بسم الله الرحمن الرحيم
“فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ (لك، فقد عاد إلى الحياة) وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
فى بداية القصة عن موسي عليه السلام والخضر بسورة الكهف، نجد أنه عندما إقترب نبي الله موسي عليه السلام من مكان “الخضر” فى رحلة البحث عنه نجد أن السمكة الميتة التى كان يحملها موسي وفتاه غداءا لهما، عادت الى الحياة وقفزت عائدة الى البحر، مما أثار تعجبهما، وهنا أدرك موسى عليه السلام أنها إشارة من رب العالمين بمكان الخضر عليه السلام، (قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ).فعادا الى مكان الصخرة للبحث عنه.
إنهما الآن فى عالم آخر، عالم يتم فيه تسيير الأقدار من وراء ستار، عالم تختلف قوانينه عما يألفه البشر، كما عادت السمكة الى الحياة وقفزت الى البحر.
فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا
بدأ موسى عليه السلام والخضر رحلتهما بالركوب فى السفينة، فهما قريبان من البحر الذى قفز فيه الحوت المعدّ للغداء، ولنقرأ ما حدث بتمعن :
إنّ خرق الخضر عليه السلام للسفينة حدث بشئ يبدو طبيعيا، فلا يمكن أن يحمل الخضر فأسا ويبدأ في شق السفينة وهى مبحرة وإلا لمنعه ركاب السفينة ورأوه مجنونا يستحق الإيقاف والزجر، فجملة “لتغرق أهلها” تعني أنها كانت وسط البحر وتحمل أناسا وليست واقفة بالشاطئ.
إذا خرق السفينة قد تم إما بتحريك صخرة صغيرة تحت السفينة فتخرقها أو بشئ آخر وذلك بما يملكه الخضر من قدرة منحها له الله تعالى، ولم ير ذلك إلا موسى عليه السلام.
فلو أن الخضر كان يحمل فأسا وخرق السفينة، فإن للخضر أن يعمل هذا الشئ لعشرات بل آلاف الظروف المتشابهة لهؤلاء المساكين حول الأرض بأمر من الله تعالى لحمايتهم أو حماية رزقهم، فأهل السفينة ليسوا المساكين الوحيدين على الأرض،
كأن يري الناس رجلا يحمل حجرا أو فأسا ويحطم زجاج سيارة أو ينفث إطارها، أو يري الناس رجلا يقوم بخلع سياج الحديد من حديقة حيوان ويلقيه فى الشارع “ليفر الناس عبره بعد أيام عند هروب حيوان متوحش” إلخ..
ولكن هذا لا يحدث، فلا يمر على الإنسان فى حياته العادية شيئا غير عادي، مثلا يمكن للإنسان أن يجد إطار سيارته مخروقا ولكن لا يحدث العكس أي لا يترك الإطار مخروقا ويحضر ويجده سليما!، وهذا الخرق الذي يحدث يبرره الإنسان بأنه ربما كان بمسمار أو بقطعة زجاج أو بحجر على الطريق أو إنتهاء صلاحيته، أو أن سيارة حادت عن طريقها وحطمت سياج حديقة حيوان، ولكن لم يحدث أن رأى شخص إنسانا يحمل زجاجة أو حجرا يخرق به إطار سيارة وإلا للاحقه الناس وضربوه أو ذهبوا به الى الشرطة.. ولأجابهم بثقة " أنا الخضر" !..
إذا فالخضر وموسي فى تلك القصة إمّا كانا (غير مرئيين) لأهل السفينة، وإما الفعل أو الأداة التى خرق بها الخضر السفينة كانت غير مرئية لركاب السفينة إلا لموسى عليه السلام.
ولو تأمل الناس كثيرا فى حياتهم لرأوا أمورا تحدث لهم مشابهة لقصة السفينة، أمورا يظنونها سيئة وتنتهي بخير، كمثل الذي تضيع منه تذكرة الطائرة ويحزن لها، ثم يسمع بحادث تحطم طائرته بعد إقلاعها!.. ويقول الحمدلله..
وكأن تتعطل سيارته فجأة فى الطريق، ويستغرق تصليحها عدة ساعات -وفى غضون هذه الساعات تكون عصابة قد هاجمت نفس المكان الذي كان سيصله لو لم تتعطل السيارة-وتقتل أصحاب السيارات وتسرق سياراتهم.. ويقول الحمدلله
حوادث كثيرة جدا لا حصر لها تحدث لكل الناس فى حياتهم، ولا يمكن تفسيرها إلا بأن هناك قوة غير مرئية وراءها الخضر أو عبد من عباد الله تعالى من الذين آتاهم الله رحمة من عنده وعلّمهم من لدنه علما.
وهناك قصة الطبيب الباكستانى جراح القلب الشهير التى حكاها، فقد مسافرا لحضور مؤتمر ما وألغت الطائرة رحلتها فلجأ الى القطار الذى تعطل هو الآخر قرب قرية وصادف أن لجأ الى بيت به طفل صغير مريض بالقلب ويحتاج الى جراحة دقيقة، كانت جدته تدعو الله تعالى أن ييسر لها العملية بالغة التكاليف لحفيدها اليتيم، فإذا الطبيب الشهير يقرر أن يجريها لها مجانا، وقال لها بسبب دعواك هذه ألغت طائرة رحلتها وتعطل قطار وأتيت أنا الطبيب الشهير الذى يحتاج المرضى لمقابلتى للحجز عدة شهور أتيت الى بيتك مباشرة ، فيا سبحان الله .
حوادث يصف الناس أسبابها بالغموض والغرابة، ولكن ومن رحمة الله تعالى بعباده إنزال هذا القرآن الكريم الذي فيه هدي وتبيان لكل شئ، وبه تفسير لما يحدث لهم فى حياتهم وليعلموا أنه ليس هناك شئ غامض علي وجه الأرض ولا شئ يمضي صدفة أو بغير نظام أو بغير معرفة من الله تعالى، وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ “.
ونعود لنقرأ ثانية فى قصة السفينة:
لقد ذكر الخضر أنه قام بخرق السفينة حتى لا ينزعها الملك الغاصب عن المساكين عندما يجد بها عيبا..
فهل أجري الخضر هذا الخرق على كل السفن؟
لم يقل الخضر ذلك، وهذا يعني أن الملك سينزع بقية السفن من أصحابها..
والسؤال لماذا لم يقم الخضر بقتل الملك الغاصب كما قتل الغلام ليريح أصحاب كل السفن منه وليس المساكين فقط؟
الإجابة تكون أن مثل هذا الملك توظفهم الأقدار الإلهية للعب أدوار أيضا :
فلو عدنا للآية وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
فممن سينزع منهم الملك سفنهم يقعون فى التعريف أعلاه منهم من سيبتليه الله تعالى بجوع وخوف ومنهم من سيبتليه الله تعالى بنقص أموال ويبشر الصابرين ..
وفيمن سينتزع منهم الملك سفنهم مشابهين لـ”أصحاب الجنة” الذين دمرت جنتهم بسبب منعهم الصدقات، فربما كان صاحب أحد السفن قد منع الصدقات، فأرسل الله تعالى الملك لينزع سفينته منه عقابا له.
وممن سينتزع منهم الملك سفنهم من كفر وتفاخر وتجبّر بماله وسفينته على أصحابه الفقراء كما صاحب الجنتين بسورة الكهف، فأرسل الله تعالى الملك لينزعها منه عقابا له.
الى أن يأتي موعد لمعاقبة ذلك الملك الظالم نفسه، الذى لم يتخذ العدل والرحمة أساسا لملكه، وكان من الظالمين.
وهكذا تسير الأقدار الإلهية، لا شئ يقع أو يمر أو يحدث عبثا أو بغفلة أو خطأ لأي إنسان على وجه الأرض،
ولو راجعت مثلا قصة كل من ركبوا الطائرة التى سقطت ستجد فى موت كل واحد منهم قصة وغاية له ولأسرته، ومن ضاعت منه تذكرته ولم يركب ويمت معهم فله قصة أيضا!..
آلاف القصص بل لا حصر للقصص وحكمتها وغاياتها فى حياة البشر ولا يمكن سردها ،
ولذا كانت نهاية سورة الكهف قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا -109- صدق الله العظيم