ميادة بنت كامل الماضي
New member
- إنضم
- 28/05/2006
- المشاركات
- 34
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله.. والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الله.. وبعد
نزولاً عند رغبة بعض الأخوة الأفاضل ها أنا أضع بين أيديكم مثالاً توضيحيّاً عن تجربتي وطريقتي في تحفيظ كتاب الله تعالى حسب التقسيم الموضوعي للسورة المراد حفظها، مع بيان المناسبة ووجه الارتباط بين الموضوعات - إن كان هناك تناسب وارتباط -.. وقد وقع اختياري على سورة الزمرلسهولة نشرها في صفحات الملتقى على العكس من سورة البقرة لطولها.
وقبل البدء أرجو من القراء الكرام إعذاري فيما لو وجدوا بعض الأخطاء المطبعية أو النحوية، فما عملي هذا إلا عمل بشر لا يخلو من التقصير والزلل، فما كان من توفيق فمن فضل الله تعالى عليّ أولاً وآخراً ، فله الحمد والثناء الحسن الجميل. وما كان من تقصير فمن نفسي، وأسأل الله العفو والصفح.
سورة الزمر تفسير وتقسيم موضوعي
بين يدي السورة
سورة الزمر مكيّة/ رقمها: 39/ وهي (75) خمس وسبعون آية
تسميتها:
سميّت سورة الزمر لذكر لفظ الزمر فيها ولم يُذكر في غيرها قط؛ لأنَّ الله تعالى يتكلّم فيها عن تقسيم النّاس فيها إلى زمر أو فرق يوم القيامة بحسب أعمالهم في الدنيا، بحيث يكون هنالك زمرة الكفّار الأشقياء مع بيان حالهم وتوفية جزائهم، وزمرة المؤمنين السعداء وبيان إعزازهم وإكرامهم.
مناسبتها لما قبلها:
* تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة (ص) من جوانب:
- من حيث ارتباط فواتح سورة (الزمر) بخواتم سورة (ص): فإنّ الله تبارك وتعالى ختم سورة (ص) بوصف القرآن الكريم بقوله تعالى: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (88) }. وابتدأ هذه السورة بقوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) }فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل من الله العزيز الحكيم، فهما كالآية الواحدة، بينهما اتصال وتلاحم شديد.
- كذلك ذكر الله تعالى في آخر سورة (ص) قصة خلق آدم عليه السلام، وذكر في صدر هذه السورة قصة خلق زوجه منه، وخلق الناس كلهم منه، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقاً من بعد خلق، ثم ذكر أنهم ميتون، ثم ذكر سبحانه القيامة، والحساب، والنار، والجنة، فذكر جلَّ شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد، متصلاً بخلق آدم المذكور في السورة قبلها.
* وأما من حيث الموضوع: فالسورتان مكيَّتان، ولا يخفى تشابه السور المكية من حيث بيان أصول العقيدة الإسلامية وذلك بالدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء، وذكر القيامة وهولها، والنار وعذابها، والجنة ونعيمها، ومجادلة المشركين بالبراهين العقلية، والآيات الكونية.
- ولما بُنيت سورة (ص) على ذكر المشركين وعنادهم واتخاذهم الأنداد والشركاء، ناسب أن يذكر في سورة (الزمر) الأمر بالإخلاص الذي هو نقيض حال من تقدّم، وتنزيه الله تعالى نفسه عن عظيم فعلهم؛ فقال: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
- وكما ذكر في سورة (ص) ما أعدّه تعالى لعباده المتقين من النعيم والسعادة في الدار الآخرة، وما أعدّه للطاغين الخارجين عن طاعة الله من سوء المنقلب والمرجع، ذكر كذلك في هذه السورة الكريمة ما عليه أهل الكفر من سوء الحال، وكيف يساقون إلى النار ذليلين مهانين، وما عليه أهل الجنة من النعيم والسعادة، وكيف يساقون إلى الجنة مكرمين معزَّزين.
مشتملاتها:
محور سورة (الزمر) يدور حول التأكيد على وحدانية الله، وموضوعها الرئيس هو: الحديث عن التوحيد، وأدلّة وجود الله ووحدانيته، وعن الوحي، والقرآن العظيم.
فهي وإن كانت ككل السور المكيّة التي تدور محاورها حول هذه الموضوعات إلاّ أنّها تهزّ القلب هزّاً عميقاً متواصلاً في كل مقاطعها لتطبع فيه حقيقة التوحيد، وتنفي عنه كلَّ شبهة أو ضلالة. ومن ثَمَّ فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها يُعرض في صور شتى. (في ظلال القرآن بتصرف).
فمنذ افتتاحها تبرز قضية التوحيد التي تكاد السورة تقتصر على علاجها، وذلك بقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} لتبقى تتردَّد في مقاطعها وعلى فترات متقاربة إمّا نصاً وإمّا مفهوماً.
نصاً كقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ…} إلى قوله تعالى: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) }.
ومفهوماً كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} وقوله تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)}. (المرجع السابق)
أمّا تسلسل موضوعاتها فهو كما يلي:
1- ابتدأت السورة ببيان تنزيل القرآن الكريم من الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، داعية إيَّاه لعبادة ربّه وحده، وإخلاص الدّين له، وتوضيح شبهة المشركين في اتِّخاذ الأصنام آلهة شفعاء، وعبادتها وسيلة إلى الله تعالى، والنعي عليهم في عبادة الأوثان، فالإيمان الوحيد هو الإيمان بالله الواحد الأحد. وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى وكما غناه وقدرته، من خلق السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر، وخلق الإنسان في أطوار مختلفة متعاقبة، وذلك يقتضي ربوبيّته تعالى المستلزمة لألوهيته، وأنَّه تعالى لا يحتاج لإيمان أحد وعبادته، وإنّما الإنسان هو الذي يحتاج إلى الله وعبادته. الآيات: 1- 7 قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(4)خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7) }.
2- ندَّدت الآيات بطبيعة المشرك وتناقضه، وبيَّنت ما في نفسيته من تذبذب، فهو يتضرع إلى الله عند الشدائد ليعود إلى كفره وينسى ربّه حال الرخاء، وذلك على العكس من نفسية المؤمن السائر لربه على جناحي الخوف والرجاء. الآيات: 8 - 9 قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(9) }.
3- ووجَّهت الآيات الكريمات لبعض أسباب الهداية والثبات على الحق، كتقوى الله والإحسان في عبادته، فمن تعسّر عليه ذلك في وطنه فليهاجر إلى غيره فإنّ أرض الله واسعة، فمن فعل ذلك فقد وقع أجره على الله. ثمّ وجَّهت مجموعة من الأوامر للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مبيِّنة من خلالها أنَّ تحقيق العبودية لله تعالى وحده روح الرسالات الإلهية وزبدتها، كُلِّف بها المرسلون أولاً ليكونوا الأسوة الصالحة والقدوة الحسنة لمن أُرسلوا إليهم، تخلَّل ذلك تهديد للمشركين لعلَّهم يرجعوا إلى الطريق المستقيم، وبشَّرت المؤمنين الطائعين المنيبين بالغرف في جنات النعيم. الآيات:10 - 20 قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(12)قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ(18)أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19)لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ(20)}.
4- أوردت الآيات الكريمات بعض الأدلَّة الدَّالة على قدرة الله تعالى في إحياء الخلق وبعثهم بعد الموت، كما أحيا الأرض بعد موتها. الآية: 21 قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(21) }.
5- ثم عرضت الآيات صورة لفريقين من الناس: مهتدٍ شرح الله صدره للإسلام فاستنار بأنوار هدايته، وفهم عن ربه مراده من هذا الكتاب الكريم والذكر الحكيم الذي هو أحسن الحديث، وقاسي القلب الذي أعرض عن ذكر الله ولم ينتفع بالقرآن فاستحقَّ الضلالة والعذاب المهين يوم القيامة، كما استحقَّه كلَ ظالم. الآيات: 22 – 26
قوله تعالى:{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ(25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(26) }.
6- والقرآن الكريم يتضمَّن أمثالاً للناس لعلهم يتذكرون، ومن هذه الأمثال يتَّضح الفرق بين من يعبد إلهاً واحداً، وبين من يعبد آلهة متعدِّدة لا تسمع ولا تجيب، كالعبد الملوك لسيد واحد، والمملوك لعدّة شركاء متخاصمين فيه. وإذ لم ينتفع المشركون بضرب الأمثال اتجهت الآيات الكريمات تتوعدهم بالموت وما سيلقون بعده من حساب وجزاء يوم أن يصدر عليهم أحكم الحاكمين حكمه العادل. وفي المقابل يحكم الله على المؤمنين أهل الهدى والصدق بفضله ورحمته. وهو الذي يكفيهم ما أهمَّهم في الدنيا ويمنع عنهم ما يخوفونهم به أهل الشرك والضلال. الآيات: 27 – 37 قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنَاً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ(37) }.
7- عادت الآيات الكريمات لتقيم الحجة على المشركين باعترافهم أن الله تبارك وتعالى هو الخالق لكلِّ شيء وكان ذلك يقتضي أن يعبدوه وحده، ولكنهم لسفههم وجهالتهم عبدوا معه غيره مما لا يملك لهم ضرَّاً ولا نفعاً!.. ولمَّا تقرَّر ذلك وجَّه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى وجوب التوكل عليه وحده، وتفويض الأمر إليه، ومواجهة المشركين وتحديهم وتهديدهم بعد أن بلَّغهم كتاب ربِّهم الذي أنزله لهم بالحقّ ليهتدوا به وهم بعد ذلك وما يشاؤون لأنفسهم من هدىً أو ضلال. الآيات: 38 – 41 قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ(38)قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(41) }.
8- بيَّنت الآيات الكريمات تفرّد الله تعالى بالتصرّف بالعباد في حال يقظتهم ونومهم، وفي حال حياتهم وموتهم، وأنه وحده مالك الشفاعة كلها، ومالك السموات والأرض، وإليه مصير الخلائق وحسابهم يوم البعث والمعاد. الآيات: 42 – 44 قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ(43)قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) }.
9- أظهرت الآيات الكريمات بعض صور ضلال المشركين وحماقاتهم وما اقتضاه شركهم، وأنَّه ما على المؤمن وهو يواجه هذه المواقف القبيحة الصعبة إلا التوجه بضراعة وخشوع إلى الله مبدع السموات والأرض، العالم بالسرِّ والعلانية، والحاكم الفصل بين العباد. يومئذ سيكون الحكم على المشركين الذين لو أنّ لهم ملك السموات والأرض لجعلوه فدية لهم من العذاب الشديد. الآيات: 45 – 48 قوله تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(48) }.
10- بيَّنت الآيات الكريمات حالة الإنسان وطبيعته، فهو يدعو ربَّه إذا أصابه ضرّ، ويجحده إذا أصابه خير ورخاء زاعماً أن ذلك بجهده ومهارته واستحقاقه، ناسياً أنه إنّما هو ابتلاء له واختبار ليشكر أو يكفر، وهذا هو حال المكذبين الظالمين ودأبهم، لا يقرون بنعمة ربهم، ولا يرون له حقّا، فلم يلبثوا حتى أخذهم الله بذنوبهم فما نفعهم ما كانوا يكسبون عندما نزل بهم العذاب. ثم أنكر تعالى عليهم انتفاء علمهم أن الرزق بيد الله يبسطه لمن يشاء ويضيّقه على من يشاء، وهذا الإنكار تضمِّن توبيخهم؛ لأنهم تسبَّبوا في انتفاء العلم بسبب إهمالهم النظر في الأدلّة المفيدة للعلم، وصمِّهم آذانهم عن الآيات التي تذكِّرهم بذلك حتى بقوا في جهالة مركبة وكان الشأن أن يعلموا أن الله يعطي الرزق من يشاء، ويمنع من يشاء. الآيات: 49 – 52 قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ()51 أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) }.
11- من أعظم بشائر القرآن: مغفرة الذنوب بالتوبة وإخلاص العمل، وترغيب وترهيب. الآيات: 53– 61 قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(61) }.
12- عودة إلى بيان دلائل الربوبية وانفراد الله بالخلق والملك والتدبير، وأن ذلك يستلزم إفراده بالألوهية والتوحيد. وذمّ المشركين الجاهلين، وبيان عظمة الله تعالى وسلطانه وتقديسه. الآيات: 62– 67 قوله تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) }.
13- خاتمة مهيبة في عرصات يوم القيامة، وانقسام الناس لزمرتين: ضالين، ومهتدين.
الآيات: 68– 75 قوله تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(69)وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ(70)وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ(71)قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(73)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) }.
الموضوعات الرئيسة لسورة الزمر
الجزء (23) / الحزب (2) / تتمة الربع الثالث
الآيات: 1 - 7
الموضوعات الرئيسة
أولاً: مصدر القرآن الكريم، والأمر بالعبادة الخالصة لله تعالى، ونفي ادِّعاءات المشركين وتهديدهم: الآيات 1 - 3
قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) }.
ــــــــــــــــــــــــ
ثانياً: تنزيه الله تعالى عن الولد والشريك، وإقامة البراهين الدّالة على وحدانية الله، وكماله وغناه، وقدرته، وعلمه، وإحاطته: الآيات: 4- 7
قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) }.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا أخبر الله تبارك وتعالى بالحُكم بين أولئك الذين اتخذوا من دونه أولياء، وهدّدهم بعدم التوفيق والاهتداء بعد أن حجبوا أنفسهم عن أنوار الهداية، احتجَّ تعالى عليهم بأنهم كاذبون كفَّارون في زعمهم البنوّة له سبحانه وقصد إلى إبطال شركهم ببيان استحالة اتِّخاذ الشريك في حقِّه سبحانه، مع إقامة الأدلَّة الدَّالَّة على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء (23) / الحزب (2) / الربع الرابع
الآيات: 8 – 31
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن بيَّن الله تعالى في الآيات المتقدِّمة فساد مذهب المشركين في عبادة الأصنام، وأنّه لا دليل لهم على عبادتها، وبيّن تعالى أنّه هو الذي يجب أن يعبد وحده، وأنّه الغنيُّ عمَّا سواه من المخلوقات لا يفتقر إلى عبادتهم، ذكر تعالى هنا تناقض الإنسان وتقلُّبه وضعفه وقلَّة ثباته على نهج؛ إلا حين يتصل بربّه، ويتطلّع إليه، ويقنت له، فيعرف الطريق، وينتفع بما وهبه الله من عقل.
الموضوعات الرئيسة
أولـاً: زمرة الكفار المتناقضين الذين لا يعلمون، وزمرة المؤمنين العالِمين العاملين:
الآيات: 8, 9 / قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(9) }.
ـــــــــــــ
ثانيـاً: الأمر بالتقوى، وبيان الثواب المنشِّط في الدنيا للمتقي، والحث على الهجرة، والصبر لما فيهما من الأجر العظيم: الآية 10
قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10) }.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا أثنى الله تعالى على المؤمنين بإقبالهم على عبادته في أشدِّ الآناء، وبشدَّة مراقبتهم إيَّاه بالخوف والرجاء، وبتمييزهم بالعلم والعقل والتَّذكُّر، ونفى المساواة بينهم وبين المشركين في ذلك كلِّه، أتبع ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ينصح المؤمنين بجملة نصائح تتضمَّن الأمر بالتقوى والاستمرار بالطاعة، وحثَّهم على ذلك ببيان الثواب المنشِّط لهم في الدنيا. وهو خطاب فيه تلطّف وتحبّب للمؤمنين.
وفي قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِ} تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به، ووجوب الامتثال له.
ـــــــــــــ
ثالثـاً: توجيهات وأوامر للنبي صلى الله عليه وسلم، ووعظ للمشركين، وتبشير للمؤمنين
الآيات: 11-20
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14)فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19)لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)}.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب المسلمين بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يصدع الكفَّار بما أُمر به من عبادة الله؛ حيث إنَّ تحقيق العبودية لله تعالى وحده روح الرسالات الإلهية وزبدتها، كُلِّف بها المرسلون أولاً ليكونوا الأسوة الصالحة والقدوة الحسنة لمن أُرسلوا إليهم، ولهذا أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُعلن ذلك وهو يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى وحده.
ـــــــــــــ
رابعـاً: كمال قدرة الله في إحياء الخلق: آية 21
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(21) }.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن وصف الله تعالى الآخرة بصفات تقتضي الرغبة فيها والشوق إليها، أتبعه بوصف الدنيا بصفة تستوجب النفرة منها؛ حيث أنّ الاغترار بها من أقوى أسباب الضلال، فذكر تمثيلاً لها في سرعة زوالها وقُرب اضمحلالها. وإنما قدَّم وصف الآخرة؛ لأن الترغيب في الآخرة مقصود لذاته، والتنفير عن الدنيا مقصود غرضا.
ـــــــــــــ
خامساً: مقابلة بين المهتدين الذين شرح الله صدورهم للإسلام فاستناروا به، وقساة القلب المعرضون عن ذكر الله، الضالون ضلالاً بيِّناً: آية 22
قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) }.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن بيّن الله تعالى ما يوجب الإقبال على الآخرة بطاعة الله تعالى، وما يوجب الإعراض عن الدنيا، أوضح أنَّ الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونوَّر القلوب.
ـــــــــــــ
سادساً: الآيات / 23- 31
- القرآن الكريم وصفاته:(*أحسن الحديث *كتاباً *متشابهاً *مثاني) وأثره في قلوب أولي الألباب المهتدين:آية (23)
- وبيان أحوال الضالين في المآل، وتذكيرهم بمصير الأمم المكذبة من قبلهم: الآيات (24، 25، 26)، وإقامة الحجة عليهم بضرب الأمثال لهم في القرآن المنَزَّل عليهم بلسانٍ عربيٍّ مبين: الآيات (27، 28، 29)
- وأنّ مصير الخلائق إلى الله تعالى يوم القيامة، وأنّه سبحانه وبحمده يفصل بينهم بحكمه العادل: الآيات (30، 31).
قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا توعَّد الله تعالى أصحاب القلوب القاسية، وبيَّن أنهم في ضلال واضح، فكأنَّما أثار ذلك في نفوس السامعين تساؤلاً عن وجه قسوة قلوب أولئك المبعدين الضالين من ذكر الله، أخبر سبحانه وبحمده عن صفات كتابه الكريم الذي أنزله على أكرم المرسلين مبيِّناً أنَّ قساوة قلوب الضالين من سماع القرآن إنّما هي لِرَيْنٍ في قلوبهم وعقولهم لا لنقص في هدايته، وهذا كما قال تعالى في سورة البقرة: {هُدىً لِلْمُتَّقِين} (البقرة:2).
وهذه الآية عود على بداية السورة الكريمة للتنويه بهذا القرآن الكريم المنزَّل من لدُن حكيم عزيز، كما قال تعالى في افتتاحها:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم(1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}؛ فلمَّا ذكر هنالك أنّه منزَّل من حكيم عزيز، وأنّه أنزله بالحق مشتملاً عليه، ناسب هنا أن يثني على هذا الكتاب ويذكر بعض صفاته، ويبيِّن أثره في قلوب أولي الألباب المهتدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء (24) / الحزب (1) / الربع الأول
الآيات: 32 – 52
الموضوعات الرئيسة
الموضوع الأول: الآيات: 32 – 40
أ) وعيد الكافرين، ووعد المؤمنين: الآيات/ 32 - 35
قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(35) }.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا بيَّن سبحانه وتعالى أنَّ الموت نهاية كل حيّ ولا يتفرّد بالبقاء إلا الله، ثم يحصل التقاضي عند الله فيما اختلف فيه الناس من أمور الدنيا والدين معاً، وأنّه يحكم سبحانه بحكمه العادل يوم القيامة بين المتخاصمين، بيَّن هنا حكمه وقضاءه على مَن افترى عليه كذباً بنسبة الولد أو الشريك أو غير ذلك من أنواع الكذب على الله، أو كذَّب بالصدق الذي جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنّه هو الظلم الذي لا أظلم منه. وفي المقابل أثنى على الصادقين المصدقين بالحق وبيَّن أنهم ينالون أحسن الجزاء.
ـــــــــــــ
ب) كفاية الله للمؤمنين من شر المشركين وباطل آلهتهم، وبيان سفههم بإقامة الحجة عليهم من أنفسهم. وتوبيخهم. وتفويض الأمر إلى الله. الآيات/ 36 - 40
قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ(37)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ(38)قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(39)مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)}.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا بيَّن الله تعالى حال من افترى عليه الكذب وكذَّب بالرسل والرسالات، وتوعَّدهم بالعذاب في جهنم، وكان من صور ضلالهم وإصرارهم على تكذيب الرسول أنهم كانوا يحذِّرون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين آلهتهم ويخوِّفونهم بها، عندما كان يُسفِّه أحلامهم ويعيب آلهتهم، فأنزل الله تبارك وتعالى تثبيتاً للنبي والمؤمنين وردّاً عليهم قوله:
{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع الثاني: الآيات: 41– 52
أ) إنزال الكتاب وإلزام الناس الحجة: الآية 41
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(41) }.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن بيَّن سبحانه أدلة وحدانيته وقدرته، ووضَّح فساد مذاهب المشركين بالأدلة والبراهين، وأتبعه بالوعد والوعيد، سرَّى تعالى عن قلب نبيِّه صلى الله عليه وسلم ضيقَه وانزعاجَه لإصرارهم على الكفر، وثبَّته على دعوته بإعلامه أنّه تبارك وتعالى أنزل عليه الكتاب بالحق لفائدة الناس، وكفاه عليه الصلاة والسلام بهذا شرفاً وهداية، وكفاه تبليغاً إليهم فمن اهتدى فهدايته لنفسه، ومن ضلّ فضلاله عليها، وليس عليه تَبعة؛ لأنه بلَّغ ما أُمر به.
ـــــــــــــــ
ب) من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى الوفاة الكبرى، والوفاة الصغرى: آية 42
قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(42)} .
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا عُرف من قوله تعالى: { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}أنّ الله سبحانه هو الوكيل على الناس، وهم في قبضته في صحوهم ونومهم وفي كل حالة من حالاتهم، وهو يتصرف بهم كيف يشاء، ناسب أن يقول تبارك وتعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا.. } الآية، وذلك مظهر من مظاهر قدرته تعالى العظيمة، وكمال تفرّده بالتصرف بالعباد.
ـــــــــــــــ
ج) الآيات: 43 - 48
- إبطال حجة المشركين في عبادة الأوثان من أجل الشفاعة لهم إذ الشفاعة كلها لله: الآيات/ 43، 44/ قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ(43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)}.
- وبيان بعض حماقاتهم وما اقتضاه شركهم: الآية /45/ قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}.
- والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء عند اشتداد الكرب وعظم الخلاف، وتفويض الحكم إليه: الآية/ 46/ قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) }.
- وأن الحكم يوم القيامة سيكون على المشركين، وبيان عظم عذابهم: الآيات/ 47، 48
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) }.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا كانت خواتيم السور من مظنّات الاهتمام عاد الحق جلّ جلاله ليؤكِّد ما بدأه في أول السورة الكريمة من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ليؤكّد سبحانه هنا إبطال معاذير المشركين في شركهم، ذلك أنه لمّا دمغتهم حجج القرآن باستحالة أن يكون لله شركاء، تأوَّلوا لشركهم فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فلمَّا استُوفيت الحججُ على إبطال الشرك أقبل هنا على إبطال تأويلهم ومعذرتهم، فبدأ تعالى الآية الكريمة بالاستفهام الإنكاري بقوله: { أَمِ} تقريراً منه سبحانه أنّ تأويلهم وعذرهم منكراً كما كان المُعتذر عنه منكراً فلم يقضوا بهذه المعذرة وطراً.
ـــــــــــــــ
د) الآيات: 49 - 52
بيان دعاء الإنسان عند الضُّرّ، وجحوده عند النعمة: الآيات/ 49- 51
وإعلامه بأنّ الرزق بيد الله تعالى: الآية/ 52
قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) }.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن حكى الله تعالى بعض قبائح المشركين، أتبعه بحكاية نوع آخر من القبائح، وهو أنهم عند الوقوع في الضر يفزعون إلى الله تعالى، وفي حالة النعمة والسعة، يزعمون أن حصول ذلك بكسبهم وجهدهم، وهذا تناقض قبيح صارخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء (24) / الحزب (1) / الربع الثاني
الآيات: 53 - 75
الموضوعات الرئيسة
الموضوع الأول: الآيات: 53– 61
من أعظم بشائر القرآن: الآيات/ 53 – 55 . وترغيب وترهيب: الآيات / 56 - 61
قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(61) }.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا حذَّر تعالى في هذه السورة ولا سيما في هذه الآيات فطال التحذير، وأودعها سبحانه من التهديد والإنذار والوعيد العظيم الكثير، وأطنبت آيات الوعيد إطناباً يبلغ بنفوس سامعيها أيَّ مبلغ من الرعب والخوف، وكانت كثرة الوعيد ربما أيأست وأوحشت، وصدّت عن الإيمان وأبعدت، أعقبها الله تعالى ببعث الرجاء في نفوس الشاردين عن بابه، مترفِّقاً متلطِّفاً بهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المثاني المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع الثاني: الآيات/ 62 – 75
أ) الآيات/ 62 - 67
ربوبية الله وتفرده بالخلق والملك والتدبير، وأن ذلك يقتضي توحيده بألوهيته ووجوب إفراده بالعبادة، وذم المشركين الجاهلين، وبيان عظمة الله تعالى وسلطانه.
قوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)}.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا كانت خواتيم السور من مظانّ الاهتمام عادت السورة الكريمة لتقرير التوحيد، وإفراد الله بالعبادة، ووجوب نبذ الكفر والشرك به، وذلك ببيان دلائل ألوهيته وتوحيده، فهو خالق كل شيء، وبيده مقاليد كل شيء، فمن أشرك به أو كفر فهو الخاسر لنفسه وأهله يوم القيامة، وهو السفيه الجاهل. لذا أمر سبحانه بعبادته وحده؛ لأنه المستحق لهذه العبادة دون سواه، وأما من أشرك به فما قدر الله حق قدره، وما عظَّمه حق تعظيمه.. والله سبحانه وتعالى منزّه عن شرك المشركين، وكفر الكافرين، ومنزّه عن كل عيب ونقص، فسبحانه وتعالى عمَّا يشركون.
ــــــــــــــــــــــــــ
ب) خاتمة مهيبة: الآيات/ 68 - 75
مشهد من مشاهد يوم القيامة: الآيات 68 - 70 وانقسام الناس لزمرتين:
زمرة الكافرين الذليلين: الآيات/ 71 ، 72. وزمرة المؤمنين المعزَّزين: 73 ، 74
وخضوع الخلق لله تعالى هيبة وإجلالاً، وحمداً وتسبيحاً: الآية/ 75
قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ(70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ(71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن ختم تبارك وتعالى موضوع الآيات السابقة ببيان عظمته وكمال قدرته يوم القيامة بياناً مجملاً، أبان هنا تفصيل ذلك لما فيه من تهويل وتمثيل لمجموع الأحوال مما يُنذر الكافر ويبشر المؤمن. وذكّر بإقامة الحق والعدل وذلك بالفصل بين الخلائق في ذلك اليوم العظيم، وتنفيذ القضاء بمعاقبة الكافرين، وإثابة المؤمنين. ثم ختم هذه السورة الكريمة ببيان ذلك الموكب المهيب موكب الملائكة الحافين حول العرش، يحمدون الله على عدل قضائه وجميع صفات كماله.
هذا ما تيسَّر لي بيانه بفضل الله وتأييده من مقدمة بين يدي سورة الزمر، وتقسيم موضوعاتها، ووجه المناسبة والارتباط بينها. وسيأتي لاحقاً تفسير الآيات إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
الحمد لله.. والصلاة والسلام على نبينا محمد رسول الله.. وبعد
نزولاً عند رغبة بعض الأخوة الأفاضل ها أنا أضع بين أيديكم مثالاً توضيحيّاً عن تجربتي وطريقتي في تحفيظ كتاب الله تعالى حسب التقسيم الموضوعي للسورة المراد حفظها، مع بيان المناسبة ووجه الارتباط بين الموضوعات - إن كان هناك تناسب وارتباط -.. وقد وقع اختياري على سورة الزمرلسهولة نشرها في صفحات الملتقى على العكس من سورة البقرة لطولها.
وقبل البدء أرجو من القراء الكرام إعذاري فيما لو وجدوا بعض الأخطاء المطبعية أو النحوية، فما عملي هذا إلا عمل بشر لا يخلو من التقصير والزلل، فما كان من توفيق فمن فضل الله تعالى عليّ أولاً وآخراً ، فله الحمد والثناء الحسن الجميل. وما كان من تقصير فمن نفسي، وأسأل الله العفو والصفح.
سورة الزمر تفسير وتقسيم موضوعي
بين يدي السورة
سورة الزمر مكيّة/ رقمها: 39/ وهي (75) خمس وسبعون آية
تسميتها:
سميّت سورة الزمر لذكر لفظ الزمر فيها ولم يُذكر في غيرها قط؛ لأنَّ الله تعالى يتكلّم فيها عن تقسيم النّاس فيها إلى زمر أو فرق يوم القيامة بحسب أعمالهم في الدنيا، بحيث يكون هنالك زمرة الكفّار الأشقياء مع بيان حالهم وتوفية جزائهم، وزمرة المؤمنين السعداء وبيان إعزازهم وإكرامهم.
مناسبتها لما قبلها:
* تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة (ص) من جوانب:
- من حيث ارتباط فواتح سورة (الزمر) بخواتم سورة (ص): فإنّ الله تبارك وتعالى ختم سورة (ص) بوصف القرآن الكريم بقوله تعالى: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (88) }. وابتدأ هذه السورة بقوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) }فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل من الله العزيز الحكيم، فهما كالآية الواحدة، بينهما اتصال وتلاحم شديد.
- كذلك ذكر الله تعالى في آخر سورة (ص) قصة خلق آدم عليه السلام، وذكر في صدر هذه السورة قصة خلق زوجه منه، وخلق الناس كلهم منه، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقاً من بعد خلق، ثم ذكر أنهم ميتون، ثم ذكر سبحانه القيامة، والحساب، والنار، والجنة، فذكر جلَّ شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد، متصلاً بخلق آدم المذكور في السورة قبلها.
* وأما من حيث الموضوع: فالسورتان مكيَّتان، ولا يخفى تشابه السور المكية من حيث بيان أصول العقيدة الإسلامية وذلك بالدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء، وذكر القيامة وهولها، والنار وعذابها، والجنة ونعيمها، ومجادلة المشركين بالبراهين العقلية، والآيات الكونية.
- ولما بُنيت سورة (ص) على ذكر المشركين وعنادهم واتخاذهم الأنداد والشركاء، ناسب أن يذكر في سورة (الزمر) الأمر بالإخلاص الذي هو نقيض حال من تقدّم، وتنزيه الله تعالى نفسه عن عظيم فعلهم؛ فقال: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
- وكما ذكر في سورة (ص) ما أعدّه تعالى لعباده المتقين من النعيم والسعادة في الدار الآخرة، وما أعدّه للطاغين الخارجين عن طاعة الله من سوء المنقلب والمرجع، ذكر كذلك في هذه السورة الكريمة ما عليه أهل الكفر من سوء الحال، وكيف يساقون إلى النار ذليلين مهانين، وما عليه أهل الجنة من النعيم والسعادة، وكيف يساقون إلى الجنة مكرمين معزَّزين.
مشتملاتها:
محور سورة (الزمر) يدور حول التأكيد على وحدانية الله، وموضوعها الرئيس هو: الحديث عن التوحيد، وأدلّة وجود الله ووحدانيته، وعن الوحي، والقرآن العظيم.
فهي وإن كانت ككل السور المكيّة التي تدور محاورها حول هذه الموضوعات إلاّ أنّها تهزّ القلب هزّاً عميقاً متواصلاً في كل مقاطعها لتطبع فيه حقيقة التوحيد، وتنفي عنه كلَّ شبهة أو ضلالة. ومن ثَمَّ فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها يُعرض في صور شتى. (في ظلال القرآن بتصرف).
فمنذ افتتاحها تبرز قضية التوحيد التي تكاد السورة تقتصر على علاجها، وذلك بقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} لتبقى تتردَّد في مقاطعها وعلى فترات متقاربة إمّا نصاً وإمّا مفهوماً.
نصاً كقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ…} إلى قوله تعالى: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) }.
ومفهوماً كقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} وقوله تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)}. (المرجع السابق)
أمّا تسلسل موضوعاتها فهو كما يلي:
1- ابتدأت السورة ببيان تنزيل القرآن الكريم من الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، داعية إيَّاه لعبادة ربّه وحده، وإخلاص الدّين له، وتوضيح شبهة المشركين في اتِّخاذ الأصنام آلهة شفعاء، وعبادتها وسيلة إلى الله تعالى، والنعي عليهم في عبادة الأوثان، فالإيمان الوحيد هو الإيمان بالله الواحد الأحد. وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى وكما غناه وقدرته، من خلق السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر، وخلق الإنسان في أطوار مختلفة متعاقبة، وذلك يقتضي ربوبيّته تعالى المستلزمة لألوهيته، وأنَّه تعالى لا يحتاج لإيمان أحد وعبادته، وإنّما الإنسان هو الذي يحتاج إلى الله وعبادته. الآيات: 1- 7 قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(4)خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7) }.
2- ندَّدت الآيات بطبيعة المشرك وتناقضه، وبيَّنت ما في نفسيته من تذبذب، فهو يتضرع إلى الله عند الشدائد ليعود إلى كفره وينسى ربّه حال الرخاء، وذلك على العكس من نفسية المؤمن السائر لربه على جناحي الخوف والرجاء. الآيات: 8 - 9 قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(9) }.
3- ووجَّهت الآيات الكريمات لبعض أسباب الهداية والثبات على الحق، كتقوى الله والإحسان في عبادته، فمن تعسّر عليه ذلك في وطنه فليهاجر إلى غيره فإنّ أرض الله واسعة، فمن فعل ذلك فقد وقع أجره على الله. ثمّ وجَّهت مجموعة من الأوامر للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مبيِّنة من خلالها أنَّ تحقيق العبودية لله تعالى وحده روح الرسالات الإلهية وزبدتها، كُلِّف بها المرسلون أولاً ليكونوا الأسوة الصالحة والقدوة الحسنة لمن أُرسلوا إليهم، تخلَّل ذلك تهديد للمشركين لعلَّهم يرجعوا إلى الطريق المستقيم، وبشَّرت المؤمنين الطائعين المنيبين بالغرف في جنات النعيم. الآيات:10 - 20 قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(12)قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ(18)أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19)لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ(20)}.
4- أوردت الآيات الكريمات بعض الأدلَّة الدَّالة على قدرة الله تعالى في إحياء الخلق وبعثهم بعد الموت، كما أحيا الأرض بعد موتها. الآية: 21 قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(21) }.
5- ثم عرضت الآيات صورة لفريقين من الناس: مهتدٍ شرح الله صدره للإسلام فاستنار بأنوار هدايته، وفهم عن ربه مراده من هذا الكتاب الكريم والذكر الحكيم الذي هو أحسن الحديث، وقاسي القلب الذي أعرض عن ذكر الله ولم ينتفع بالقرآن فاستحقَّ الضلالة والعذاب المهين يوم القيامة، كما استحقَّه كلَ ظالم. الآيات: 22 – 26
قوله تعالى:{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ(25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(26) }.
6- والقرآن الكريم يتضمَّن أمثالاً للناس لعلهم يتذكرون، ومن هذه الأمثال يتَّضح الفرق بين من يعبد إلهاً واحداً، وبين من يعبد آلهة متعدِّدة لا تسمع ولا تجيب، كالعبد الملوك لسيد واحد، والمملوك لعدّة شركاء متخاصمين فيه. وإذ لم ينتفع المشركون بضرب الأمثال اتجهت الآيات الكريمات تتوعدهم بالموت وما سيلقون بعده من حساب وجزاء يوم أن يصدر عليهم أحكم الحاكمين حكمه العادل. وفي المقابل يحكم الله على المؤمنين أهل الهدى والصدق بفضله ورحمته. وهو الذي يكفيهم ما أهمَّهم في الدنيا ويمنع عنهم ما يخوفونهم به أهل الشرك والضلال. الآيات: 27 – 37 قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنَاً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ(37) }.
7- عادت الآيات الكريمات لتقيم الحجة على المشركين باعترافهم أن الله تبارك وتعالى هو الخالق لكلِّ شيء وكان ذلك يقتضي أن يعبدوه وحده، ولكنهم لسفههم وجهالتهم عبدوا معه غيره مما لا يملك لهم ضرَّاً ولا نفعاً!.. ولمَّا تقرَّر ذلك وجَّه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى وجوب التوكل عليه وحده، وتفويض الأمر إليه، ومواجهة المشركين وتحديهم وتهديدهم بعد أن بلَّغهم كتاب ربِّهم الذي أنزله لهم بالحقّ ليهتدوا به وهم بعد ذلك وما يشاؤون لأنفسهم من هدىً أو ضلال. الآيات: 38 – 41 قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ(38)قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(41) }.
8- بيَّنت الآيات الكريمات تفرّد الله تعالى بالتصرّف بالعباد في حال يقظتهم ونومهم، وفي حال حياتهم وموتهم، وأنه وحده مالك الشفاعة كلها، ومالك السموات والأرض، وإليه مصير الخلائق وحسابهم يوم البعث والمعاد. الآيات: 42 – 44 قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ(43)قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) }.
9- أظهرت الآيات الكريمات بعض صور ضلال المشركين وحماقاتهم وما اقتضاه شركهم، وأنَّه ما على المؤمن وهو يواجه هذه المواقف القبيحة الصعبة إلا التوجه بضراعة وخشوع إلى الله مبدع السموات والأرض، العالم بالسرِّ والعلانية، والحاكم الفصل بين العباد. يومئذ سيكون الحكم على المشركين الذين لو أنّ لهم ملك السموات والأرض لجعلوه فدية لهم من العذاب الشديد. الآيات: 45 – 48 قوله تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(48) }.
10- بيَّنت الآيات الكريمات حالة الإنسان وطبيعته، فهو يدعو ربَّه إذا أصابه ضرّ، ويجحده إذا أصابه خير ورخاء زاعماً أن ذلك بجهده ومهارته واستحقاقه، ناسياً أنه إنّما هو ابتلاء له واختبار ليشكر أو يكفر، وهذا هو حال المكذبين الظالمين ودأبهم، لا يقرون بنعمة ربهم، ولا يرون له حقّا، فلم يلبثوا حتى أخذهم الله بذنوبهم فما نفعهم ما كانوا يكسبون عندما نزل بهم العذاب. ثم أنكر تعالى عليهم انتفاء علمهم أن الرزق بيد الله يبسطه لمن يشاء ويضيّقه على من يشاء، وهذا الإنكار تضمِّن توبيخهم؛ لأنهم تسبَّبوا في انتفاء العلم بسبب إهمالهم النظر في الأدلّة المفيدة للعلم، وصمِّهم آذانهم عن الآيات التي تذكِّرهم بذلك حتى بقوا في جهالة مركبة وكان الشأن أن يعلموا أن الله يعطي الرزق من يشاء، ويمنع من يشاء. الآيات: 49 – 52 قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ()51 أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) }.
11- من أعظم بشائر القرآن: مغفرة الذنوب بالتوبة وإخلاص العمل، وترغيب وترهيب. الآيات: 53– 61 قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(61) }.
12- عودة إلى بيان دلائل الربوبية وانفراد الله بالخلق والملك والتدبير، وأن ذلك يستلزم إفراده بالألوهية والتوحيد. وذمّ المشركين الجاهلين، وبيان عظمة الله تعالى وسلطانه وتقديسه. الآيات: 62– 67 قوله تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) }.
13- خاتمة مهيبة في عرصات يوم القيامة، وانقسام الناس لزمرتين: ضالين، ومهتدين.
الآيات: 68– 75 قوله تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(69)وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ(70)وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ(71)قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(73)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) }.
الموضوعات الرئيسة لسورة الزمر
الجزء (23) / الحزب (2) / تتمة الربع الثالث
الآيات: 1 - 7
الموضوعات الرئيسة
أولاً: مصدر القرآن الكريم، والأمر بالعبادة الخالصة لله تعالى، ونفي ادِّعاءات المشركين وتهديدهم: الآيات 1 - 3
قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) }.
ــــــــــــــــــــــــ
ثانياً: تنزيه الله تعالى عن الولد والشريك، وإقامة البراهين الدّالة على وحدانية الله، وكماله وغناه، وقدرته، وعلمه، وإحاطته: الآيات: 4- 7
قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) }.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا أخبر الله تبارك وتعالى بالحُكم بين أولئك الذين اتخذوا من دونه أولياء، وهدّدهم بعدم التوفيق والاهتداء بعد أن حجبوا أنفسهم عن أنوار الهداية، احتجَّ تعالى عليهم بأنهم كاذبون كفَّارون في زعمهم البنوّة له سبحانه وقصد إلى إبطال شركهم ببيان استحالة اتِّخاذ الشريك في حقِّه سبحانه، مع إقامة الأدلَّة الدَّالَّة على ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء (23) / الحزب (2) / الربع الرابع
الآيات: 8 – 31
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن بيَّن الله تعالى في الآيات المتقدِّمة فساد مذهب المشركين في عبادة الأصنام، وأنّه لا دليل لهم على عبادتها، وبيّن تعالى أنّه هو الذي يجب أن يعبد وحده، وأنّه الغنيُّ عمَّا سواه من المخلوقات لا يفتقر إلى عبادتهم، ذكر تعالى هنا تناقض الإنسان وتقلُّبه وضعفه وقلَّة ثباته على نهج؛ إلا حين يتصل بربّه، ويتطلّع إليه، ويقنت له، فيعرف الطريق، وينتفع بما وهبه الله من عقل.
الموضوعات الرئيسة
أولـاً: زمرة الكفار المتناقضين الذين لا يعلمون، وزمرة المؤمنين العالِمين العاملين:
الآيات: 8, 9 / قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(9) }.
ـــــــــــــ
ثانيـاً: الأمر بالتقوى، وبيان الثواب المنشِّط في الدنيا للمتقي، والحث على الهجرة، والصبر لما فيهما من الأجر العظيم: الآية 10
قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10) }.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا أثنى الله تعالى على المؤمنين بإقبالهم على عبادته في أشدِّ الآناء، وبشدَّة مراقبتهم إيَّاه بالخوف والرجاء، وبتمييزهم بالعلم والعقل والتَّذكُّر، ونفى المساواة بينهم وبين المشركين في ذلك كلِّه، أتبع ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ينصح المؤمنين بجملة نصائح تتضمَّن الأمر بالتقوى والاستمرار بالطاعة، وحثَّهم على ذلك ببيان الثواب المنشِّط لهم في الدنيا. وهو خطاب فيه تلطّف وتحبّب للمؤمنين.
وفي قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِ} تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به، ووجوب الامتثال له.
ـــــــــــــ
ثالثـاً: توجيهات وأوامر للنبي صلى الله عليه وسلم، ووعظ للمشركين، وتبشير للمؤمنين
الآيات: 11-20
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14)فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19)لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)}.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب المسلمين بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن يصدع الكفَّار بما أُمر به من عبادة الله؛ حيث إنَّ تحقيق العبودية لله تعالى وحده روح الرسالات الإلهية وزبدتها، كُلِّف بها المرسلون أولاً ليكونوا الأسوة الصالحة والقدوة الحسنة لمن أُرسلوا إليهم، ولهذا أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُعلن ذلك وهو يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى وحده.
ـــــــــــــ
رابعـاً: كمال قدرة الله في إحياء الخلق: آية 21
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(21) }.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن وصف الله تعالى الآخرة بصفات تقتضي الرغبة فيها والشوق إليها، أتبعه بوصف الدنيا بصفة تستوجب النفرة منها؛ حيث أنّ الاغترار بها من أقوى أسباب الضلال، فذكر تمثيلاً لها في سرعة زوالها وقُرب اضمحلالها. وإنما قدَّم وصف الآخرة؛ لأن الترغيب في الآخرة مقصود لذاته، والتنفير عن الدنيا مقصود غرضا.
ـــــــــــــ
خامساً: مقابلة بين المهتدين الذين شرح الله صدورهم للإسلام فاستناروا به، وقساة القلب المعرضون عن ذكر الله، الضالون ضلالاً بيِّناً: آية 22
قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) }.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن بيّن الله تعالى ما يوجب الإقبال على الآخرة بطاعة الله تعالى، وما يوجب الإعراض عن الدنيا، أوضح أنَّ الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونوَّر القلوب.
ـــــــــــــ
سادساً: الآيات / 23- 31
- القرآن الكريم وصفاته:(*أحسن الحديث *كتاباً *متشابهاً *مثاني) وأثره في قلوب أولي الألباب المهتدين:آية (23)
- وبيان أحوال الضالين في المآل، وتذكيرهم بمصير الأمم المكذبة من قبلهم: الآيات (24، 25، 26)، وإقامة الحجة عليهم بضرب الأمثال لهم في القرآن المنَزَّل عليهم بلسانٍ عربيٍّ مبين: الآيات (27، 28، 29)
- وأنّ مصير الخلائق إلى الله تعالى يوم القيامة، وأنّه سبحانه وبحمده يفصل بينهم بحكمه العادل: الآيات (30، 31).
قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا توعَّد الله تعالى أصحاب القلوب القاسية، وبيَّن أنهم في ضلال واضح، فكأنَّما أثار ذلك في نفوس السامعين تساؤلاً عن وجه قسوة قلوب أولئك المبعدين الضالين من ذكر الله، أخبر سبحانه وبحمده عن صفات كتابه الكريم الذي أنزله على أكرم المرسلين مبيِّناً أنَّ قساوة قلوب الضالين من سماع القرآن إنّما هي لِرَيْنٍ في قلوبهم وعقولهم لا لنقص في هدايته، وهذا كما قال تعالى في سورة البقرة: {هُدىً لِلْمُتَّقِين} (البقرة:2).
وهذه الآية عود على بداية السورة الكريمة للتنويه بهذا القرآن الكريم المنزَّل من لدُن حكيم عزيز، كما قال تعالى في افتتاحها:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم(1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}؛ فلمَّا ذكر هنالك أنّه منزَّل من حكيم عزيز، وأنّه أنزله بالحق مشتملاً عليه، ناسب هنا أن يثني على هذا الكتاب ويذكر بعض صفاته، ويبيِّن أثره في قلوب أولي الألباب المهتدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء (24) / الحزب (1) / الربع الأول
الآيات: 32 – 52
الموضوعات الرئيسة
الموضوع الأول: الآيات: 32 – 40
أ) وعيد الكافرين، ووعد المؤمنين: الآيات/ 32 - 35
قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(35) }.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا بيَّن سبحانه وتعالى أنَّ الموت نهاية كل حيّ ولا يتفرّد بالبقاء إلا الله، ثم يحصل التقاضي عند الله فيما اختلف فيه الناس من أمور الدنيا والدين معاً، وأنّه يحكم سبحانه بحكمه العادل يوم القيامة بين المتخاصمين، بيَّن هنا حكمه وقضاءه على مَن افترى عليه كذباً بنسبة الولد أو الشريك أو غير ذلك من أنواع الكذب على الله، أو كذَّب بالصدق الذي جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنّه هو الظلم الذي لا أظلم منه. وفي المقابل أثنى على الصادقين المصدقين بالحق وبيَّن أنهم ينالون أحسن الجزاء.
ـــــــــــــ
ب) كفاية الله للمؤمنين من شر المشركين وباطل آلهتهم، وبيان سفههم بإقامة الحجة عليهم من أنفسهم. وتوبيخهم. وتفويض الأمر إلى الله. الآيات/ 36 - 40
قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ(37)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ(38)قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(39)مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)}.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا بيَّن الله تعالى حال من افترى عليه الكذب وكذَّب بالرسل والرسالات، وتوعَّدهم بالعذاب في جهنم، وكان من صور ضلالهم وإصرارهم على تكذيب الرسول أنهم كانوا يحذِّرون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين آلهتهم ويخوِّفونهم بها، عندما كان يُسفِّه أحلامهم ويعيب آلهتهم، فأنزل الله تبارك وتعالى تثبيتاً للنبي والمؤمنين وردّاً عليهم قوله:
{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع الثاني: الآيات: 41– 52
أ) إنزال الكتاب وإلزام الناس الحجة: الآية 41
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(41) }.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن بيَّن سبحانه أدلة وحدانيته وقدرته، ووضَّح فساد مذاهب المشركين بالأدلة والبراهين، وأتبعه بالوعد والوعيد، سرَّى تعالى عن قلب نبيِّه صلى الله عليه وسلم ضيقَه وانزعاجَه لإصرارهم على الكفر، وثبَّته على دعوته بإعلامه أنّه تبارك وتعالى أنزل عليه الكتاب بالحق لفائدة الناس، وكفاه عليه الصلاة والسلام بهذا شرفاً وهداية، وكفاه تبليغاً إليهم فمن اهتدى فهدايته لنفسه، ومن ضلّ فضلاله عليها، وليس عليه تَبعة؛ لأنه بلَّغ ما أُمر به.
ـــــــــــــــ
ب) من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى الوفاة الكبرى، والوفاة الصغرى: آية 42
قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(42)} .
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا عُرف من قوله تعالى: { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}أنّ الله سبحانه هو الوكيل على الناس، وهم في قبضته في صحوهم ونومهم وفي كل حالة من حالاتهم، وهو يتصرف بهم كيف يشاء، ناسب أن يقول تبارك وتعالى: { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا.. } الآية، وذلك مظهر من مظاهر قدرته تعالى العظيمة، وكمال تفرّده بالتصرف بالعباد.
ـــــــــــــــ
ج) الآيات: 43 - 48
- إبطال حجة المشركين في عبادة الأوثان من أجل الشفاعة لهم إذ الشفاعة كلها لله: الآيات/ 43، 44/ قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ(43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)}.
- وبيان بعض حماقاتهم وما اقتضاه شركهم: الآية /45/ قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}.
- والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء عند اشتداد الكرب وعظم الخلاف، وتفويض الحكم إليه: الآية/ 46/ قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) }.
- وأن الحكم يوم القيامة سيكون على المشركين، وبيان عظم عذابهم: الآيات/ 47، 48
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) }.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا كانت خواتيم السور من مظنّات الاهتمام عاد الحق جلّ جلاله ليؤكِّد ما بدأه في أول السورة الكريمة من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ليؤكّد سبحانه هنا إبطال معاذير المشركين في شركهم، ذلك أنه لمّا دمغتهم حجج القرآن باستحالة أن يكون لله شركاء، تأوَّلوا لشركهم فقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فلمَّا استُوفيت الحججُ على إبطال الشرك أقبل هنا على إبطال تأويلهم ومعذرتهم، فبدأ تعالى الآية الكريمة بالاستفهام الإنكاري بقوله: { أَمِ} تقريراً منه سبحانه أنّ تأويلهم وعذرهم منكراً كما كان المُعتذر عنه منكراً فلم يقضوا بهذه المعذرة وطراً.
ـــــــــــــــ
د) الآيات: 49 - 52
بيان دعاء الإنسان عند الضُّرّ، وجحوده عند النعمة: الآيات/ 49- 51
وإعلامه بأنّ الرزق بيد الله تعالى: الآية/ 52
قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) }.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن حكى الله تعالى بعض قبائح المشركين، أتبعه بحكاية نوع آخر من القبائح، وهو أنهم عند الوقوع في الضر يفزعون إلى الله تعالى، وفي حالة النعمة والسعة، يزعمون أن حصول ذلك بكسبهم وجهدهم، وهذا تناقض قبيح صارخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء (24) / الحزب (1) / الربع الثاني
الآيات: 53 - 75
الموضوعات الرئيسة
الموضوع الأول: الآيات: 53– 61
من أعظم بشائر القرآن: الآيات/ 53 – 55 . وترغيب وترهيب: الآيات / 56 - 61
قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(61) }.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا حذَّر تعالى في هذه السورة ولا سيما في هذه الآيات فطال التحذير، وأودعها سبحانه من التهديد والإنذار والوعيد العظيم الكثير، وأطنبت آيات الوعيد إطناباً يبلغ بنفوس سامعيها أيَّ مبلغ من الرعب والخوف، وكانت كثرة الوعيد ربما أيأست وأوحشت، وصدّت عن الإيمان وأبعدت، أعقبها الله تعالى ببعث الرجاء في نفوس الشاردين عن بابه، مترفِّقاً متلطِّفاً بهم للخروج إلى ساحل النجاة إذا أرادوها على عادة هذا الكتاب المثاني المجيد من مداواة النفوس بمزيج الترغيب والترهيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموضوع الثاني: الآيات/ 62 – 75
أ) الآيات/ 62 - 67
ربوبية الله وتفرده بالخلق والملك والتدبير، وأن ذلك يقتضي توحيده بألوهيته ووجوب إفراده بالعبادة، وذم المشركين الجاهلين، وبيان عظمة الله تعالى وسلطانه.
قوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)}.
المناسبة ووجه الربط:
لمَّا كانت خواتيم السور من مظانّ الاهتمام عادت السورة الكريمة لتقرير التوحيد، وإفراد الله بالعبادة، ووجوب نبذ الكفر والشرك به، وذلك ببيان دلائل ألوهيته وتوحيده، فهو خالق كل شيء، وبيده مقاليد كل شيء، فمن أشرك به أو كفر فهو الخاسر لنفسه وأهله يوم القيامة، وهو السفيه الجاهل. لذا أمر سبحانه بعبادته وحده؛ لأنه المستحق لهذه العبادة دون سواه، وأما من أشرك به فما قدر الله حق قدره، وما عظَّمه حق تعظيمه.. والله سبحانه وتعالى منزّه عن شرك المشركين، وكفر الكافرين، ومنزّه عن كل عيب ونقص، فسبحانه وتعالى عمَّا يشركون.
ــــــــــــــــــــــــــ
ب) خاتمة مهيبة: الآيات/ 68 - 75
مشهد من مشاهد يوم القيامة: الآيات 68 - 70 وانقسام الناس لزمرتين:
زمرة الكافرين الذليلين: الآيات/ 71 ، 72. وزمرة المؤمنين المعزَّزين: 73 ، 74
وخضوع الخلق لله تعالى هيبة وإجلالاً، وحمداً وتسبيحاً: الآية/ 75
قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ(70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ(71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}.
المناسبة ووجه الربط:
بعد أن ختم تبارك وتعالى موضوع الآيات السابقة ببيان عظمته وكمال قدرته يوم القيامة بياناً مجملاً، أبان هنا تفصيل ذلك لما فيه من تهويل وتمثيل لمجموع الأحوال مما يُنذر الكافر ويبشر المؤمن. وذكّر بإقامة الحق والعدل وذلك بالفصل بين الخلائق في ذلك اليوم العظيم، وتنفيذ القضاء بمعاقبة الكافرين، وإثابة المؤمنين. ثم ختم هذه السورة الكريمة ببيان ذلك الموكب المهيب موكب الملائكة الحافين حول العرش، يحمدون الله على عدل قضائه وجميع صفات كماله.
هذا ما تيسَّر لي بيانه بفضل الله وتأييده من مقدمة بين يدي سورة الزمر، وتقسيم موضوعاتها، ووجه المناسبة والارتباط بينها. وسيأتي لاحقاً تفسير الآيات إن شاء الله. والله تعالى أعلم.