب بالكسائي ولما سُئِل عن ذلك قال لأنني أحرمت في كساء، وهذه شيمة الناس في ذلك الزمان كانوا زاهدين في الدنيا، أي فلما أحرم وجد أنه يملك كساء دون رداء فأحرم به فسمي بالكسائي.
لِمَا كانَ في الْإِحْرَامِ فِيهِ تَسَرْبَلاَ: أي لبسه دون رداء.



(40)
رَوَى لَيْثُهُمْ عَنْهُ أَبُو الْحَارِثِ الرِّضاَ وَحَفْصٌ هُوَ الدُّورِيُّ وَفيِ الذِّكْرِ قَدْ خَلاَ

رَوَى لَيْثُهُمْ عَنْهُ:
الليث: هو أبو الحارث الليث بن خالد البغدادي.
كنيته أبو الحارث.
الرِّضاَ: أي الذي ارتضى الناس روايته وامتدحوها وقبلوها.
وَحَفْصٌ هُوَ الدُّورِيُّ وَفيِ الذِّكْرِ قَدْ خَلاَ: أي سبق أن ذكرته وهو راو أبي عمر، فأبو عمر راويه الدوري والكسائي راويه الدوري، وأبو عمر بصري والكسائي كوفي، فهذه همة عالية أن أخذ قراءة البصريين عن أبي عمر ثم رحل إلى الكوفة فأخذ رواية الكوفيين عن الكسائي فجمع بين الخيرين.

~ تنبيه ~
لابد من استحضار هؤلاء القراء في أذهاننا على هذا الترتيب:
نافع وراوياه
ابن كثير وراوياه
أبو عمر وراوياه
ابن عامر وراوياه
عاصم وراوياه
حمزة وراوياه
الكسائي وراوياه


(41)
أَبُو عَمْرِهِمْ والْيحْصُبِيُّ ابْنُ عَامِرٍ *** صَرِيحٌ وَبَاقِيهِمْ أَحَاطَ بِهِ الْولاَ

في الحقيقة هذا البيت يعطي ميزة لا للتفاخر وإنما لبيان النسب، لكن هنا الإمام الشاطبي -رحمه الله- أتى بهذا البيت لبيان أصل النسب، وهذا في الحقيقة شرف للآخرين، سواء كان عجما بالولاء أو بالولادة، ومع ذلك لم يمنعه هذا بين أن يكونوا من كبار القراء الذين نقلوا لنا هذا القرآن العظيم.
أَبُو عَمْرِهِمْ: هو المازني.
الْيحْصُبِيُّ ابْنُ عَامِرٍ: اليحصُبي نسبة إلى يحصُب جد ابن عامر، أو إلى قبيلة من قبائل اليمن ينسب إليها ابن عامر.
هذان الاثنان من أصل أصول العربية.
صَرِيحٌ: أي هذا كل واحد منهم نسبه صريح وواضح.
وَبَاقِيهِمْ أَحَاطَ بِهِ الْولاَ:
الولا من الولاء: الرق أو ما يكون فيه الإنسان موال لقبيلة، أحد هذين الأمرين، ثم ليس بالضرورة أن يكون هو بعينه من الموال، قد يكون أحد أجداده ويكون من نسل من كان مولا لإحدى قبائل العرب.
أحاط به: أي لحقه شيء من الولاء سواء كان عنده أو عند أحد آبائه.


(42)
لَهُمْ طُرُقٌ يُهْدَى بِهَا كُلُّ طَارِقٍ *** وَلاَ طَارِقٌ يُخْشى بِهاَ مُتَمَحِّلاً

هذا البيت يبين فيه الإمام الشاطبي -رحمه الله- أن هؤلاء الرواة الذين ذكرهم في الأبيات السابقة أن لهم طرق، والطريق كما بينا من قبل أي من أخذ عن الراوي وهذا الراوي وردت لنا روايته.
( لَهُمْ طُرُقٌ يُهْدَى بِهَا كُلُّ طَارِقٍ ) وما سمي الطريق طريقا إلا لأنه يُطرق من الطارق، والطارق هو السالك الذي طرق الطريق برجله.
( وَلاَ طَارِقٌ يُخْشى بِهاَ مُتَمَحِّلاً ) كأنه يقول: اطمئنوا، فهذا الطريق الذي جاءنا طريق موثوق ولا يُخشى على من طرقه وسلكه وسار به أن يتمحل.
التمحل: المقصود به من المحل وهو الجدب الذي يحصل من عدم الغيث، فهي طرق واضحة جلية لا إشكالية فيها.

~ تنبيه ~
طرق الشاطبية قليلة ولو نظرنا إلى الطرق الطيبة فهي كما ذكرها صاحبها الإمام الجزري -رحمه الله-:
باثنين في اثنين وإلا أربع ... فهي زهاء ألف طريق تجمع
فطرق الشاطبية مختصرة أخذ عن كل راو طريق:
- قالون: أُخِذت روايته من طريق أبي نشيط
- ورش: من طريق يوسف الأزرق، وكثيرا ما يقال: اقرأ برواية الأزرق.
- البَزي: من رواية أبي ربيعة.
- قنبل: من رواية ابن مجاهد.
- الدوري: عن أبي عمرو.
- البصري: عن أبي الزهراء.
- السوسي: من طريق موسى بن جرير.
- هشام: من طريق الحلواني.
- ابن ذكوان: من طريق هارون الأخفش.
- أبو بكر شعبة: من طريق يحي بن آدم.
- حفص: من طريق عبيد بن الصباح.
- خلف: من طريق إدريس الحداد.
- خلاد: من طريق محمد بن شاذان.
- الليث(أبو الحارث): من طريق محمد بن يحي.
- الكسائي: من طرق جعفر بن محمد النصيبي.

~ ملاحظة ~
عندنا ثلاثة مصطلحات:
1- القراءة: ما يُنسب إلى الإمام، فنقول: قراءة نافع أو قراءة ابن كثير...
2- الرواية: ما يُنسب إلى الرواة، فنقول رواية قالون عن نافع، ورواية البزي عن ابن كثير ...
3- الطريق: ما يُنسب إلى راو الراوي أي من أخذ عن الراوي، فنقول طريق الأزرق برواية ورش...


(43)
وَهُنَّ الَّلوَاتِي لِلْمُوَاتِي نَصَبْتُهاَ *** مَنَاصِبَ فَانْصَبْ فِي نِصَابِكَ مُفْضِلاَ

وَهُنَّ الَّلوَاتِي: أي هذه الطرق.
لِلْمُوَاتِي: الموافق الذي يوافق الطريق، من أراد أن يقرأ برواية ورش فعليه بطريق الأزرق وهكذا.
نَصَبْتُهاَ: أي جعلتها علما على هذه الرواية.
مَنَاصِبَ فَانْصَبْ فِي نِصَابِكَ مُفْضِلاَ: فيه من الجناس.
أي فاتعب فيما عندك من الحظ الوافر من العلم لتَفضُل أقرانك بهذا العلم الذي أكرمك الله تعالى به، واجعل نيتك خالصة لله تعالى في تحصيل العلم.


(44)
وَهَا أَنَا ذَا أَسْعى لَعَلَّ حُرُوفَهُمْ *** يَطُوعُ بِهَا نَظْمُ الْقَوَافِي مُسَهِّلاَ

وَهَا أَنَا ذَا أَسْعى: أي الآن سأبدأ وأشرع بالسعي.
فيه فرق بين السعي والمشي، أي السعي الحثيث وبهمة، ولذا وردت في القرآن الكريم، من أراد أن يتحصل على الدنيا فليمشي:﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾[الملك:15]، أما بالنسبة للذكر:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[الجمعة:9].
لَعَلَّ حُرُوفَهُمْ: هنا ترجي من الإمام -رحمه الله-، كأنه يسأل الله عز وجل أن يطيع حروف هؤلاء بقافيته وبقصيدته.
يَطُوعُ بِهَا نَظْمُ الْقَوَافِي مُسَهِّلاَ: يسأل الله أن يطوع، فمسألة أن يُضمن القراءات السبع والرواة الأربعة عشر في أرجوزة فهذا بتوفيق من الله تعالى، فكأنه التجأ إلى الله سبحانه من خلال هذا البيت أن يطيع له النظم، وأن يطوع له القوافي، وفي الحقيقة هذا الذي حصل.

(45)
جَعَلْتُ أَبَا جَادٍ عَلَى كُلِّ قَارِئٍ *** دَلِيلاً عَلَى المَنْظُومِ أَوَّلَ أَوَّلاَ

هذا البيت بدأ من خلاله بالحديث عن موضوع رموز القراء.
أَبَا جَادٍ: يقصد بها قضية أبجد هوز، ترتيب الحروف الأبجدية:
أبجد – هوز – حطي – كلمن – سعفص – قرشت – ثخذ – ضظغ.
الشاطبي جعلها ثلاثية لأن القارىء وراوياه، فقال:
أبج - دهز - حطي - كلم - نصع - فضق - رست
ثم بقية الحروف جعلها رموز الاجتماع.
فرموز الشاطبية واحد من ثلاثة أنواع:
إما أنه حرف رمزا مفردا لقارىء:
أبج - دهز - حطي - كلم - نصع - فضق - رست
أبج: لنافع وراوييه.
دهز: لابن كثير وراوييه.
رموز إفرادية حروف لكن تفيد مجموعة( حرفية جماعية):
ش: لحمزة والكسائي.
وهناك كلمات مثل:
- حرمي لنافع وابن كثير.
- كوفي: عاصم وحمزة والكسائي.
رموز الشاطبية
وهذا جدول لبيان رموز القراء مجتمعين ومنفردين

http://forum.islamacademy.net/showthread.php?t=36397

هذا البيت والذي بعده ذكر فيه منهجية الشاطبي في بيانه للقراءات:
(46)
وَمِنْ بَعْدِ ذِكْرِى الْحَرْفَ أُسْمِى رِجَالَهُ *** مَتَى تَنْقَضِي آتِيكَ بِالْوَاوِ فَيْصَلاَ

الْحَرْفَ: المقصود به هنا الخلاف الذي وقع في الكلمة عند القراء.
فالخلاف اصطلح العلماء على تسميته بحرف وهذا اصطلاح قديم، أبو عمرو في كتابه " جامع البيان ".
والحرف هنا منصوبة عمل بها مفعول به للمصدر.
أُسْمِى رِجَالَهُ: أي الذين يقرؤون به، مثلا:
ومالك يوم الدين راويه ناصر
لما ذكر الحرف الذي هو مالك ذكر الرجال الذين يقرؤونه بهذا اللفظ: الكسائي وعاصم.
مَتَى تَنْقَضِي: عدة الرواة.
آتِيكَ بِالْوَاوِ فَيْصَلاَ: يعني إذا جاء بالواو يعني أنه قد انتهى من عد القراء والرواة الذين يقرؤون بهذا الحرف.

(47)
سِوَى أَحْرُفٍ لاَ رِيبَةٌ فِي اتِّصَالِهَا *** وَبالَّلفْظِ أَسْتَغْنِي عَنِ الْقَيْدِ إِنْ جَلاَ

سِوَى أَحْرُفٍ لاَ رِيبَةٌ فِي اتِّصَالِهَا: إذا لم يكن هناك ريبة وشك في الاتصال.
أي أحيانا لا آتي بالواو الفيصل لأنه لا يكون هناك ريبة من اتصالها.


(48)
وَرُبَّ مَكاَنٍ كَرَّرَ الْحَرْفَ قَبْلَهَا *** لِمَا عَارِضٍ وَالْأَمْرُ لَيْسَ مُهَوِّلاَ


وَرُبَّ مَكاَنٍ كَرَّرَ الْحَرْفَ قَبْلَهَا: يعني قد يخالف منهجه بالتكرار، أو قد يذكر الراوي قبل الحرف أحيانا، ويقول أن هذا الأمر قد يكون فيه ضرورة، ولهذا العلماء لما نظروا لهذا البيت قالوا أن الأمر هنا يمكن أن نقسمه إلى نوعين:
1- أن يكون الرمز لقارىء واحد فيكرر بعينه لتكملة القافية.
2- أن يكون الرمز لجماعة ثم يرمز لواحد من تلك الجماعة مثل: سما العلا: سما لثلاثة قراء(نافع وابن كثير وأبو عمرو)، ثم ذكر العلا رمز الألف الذي هو يفيد (نافع).
وَالْأَمْرُ لَيْسَ مُهَوِّلاَ: يعني لا تهول الأمور، والأمر ليس بهذه الصعوبة، وأمر تكرير الرمز ليس صعبا على المفكر.

بسم الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

(49)
وَمِنْهُنَّ لِلْكُوفِيِّ ثَاءٌ مُثَلَّتٌ ***وَسِتَّتُهُمْ بِالْخَاءِ لَيْسَ بِأَغْفَلاَ

قال( وَمِنْهُنَّ لِلْكُوفِيِّ ثَاء مُثَلَّث ) أي الرموز للكوفيين برواتهم(عاصم وحمزة والكسائي) يُرمز لهم رمزا جماعيا بالثاء.
قال( وَسِتَّتُهُمْ بِالْخَاءِ لَيْسَ بِأَغْفَلاَ ) أي نرفع من القراء السبعة نافع، والقراء ما عدا نافع يُرمز إليهم بالخاء، ففسر هذا فقال:

(50)
عَنَيْتُ الْأُلَى أَثْبَتُّهُمْ بَعْدَ نَافِعٍ *** وَكُوفٍ وَشَامٍ ذَا لُهُمْ لَيْسَ مُغْفَلاَ

قال( عَنَيْتُ الْأُلَى أَثْبَتُّهُمْ بَعْدَ نَافِعٍ ) أي الرواة الذين هم غير نافع يُرمز إليهم بالخاء.
قال( وَكُوفٍ وَشَامٍ ذَا لُهُمْ لَيْسَ مُغْفَلاَ ) الكوفيون مع الشام آخر أربع القراء (من عامر وعاصم وحمزة والكسائي) يُرمز لهم بالذال.

(51)
وَكُوفٍ مَعَ المَكِّيِّ بِالظَّاءِ مُعْجَماً *** وَكُوفٍ وَبَصْرٍ غَيْنُهُمْ لَيْسَ مُهْمَلاَ

قال( وَكُوفٍ مَعَ المَكِّيِّ بِالظَّاءِ مُعْجَماً ) نركز على الكوفيين لأنهم يوافقهم غيرهم، إذا وافق الكوفيون ابن كثير رمز ليهم بالظاء.
قال( وَكُوفٍ وَبَصْرٍ غَيْنُهُمْ لَيْسَ مُهْمَلاَ ) إذا وافق الكوفيون البصري رمز لهم بالغين.

(52)
وَذُو النَّقْطِ شِينٌ لِلْكِسَائِي وَحَمْزَةٍ *** وَقُلْ فِيهِمَا مَعْ شُعْبَةٍ صُحْبَةٌ تَلاَ
قال( وَذُو النَّقْطِ شِينٌ لِلْكِسَائِي وَحَمْزَةٍ ) حرف الشين بها رمز ما اتفق عليه حمزة والكسائي.
قال( وَقُلْ فِيهِمَا مَعْ شُعْبَةٍ صُحْبَةٌ تَلاَ ) أيضا حمزة والكسائي يوافقهم غيرهم، وبدأ الشاطبي بالرموز الكَلِمِيَّة كما يسميها علماء الرمز، كلمة تدل على مجموعة من القراء.
وَقُلْ فِيهِمَا: أي في حمزة والكسائي.
صُحْبَةٌ: حمزة والكسائي وشعبة.

(53)
صِحَابٌ هَمَا مَعْ حَفْصِهِمْ عَمَّ نَافِعٌ *** وَشَامٍ سَمَا فِي نَافِعٍ وَفَتَى الْعَلاَ

صِحَابٌ: حمزة والكسائي وحفص.
عَمَّ نَافِعٌ وَشَامٍ: نافع وابن عامر يُرمز لهم بعم.

(54)
وَمَكٍّ وَحَقٌّ فِيهِ وَابْنِ الْعَلاَءِ قُلْ *** وَقُلْ فِيهِمَا وَالْيَحْصَبِي نَفَرٌ حَلاَ

قال( سَمَا فِي نَافِعٍ وَفَتَى الْعَلاَ وَمَكٍّ ) إذا وقفنا على البيت في كلمة (العلا) فيصبح غير كاملا.
فرمز سما يكون لنافع وأبي عمرو وابن كثير.
قال( وَحَقٌّ فِيهِ وَابْنِ الْعَلاَءِ قُلْ ):
حق: رمز إذا اجتمع الاثنان: ابن كثير وأبو عمرو البصري.
قال( وَقُلْ فِيهِمَا وَالْيَحْصَبِي نَفَرٌ حَلاَ ) ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر نفر.

(55)
وَحِرْمِيٌّ الْمَكِّيُّ فِيهِ وَنَافِعٍ *** وَحِصْنٌ عَنِ الْكُوفِي وَنَافِعِهِمْ عَلاَ

قال( وَحِرْمِيٌّ الْمَكِّيُّ فِيهِ وَنَافِعٍ )
حِرْمِيٌّ: أي أصحاب الحرم المكي والمدني (نافع وابن كثير).
قال( وَحِصْنٌ عَنِ الْكُوفِي وَنَافِعِهِمْ عَلاَ ) الكوفيون مع نافع ليس لهم رمز حرفي فجعلهم في حصن، أي أن الكوفيين إذا اتفقوا مع نافع على قراءة حرف من الحروف أو كلمة من الكلمات رمز لهؤلاء الأربعة بحصن.

(56)
وَمَهْماَ أَتَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ كِلْمَةٌ *** فَكُنْ عِنْدَ شَرْطِى وَاقْضِ بِالْوَاوِ فَيْصَلاَ

هذا البيت أيضا فيه منهجية التي رسمها لنا الإمام الشاطبي.
قال( وَمَهْماَ أَتَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ كِلْمَةٌ ) يعني بالكلمات الثمانية التي ذكرها والرموز الكلمية، سواء جاءت قبل ذكره للحرف أو بعده ليس هناك مشكلة.
قال( فَكُنْ عِنْدَ شَرْطِى وَاقْضِ بِالْوَاوِ فَيْصَلاَ ):
فَكُنْ عِنْدَ شَرْطِى: أي أن هذا الشرط الذي هو في موضوع الرواة والرموز.
وَاقْضِ بِالْوَاوِ فَيْصَلاَ: أي إذا رأيت الواو بعد هذا التعداد للرموز سواء كانت كلمية أو حرفية فكن عند شرطي.
فالإمام يؤكد على هذه المسألة أن الواو هو الفاصل ما بين تعداد الرموز للقراء والكلمة التي بعدها.

(57)
وَمَا كانَ ذَا ضِدٍّ فَإِنِّي بَضِدِّهِ *** غَنّيٌّ فَزَاحِمْ بِالذَّكاءِ لِتَفْضُلاَ

قال( فَإِنِّي بَضِدِّهِ غَنّيٌّ ) يعني أن الإمام الشاطبي لا يريد أن يسلمنا كل شيء بالتفصيل الممل، وإنما يريد أن يذكر لنا بعض الرموز التي من خلالها إذا أَعمل الإنسان فكره وذكاءه يصل إلى المطلوب.
وَمَا كانَ ذَا ضِدٍّ فَإِنِّي بَضِدِّهِ: أي أن هناك أضداد، إذا كان الشيء مع ضده فلن يذكر الضدين بل سيذكر أحدهما، وإذا ذكر أحد الضدين حينئذ يترك للقارىء بذكاءه أي يكتشف الضد الآخر.
ولذلك كما قال العلماء: الضدية هنا فيها اضطراد وانعكاس.
قال( فَزَاحِمْ بِالذَّكاءِ لِتَفْضُلاَ ) حث من الإمام الشاطبي -رحمه الله- لطالب العلم أن يزاحم بذكاءه أقرانه.
ولذلك هي قضية دعوى لإعمال الذهن والفكر في هذه المسألة، وكذلك لابد أن تستخدم العربية وتفهم قواعد وضوابط اللغة.

فأعطانا هذه الضدية:
(58)
كَمَدٍّ وَإِثْبَاتٍ وَفَتْحٍ وَمُدْغَمٍ *** وَهَمْزٍ وَنَقْلٍ وَاخْتِلاَسٍ تَحَصَّلاَ

مَدٍّ: ضده القصر.
إِثْبَات: ضده الحذف.
فَتْح: ضده الإمالة.
مُدْغَم: ضده الإظهار.
هَمْز: ضده ترك الهمز.
نَقْل: ضده عدم النقل.
اخْتِلاس: ضده إتمام الحركة.

(59)
وَجَزْمٍ وَتَذْكِيرٍ وَغَيْبٍ وَخِفَّةٍ *** وَجَمْعٍ وَتَنْوِينٍ وَتَحْرِيكٍ اْعَمِلاَ

جَزْم: ضدها الرفع.
تَذْكِير: ضده التأنيث.
غَيْب: ضدها المخاطبة.
خِفَّة: ضدها التشديد والتثقيل.
جَمْع: ضده الإفراد، ولا نقول التثنية.
تَنْوِين: ضده ترك التنوين.
تَحْرِيك: ضده التسكين.

فلا بد أن ننتبه لهذه القواعد التي نبهنا إليها الإمام الشاطبي، مثلا عندما يقول:
وَكُوفِيُّهُم تَسَّاءَلُونَ مُخَفَّفا
هنا ذكر مذهب المخففين ولم يذكر مذهب الباقين فعُلِم من الضدية أنهم يشددون، فهنا نفهم مذهب الباقين من خلال: التشديد - الضدية واللفظ لما قال:
وَبِاللَّفْظِ أَسْتَغْنِي عَنِ القَيْدِ إِنْ جَلاَ
فهنا ذكر لنا اللفظ كما ينطقها غير الكوفيين وأيضا قيدها بالقيد الذي ذكره.

~ فائدة ~
علماء المنطق دائما يقولون: الضدان هما الشيئان اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان عن الشيء الواحد في آن واحد.


نرى هنا أيضا أن الإمام الشاطبي أعطانا مزيد من الأضداد:
(60)
وَحَيْثُ جَرَى التَّحْرِيكُ غَيْرَ مُقَيَّدٍ *** هُوَ الْفَتْحُ وَالْإِسْكانُ آخَاهُ مَنْزِلاَ

قال( وَحَيْثُ جَرَى التَّحْرِيكُ غَيْرَ مُقَيَّدٍ هُوَ الْفَتْحُ ) إذا قال مثلا: قد نحرك من صحاب، هنا ينصرف الذهن فورا إلى أن التحريك المقصود به الفتح:{ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ }[البقرة:236] فدل من خلال مفهوم المخالفة أن الباقين يسكنون الدال.
قال( وَالْإِسْكانُ آخَاهُ مَنْزِلاَ ) يعني آخ التحريك.
إذا قال محركا فضده الإسكان.

(61)
وَآخَيْتُ بَيْنَ النُّونِ وَالْيَأ وَفَتْحِهِمْ *** وَكَسْرٍ وَبَيْنَ النَّصْبِ وَالخَفْضِ مُنْزِلاَ

قال( وَآخَيْتُ بَيْنَ النُّونِ وَالْيَأ ) آخ بين النون والياء، إذا نص على أن بعض القراء يقرؤون بالنون كابن كثير معنى ذلك أن الباقين يقرؤون بالياء.
قال( وَفَتْحِهِمْ وَكَسْرٍ ) إذا نص على الفتح دال على أن الباقين يكسرون: وقل عسِيتم بكسر السين حيث أتى انجلا، فمعنى أن الباقين يفتحون السين.
قال( وَبَيْنَ النَّصْبِ وَالخَفْضِ مُنْزِلاَ ) إذا نص على الكسر دل على أن الباقين يفتحون.
مثال: حمزة والأرحامِ بالخفض جملا، معنى ذلك أن الباقين يفتحون.

(62)
وَحَيْثُ أَقُولُ الضَّمُّ وَالرَّفْعُ سَاكِتاً *** فَغَيْرُهُمُ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْبِ أَقْبَلاَ

الفتح ضد الضم
والنصب ضد الرفع
مثال: حتى يقولَ الرفع في اللام أولا.

~ ملاحظة ~
إذا قيد الضمة بكونه ضد الضم والإسكان فمعنى ذلك أن الباقين يسكنون، مثال ذلك:
وجزءا وجزء ضم إسكان صف، هنا قيد الضم بأنه ضم الإسكان مع ذلك ضدها الإسكان، كأنه يقول كانت ساكنة فضُمت فالباقون يبقون على الأصل الذي هو السكون.
إذا كان أمر من الأمور التي يذكرها الإمام الشاطبي في وقتها الذي يذكرها مخالفة لهذه القواعد أو الأضداد لابد أن ينص عليها.


(63)
وَفي الرَّفْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالْغَيْبِ جُمْلَةٌ *** عَلَى لَفْظِهَا أَطْلَقْتُ مَنْ قَيَّدَ الْعُلاَ
هنا مسألة التقييد:
( وَفي الرَّفْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالْغَيْبِ ) هذه الكلمات إذا أراد أن ينص على أن القارىء يقرأ بها يذكرها، فإذا ذكرها:
( عَلَى لَفْظِهَا أَطْلَقْتُ مَنْ قَيَّدَ الْعُلاَ ) مسألة الإطلاق والتقييد في هذه الرموز، أي ذكر هذه الكلمات إذا ذكرها مطلقا يُعلن من إطلاقه لها أنها هي المرادة وليست أضدادها.
مثلا: وأربع أولا صحاب، الآن لما نص على أن الكلمة التي هي موضع الأول وأربع بصحاب (حمزة والكسائي وحفص) فهم يقرؤون بالرفع، في هذه الحالة قيد.
إذا لفظها بالرفع فهي كما لفظها.


هذه ثلاثة الأبيات هي نهاية هذه القواعد التي وضعها قبل أن يشرع في بيان المقصود من القصيد:
(64)
وَقبْلَ وبَعْدَ الْحَرْفِ آتِي بِكُلِّ مَا *** رَمَزْتُ بِهِ فِي الْجَمْعِ إِذْ لَيْسَ مُشْكِلاَ

قال( وَقبْلَ وبَعْدَ الْحَرْفِ آتِي بِكُلِّ مَا رَمَزْتُ بِهِ ) كأنه يقول لا تشترط علي ولا تقيدني بأني آتي بالرمز قبله أو بعده سواء كان هذا الرمز حرفي أو كلمي.
وَقبْلَ وبَعْدَ الْحَرْفِ: المقصود بها الكلمة القرآنية التي فيها الخلاف، وهذا منهج عند أبي عمرو الداني في كتابه " جامع البيان ".
قال( فِي الْجَمْعِ إِذْ لَيْسَ مُشْكِلاَ ) والجمع المقصود به هنا الرموز الكلمية.

(65)
وَسَوْفَ أُسَمِّي حَيْثُ يَسْمَحُ نَظْمُهُ *** بِهِ مُوضِحاً جِيداً مُعَمًّا وَمُخْوَلاَ

قال( وَسَوْفَ أُسَمِّي حَيْثُ يَسْمَحُ نَظْمُهُ ) يقصد به أنه يمكن أن يخرج عن منهجه في الرمزية إلى الوضوح والأسماء.
قال( بِهِ مُوضِحاً جِيداً مُعَمًّا وَمُخْوَلاَ )
جِيداً: المقصود به العنق.
مُعَمًّا وَمُخْوَلاَ: المقصود به الأعمام والأخوال، أي كناية.

(66)
وَمَنْ كانَ ذَا بَابٍ لَهُ فِيهِ مَذْهَبٌ *** فَلاَ بُدَّ أَنْ يُسْمَى فَيُدْرَى وَيُعْقَلاَ

في الأصول إذا كان القارىء له باب، هذا الباب لا يشاركه فيه غيره فلابد أن يذكر هذا الباب وينسبه لصاحبه.
مثلا:
ودونك الإدغام الكبير وقطبه *** أبو عمرو البصري فيه تحفلا
من البداية أن الإدغام الكبير هو قطبه أبو عمرو.
فيذكر البيت وينسبه لصاحبه ثم إن وقع ثمة خلاف أو موافقة لأحد الرواة أو القراء معه ذكره إما في الأصول أو في الفرش في موضعه.
فَلاَ بُدَّ أَنْ يُسْمَى: أي يسميه ويذكره بمذهبه وبابه واسمه في البداية فيدرى ويعقلا.

بسم الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

في هذه الأبيات الإمام الشاطبي -رحمه الله- يبدأ بنصائح وفوائد يخاطب بها من يقرأ ألفيته، فيقول:

(67)
أَهَلَّتْ فَلَبَّتْهَا المَعَانِي لُبَابُهاَ *** وَصُغْتُ بِهَا مَا سَاغَ عَذْباً مُسَلْسَلاَ

أَهَلَّتْ: الحديث هنا عن القصيدة، هذه القصيدة التي أريد أن أبينها لكم و أشرحها أهلت، وإن كان لم يرد ذكرها من قبل لأن السياق يقتضي ذلك.
والإهلال هو الطلب بصوت مرتفع.
فَلَبَّتْهَا المَعَانِي لُبَابُهاَ: لبت والتلبية الاستجابة، فكأن الشاطبية أهلت فنادت على المعاني أن تنال منها حظا أوفر فأخذت من المعاني خالصها.
فهذا فيه كما يسميه العلماء البدل الاجتماعي.
وَصُغْتُ بِهَا: أي بالمعاني.
وكلمة " صغت " تدل على الدقة والحذق.
مَا سَاغَ عَذْباً مُسَلْسَلاَ: أي لما لمت المعاني هذه الألفاظ أخذتها فصغت من خلالها الألفاظ بغاية الروعة.
وكذلك يطمئن القارىء أن هذه القصيدة تكون سائغة لك وسلسة في النطق.

(68)
وَفي يُسْرِهَا التَّيْسِيرُ رُمْتُ اخْتَصَارَهُ *** فَأَجْنَتْ بِعَوْنِ اللهِ مِنْهُ مُؤَمَّلاَ

وَفي يُسْرِهَا التَّيْسِيرُ رُمْتُ اخْتَصَارَهُ: يشير هنا إلى أن هذه الشاطبية لخصت القراءات التي أوردها الإمام أبو عمرو الداني في كتابه " التيسير في القراءات السبع ".
رمت أي طلبت اختصار كتاب " التيسير " في هذه القصيدة.
فَأَجْنَتْ بِعَوْنِ اللهِ مِنْهُ مُؤَمَّلاَ: يقول الحمد لله قد جنيت الثمرة التي تأملتها من هذا الاختصار، وما كنت أتأمله من صنيع هذا قد جنيته، وكأنه يؤكد لنا أن المعاني الموجودة في " التيسير " هي موجودة بذاتها بل زادت.


(69)
وَأَلْفَافُهَاً زَادَتْ بِنَشْرِ فَوَائِدٍ *** فَلَفَّتْ حَيَاءً وَجْهَهَا أَنْ تُفَضَّلاَ

أي أنا ضمنت ما في " التيسير " من المعاني وزدت عليها.

~ تنبيه ~
" الشاطبية " و " التيسير " طريق، وهذا الطريق ملتزم من خلاله بوجوه وقواعد وضوابط غير موجودة في الطرق الأخرى، ولذلك اشتهرت هذه عند القراء بطريق الشاطبية وهي ذاتها مشتهرة بطريق التيسير، كل ذلك يدل على أنها واحدة.
وَأَلْفَافُهَاً زَادَتْ بِنَشْرِ فَوَائِدٍ: هذه الألفاف، والألفاف في الأصل الشجرة الملتف بكثافة أوراقه وخصوبته وغناه بالثمر.
وألفاف هذه القصيدة زادت عن التيسير بنشر بعض الفوائد التي لم تذكر في التيسير كبعض التنبيهات والتعليلات والحديث عن مخارج الحروف والصفات وغير ذلك.
كلمة فوائد: في الأصل ممنوعة من الصرف، صرفها ضرورة شعرية. فَلَفَّتْ حَيَاءً وَجْهَهَا أَنْ تُفَضَّلاَ: هذا اعتراف من الشيخ بالفضل لأهله، واعتراف بالتقصير أمام العالم النحرير، وقال هذا من باب أدب التلميذ مع الشيخ، وفيه من الصورة البلاغية، شبه هذه القصيدة بالفتاة ذات الحياء.
أن تفضلا يعني كأنه يقول أنا لا أفضل قصيدتي على كتاب " التيسير " فهي منه استقت المعاني، فالفرع يزكو بالأصل.

(70)
وَسَمَّيْتُهاَ "حِرْزَ الْأَمَانِي" تَيَمُّناً *** وَوَجْهَ التَّهانِي فَاهْنِهِ مُتَقبِّلاَ

هنا البيت يعطينا اسم هذه القصيدة " حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع ".
حِرْزَ: والحرز هو الشيء الذي إذا دخله الإنسان نجا من كل عدو.
تَيَمُّناً: كأنه يقول أرجو من الله أن من يأخذ هذه الشاطبية ومن تكون في صدره يكون مأمونا من كل خطر، محفوظا بحفظ الله سبحانه.
وَوَجْهَ التَّهانِي: كأنه يقول أهنىء من حملها، بل إن التهاني تمتد إليه من كل صوب بأن في صدره القراءات.
فَاهْنِهِ مُتَقبِّلاَ: هنيئا له حال كونه مقبلا على العلم، أو هنيئا لهذا العلم إن أقبل عليه الناس، فلذلك متقبلا (بكسر الباء أو فتحها) فهو خير العلوم.

(71)
وَنَادَيْتُ أللَّهُمَّ يَا خَيْرَ سَامِعٍ ... أَعِذْنِي مِنَ التَّسْمِيعِ قَوْلاً وَمَفْعَلاَ

وَنَادَيْتُ: أي بعد أن أكملت القصيدة وأتممت نظمها ناديت الله وناجيت ربي ودعوته:
أللَّهُمَّ يَا خَيْرَ سَامِعٍ: يا خير من يسمع دعاء المضطر إذا دعاه.
أَعِذْنِي مِنَ التَّسْمِيعِ قَوْلاً وَمَفْعَلاَ: أستجير وأعوذ بك من التسميع من أن يكون عملي هذا ليس خالصا لك، فهنا يسأل الله تعالى أن يصرف عنه التسميع في القول والعمل.


(72)
إِلَيكَ يَدِي مِنْكَ الْأَيَادِي تَمُدُّهَا ... أَجِرْنِي فَلاَ أَجْرِي بِجَوْرٍ قَأَخْطَلاَ

إِلَيكَ يَدِي: كأنه يقول يا ربي أنا أمد يدي مستجيرا بك ملتجأ إليك.
مِنْكَ الْأَيَادِي تَمُدُّهَا: أي منك نعمك معترفا أنا أمد يدي إليك مقرا بما لك علي من الأيادي والنعم العظيمة.
أَجِرْنِي فَلاَ أَجْرِي بِجَوْرٍ قَأَخْطَلاَ:
أجرني أي أسألك يا ربي أن تحفظني وتقيني العثرات.
فلا أجري بجور ولا أسير بظلم.
فأخطلا أي أقع في الخطل والخطل هو الخطأ والجور والظلم وما إلى ذلك.

(73)
أَمِينَ وَأَمْناً لِلأَمِينِ بِسِرِّهَا ... وَإنْ عَثَرَتْ فَهُوَ الْأَمُونُ تَحَمُّلاَ

أَمِينَ: كأنه يقول استجب لي، وهنا أمين بدون مد لضرورة الشعر.
وَأَمْناً لِلأَمِينِ بِسِرِّهَا: ويا ربي أسألك أن تكرم الذي هو الأمين على سرها المقدم لها والحافظ والمبلغ لها للناس أن تكرمه بالأمن.
وَإنْ عَثَرَتْ: أي هذه القصيدة، وإن وجدت فيها شيء من الخلل والزلل:
فَهُوَ الْأَمُونُ تَحَمُّلاَ: كأنه يقول: تحمل وتغاض عما فيها من الزلل والخطل والخطأ.
الأمون كلمة يوصف بها الجمل الذي يحمَّل عليه الأحمال الكثيرة.
أي كأنه يقول: أملي أن يكون هذا الذي يحملها قويا على توصيلها وتبليغها.

(74)
أَقُولُ لِحُرٍ وَالْمُرُوءةُ مَرْؤُهَا ... لِإخْوَتِهِ الْمِرْآةُ ذُو النُّورِ مِكْحَلاَ

أَقُولُ لِحُرٍ: هنا وصف صاحب القرآن بالحر الذي لم تستهويه الدنيا.
وَالْمُرُوءةُ مَرْؤُهَا لِإخْوَتِهِ: كأنه يقول لصاحب القرآن خيره لإخوانه وليس لنفسه.
الْمِرْآةُ ذُو النُّورِ مِكْحَلاَ: أي شبهه بالمرآة وخيرها ليست لها وإنما هو للآخر الذي إذا نظر بها وجد فيها عيوبها.

(75)
أَخي أَيُّهَا الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ ... يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوْقِ أَجْمِلاَ

أَخي أَيُّهَا: يا أيها القارىء الذي يقرأ هذا النظم.
الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ: كأن هذا النظم مع شخص جاز بابه وهو ينادي عليه.
يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوْقِ أَجْمِلاَ: أي إذا رأيت هذه البضاعة بضاعة كاسدة ولا قيمة لها فقل قولا جميلا حسنا.

(76)
وَظُنَّ بِهِ خَيْراً وَسَامِحْ نَسِيجَهُ ... بِالاِغْضاَءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلاَ

وَظُنَّ بِهِ خَيْراً: أي ظن الخير ولا تظن الشر.
وَسَامِحْ نَسِيجَهُ: وشبه القصيدة بالنسيج بالثوب الذي يُنسج
بِالاِغْضاَءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلاَ: بالاغضاء وغض الطرف عما فيه من المساوىء وأن تقول قولا حسنا وإذا كان ضعيفا في نفسه وهذا تواضع من الشيخ.

(77)
وَسَلِّمْ لِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِصَابَةٌ وَالأُخْرَى اجْتِهادٌ رَامَ صَوْباً فَأَمْحَلاَ

كأنه يقول يا أخي أعذرني إذا وجدت في قصيدتي خطأ ما فإنما هي إحدى الحسنيين إصابة أو عدمها، مجتهد طلب الصواب فأمحل يعني وقع في الخطأ، هذا من المحل وهو تشبه بالأرض إذا انقطع ماء المطر عن الأرض نقول أمحلت الأرض وجذبت.
فكأنه يقول إن كان هذا محلا وليس فيه شيء من الفوائد فاعذرني أني اجتهدت.

(78)
وَإِنْ كانَ خَرْقُ فَأدرِكْهُ بِفَضْلَةٍ مِنَ الْحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلاَ

وَإِنْ كانَ خَرْقُ فَأدرِكْهُ بِفَضْلَةٍ: وإذا كان خرق تداركه بهمتك ونشاطك وعلمك.
مِنَ الْحِلْمِ: فاحلم علي وظن بي خيرا.
ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلاَ: هي دعوة صريحة كما هو حال العالم دائما: ما عندي صواب يحتمل الخطأ، وما عند غيري خطأ يحتمل الصواب.
يعني إن وجدت خطأ في هذه القصيدة فأصلحه بالقول الجيد الحسن.

(79)
وَقُلْ صَادِقًا لَوْلاَ الْوِئَامُ وَرُوحُهُ لَطاَحَ الْأَنَامُ الْكُلُّ فِي الْخُلْفِ وَالْقِلاَ

كأنه يقول المهم فينا الصدق سواء كان في الناصح أو المنصوح، ولابد أن يسود بيننا الوئام وهذا يستشير بالمثل العربي:
لولا الوئام لطاح الأنام
فالوئام معناه أن الإنسان يسع أخاه.
والخلف والقلا من الجفاء والبعد.
كأنها نصيحة أن يقدر كل واحد منا للآخر الاجتهاد فإن وجد فيه خيرا فليحمد الله وإن وجد غير ذلك فليقدم النصيحة بأسلوبها الصحيح، همه الحقيقة وليس حظ النفس والتشييع.


هذه الأبيات هي متابعة للأبيات السابقة في مسألة النصائح والتوجيهات لهذا القارىء المقرىء:

(80)
وَعِشْ سَالماً صَدْراً وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ *** تُحَضَّرْ حِظَارَ الْقُدْسِ أَنْقَى مُغَسَّلاَ

وَعِشْ سَالماً صَدْراً: يعني حال، يعني كن في حياتك سليم الصدر، ويستشهد بذلك قول الله عز وجل:﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾[ الشعراء:89].
ويكون الإنسان سليم الصدر من الضغائن والحقد، فيطلب من قارىء القرآن أن يكون سليم الصدر لإخوانه، ولذلك نتأمل قول الله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾[الحشر:10].
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ: هنا أكد على هذا الخلق الذميم تحديدا، لا تحضر مجالس الغيبة لأنها مجالس شؤم.
والغيبة كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم:[ ذكرك أخاك بما يكره ]، قالوا: يا رسول الله إن كان ما نقوله فيه، قال:[ إن كان ما تقول فيه فقد اغتبته ...].
هنا فيها جناس (غيبة فغب ).
وتكون النتيجة:
تُحَضَّرْ: جُزِمت بجواب الطلب.
حِظَارَ الْقُدْسِ: هنا كناية عن الجنة، وفرق بين تحضر وحظار، هنا جناس ناقص، وحظار من الحظيرة، والحظيرة ذلك المكان الذي يحظر فيه دخول من لا نريده أن يدخل، والحظر المنع، كقوله تعالى:﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ﴾[القمر:31].
أَنْقَى مُغَسَّلاَ: أي نقيا طاهرا، وإن أصابك شيء من هذه الابتلاءات فاغسله بالابتعاد بالتوبة والاستغفار

~ فائدة ~
النقطة التي نأخذها من البيت أن المعاصي تفسد وتؤذي الروح، وغسيلها بالاجتناب ثم بالتوبة والاستغفار والإنابة والرجوع إلى الله سبحانه.


(81)
وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي *** كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبلاَ

ونلاحظ دائما أنه يستشهد بالآيات القرآنية وبالأحاديث النبوية الشريفة:
وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ: مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:[ يأتي على الناس زمان الصبر الصابر فيه كالقابض على الجمر ].
فالصبر عدة المؤمن قال تعالى:﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾[البقرة:45].
مَنْ لَكَ: كأنه يقول أن هذا زمان الصبر من يا ترى من الذين يكونون كما قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم يحرصون على أن يقبضوا على دينهم كالقابض على الجمر.
بِالَّتِي كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبلاَ: هي دعوى من الإمام الشاطبي لنا جميعا أن يكون الإنسان منا صابرا ولو في كراهة.
فتنجو من البلا أي من الابتلاء الدنيوي أو الأخروي.

(82)
وَلَوْ أَنَّ عَيْناً سَاعَدتْ لتَوَكَّغَتْ *** سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِ دِيماً وَهُطّلاَ

هنا يشير ويلمح لنا بشيء أن الإنسان ينبغي أن يحرص على أن يبكي من خشية الله وخوفه منه سبحانه.
لتَوَكَّغَتْ: التوكف هنا المقصود به غزارة المطر.
سَحَائِبُهَا: هنا استعارة ما في السحاب والغيوم وما ينزل فيها من الأمطار.
فشبه العين بها من شدة ما ينزل فيها من الدمع الغزير المدرار.
دِيماً وَهُطّلاَ: ديما من الديمومة استدامة هذا الأمر.
وهطلا أي بشكل غزير وكثيف.
فهي دعوة من الإمام أن يكون الإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام:[ رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ].

(83)
وَلكِنَّها عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهاَ *** فَيَا ضَيْعَةَ الْأَعْمَارِ تَمْشِى سَبَهْلَلاَ

وَلكِنَّها عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهاَ: أي لكن قحط العين وعدم هطول الدمع منها من خشية الله سببه قسوة القلب.
وسماها القحط كما أن السماء إذا حبست ماءها عن الأرض ولم ينزل قحطت الأرض.
فَيَا ضَيْعَةَ الْأَعْمَارِ تَمْشِى سَبَهْلَلاَ: يعني هنا يتأسف إذا بقي الإنسان على هذه الحالة.
والسبهلل قال العلماء الفارغ الذي لا شيء فيه، ولذلك الإنسان إذا قال: مضى عمره سبهللا أي ليس فيه عمل ولا هدف ولا غاية.
فيا ضيعة الأعمار إن كانت تمضي على هذه الشاكلة.
كأنه إشارة يقول: كن مع الله في خلواتك وجلواتك.

(84)
بِنَفسِي مَنِ اسْتَهْدَىَ إلى اللهِ وَحْدَهُ *** وَكانَ لَهُ الْقُرْآنُ شِرْباً وَمَغْسِلاَ

بِنَفسِي مَنِ اسْتَهْدَىَ إلى اللهِ وَحْدَهُ: كأنه قدم نفسه الإمام الشاطبي رحمه الله فداءا بمن كانت هذه حاله لمن استهدى إلى الله وحده لا شريك له، أي اجعل الله سبحانه همك واطلب هداية الله، ومن استهدى فيه الطلب كانت له الهداية وكان طريقه طريق الهداية.
وَكانَ لَهُ الْقُرْآنُ شِرْباً وَمَغْسِلاَ: يعني القرآن لك في جميع أحوالك، إما أن تشرب منه فترتوي، وإما أن تغسل عنك أدرانك به.

(85)
وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ فَتفَتَّقَتْ *** بِكُلِّ عَبِيرٍ حِينَ أَصْبَحَ مُخْضَلاَ

وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ: أي الأرض التي يعيش فيها تطيب به:
تحيا بكم كل أرض تنزلون بها
فالأرض التي يكون فيها صاحب القرآن تكون فيها البركة والخير والنماء.
أو قالوا هنا عبر بالأرض وأرادوا بها أهلها: أي أهل الأرض طابوا به وأحبوا مجلسه ومكانه.
فَتفَتَّقَتْ بِكُلِّ عَبِيرٍ: أي لما نزل هذه الأرض فاحت عبيرا مسكا ورائحة زكية.
حِينَ أَصْبَحَ مُخْضَلاَ: المخضل هنا: الخضل يعني البلل، أي أصبحت هذه الأرض مخضلة مخضرة بحافظ وحامل القرآن ففاحت هذه الروائح الزكية ببركة قرآنه الذي في صدره.

(86)
فَطُوبى لَهُ وَالشَّوْقُ يَبْعَثُ هَمُّهُ *** وَزَنْدُ الْأَسَى يَهْتَاجُ فِي الْقَلْبِ مُشْعِلاَ

فَطُوبى لَهُ وَالشَّوْقُ يَبْعَثُ هَمُّهُ: أي يهنئه، أي من كانت هذه حاله فطوبى، ففيها تهنئة العيش الرغيد الناعم له.
وبعضهم قال طوبى شجرة في الجبة.
فسواء كان هذه أو تلك فهي المنزلة العالية الرفيعة التي تكون له.
من الذي يجعل الإنسان ذا همة؟
إذا كان هدفه الله سبحانه وكان هدفه الجنة سعى إلى هذا الهدف بهمة عالية وقاده الشوق.
وَزَنْدُ الْأَسَى يَهْتَاجُ فِي الْقَلْبِ مُشْعِلاَ:
والزند ذلكم الحجر الذي يوقد الشرارة الأولى.
يعني كأنما يقول يأسى على ما فاته، والتأسف على أي لحظة مرت به دون أن يذكر الله تعالى أو يستزيد من طاعة الله سبحانه، فكأنما اشتعلت نار الشوق والمحبة ونار الإقبال على الله تعالى في قلبه فزادت في همته وسيره إلى الله جل وعلا.


(87)
هُوَ المُجْتَبَى يَغْدُو عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ *** قَرِيباً غَرِيباً مُسْتَمَالاً مُؤَمَّلاَ

هُوَ المُجْتَبَى: أي المختار، أي حامل القرآن اجتباه الله واختاره.
يَغْدُو عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ: الغدوة في الأصل هو الذهاب في أول النهار.
يعني هو عندما يأتي إلى مجالس القوم يأتيهم بصفات أربع:
قَرِيباً غَرِيباً مُسْتَمَالاً مُؤَمَّلاَ:
قريبا: فهو قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة بعيد من النار، بعيد من الشيطان والرذائل.
غَرِيباً: قد يكون في سلوكه غرابة بالنسب لعامة الناس، وفيه دلالة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم:[ فطوبى للغرباء ].
مُسْتَمَالاً: أي يستميله الناس إلى الخير الذي عنده، ويُطلب إليه الميل كأن يقول الإنسان أتمنى صحبته.
مُؤَمَّلاَ: أي يضع الناس فيه آمالهم، ويعلقون عليه لأنه فيه الخير.

(88)
يَعُدُّ جَمِيعَ النَّاسِ مَوْلى لِأَنَّهُمْ *** عَلَى مَا قَضَاهُ اللهُ يُجْرُونَ أَفْعُلاَ

يَعُدُّ جَمِيعَ النَّاسِ مَوْلى:
مَوْلى: من كلمات الأضداد التي يُعرف منها المعنى وضده، قد يكون معناها:
- السيد.
- العبد المملوك.
ويصلح على كل من المعنيين.
يعني إما أن يقول:
- يعد الناس أسيادا وهو أقلهم شأنا وهذا سمة التواضع، وأنه كل الناس خيرا منه.
- يعد الناس مولى أي عبدا لله تعالى.
لِأَنَّهُمْ عَلَى مَا قَضَاهُ اللهُ يُجْرُونَ أَفْعُلاَ: يعني هم مسيرون لأمر الله فليس أحد منهم إلا وهو عبد لله تعالى يسير وفق ما أراد له سبحانه وتعالى، فإذا شعر بهذا الشعور، يكون هذا الشعور قد قاده إلى صفة التوكل.

(89)
يَرَى نَفْسَهُ بِالذَّمِّ أَوْلَى لِأَنَّهَا *** عَلَى المَجْدِ لَمْ تَلْعقْ مِنَ الصَّبْرِ وَالْأَلاَ

يقول بدل أن تذم الناس ذم نفسك لأنك مقصر.
يقول أيها القارىء للقرآن إذا رضينا من الناس أن يكونوا على همة وسط وعلى أمر مقتصد فلا يقبلها إلا منك.
أي دائما يأخذ نفسه بالذم، بتقصيرها لأنها على المجد وعلى بلوغ المجد لم تلعق من الصبر والأذى.
والصبر نوع من النبات مر.
والألا قالوا هو كذلك نبات حسن المظهر ولكنه مر.
فشبه الإنسان طالب العلم:
من كانت له بداية محرقة، كانت له نهاية مشرقة.
فكأنه يقول: يا حافظ القرآن لا تتخايل على الناس وتتكبر عليهم فأنت أيضا مقصر مع القرآن الذي في صدرك.


(90)
وَقَدْ قِيلَ كُنْ كَالْكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ *** وَمَا يَأْتَلِى فِي نُصْحِهِمْ مُتَبَذِّلاَ

لا يفهم الناس أن الشاطبي يقصد أن نصير كالكلاب ليس المقصود بذلك.
هنا ذكر وجه الشبه التي يريدها منا.
وَقَدْ قِيلَ: أي أسوق لكم مثلا، كونوا كما يكون ذلك الكلب الذي يقصيه أهله ويبعدونه ويضربونه ومع ذلك:
وَمَا يَأْتَلِى: أي لا يقصر في إسداء النصيحة لهم.

(91)
لَعَلَّ إِلهَ الْعَرْشِ يَا إِخْوَتِي يَقِى جَمَاعَتَنَا كُلَّ المَكاَرِهِ هُوّلاَ

لَعَلَّ: للترجي.
فهو يقول لهم وهذا ختام:
إن تمسكنا بما سمعنا، وإن كنتم كما أردت لكم من خلال هذه النصائح لعل إله العرش.
يَا إِخْوَتِي: خطاب لإخوانه الذين يقرؤون هذا المتن ويتربون عليه ويتأدبون بآدابه.
يَقِى جَمَاعَتَنَا كُلَّ المَكاَرِهِ هُوّلاَ: كل ما يكره الإنسان في دنياه من أمور مهولة الله عز وجل يقينا ، ويجعلنا ممن يكون كتابه شفيعا له.

(92)
وَيَجْعَلُنَا مِمَّنْ يَكُونُ كِتاَبُهُ شَفِيعاً لَهُمْ إِذْ مَا نَسُوْهُ فَيمْحَلاَ

شفيعا لهم إذا كانوا معه في الحفظ والعمل والالتزام به وعدم المغالاة فيه.
فَيمْحَلاَ: والمحل هو ضد الخصومة.

(93)
وَبِاللهِ حَوْلِى وَاعْتِصَامِي وَقُوَّتِى وَمَاليَ إِلاَّ سِتْرُهُ مُتَجَلِّلاَ

أي لا حول لي عن معصيته، ولا اعتصام لي بقوتي إلا به، وقوتي من الله مستمدة (لا حول ولا قوة إلا بالله).
وَمَاليَ إِلاَّ سِتْرُهُ مُتَجَلِّلاَ: أي أتجلل بستره، أتغطى وأحتمي بستر الله تعالى، وأكون معتمدا وملتجأ إليه ومحتميا به دون سواه.

(94)
فَيَا رَبِّ أَنْتَ اللهُ حَسْبي وَعُدَّنِي عَلَيْكَ اعْتِمَادِي ضَارِعاً مُتَوَكِّلاَ

فَيَا رَبِّ أَنْتَ اللهُ حَسْبي وَعُدَّنِي: حسبي الله ونعم الوكيل، وعدتي التي أعتد بها للأزمات ومفرج الكروب وساتر العيوب غفار الذنوب.
عَلَيْكَ اعْتِمَادِي ضَارِعاً مُتَوَكِّلاَ: كأنه يقول: توكلت على الله واعتصمت به وأنا أشرع ببيان المقصود من هذا القصيد.
وهذا البيت الأخير كأنه يعطينا درس التوكل على الله سبحانه والالتجاء إليه إذ ليس للإنسان قوة إلا بالله تعالى.

نصائح الشيخ:
1- حفظ الأبيات التي مرت قبل الشروع في بيان الأحكام ونضبطها.
2- الأبيات التي تأتي تُحفظ تباعا ولا نترك حتى تتراكم الأبيات، وإنما العلم بالتعلم والتدرج.
3- أن نحرص على ضبط النص، والتأكيد على الضبط الصحيح.
4- التوكل والاستعانة بالله.


باب الاستعاذة

(95)
إِذَا مَا أَرَدْتَ الدَّهْرَ تَقْرَأُ فَاسْتَعِذْ *** جِهَاراً مِنَ الشَّيْطَانِ بِاللهِ مُسْجَلاَ

بدأ الإمام بالاستعاذة لأنها هي التي يبدأ بها القارىء سواء بإفراد أو جمع، سواء برواية أو أكثر من رواية، كما قال العلماء:
أول القراءة الاستعاذة
الاستعاذة طلب، ودائما الاستفعال فيه طلب، فأطلب العوذ من الشيطان بالله سبحانه.
وقد شرعت الاستعاذة في بداية القراءة، وفي مسألة الوجوب وعدمه العلماء على خلاف، والذي يترجح لدى جمهور العلماء أنها سنة مستحبة.
فَاسْتَعِذْ: مصداقا لقوله تعالى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }[النحل:98] أن يقول:" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
ومصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:[ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ].
إذًا إذا ما أردت الدهر أيها القارىء، والدهر منصوبة على الظرفية، أي في أي زمان من الأزمنة وأن تشرع بالقراءة فأول القراءة الاستعاذة.
الجهر بالاستعاذة
يجهر القارىء بالاستعاذة إن كان يقرأ جهرا وكان أول القارئين في جماعة وكان خارج الصلاة.
هل هذا على سبيل الوجوب؟
الذي يترجح أنه على سبيل الندب والاستحباب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف على من ترك الاستعاذة.
فالأصل في الاستعاذة أنها جهرا.
جِهَاراً: هنا مقحمة، وكما يقولون جملة معترضة، في الأصل:
فاستعذ من الشيطان بالله.


(96)
عَلَى مَا أَتَى في النَّحْلِ يُسْراً وَإِنْ تَزِدْ *** لِرَبِّكَ تَنْزِيهاً فَلَسْتَ مُجَهَّلاَ

في هذا البيت يبين لنا الصيغة التي يستعيذ بها الإنسان.
عَلَى مَا أَتَى في النَّحْلِ يُسْراً: أي في سورة النحل.
وهنا لفتة طيبة من الإمام، وكأنه يميل إلى التنزيه.
يُسْراً: أي أيسر الصيغ ما ورد في سورة النحل أن تقول:
" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
وَإِنْ تَزِدْ لِرَبِّكَ تَنْزِيهاً فَلَسْتَ مُجَهَّلاَ: أي إذا أردت أن تزيد ألفاظا من خلالها تنزه الله عن كل نقص كما ورد في بعض الآثار، فالإمام الشاطبي -رحمه الله- ترك لنا المجال مفتوحا.

(97)
وَقَدْ ذَكَرُوا لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَمْ يَزِدْ *** وَلَوْ صَحَّ هذَا النَّقْلُ لَمْ يُبْقِ مُجْمَلاَ

وَقَدْ ذَكَرُوا لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَمْ يَزِدْ: أي الذين رووا هذه الصيغة، أي ما ورد في الآثار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني الأثر الوارد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه لم يزد.
وَلَوْ صَحَّ هذَا النَّقْلُ لَمْ يُبْقِ مُجْمَلاَ: لو حرف امتناع لوجود.
أي لو صح هذا النقل الذي ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يبق أي مجال للحديث، فكأنما يقول: إذا صح الحديث فهو المذهب الذي نمشي ونسر عليه.
من هنا كأنه يشكك في صحة الآثار التي من خلالها يتذرع بعض الناس بعدم جواز الزيادة.
والتحقيق في المسألة أن كل الصيغ التي جاء فيها المنع كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام:[ يا ابن أم عبد قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ]، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام في رواية جبير بن مطعم أنه كان يقول:[ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ].
علماء الحديث وشراح الشاطبية يقولون أن هذين الحديثين ضعيفان.
ولهذا قال الإمام الشاطبي ولو صح هذا النقل بصيغة التمريض.
العلماء تتبعوا هذه الآثار وأن هناك في سنن الترمذي وأبي داود في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول:[ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ].
والترمذي علق على هذا الحديث فقال:(( وأشهر حديث في هذا الباب )).

(98)
وَفِيهِ مَقَالٌ في الْأُصُولِ فُرُوعُهُ *** فَلاَ تَعْدُ مِنْهَا بَاسِقاً وَمُظَلِّلاَ

هنا الإمام كأنما يوجه أنه الالتزام بالنص الوارد في النحل ليس صحيحا.
العلماء يقولون:
- الضمير "فيه" يعود على التعوذ.
- وبعضهم يقول أنه يعود على منع الزيادة.
في الْأُصُولِ فُرُوعُهُ: وكتب الأصول هنا أي كتب الفقه وأصول الحديث وأصول القراءات.
فَلاَ تَعْدُ مِنْهَا بَاسِقاً وَمُظَلِّلاَ: أي كما يقول العلماء: جاء على سبيل المثل، وما تتعدى على ما ورد في الأصول، فهي باسقة الظلال تظلل من استظل بها.
أي لا تعدو على هذه الأمور والتزم بما في كتب الأصول.

(99)
وَإِخْفَاؤُهُ فَصلْ أَبَاهُ وَعُاَتُنَا *** وَكَمْ مِنْ فَتىً كالْمَهْدَوِي فِيهِ أَعْمَلاَ

هذا البيت يتكلم عن الإسرار في الاستعاذة وعدم ظهوره في مواطن التي ذكرت.
وَإِخْفَاؤُهُ: المقصود هنا الإسرار، ولذلك مصطلح الإخفاء ورد عن العلماء في أكثر من حالة من جملتها:
- الإسرار.
- حالة بين الإدغام والإظهار.
- إخفاء الحركة.
- إخفاء الحرف.
وإذا كان في غير المواطن فالإمام الشاطبي يقول:
أَبَاهُ وَعُاَتُنَا: أي أنه غير وارد وليس مذهبا صحيحا، والراجح أنه لا رمز في البيت.
وَكَمْ مِنْ فَتىً كالْمَهْدَوِي فِيهِ أَعْمَلاَ: أي فيه مذهب وهو أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي المقرىء المفسر -رحمه الله- المتوفى سنة 430هـ، يعني مذهبه الإخفاء وأنه على غير الراجح.

مواطن إخفاء الاستعاذة
- إذا كان القارىء يقرأ سرا.
- وإذا كان يقرأ خاليا.
- وإذا كان يقرأ في الصلاة.
- وإذا كان يقرأ في وسط جماعة أو حلقة ولم يكن هو المبتدىء في القراءة.

ويستحب الجهر بالاستعاذة في غير هذه المواطن.

أوجه الاستعاذة مع البسملة
أربعة أوجه:
1- فصل الاستعاذة عن البسملة عن السورة.
2- فصل الاستعاذة عن البسملة، ويصل البسملة بما بعدها.
3- وصل الاستعاذة بالبسملة، وفصل البسملة عن السورة.
4- وصل الجميع.


باب البسملة

البسملة: مصدر مولد من منحوت، والنحت في اللغة أن تأخذ جملة فتجعلها في كلمة.
فالمقصود بها أن يقول الإنسان: بسم الله الرحمن الرحيم.
بدأ الإمام الشاطبي -رحمه الله- الحديث عن المبسملين الذين مذهبهم أن نبسمل بين كل سورتين:

(100)
وَبَسْمَلَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ (بِـ)سُنَّةٍ *** (رِ) جَالٌ (نَـ)ـمَوْهاَ (دِ)رْيَةً وَتَحَمُّلاَ

يذكر هنا لنا الإمام رموز الذين لهم الحكم.
وَبَسْمَلَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ: أي بعد كل سورتين بعد انقضاء الأولى وبعد أن يشرع بالثانية أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
من هم؟:
(ب): قالون
(ر) الكسائي
(ن) عاصم
(د) ابن كثير
وَتَحَمُّلاَ: أتانا هنا بالواو فيصلا.

~ تنبيه ~
الإمام الشاطبي عندما يأتينا بالأبيات يأتي مع الرموز بما يوجه القراءة ويبين أصلها وواقع الحال، فهنا مثلا أعطانا مع الرموز حكما، كأنه يقول أن هؤلاء يبسملون لا من عند أنفسهم وإنما السنة الواردة التي نقلوها في البسملة.
السنة: هي الطريقة.
رجال: الذين نقلوا هم رجال.
نموها: نقلوها، والنقل ليس اجتهاد شخصي وإنما درية وتحملا.
درية وتحملا: أي أنهم رووا هذا الحكم وتحملوه بالرواية الواردة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.


(101)
وَوَصْلُكَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ (فَـ)ـصَاحَةٌ *** وَصِلْ وَاسْكُتَنْ (كُـ)ـلٌّ (جَـ)ـلاَيَاهُ (حَـ)ـصَّلاَ

وَوَصْلُكَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ (فَـ)ـصَاحَةٌ: هنا حمزة المرموز له بالفاء وأنه يصل بين السورتين بلا بسملة.
وَصِلْ وَاسْكُتَنْ (كُـ)ـلٌّ (جَـ)ـلاَيَاهُ (حَـ)ـصَّلاَ: الصلة بلا بسملة أو السكت بلا تنفس كل جلا وحصلا:
(ك) ابن عامر
(ج) ورش
(ح) أبو عمرو

إذن عندنا ثلاثة مذاهب في هذين البيتين:
المذهب الأول
أثبت البسملة بين السورتين( قالون- الكسائي- عاصم وابن كثير).
المذهب الثاني
الوصل بين السورتين دون البسملة ( حمزة ).
المذهب الثالث
خيَّر بين السكت والوصل بلا بسملة ( ابن عامر - ورش وأبو عمرو ).


(102)
وَلاَ نَصَّ كَلاَّ حُبَّ وجْهٌ ذَكَرْتُهُ *** وَفِيهاَ خِلاَفٌ جِيدُهُ وَاضِحُ الطُّلاَ

هذا البيت استدراك على البيت السابق، كأن الشاطبي يقول:
لا نص عند ابن عامر وأبو عمرو والخلاف ظاهر عند ورش.
هذا البيت من الأبيات التي استشكلت على بعض الشراح، وخلاصة القول:
أن بعض الشراح يرون أن في هذا البيت رموزا، وبعضهم لا يرى ذلك.
يقول الإمام أبي شامة في (إبراز المعاني من حرز الأماني):
(( وإن قلنا إن جيده رمز ورش لزم أن يكون ابن عامر وأبو عمرو لم يرد عنهما خلاف في البسملة وهو خلاف المنقول فلهذا قلنا لا رمز في البيت أصلا والله أعلم )).


(103)
وسَكْتُهُمُ الْمُخْتَارُ دُونَ تَنَفُّسٍ *** وَبَعْضُهُمُ فِي الْأَرْبِعِ الزُّهْرِ بَسْمَلاَ

وسَكْتُهُمُ الْمُخْتَارُ دُونَ تَنَفُّسٍ: السكت: هي سكتة لطيفة بمقدار الشهيق والزفير لكن دون شهيق وزفير، في مواضع مخصوصة حددها العلماء، والسكت يختلف عن الوقف.
وكأن اختيار الشاطبي إذا خُيِّر بين الوجهين أنه يختار السكت ثم بين بأنه بلا تنفس.
وَبَعْضُهُمُ فِي الْأَرْبِعِ الزُّهْرِ بَسْمَلاَ: أي بعض الرواة عن هؤلاء الثلاثة الذين يصلون.
الأربع الزهر هي: القيامة - المطففين - البلد والهمزة.
لماذا هذه السور الأربعة لها خصوصية؟
قال العلماء خصوصيتها في البدء بها.
من مذهبه السكت يختار في هذه البسملة.
بعضهم: أي بعض القراء أو الرواة أو الشيوخ الذين نقلوا عن هؤلاء العلماء الذين يسكتون في الأصل.
نلاحظ أن هنا بين السورة التي قبل هذه السور الأربع فيه تباين في الموضوع الذي يتحدث بهما، مثلا:
بين المدثر والقيامة وحتى يكون فاصل بين هاتين السورتين فصل بالبسملة، أو لحمزة الذي هو في الأصل يصل سكت، ولهذا قال:

(104)
لَهُمْ دُونَ نَصٍّ وَهْوَ فِيهِنَّ سَاكِتٌ *** لِحَمْزَةَ فَافْهَمْهُ وَلَيْسَ مُخَذَّلاَ

وَهْوَ فِيهِنَّ سَاكِتٌ لِحَمْزَةَ فَافْهَمْهُ وَلَيْسَ مُخَذَّلاَ: أي يسكت بين السور الأربعة.
فافهمه: أي افهم هذا الأمر.
ليس مخدلا: لتكميل البيت أن هذا الموضوع فيه ما ورد عن هؤلاء العلماء فإن كانوا يصلون بغيرها من السور كحمزة فهو يسكت فيها، وإن كان يسكت فهو يبسمل بين هاتين السورتين.


(105)
وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأْتَ بَرَاءَةً *** لِتَنْزِيلِهاَ بالسَّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلاَ

وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأْتَ بَرَاءَةً: يعني مهما تصل براءة أو تبدأ بها فلا تبسمل.
لِتَنْزِيلِهاَ بالسَّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلاَ: ذكر الحكم مع توجيهه أي:
لا بسملة مع بداية براءة سواء كنا مبتدئين بها أو واصلين لها بما قبلها.
والسر في هذا هو عدم الورود، وعثمان رضي الله عنه لما سئل عن ترك البسملة في الكتابة قال:(( كنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا ندري انقضاء السورة حتى تنزل علينا البسملة فنؤمر بكتابتها فنعلم عندها أن سورة قد بدأت إلا ما كان بين الأنفال وبراءة فلم يؤمر من ذلك بشيء )).
العلماء بعد ذلك حاولوا أن يجدوا التوجيه، من جملتها:
1- التوجيه الذي ذكره الإمام الشاطبي لتنزيلها بالسيف لقوتها وشدتها على المشركين والمنافقين.
2- أن بدايتها براءة من الله ورسوله، وكأنما تتنافى مع الرحمة بهم.
3- هناك تعليل رائع أن سورة براءة جاءت لنقض العهد، وعادة العرب أنها إذا وثقت عهدا بدأت بالبسملة، وإذا أرسلت وثيقة نقض العهد أرسلتها بدون بسملة.

الأوجه الثلاثة بين الأنفال وبراءة
بين هاتين السورتين لا استعاذة ولا بسملة.
والأوجه الثلاثة الصحيحة:
1- يجب وصل الأنفال ببراءة.
2- السكت بين الأنفال وبراءة.
3- الوقف مع التنفس.

(106)
وَلاَ بُدَّ مِنْهاَ في ابْتِدَائِكَ سُورَةً *** سِوَاهاَ وَفي الْأَجْزَاءِ خَيَّرَ مَنْ تَلاَ

وَلاَ بُدَّ مِنْهاَ: أي البسملة.
في ابْتِدَائِكَ سُورَةً: قال العلماء عن البدء بالسورة: إذا كانت القراءة من بداية السورة فالبسملة فيها واجبة.
سِوَاهاَ وَفي الْأَجْزَاءِ خَيَّرَ مَنْ تَلاَ: بناء على الفاعل أو المفعول (خير).
والأجزاء هنا أجزاء السور بشكل عام.
أي خير من يقرأ قارئه أو الذي يقرئه أن يبسمل مع الاستعاذة.

(107)
وَمَهْمَا تَصِلْهَا مَعْ أَوَاخِرِ سُورَةٍ *** فَلاَ تَقِفَنَّ الدَّهْرَ فِيهاَ فَتَثْقُلاَ

وَمَهْمَا تَصِلْهَا: أي السورة المبتدئة بها.
أي هذه السورة التي بدأت بها مع أواخر سورة فلا تقفن.
أي مهما تصل البسملة مع آخر السورة المنتهية فلا تقف عند البسملة.
فعندنا ثلاثة أوجه صحيحة:
1- وصل الجميع.
2- فصل آخر السورة عن البسملة ووصل البسملة مع الثانية.
3- وصل آخر السورة بالبسملة بأول السورة التي تليها.


باب سورة أم القرآن(الفاتحة)

(108)
وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (رَ)اوِيهِ (نَـ)ـاَصِرٌ ... وَعَنْدَ سِرَاطِ وَالسِّرَاطَ لِ قُنْبُلاَ

سورة الفاتحة لها عدة أسماء:
- الفاتحة لأنها افتتح بها القرآن الكريم قراءة وكتابة، وهي سورة مكية، ومنهم من قال أنها مدنية بتكرار النزول.
- سورة الحمد لأنها تبدأ بالحمد لله تعالى.
- سورة أم القرآن: والإمام اختار هذا الاسم، وسميت بهذا الاسم لأنها الأصل، والأم في اللغة الأصل.
وممن قال أنها سميت أم القرآن في الأصل لأن كل مقاصد القرآن اجتمعت في سورة الفاتحة في العقائد والعبادات والحلال والحرام وقصص من سبق ...إلخ.
ومنهم من قال إنها أم القرآن لأنها أم الجيش أي الراية التي يتبعها.
- أم الكتاب.
- سورة الصلاة لأنها لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب.

بدأ الإمام الشاطبي ببيان ما ورد فيها من خلاف وما كان فيها من قواعد عامة.

~ تنبيه ~
- الإمام لم يبدأ بسورة الفاتحة مع السور، وإنما بدأ بها قبل أن يشرع بالأصول لأن معظم الذي فيها أصول إلا كلمات مثل: مالك يوم الدين.
- أيضا لم يبدأ بأول أصل فيها وهو الإدغام الكبير.

هذا البيت فيه موضعان في الخلاف:
- كلمة "مالك" حيث إن الذي يثبت الألف فيها هو المرموز له بالراء من(روايه) والنون من(ناصر) الكسائي وعاصم.
وهنا طبق قاعدته التي يقول:
(باللفظ أستغني عن القيد إن جلا) لم يقيد وإنما لفظ.
ولما قال ( وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) لم يقل بالمد مثلا وإنما اكتفى باللفظ عن القيد، فعرفنا أن المقصود هنا (مالك) بالألف الذي يقرأها بإثبات الألف الكسائي وعاصم، وأما بقية السبعة فيقرؤونها بالقصر (ملك).
وَعَنْدَ سِرَاطِ وَالسِّرَاطَ لِ قُنْبُلاَ: هنا أتى باللفظتين:
- سراط
- السراط
والشيخ عصام القضاة مع أبي شامة لما يقول: أنا لا أقول بالتنكير والتعريف.
ليس بالضرورة إذا لم يكن فيها أل أن تكون نكرة، قد تكون معرفة بالإضافة مثال: صراطك المستقيم.
سواء بأل التعريف أو بدونها الذي يقرأها بالسين هو قنبل.
كلمة (ل) حرف لكنها فعل أمر من ولى- يلي - لي، كأنه يقول: تابع بهذا الأمر قنبلا.
أي قنبل يقرأها بالسين.


(109)
بِحَيْثُ أَتَى وَالصَّادُ زَاياً اشِمَّهَا *** لَدَى خَلَفٍ وَاشْمِمْ لِخَلاَّدِ الاَوَّلاَ

بِحَيْثُ أَتَى: أي في كل القرآن الكريم سواء بأل التعريف أو بدونها، وبالسين.
وَالصَّادُ: لم يقل أن باق القراء يقرؤونها بالصاد لكنها عُلِمت من قوله (وَالصَّادُ زَاياً اشِمَّهَا)، أي كأنه يقول: الباقون يقرؤونها بالصاد التي يشمها خلف زايا، وخلاد بالإشمام.
وَاشْمِمْ لِخَلاَّدِ الاَوَّلاَ: أي الأولى المعرفة بأل.

~ توضيحات ~
▪ (وَالصَّادُ زَاياً اشِمَّهَا) الصاد هنا مفعول به منصوب مقدم، وزايا مفعول ثان.
▪ قضية الإشمام في عرف القراء تُصرف إلى عدة معان:
- إما أن تكون بمعنى خلط الحرف بحرف.
- أو بخلط الحركة حركة أخرى.
- أو حركة الفم على هيئة الضم.
- وقد تكون الروض كذلك وهو اختلاف في الحركة.

ولكن هنا المراد هو إشمام الصاد زايا وذلك هو خلط الصاد زايا بحيث يصبح الصاد كأنها قريبة من الزاي لكن الصاد فيها أشمل وأوضح.
في الحقيقة هناك مذهب آخر لخلاد لم يذكره الشاطبي وهو عدم الإشمام.

إذن عندنا ثلاثة قراءات في "الصراط":
1- السين لقنبل.
2- إشمام الصاد زايا لخلف وخلاد الأول.
3- وباق القراء بالصاد خالصا.

~ إشارة ~
بعض القراء أخذوا من قول الشاطبي ( وَاشْمِمْ لِخَلاَّدِ الاَوَّلاَ ) على أن المقصود بها كل صاد معرفة بأل وليست الأولى التي في الشاطبية في الفتح وما كان على شاكلتها في القرآن.

(110)
عَلَيْهِمْ إِلَيْهِمْ حَمْزَةٌ وَلَدَيْهِموُ ... جَمِيعاً بِضَمِّ الْهاءِ وَقْفاً وَمَوْصِلاَ

يريد الإمام منا في هذا البيت باختصار شديد أن نقرأ هذه الألفاظ الثلاثة(عليهم - إليهم ولديهم) عند الإمام حمزة من كلا الروايتين عن خلف وخلاد بضم الهاء في حالة الوقف والوصل، وبقية القراء كما لفظ.
فلذلك العلماء قالوا:
هنا ينفذ البيت بكسر الهاء، فحمزة يقرأ(عليهُم - لديهُم - إليهُم).
جَمِيعاً: يعني في جميع القرآن الكريم حيث وردت هذه الألفاظ بضم الهاء في حالة الوقف إن وقف وإن وصلها وصل.

(111)
وَصِلْ ضَمَّ مِيمِ الْجَمْعِ قَبْلَ مُحَرَّكٍ ... (دِ)رَاكاً وَقاَلُونٌ بِتَخْيِيرِهِ جَلاَ

هذا البيت أيضا فيه الأمر للقراء أن يصلوا ضم ميم الجميع، ففي البيت أمران:
1- أن نضم الميم.
2- وأن نصلها بواو.
وَصِلْ ضَمَّ مِيمِ الْجَمْعِ قَبْلَ مُحَرَّكٍ: أي لا تصل قبل ساكن لأن لو كان فيها حرف مد لحُذف، والشراح يقولون: لو أن وصلنا بها الواو لألزمنا بحذفها قبل السكون حتى لا يلتقي الساكنان.
مثال: غير المغضوب عليهمُو ولا...
وهنا الصلة إنما تكون قبل الحرف المحرك وليس الساكن.
الذين يصلون: ابن كثير قولا واحدا من دون خلاف من كلا الروايتين عنه قنبل.
وقالون عن نافع قرأ بالتخيير، فهو فيه خلاف عند قالون إما أنه يصلها أو لا يصلها، يعني في وجه وافق ابن كثير وفي وجه آخر وافق سائر القراء.

إذن عندنا ثلاثة مذاهب:
1- ابن كثير يصلها قولا واحدا.
2- قالون يصلها أو لا يصلها.
3- والباقون ما عدا ورش له مذهب خاص به، باق القراء عدا نافع وابن كثير لا يصلون ضم ميم الجمع وإنما يضمونها أو يفصلون حسب الوقائع.

أسئلة الحلقة
س1) ما مذاهب القراء في قراءة "مالك يوم الدين"؟
بين مذاهب القراء السبعة في قراءتها؟

س2) وضح مذاهب القراء في قراءة كلمة "الصراط" المعرفة بأل؟

س3) لفظة "الصراط" قد ترد في القرآن الكريم بأل التعريف وبدونها.
حرر الخلاف بين القراء في هذين اللفظين؟

س4) في لفظة "عليهم - لديهم وإليهم" هناك خلاف عند القراء.
بين هذا الخلاف؟

س5) صلة ميم الجمع مذهب من مذاهب القراء، فبعضهم يصل وبعضهم لا يصل.
من الذي يصل ميم الجمع قولا واحدا؟
ومن الذي له الخلاف فيه؟
ومتى يكون صلة ميم الجمع؟
 
عودة
أعلى