سورة الزمر تفسير / وتقسيم موضوعي - 3 -

إنضم
28/05/2006
المشاركات
34
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
[align=center]الحزب الثاني/ الربع الرابع/ من الجزء (23)[/align]


[align=center]الموضوعات الرئيــسة:[/align]

[align=center]أولاً: زمرة الكفار المتناقضين الذين لا يعلمون، وزمرة المؤمنين العالِمين العاملين
الآيات {8 , 9}[/align]


قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)}.

المفردات اللغوية:
ضرّ: مرض، أو فقر، أو وقوع في كربة، وغير ذلك من أنواع المكاره في جسم أو أهل أو مال. دعا ربَّه: استجار ربَّه وتضرَّع إليه. منيباً إليه: أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك. خوَّله نعمة منه: أي أناله وأعطاه نعمة منه بأن كشف ما به من ضر، وخوَّله: من التَّخوُّل وهو التعهد، ويقال خولَّه الشيء أي ملَّكه إياه، ولا يستعمل في الجزاء، بل في ابتداء العطية. نسي ما كان يدعو إليه من قبل: أي ترك ما كان فيه من الضر الذي دعا الله لأجله. أنداداً: شركاء، جمع ندّ. ليضلّ عن سبيله: اللام للعاقبة، أي: ليُضلَّ بنفسه، ويُضِلَّ غيره عن دين الإسلام؛ لأنّ الإضلال فرع من الضلال. وقرأ ابن كثير: ليّضِلَّ: بالفتح. قل تمتَّع بكفرك قليلاً: أي قل تهديداً لذلك المصرّ على الضلال: تلذّّذ واصنع ما شئت بقيَّة أجلك. إنك من أصحاب النار: من سكانها المخلدين فيها. أمَّن هو قانت: وقرأ نافع: وابن كثير، وحمزة: أمَن، بتخفيف الميم: استفهام تقريري، ومقابله محذوف لفهم المعنى، والتقدير: أهذا القائم بطاعات الله في السراء والضراء، في ساعات الليل والنهار، خير أم ذلك الكافر المخاطب بقوله تعالى: {قل تمتَّع بكفرك}. والقانت: العابد، وقيل: الطائع الخاشع. آناء الليل: ساعاته وأوقاته. يحذر الآخرة: يخاف عذابها. ويرجو رحمة ربه: أي حصول رحمة الله له فينجو مما يحذره ويفوز بما يرجوه. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون: استفهام إنكاري لنفي استواء الفريقين، أي لا يستويان، وكما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون. إنما يتذكَّر أولو الألباب: أي: إنما يتَّعظ ويهتدي بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الصافية الزكيّة.

وجه الربط:
بعد أن بيَّن الله تعالى في الآيات المتقدِّمة فساد مذهب المشركين في عبادة الأصنام، وأنّه لا دليل لهم على عبادتها، وبيّن تعالى أنّه هو الذي يجب أن يعبد وحده، وأنّه الغنيُّ عمَّا سواه من المخلوقات لا يفتقر إلى عبادتهم، ذكر تعالى هنا تناقض الإنسان وتقلُّبه وضعفه وقلَّة ثباته على نهج؛ إلا حين يتصل بربّه، ويتطلّع إليه، ويقنت له، فيعرف الطريق، وينتفع بما وهبه الله من عقل.

المعنى الإجمالي:
يخبر الله تعالى عن كرمه بعبده وإحسانه وبِرِّه، وقلّة شكر عبده، وأنّه حين يمسَّه الضُّرَّ من مرض، أو فقر، أو وقوع في كربة، أو غير ذلك من أنواع المكاره في جسم أو أهل أو مال، رجع إلى ربّه متضرِّعاً مستغيثاً به وحده في تفريج كربته، معرضاً عمَّا سواه من الشركاء؛ لأنه يعلم أنّه لا ينجيه في هذا الحال إلا الله، حتى إذا فرَّج الله كربه ونجَّاه، وكشف ما نزل به، وأعطاه وملَّكه نعمة من فضله ورحمته، وصار في حال رخاء ورفاهية نسي ربَّه الذي يدعوه، وترك دعاءه، أو نسي ذلك التضرّع والدعاء، فقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ}، فهو في حال الشدّة يلجأ إلى الله ويستغيث به وحده وفي حال الرخاء ينسى ربّه ويغفل عن عبادته وطاعته، وهذا حال أكثر الناس، وقد قرَّره تعالى في آيات كثيرة منها قوله في سورة يونس:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} (يونس:12)، ومنه أيضاً: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}(الإسراء:67)، فإنّ هذا الإنسان ينسى تضرّعه وإنابته وتوحيده لربّه، وتطلّعه إليه وحده حين لم يكن غيره يملك أن يدفع عنه محنته... ينسى هذا كلّه ويجعل لله شركاء يعبدها، من الأصنام أو غيرها، من هوى، أو جاه، أو أولاد ومطامع، فإنّ هذه كلها في حقيقتها شرك خفيّ لا يحسبه الناس شركاً؛ لأنّه لا يأخذ شكل الشرك المعروف وإنّما هو من الشرك في الصميم.
وتكون العاقبة والنتيجة هي الضلال والإضلال عن دين الله تعالى، فيُضِلّ بنفسه، ويُضلّ الناس بعمله هذا ويمنعهم من توحيد الله واتباع دينه وطريقه، وسبيل الله تعالى واحد لا يتعدَّد، وإفراده بالعبادة والتوجّه والحبّ هو وحده الطريق إليه.
ولهذا كلّه هدّد الله تعالى وأوعد ذلك الكافر المصرّ على الضلال فقال:{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي: قل أيها الرسول لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه: استمتع أيها الإنسان الكافر تمتّعاً قليلاً أو زماناً قليلاً هو مدّة أجلك، فمتاع الدنيا مهما طال فهو قليل، وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عمَّر، بل الحياة كلّها لمتاع قليل حين تقاس إلى أيّام الله، كما قال تعالى:{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}.
وإلى جانب هذه الصورة المنفِّرة يذكر تعالى صورة أخرى... صورة القلب الخائف الوجل، الذي يذكر الله ولا ينساه في سرّاء ولا ضرّاء، صورة المؤمن المطيع الخاشع العابد، الخائف الراجي، يعيش حياته في خوف من الآخرة وحذرٍ منها، وفي تطلّعٍ إلى رحمة ربّه وفضله، دائم الاتصال بخالقه سبحانه، مما ينشأ عنه العلم الصحيح المدرك لحقيقة وجوده، قال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أي: أذلك الكافر أحسن مآلاً وحالاً، أم المؤمن بالله، الذي هو مطيع خاشع يصلّي في ساعات الليل، وخشوعه مستمرّ حال سجوده وحال قيامه. إنها صورةٌ مشرقةٌ مرهفةٌ، فالقنوت كما قيل: طول القيام، وطول القراءة، وهو السجود والخشوع، والذّلّ والخضوع لمن خضعت له النفوس، وذلّت له الرِّقاب، ورغمت له الأنوف.

فصاحب هذا القلب على بصيرة، وعلى علم، فهل يستوي هو والجاهل؟ قطعاً لا يستوي هؤلاء وهؤلاء؛ فالذين يعلمون محابّ الله ومكارهه، وهم يعملون على الإتيان بمحابّه، وترك مكارهه، ويدركون الحقّ، ويعرفون منهج الاستقامة، فيتَّبعونه ويعملون به، لا يستوون مع الذين لا يعلمون ما يحبّ الله وما يكره، فهم يتخبّطون في الضلال خبط عشواء، ويسيرون في متاهة وضلال، قال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} نعم ، لا يستوي العالمون والجاهلون، ولا يستوي القانتون والعاصون، فالتسوية بينهم تصادم الحق والعدل كما سبق عند قوله تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ(22) }. (فاطر:19-22)، وإنما يعلم الفرق بين هؤلاء وهؤلاء أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، والعلم على الجهل، وطاعة الله على مخالفته؛ لأنّ لهم عقولاً ترشدهم للنظر في العواقب، بخلاف من لا لُبَّ له، ولا عقل، فإنّه يتَّخذ إلهه هواه. سبحان الله ما أجلّ كلام الله!
وهنا وتساؤل ووقفة مع هذه الآية الكريمة، ما هو العلم الحقيقي المطلوب في هذه الآية؟ العلم هو المعرفة، والمعرفة هي إدراك الحق، ومن ثَمَّ العمل بهذا العلم، وهذا هو: القنوت لله؛ استشعار الحذر من الآخرة يوجب الخوف وترك المعاصي، والتطلّع إلى رحمة الله وفضله توجب مراقبة الله تعالى مراقبة مثمرة لفعل الأوامر، واجتناب النواهي، بل وإيثار محابّ الله، وذِكره، وتدبّر كلامه.

نعم هذا هو الطريق الصحيح للعلم الصحيح، حتى ينتفع صاحب هذا العلم بعلمه، فيعمل بما علم فيثمر علمه عن صلاة وهي أفضل العبادات، ثم عن قنوت، وهو سِرّ الصلاة، ثم عن أفضل الأوقات، وهو الليل.


قال ابن سعدي رحمه الله تعالى: إنّ متعلّق الخوف: عذاب الآخرة على ما سلف من الذنوب،، ومتعلّق الرجاء: رحمة الله، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن.


من هداية الآيات:
1. بيان أنّ الله تعالى يجيب دعوة المضطر ولو كان كافرا؛ لقوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ}.
2. بيان رحمة الله تعالى بعباده إذ يقدِّر عليهم أحوالاً مختلفة من الرخاء والشدّة، والعسر واليسر؛ لعلّ العبد يهتدي ويعتبر وينتبه من غفلته؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ }.
3. أنّ فطرة الإنسان تبرز واضحة جليّة نقيّة حين يمسّه الضرّ؛ حيث تنكشف عنها الأوهام وتتجه إلى ربّها وحده؛ لقوله تعالى: {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ }.
4. بيان أن الكافر يلجأ إلى الله تعالى في حال الضرورة، وإلى غيره عند اندفاع المكروهات؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ}.
5. الإشارة إلى أنّ الإنسان لا يرشد ولا يكمل إلا بالتوحيد والإيمان.
6. الإشارة إلى أنّ الدنيا ممرّ، والآخرة مقرّ؛ لقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا}.
7. تهديد الله تعالى لمن أقبل عليه في الضراء، وأدبر عنه وعاد إلى ضلاله عند السرّاء، وأنّ من هذا حاله فهو من أهل النار الخالدين فيها؛ لقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ }.
8. المقارنة بين القانت المطيع، والعاصي المضلّ؛ لقوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ....}.
9. تقرير أفضلية المؤمن المطيع على الكافر العاصي.
10. الثناء على القائم بطاعات الله المداوم على ذلك.
11. الإشارة إلى فضل قيام الليل، وبيان فضله، وفضيلة إطالة القيام والسجود فيه.
12. أنّه ينبغي على العبد أن يكون في سيره إلى الله ما بين الخوف والرجاء؛ لقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}. وينبغي ألا يجاوز أحدهما حدّه، فالرجاء إذا جاوز حدّه يصير أمناً، وقد حذّر منه تعالى بقوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. والخوف إذا جاوز حدّه أيضاً يصير يأساً، وهو مذموم؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }.
ويلاحظ أنّ الله تعالى قال في مقام الخوف:{يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ } فلم يُضِف الحذر إليه تعالى، وقال في مقام الرجاء: {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} وهذا يدلّ على أنّ جانب الرجاء أكمل وأولى أن يُنسب إلى الله تعالى.
قال ابن حجر في الفتح: وهذا كله متفق على استحبابه في حالة الصحة، وقيل: الأولى أن يكون الخوف في الصحة أكثر وفي المرض عكسه، وأما عند الإشراف على الموت فاستحبَّ قوم الاقتصار على الرجاء لما يتضمّن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذّر فيتعيّن حسن الظنّ بالله برجاء عفوه ومغفرته. ا.هـ
13. الردّ على من ذمَّ العبادة خوفاً من النار، أو رجاء محبة الله ورحمته، كالصوفية وغيرهم، بل قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( حولها ندندن).
14. التنبيه إلى أنه بالإيمان بالله وحده، وبتوحيده، والعلم بأسمائه وصفاته، والعمل بمقتضى ذلك، هو الذي يخلّص الإنسان من التناقض والضلال؛ لقوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
15. بيان فضل العالم على الجاهل لعمله بعلمه، ولولا العمل بالعلم لاستوى العالم والجاهل.
16. أنّ المنتفع بخطاب الله هم المؤمنون أصحاب العقول الذين ينتفعون بعلمهم؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}. ويتفرّع على هذا: أن من كان عنده علم ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم.

لطيفة:
قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك يجتمعون عند أبواب العلماء؟ فأجاب العالم بأنّ هذا أيضاً يدلّ على فضيلة العلم؛ لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهّال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.

[align=center]ثانياً: الأمر بالتقوى، وبيان الثواب المنشِّط في الدنيا للمتقي، والحث على الهجرة، والصبر لما فيهما من الأجر العظيم: الآية {10}[/align]
قوله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

المفردات اللغوية:
اتقوا ربكم: أي: اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بالإيمان ولزوم الطاعة. للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة: أي للذين عملوا الأعمال الحسنة في حياتهم الدنيا على وجه الإخلاص والاتباع ، صحة وعافية ونفس مطمئنّة. وقيل: مثوبة حسنة في الآخرة. وأرض الله واسعة: أي فمن تعسَّر عليه الإحسان بالطاعة في وطنه، فليهاجر إلى مكان يتمكن فيه من الطاعة وترك المنكرات ومخالطة الكفار. إنما يوفّى: أي التوفية العظيمة، والتوفية: إعطاء الشيء وافياً، أي تامّاً. بغير حساب: أي بما لا يقدر على حصره حاصر، وبغير عدٍّ وحدّ.[/

وجه الربط:
لمَّا أثنى الله تعالى على المؤمنين بإقبالهم على عبادته في أشدِّ الآناء، وبشدَّة مراقبتهم إيَّاه بالخوف والرجاء، وبتمييزهم بالعلم والعقل والتَّذكُّر، ونفى المساواة بينهم وبين المشركين في ذلك كلِّه، أتبع ذلك بأمر رسول الله بأن ينصح المؤمنين بجملة نصائح تتضمَّن الأمر بالتقوى والاستمرار بالطاعة، وحثَّهم على ذلك ببيان الثواب المنشِّط لهم في الدنيا. وهو خطاب فيه تلطّف وتحبّب للمؤمنين.
وفي قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ} تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به، ووجوب الامتثال له.


المعنى الإجمالي:
يأمر الله تعالى رسوله الكريم أن قل لعبادي المؤمنين قولي هذا بعينه، فإن تبليغ عين أمر الله أدعى إلى الامتثال له، فقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أي قل: منادياً لأشرف الخلق، وهم المؤمنون، آمراً لهم بأفضل الأوامر، وهي: التقوى، ذاكراً لهم السبب الموجب للتقوى، وهو ربوبية الله تعالى لهم وإنعامه عليهم المقتضي ذلك منهم أن يتقوه، ومن ذلك ما منَّ الله عليهم به من الإيمان فإنّه موجب للتقوى، وتقواه جلَّ جلاله تكون بأن يتخذَّ العبد بينه وبين عذابه تعالى وقاية وذلك بطاعته وفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ثم علَّل تعالى أمره هذا بذكر الثواب المنشط لهم على العمل، وتثبيتاً لهم على ما يلاقونه من الأذى، بأنَّ للذين أحسنوا إلى الخالق، وذلك بأداء الطاعة المطلوبة منهم على الوجه الحسن ومراقبة الله تعالى فيها. وأحسنوا إلى الخلق بالمعاملة الطيبة، وبكفِّ الأذى، وبذل الندى، وطلاقة المحيَّا. لهم في دنياهم حسنة، بالصحة والعافية، والغنى والجاه، والظفر والغنيمة، وانشراح الصدر، واطمئنان النفس، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير الدائم؛ فقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} فما أجزل الجزاء! حسنة في الدنيا القصيرة الأيام الهزيلة المقام، تقابلها حسنة في الآخرة دار البقاء والدوام، ولكنه فضل الله على هذا الإنسان الذي يعرف منه ضعفه وعجزه وضآلة جهده، فيكرمه ويرعاه، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ثمّ رغَّبهم في الهجرة للتمكُّن من التقوى والطاعة، فقال تبارك وتعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} أي إذا لم تتمكَّنوا من التقوى في بلد، فهاجروا إلى حيث تتمكّنوا من طاعة الله، والعمل بما أمر به، والترك لما نهى عنه، كما هو سنّة الأنبياء والصالحين؛ ونظير هذا قوله تعالى: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء:97).
ولمَّا يبَّن سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا؛ وكان لا بُدَّ في ذلك من الصبر على فعل الطاعة؛ وعلى كفِّ النفس عن الشهوات، فالله خالق الناس يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاقّ، وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال حياة جديدة في أرض جديدة صعب على بني الإنسان، لذلك أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره؛ فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي إنما يعطي الله أهل الصبر على ما لقوا فيه فـي الدنيا أجرهم فـي الآخرة بغير كيل ولا وزن، وبما لا يقدر على حصره وحسبانه حاصر ولا حاسب. وهذا الجزاء إنما هو نسمة القُرب والرحمة من الرحمن الرحيم العليم بهذه القلوب الضعيفة، المطَّلع على خفيِّ الدبيب منها، الخبير بأحوالها وأوضاعها، فيعالج ما يشقُّ عليها في موقف الشدّة العلاج الشافي، ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب..


من هداية الآيات:
1ً. بيان عناية الله تعالى برسوله والمؤمنين إذ أرشدهم إلى ما يكملهم ويسعدهم.
2ً. أنّ على المؤمن تقوى الله بطاعة ربّه واجتناب معاصيه، وذلك مقتضى الإيمان؛ وجهه أنّ الله تعالى صدَّر نداءه لعباده بصفة الإيمان بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا}.
3ً. أنّ مجرَّد الإيمان بالقلب، أو إعلان الإسلام دون تقوى ولا عمل بأوامر الله واجتناب نواهيه لا يكفي إطلاقاً؛ لقوله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ.
4ً. أن الربَّ تبارك وتعالى هو أهل التقوى وحده؛ لقوله:{اتَّقُوا رَبَّكُمْ}. ونظير هذا قوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}(المدثر: 56).
5ً. بيان ما للتقوى من فوائد جُلَّى، فللمتقين في الدنيا حسنة من صحة وعافية ونصر وسلطان وغنى وجاه، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير الدائم، وآخرها وأكملها لذّة النظر إلى وجهه تعالى.
6ً. أن الإحسان في الدنيا يشمل الإحسان للخالق سبحانه، والإحسان في عبادة الله فسرها الرسول الكريم بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم كن تراه فنه يراك". ويشمل الإحسان للخلق، وهو كما عرَّفه بعض أهل العلم: كفُّ الأذى، وبذل الندى (المعروف) وطلاقة الوجه.
7ً. بيان فضل الله جلَّ جلاله وكرمه؛ حيث يعجِّل الثواب في الدنيا لمَن يستحقّ قبل الآخرة؛ لقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}.
8ً. دلَّ الآية على التلازم بين الإحسان والتقوى، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. (النحل: 128)
9ً. الإشارة إلى أنّ الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء؛ لقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}.
10ً. بيان أن لا عُذر للمقصِّرين في الإحسان والطاعة، فمن صُدَّ عن طاعة الله في بلد، فعليه المهاجرة إلى بلد آخر يتمكَّن فيه من الاشتغال بالطاعات والعبادات، اقتداءً بالأنبياء والصالحين في هجرتهم إلى غير بلادهم، ليزداوا إحساناً إلى إحسانهم، وطاعة إلى طاعتهم؛ لقوله تعالى:{وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ}.
والهجرة أنواع:
- الهجرة إلى المدينة من مكة المكرمة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت واجبة أول الإسلام، ثمّ نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية".
- هجرة من أسلم في دار الحرب، وهذه واجبة.
- هجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديباً لهم، فلا يُكلَّمون ولا يخاطبون، كما كان مع الصحابة الكرام كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع.
حكمها: من كبائر الذنوب إن كانت واجبة .
شروط وجوبها:
- أن يكون الإنسان غير قادر على إقامة شعائر دينه.
- أن يكون قادراً على الهجرة، فإن كان لا يستطيع الهجرة فإنه لا تجب عليه.
- أن يجد مكاناً خيراً من المكان الذي هو فيه.
11ً. بيان فضيلة الصبر؛ لأن قوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يدلُّ على أنَّ ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له، وهذه فضيلة عظيمة، ومثوبة جليلة، تقتضي من كلِّ راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفَّر على الصبر ويزُمَّ نفسه بزمامه، ويُقيِّدَها بقيده. والصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وهو على ثلاثة أنواع،
فأعلاه: الصبر على طاعة الله تعالى؛ لأن الألم فيه ألم نفسي، وألم بدني.
يليه: الصبر عن معاصي الله؛ وهذا النوع الألم فيه واحد، وهو الألم النفسي.

وأخيراً:
الصبر على أقدار الله المؤلمة، وهذا لا يد للإنسان فيه فإن صبر فله الرضا، وإن سخط فعليه السخط، فإنّ الجزع لا يردّ قضاءً قد نزل، ولا يجلب خيراً قد سُلب، ولا يدفع مكروهاً قد وقع، وإذا تصوَّر العاقل هذا حقَّ تصوّر، وتعقَّله حقَّ تعقّله، علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم، وظفر بهذا الخير الجليل، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى، ومع ذلك فقد فاته من الأجر ما لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، فضمَّ إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع! وما أحسن قول من قال:
أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب
هناك يحقّ الصبر والصبر واجب وما كان منه للضـرورة أوجب
وقيل: كلّ مطيع يكال له كيلاً ويوزن له وزناً إلا الصابرين، فإنه يُحثى لهم حثياً.


فائدة أصولية مستنبطة من الآيات الكريمات:
في قوله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} التفات للخطاب بالنداء، وهي التفاتة خاصّة، فهو في الأصل: قل لعبادي الذين آمنوا.. قل لهم: اتقوا ربكم، ولكنّه جلَّ وعلا جعل يناديهم؛ لأنّ في النداء إعلاناً وتنبيهاً، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول لهم: "يا عبادي" فهم عباد الله، فهناك هذه الالتفاتة في أثناء تكليفه بتبليغهم أن يناديهم باسم الله، فالنداء في حقيقته من الله، وما محمد صلى الله عليه وسلم إلا مبلغ عنه للنداء.


[align=center]ثالثاً: توجيهات وأوامر للنبي صلى الله عليه وسلم ، ووعظ للمشركين، وتبشير للمؤمنين: الآيات: {11 - 20 }[/align]

من قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) }.
المفردات اللغوية:
أعبد الله: العبادة تُطلق على معنيين: الأول: التذلُّل لله. والثاني: على المتعبَّد به؛ كما عرَّفها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: العبادة هي كل ما يحبّه الله تعالى يرضاه من الأقوال والأفعال. مخلصاً له: أي أعبده عبادة نقيَّة من الشوائب كالشرك والرياء وغيره. الدِّين: يُطلق على معنيين: على العمل الذي يعمله الإنسان لأجل أن يدان به، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، ويُطلق على يوم الحساب والجزاء، كما في قوله تعالى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. وأمرت لأن أكون: اللام في قوله: (لأن) يحتمل أن تكون بمعنى الباء، وعلى هذا يكون المعنى: بأن أكون. ويحتمل أن تكون للتعليل، وذلك بتضمين فعل (أمرت) فعل محذوف مقدَّر مناسب للام؛ فكان قوله تعالى:{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} لبيان المأمور لأجله في قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي: أمرت أن أعبد الله لأكون أول المسلمين، والإسلام هو الانقياد لله تعالى ظاهراً وباطناً. أوَّل المسلمين: يحتمل أن يكون الأوليَّة هنا أوليَّة صفة؛ أي أنه صلى الله عليه وسلم أول من سبق إلى الإسلام وانقاد لله تعالى. ويحتمل أن تكون الأوليَّة من هذه الأمة، فهو صلى الله عليه وسلم أول مَن سبق إلى الإسلام؛ أي: أمرت بما أمرت، لأكون أول من أسلم، يعني من قومه؛ لأنه أول من خالف عبَّاد الأصنام. وقيل: أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بي قولاً وفعلاً. إن عصيت: المعصية المخالفة، وتكون بأمرين: إما بترك مأمور، أو بفعل محظور، هذا إن أُفردت عن الطاعة. فإن اقترنت بالطاعة صارت الطاعة: فعل المأمور، والمعصية: ارتكاب المحظور. والمراد هنا إن خالفت ربي بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء. عذاب يوم عظيم: هو يوم القيامة، ووصفه بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال. قل الله أعبد: أي لا أعبد سواه سبحانه لا استقلالاً، ولا اشتراكاً. مخلصاً له ديني: منقِّياً عملي من الشرك والرياء. فاعبدوا ما شئتم من دونه: أي غيره أو سواه، وفي هذا التعبير تهديداً لمن يشرك بالله، أو تحدِّياً لهم، والآية تحتمل المعنيين فتُحمل عليهما. إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة: الخسارة ضد الربح، أي حقيقة الخسران هو خسران النفس؛ وذلك بتخليدها في نار جهنم، وعدم الاستفادة من الحياة الدنيا، وخسران الأهل بعدم الاجتماع بهم في الآخرة في الجنة إن كانوا مؤمنين، وكذلك لا يجتمعون بهم إن كانوا من أهل النار في النار. المبين: البيِّن الواضح. ظلل: طبقات من النار، جمع ظُلَّة. ذلك الذي يخوّف الله به عباده: أي ذلك العذاب الفظيع الذي ذكره تعالى هو الذي يخوِّف به عباده ليتَّقوه. الطاغوت: البالغ غاية الطغيان، مشتق من الطغيان، والتاء للمبالغة، والطاغوت كما عرَّفه ابن القيم رحمه الله تعالى: هو كل ما تجاوز به الإنسان حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، ولكن هذا التعريف ليسس على إطلاقه، فالذي يرضى أن يعبد من دون الله فهو طاغوت. وأنابوا إلى الله: أقبلوا ورجعوا. لهم البشرى: أي ما تحصل به البَشارة، والأصل أنَّ البشارة الخبر السارّ؛ لظهور أثره على البشرة، وهي الجلد، والبشرى تكون في الدنيا بالثناء الحسن عليهم بصالح أعمالهم، والرؤيا الصالحة، وعند الوضع في القبر، وفي الآخرة عند الخروج من القبر، وعند الوقوف للحساب، وعند جواز الصراط، وعند دخول الجنة. فبشِّر عباد: أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبشير عباد الله المتقين الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت، ووحّدوا الله. الذين يستمعون القول: أي ينصتون ويُصغون للقول الحقَّ من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم . فيتَّبعون أحسنه: ثناءً عليهم بنفوذ بصائرهم وتمييزهم الأحسن في كلِّ الأمور؛ أي لا يرضون إلا بالأكمل. أولئك الذين هداهم الله: أي هدوا إلى الحقِّ علماً وعملاً، أي: هداية دلالة، وهداية توفيق. وأولاء: اسم إشارة، والكاف: للبعد، فالمشار إليه بعيد، والبعد على أربعة أقسام: إما معنوي، أو حسيّ، وهو إما للعلو، أو للسفول، وهنا البعد معنوي لعلوِ مكانتهم. وأولئك هم أولوا الألباب: هم: ضمير فصل يفيد التوكيد، والحصر، وللتمييز بين الصفة والخبر. أولوا الألباب: ذوي العقول الصحيحة الذين انتفعوا بعقولهم. أفمن حقَّ عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار: أفمن: الهمزة للاستفهام الإنكاري؛ أي للنفي، والفاء للعطف، فالهمزة داخلة على الجملة التي بعد حرف العطف، وموقعها التقديم على الهمزة، لكن لمَّا كان للهمزة موقع الصدارة قُدِّمت، والفاء عاطفة على ما سبق، أي: (فأمن حقَّ عليه..). وقيل: أن الهمزة داخلة على جملة مقدَّرة تناسب المقام، والفاء عاطفة على تلك الجملة المحذوفة. ومَن: شرطيه جوابها محذوف مقدَّر, وقيل: مَن موصولة، بمعنى الذي. وعلى هذا ففي تفسير هذه الآية وجهان: فمن اعتبرها آية متصلة: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}فتكون الهمزة في قوله: (أفمن)، والهمزة في قوله: (أفأنت) للاستفهام الإنكاري الذي يفيد النفي، والمعنى: أفمن وجب عليه العذاب وحق عليه فهو في النار أفأنت تنقذه منها؟. ومَن اعتبرها جملتان مستقلّتان؛ فمعنى الآية الأولى:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} أفتدفع عمَّن حقَّ عليه كلمة العذاب؛ أي تجعله مؤمناً لا يستحق العذاب. والثانية: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} مستأنفة بمعنى: أفأنت تنقذ مَن حقَّ عليه كلمة العذاب؛ أي تنقذه مِن النار إذا دخل فيها؟. ومؤدّى الجملتين في النهاية واحد؛ لأنه لا يمكن للرسول ولا غيره أن ينقذ مَن حقَّ عليه كلمة العذاب. ومعنى حقَّ: وجب. كلمة العذاب: قيل: هي قوله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}( هود: 119)، وقيل: هي قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (يونس: 96) وهذا أقرب؛ أي أنَّ الله تعالى قضى أنَّ هؤلاء من أهل النار فلا يؤمنون. لكن الذين اتقوا ربهم: لكن: للاستدراك بين ما يشبه النقيضين أو الضدين، وهما المؤمنون والكافرون وأحوالهما. اتقوا: أي جعلوا بينهم وبين سخط الله تعالى وقاية؛ بطاعة أوامره واجتناب نواهيه. لهم غرف: جمع غرفة، تطلق على البناء العالي، والتي تكون في الأسفل يطلق عليها حجرة؛ أي منازل عالية في الجنة. من فوقها غرف مبنية: أي من فوقها منازل هي أرفع منها؛ أي هي طبقات بعضها فوق بعض، مبنية من الذهب والفضة. تجري من تحتها الأنهار: أي من تحت هذه الغرف العليا والتي أعلى منها تجري الأنهار، وهي جمع نهَر، ونهْر؛ وهي الأربع المذكورة في سورة محمد: أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذّة للشاربين، وأنهار من عسل مصفَّى. وعد الله: مصدر مؤكد، أي وعد الله وعداً لا يخلفه تعالى.

وجه الربط:
بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب المسلمين بقوله:{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أمره بعد ذلك أن يصدع الكفَّار بما أُمر به من عبادة الله؛ حيث إنَّ تحقيق العبودية لله تعالى وحده روح الرسالات الإلهية وزبدتها، كُلِّف بها المرسلون أولاً ليكونوا الأسوة الصالحة والقدوة الحسنة لمن أُرسلوا إليهم، ولهذا أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُعلن ذلك وهو يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى وحده.

المعنى الإجمالي:
يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُخبر الناس ويُعلن لهم بما أمره به ربّه سبحانه وتعالى من التوحيد والإخلاص؛ فقال تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}أي إن ربي أمرني أن أعبده اعتقاداً وقولاً، وأن أفعل ما يأمرني به، وأترك ما ينهاني عنه، وأن أكون في ذلك كله مخلصاً له عبادتي وأعمالي عن كلّ ما ينافيها من شرك ورياء، كما أمرني أن أكون أوَّل المسلمين من هذه الأمة في مخالفة دين الآباء الوثنيين، وذلك بانقيادي له تبارك وتعالى، والاستسلام له ظاهراً وباطناً؛ فقال تعالى:{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} أي لأني الداعي الهادي للخلق إلى ربِّهم؛ فيقتضي أن أكون أوَّل مَن يأتمر بما أُمر به، وأوَّل من يُسلم لله.
ثمَّ أمره تعالى أن يواجه المشركين الذين كانوا يحاولون ثنيه عن دعوته إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وأن يتبع دينهم، بقوله:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. فأعلن عليه الصلاة والسلام خوفه من عذاب الله العظيم يوم القيامة إن هو وافقهم وترك التوحيد ومال إلى الشرك.
وفي هذا الإعلان من النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مأمور أن يعبد الله وحده، ويخلص له الدين وحده، وأن يكون بهذا أول المسلمين، وأنه يخاف عذاب يوم عظيم إن هو عصى ربّه، تجريد عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم عبد مأمور، وهذا هو مقامه لا يتعدَّاه، وفي مقام العبودية يقف العبيد كلهم صفّاً، وتتجرَّد صفة الوحدانية لله سبحانه بلا شريك ولا ند ولا شبيه. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره ورفعة مكانته، على هذه الدرجة العالية من خشية الله ومحاسبته لنفسه، فكيف ينبغي أن يكون حالنا مع الله تعالى!؟.
ومرَّة ثانية أُمر عليه الصلاة والسلام أن يُعلن إخلاص عبوديته لله، وتحقّقه بها عملاً واستسلاماً وانقياداً على أبلغ وجه وأكمله، ففي المرة الأولى أخبر عليه السلام بأنه مأمور بذلك، وفي هذه المرة أمر بالإخبار بمبادرته إلى تنفيذ الأمر وتحقيقه؛ فقال تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} فلا أعبد سواه، وهذا مقامي الذي شرَّفني الله به.
ثمَّ توجَّه بتحدي أولئك المشركين وتوبيخهم وتهديدهم والبراءة من عملهم: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} أي اعبدوا ما أردتم أن تعبدوه من غير الله، من الأوثان والأصنام، فسوف تجازون بعملكم، وهذا كقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ(4) وَلَا أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6)(سورة الكافرون) .
ثمَّ بيَّن تعالى ما يترتَّب على فعلهم، وحذَّرهم من عاقبة الخسران والحرمان يوم القيامة؛ فقال: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}أي قل لهم أيها الرسول: إنما الخاسرون كل الخسران هم الذين خسروا أنفسهم بعبادة غيره تعالى، وأوقعوا أنفسهم بالضلال والشرك والمعاصي، وخسروا أيضاً أهليهم حيث أضلوهم وأوقعوهم في العذاب الدائم يوم القيامة، فأبعدوهم عنهم وحرموا أنفسهم منهم، فالإنسان يستشعر ذاته ويدرك هويته وحقيقته عندما يوجِّه نفسه إلى عبادة ربّه ومالك أمره، بينما يستشعر الحيرة والقلق والضياع والاضطراب والضلال عندما يوجِّه نفسه إلى عبادة غيره جلَّ وعلا، وهذا هو الخسران البيّن الظاهر الواضح، فلا خسران أعظم منه؛ إذ لا مجال لتعويض الخسارة.
ثم وصف تعالى حالهم في النار، فلهم الخسران أيضاً العذاب الأليم في أطباق النار؛ فقال تعالى:{لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}أي أن النار محيطة بهم من كل جانب من فوقهم ومن تحتهم، كما قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وقوله تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وسمّى سبحانه ما تحتهم ظللاً؛ لأنها تظلِّل مَن تحتها من أهل النار؛ ففي كل طبقة من طبقات النار طائفة من طوائف الكفار.
ولمَّا كان ذلك العذاب أمراً مهولاً، وهم لا يرهبونه ولا يرجعون عن غيهم به ذكر تعالى فائدته مع الزيادة في تعظيمه؛ فقال: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ}أي ذلك العذاب الفظيع الذي أخبر به الله خبراً كائناً لا محالة ليُرهب به عباده؛ لينزجروا عن المعاصي والمآثم والمحارم، قائلاً لهم: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}أي امتثلوا لأوامري، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي ونقمتي وعذابي، وهذا التحذير والتنبيه نعمة عظمى صادرة من فيض رحمة الله، وموعظة بليغة منه تعالى تنطوي على غاية اللطف والمرحمة، فمن اتعظ بهذه الموعظة وأقبل عليه مخلصاً في عبادته وطاعته معرضاً عما سواه له البشرى من الله عزَّ وجلَّ عظيمة:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} أي والذين أعرضوا وجانبوا عبادة الطاغوت، وهو الداعي إلى عبادة غير الله تعالى كالشيطان ورؤوس الضلال، ورجعوا إلى الله فعبدوه وحده، لهم البشرى في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فالثناء الحسن عليهم بصالح أعمالهم، وبالرؤيا الصالحة يرونها أو تُرى لهم، والعناية الربانية بهم، ولهم البشرى عند الموت، وفي القبر، ويوم القيامة، ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البَشَارة بنوع من الخير والروح والريحان.
ولمَّا أخبر الله تعالى أن لهم البشرى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ببشارتهم، وذكر الوصف الذي استحقوا به البَشارة: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي احمل البشرى إلى عبادي الذين يميزون بين الهدى والضلال، وبين الحق والباطل، والذين يستمعون القول الحق من كتاب الله وسُنَّة رسوله، فيفهمونه، فيتبعون أحسن ما يُؤمرون به، فيعملون بما فيه، وهذا مدح لهم بأنهم نقَّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن، والفاضل والأفضل، هؤلاء المتصفون بهذه الصفة هم الذين وفقهم سبحانه للصواب في الدنيا والآخرة، وهم ذوو العقول الصحيحة والفطر السليمة؛ قال تعالى:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}أي أولئك الذين هداهم الله لدينه ووفقهم للتمسك بشريعته، وهداية الله لهم هي هداية الإرشاد والتوفيق.
ثم بيّن تعالى أضداد المذكورين قائلاً: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أنك لست تملك أمر الناس ولا تقدر على إنقاذ من استحق العذاب في النار. وقيل المعنى: أأنت مالك أمر الناس، فمن وجب عليه العذاب لإعراضه وعناده وكفره، فأنت تخلصه من النار؟ أي لا تقدر على هداية أحد؛ لأن الهداية منوطة بالله تعالى وحده، لا يملكها سواه.
ثم ذكرت الآيات في مقابل ما لأهل العذاب من ظلل من النار، بعض ما أعد الله تعالى لأهل الجنة من النعيم الدائم بأسلوب الاستدراك:{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي لكن أولئك الذين اتقوا عذاب ربهم الذي رباهم بنعمه، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لهم منازل عالية رفيعة محكمة البناء، وهي القصور الشاهقة ذات الطبقات المزخرفات العالية، وفوقها منازل أرفع منها تجري من تحتها الأنهار العذبة، وفي ذلك كمال بهجتها وزيادة رونقها.
ثم أكد تعالى حسن هذا الجزاء، فأخبر أنه وعد من الله تعالى وعده للمتقين المؤمنين، ووعد الله ثابت لا ينقض ولا يُخلف؛ لكمال صدقه سبحانه وقدرته فقال: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ}.


من هداية الآيات:
1ً. بيان أنَّ الله تعالى هو المستحقّ للعبادة الخالصة وحده؛ لقوله تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}. وأنَّ العبادة المأمور بها هي: توحيد الله تعالى، والإخلاص له في هذه العبادة.
2ً. بيان أنَّ الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم عبد مأمور، ليس له من أمر الربوبية والخلق شيء؛ لقوله تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ}. وفي هذا ردّ على الصوفية وغيرهم الذين غَلَوا في الرسول صلى الله عليه وسلم فاستغاثوا وتوسٍّلوا به.
3ً. أنّ نبيَّنا محمّداً صلى الله عليه وسلم أوَّل مَن خالف دين آبائه، ودعا إلى التوحيد؛ لقوله تعالى:{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}. ويتفرَّع على هذه الفائدة: أنّ على الداعية إلى الله تعالى أن يوافق قوله فعله، وأن يدعو نفسه أولاً إلى ما يدعو إليه غيره حتى يكون قدوتهم قولاً وفعلاً، وعليه أن يُعلن ذلك بقصد حثِّهم وتشجيعهم.
4ً. أنّ كلَّ عاصٍ موعود بعذاب الله تعالى؛ لقوله:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
5ً. تعظيم يوم القيامة، وأنه يوم عظيم؛ لقوله تعالى:{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
ويتفرّع على هذا أنه ينبغي للعاقل أن يستعدَّ لهذا اليوم ويعمل له.
6. جواز وصف غير الله تعالى بالعِظم؛ لقوله:{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، لكن العظم المطلق هو لله عزَّ وجلَّ وحده.
7ً. ينبغي للإنسان أن يُعلن بالحقِّ الذي هو عليه؛ لقوله تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14)فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}.
8ً. تحريم عبادة غير الله؛ وجهه أنَّ قوله عزَّ وجلَّ:{فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} للتهديد، ولا تهديد إلا لمخالفة.
9ً. بيان أن الخسارة الفادحة خسارة النفس والأهل يوم القيامة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
10ً. كل خسران في الدنيا إذا قيس بخسران الآخرة لا يُعدّ خسراناً أبداً.
11. الإشارة إلى أن الشرك هو سبب خسارة النفس والأهل يوم القيامة.
12. بيان شدَّة عذاب أهل النار؛ لأنَّ العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم؛لقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}.
13. أنه ينبغي للإنسان أن يخاف مما خوَّف الله منه، ليُحقَّق العبودية لله؛ لقوله تعالى:{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ}.
14. أنَّ الغاية من التخويف هي الحثُّ على تقوى الله؛ فتذكُّر العذاب والخوف منه يوجب تقوى الله؛ لأنه تعالى بعد أن خوَّف عباده بقوله:{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ}. قال: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}.
15. الثناء على مجتنبي الطاغوت، وأنّ لهم ثواب من الله عظيم؛ لقوله عزَّ وجلَّ:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى}.وينبني على هذا أنّ التوحيد لا يتمّ إلا باجتناب الطاغوت، والإخلاص لله عزَّ وجلَّ.
16. إثبات العبودية الخاصَّة؛ لقوله عزَّ وجلَّ:{فَبَشِّرْ عِبَادِ}. والعبودية نوعان: عبوديَّة كونية؛ وهي العامَّة؛ كقوله عزَّ وجلَّ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}، وعبودية خاصَّة؛ وهي عبودية المؤمنين لله عزَّ وجلَّ، وقال بعض أهل العلم: وهناك عبودية أخصّ؛ وهي عبودية الأنبياء؛ كقوله عزَّ وجلَّ:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}.
17. أن المتَّبِع لكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم هم أهل التمييز والوعي والإدراك؛ لأنهم يميزون بين ما يسمعون فيتَّبعون الأحسن ويتركون ما دونه من الحسن والسيء؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}. ويتفرَّع على هذا الترغيب بالأخذ بالأحسن وأفضليَّته مع جواز الأخذ بالحسن.
18. الإشارة إلى أن المؤمنين هم المنتفعون بعقولهم، وإلا فالكلّ لديه عقل؛ لقوله عزَّ وجلَّ:{وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
19. بيان أن مَن حقَّ عليه العذاب لا هادي له؛ لقوله:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}.
20. بلاغة القرآن، وشدّة زواجره؛ حيث يأتي بمثل هذا الأسلوب الشديد الذي يصرم القلب الواعي الحي.
21. أن التقوى سبب لدخول الجنة، وبيان علوّ منزلة المتقين؛ لقوله تعالى:{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ}. يؤخذ من استدراك الله تعالى لحال المتقين، بعد ذكر حال من حقت عليه كلمة العذاب.
22. بيان تمام نعيم أهل الجنة؛ لقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.
23. أنَّ وعد الله تعالى لا يُخلف؛ وذلك لكمال صدقه، وقدرته؛ لقوله تعالى: {وَعْد
َ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ}
فائدة:
قال أهل العلم: الطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة:
1. إبليس لعنه الله.
2. من عُبِد وهو راض.
3. من دعا الناس إلى عبادة نفسه.
4. من ادَّعى شيئاً من علم الغيب.
5. من حكم بغير ما أنزل الله.

[align=center]رابعـاً: كمال قدرة الله في إحياء الخلق: آية {21}[/align]
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ}.

المفردات اللغوية:
ألم تر: للاستفهام، والغالب أنَّ همزة الاستفهام إذا دخلت على نفي أن تكون للتقرير؛ فيكون قوله تعالى: (ألم تر) أي: قد رأيت، والرؤية هنا تحتمل أن تكون رؤية علم، ورؤية بصر. أنزل من السماء: السماء هنا بمعنى العلو؛ لأن السماء تأتي ويراد بها السقف المحفوظ، وتأتي ويراد بها العلو. فسلكه ينابيع: أدخله مسالك وعيوناً وأمكنة نبع، والينابيع: جمع ينبوع: وهو عين الماء. زرعاً مختلفاً ألوانه: أي من حيث التلوين، والأصناف، والأشكال. ثم يهيج: ييبس ويجف، يقال: هاج النبت يهيج هيجاً إذا تمَّ جفافه وحان له أن ينتشر عن منبته. وأرض هائجة: يبس بقلها، أو اصفر. فتراه مصفرا: أي ذهبت خضرته ونضارته. حطاماً: فتاتاً مكسَّراً. لذكرى لأولي الألباب: أي تذكيراً لأولي العقول الصحيحة.
وجه الربط:
بعد أن وصف الله تعالى الآخرة بصفات تقتضي الرغبة فيها والشوق إليها، أتبعه بوصف الدنيا بصفة تستوجب النفرة منها؛ حيث أنّ الاغترار بها من أقوى أسباب الضلال، فذكر تمثيلاً لها في سرعة زوالها وقُرب اضمحلالها. وإنما قدَّم وصف الآخرة؛ لأن الترغيب في الآخرة مقصود لذاته، والتنفير عن الدنيا مقصود غرضا.

المعنى الإجمالي:
يوجِّه الله تعالى خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم ولكلَّ مخاطب حثّاً لهم على تأمُّل هذا المثَل الذي ضربه سبحانه للدنيا لبيان سرعة زوالها، وتحذيراً من الاغترار بها فقال جلَّ في علاه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي: ألم تعلم وتبصر أيها الرسول وكلَّ مخاطب أنَّ من قدرة الله تبارك تعالى وآثار حكمته ورحمته إنزال المطر من السحاب، - وهذا دليل أول على عظيم قدرة الله تبارك وتعالى - فإذا نزل كمَنَ في الأرض، قال تعالى:{فَسَلَكَهُ} أي أدخله في الأرض، - وهذا دليل ثانٍ على عظيم قدرة الله تبارك وتعالى- ثمّ يصرِّفه الله تعالى{يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} أي في أجزائها كما يشاء، ويخرجه عيوناً متدفِّقة بالماء. وهذا دليل ثالث على عظيم قدرة الله تبارك وتعالى.
ولمَّا كان إخراج النبات متراخياً عن نزول المطر، عبَّر سبحانه بـ (ثم) فقال عزَّ مِن قائل:{ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي في الأصناف، كبُرٍّ وشعير وأرز وخضار وغيرهما، والكيفيَّات والطعوم، من حلوٍ وحامض وغير ذلك، ومختلفاً ألوانه، من أحمر وأخضر وأصفر وأبيض وغيرهما من الألوان البديعة الأخاذة، مع اتِّحاد الماء الذي جمعه من أعماق الأرض بعد أن تفتَّت فيها وصار ترابا. وهذا الإخراج، واختلاف الألوان آيتان على عظيم القدرة والانفراد بالتصرف.
والحياة النباتية التي تعقب نزول الماء وتنشأ عنه؛ خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيراً، ورؤية النبتة الصغيرة وهي تشق حجاب الأرض عنه؛ وتزيح أثقال الركام من فوقها؛ وتتطلع إلى الفضاء والنور؛ وهي تصعد إلى الفضاء رويداً رويداً.. هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى؛ وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والزرع المختلف الألوان في البقعة الواحدة، بل في النبتة الواحدة، بل في الزهرة الواحدة إن هو إلا دليل على إبداع القدير جلّ شأنه.
ولمَّا كان لكلّ شيء غاية مقدَّرة له في ناموس الوجود، وفي نظام الكون، وفي مراحل الحياة، قال تعالى: {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} أي يجفّ وييبس، وتزول خضرته ونضارته، وهذا الطَّوْر آية سادسة على كمال القدرة والوحدانية. ثمّ وقد استوفى أجله، وأدّى دوره، وأنهى دورته كما قدّر له واهب الحياة صيَّره سبحانه حطاما، فقال: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} أي متفتِّتاً متكسراً كأن لم يغن بالأمس، وهذا الطَّوْر آية سابعة على قدرة الله.
ولمَّا تمَّ هذا على هذا المنوال البديع الدالّ بلا شك لكلِّ مَن رآه على أن فاعله قادر على الإعادة بعد الإبادة، كما قَدِر على الإيجاد من العدم، قال على سبيل التأكيد للتنبيه على أن إنكارهم غاية في الحمق والجمود:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أي: إن فيما تقدَّم ذكره من إنزال المطر وإخراج الزرع به وتنقلاته إلى حالة الحطامية لموعظة ينتفع بها أهل العقول الصحيحة، فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها، فيتفكرون ويعتبرون، ويعلمون بأن الحياة الدنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة الزوال والانقطاع، وذهاب بهجتها، وتلاشي رونقها ونضارتها، فإذا أنتج لهم التفكر والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها، والميل إليها، وإيثارها على دار النعيم الدائم والحياة المستمرة، واللذة الخالصة، ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر؛ لأن من قدِر على هذا قدِر على ذلك. ونظير هذه الآية قوله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}(الكهف:45).

من هداية الآية الكريمة:
1. بيان قدرة الله تعالى في إنزال الماء من السماء؛ لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}.
2ً. بيان حكمة الله تعالى ورحمته في إنزال هذا الماء؛ حيث جعل الماء ينزل من السماء ليعُمَّ المرتفع والمنخفض؛ ويشمل الأرض كلها؛ وهذا من حكمته، وحيث جعله ينزل على هيئة قطرات، ثم سلكه ينابيع في الأرض ولم يبق راكداً على ظهرها، وهذا من رحمته تعالى.
3ً. بيان قدرة الله تعالى في إخراج الزرع المختلف أصنافه وألوانه مع أنه يتغذى بماء واحد، وطينة واحدة.
4ً. بيان أن كمال الدنيا مؤذن بنقصانها، وفي هذا ترغيب في الآخرة لخلودها، وتنفير من الدنيا لتوقيتها وقصر مدتها وسرعة زوالها وانقضائها.
5ً. الآية مَثَل لحال الدنيا، يتعظ بها كل ذي عقل سليم، بعيد النظر، عميق الفكر والتأمل، ينظر إلى المستقبل الحتمي نظرة اليقِظ الحَذِر المستعدّ العامل.
6ً. ينبغي للإنسان أن يستعمل عقله في التفكر في مخلوقات الله تبارك وتعالى.

فائدة عقدية مستنبطة من الآيات الكريمات:
-- إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ}. والله عز وجل قرن المسببات بأسبابها، وهو مقتضى الحكمة.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: والنّاس في الأسباب ثلاثة: طرفان ووسط
- فقسم أنكر الأسباب وقال لا تأثير لها، وما يحصل بالسبب فإنه حاصل عنده لا به والسبب أَمَارة فقط على حصول وقت الحادث. مثاله: انكسار الزجاجة بالحجر إذا أُرسل عليها أي: ليس هو الذي كسرها ولكنّ الله قدر انكسارها عند وجود الصدمة فقط وليس للحجر أيُّ تأثير، فالأشياء تحصل عند الأسباب بغير الأسباب لكنّ السبب علامة. ولهذا يقولون لو أنَّ أحداً أثبت تأثير الأسباب لكان مشركاً لأنه أثبت مع الله خالقاً.
- والقسم الثاني يقول: بل الأسباب ثابت تأثيرها وهي المؤثرة بنفسها لأنها هي القوة الفاعلة، ولا علاقة لله بها، وهذا يشبه مذهب القدرية، وهو قول الفلاسفة. فإنها طبائع؛ أي من طبيعة هذا الشيء أن يحدث هذا الشيء. وهذا لا شك أنّه نوع من الشرك. والرد على هؤلاء الطبائعيين؛ أنّ الله قال للنّار التي أعدت لإحراق إبراهيم عليه السلام أنّ الله جل جلاله قال لها: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[ الأنبياء : الآية / 69] فكانت برداً وسلاماً فخرجت عن طبيعتها. إذاً: ليست الطبائع قوىً مؤثرة بنفسها ولكن بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة.
- والقسم الثالث: وسط، يقول: إنّ للأسباب تأثير؛ ولكن لا بنفسها بل بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة. وهذا هو الذي دلَّ عليه المنقول والمعقول، وهو الحقَ. والدليل على تأثير الأسباب أكثر من تحصى؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}[ الأعراف : الآية / 57 ]. وكما أنَّ الأعمال الصالحة سبب للفوز، والأعمال السيئة سبب للخسران، وهكذا...


[align=center]خامساً: مقابلة بين المهتدين الذين شرح الله صدورهم للإسلام فاستناروا به، وقساة القلب المعرضون عن ذكر الله، الضالين ضلالاً بيِّناً: آية {22}[/align]
قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.
المفردات اللغوية:
أفمن: الهمزة للاستفهام الإنكاري، بمعنى النفي، يفيد التقرير، والفاء للعطف، فالهمزة داخلة على الجملة التي بعد حرف العطف، وموقعها التقديم على الهمزة، لكن لمَّا كان للهمزة موقع الصدارة قُدِّمت، والفاء عاطفة على ما سبق، أي: {فَأَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ}. وقيل: أن الهمزة داخلة على جملة مقدَّرة تناسب المقام، والفاء عاطفة على تلك الجملة المحذوفة، والتقدير: أغفلتم فلم تدركوا أنَّ من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه كمن ليس كذلك. شرح: وسَّع ومنه شرْح الكتاب. صدره: قيل المراد بالصدر هنا: القلب؛ لأنه محله فعُبِّر به عنه. وقيل: أن المراد بالصدر حقيقة الصدر، حيث أن الإنسان إذا تردَّد وتحيَّر في أمر يجد في صدره ضيقاً فيظهر تأثره في انضغاط نفسه حتى يصير تنفسه عسيراً ويكثر تنهده، قال تعالى عن موسى عليه السلام:{وَيَضِيقُ صَدْرِي}، ويُقال: ضاق صدره، وقالوا في ضدّ ذلك: شرح الله صدره، ومنه قولهم: فلان في انشراح، أي: يحس كأن صدره وُسّع وشُرح، وجمع بينهما قوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (الأنعام:125)، والمعنى: وسَّع صدره لقبول الإسلام وتقبُّل جميع شرائعه وأوامره ونواهيه، وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير. فهو على نور من ربه: الفاء عاطفة للتفريع، أي يمشي على هدى وبصيرة. فويل: كلمة عذاب ووعيد. للقاسية قلوبهم من ذكر الله: القسوة ضد اللين، وعن: قيل بمعنى عن، وقيل: للسببية، فهي على ظاهرها، أي: لا تلين لكتابه، ولا تطمئن لذكره. مبين: واضح بيِّن.
وجه الربط:
بعد أن بيّن الله تعالى ما يوجب الإقبال على الآخرة بطاعة الله تعالى، وما يوجب الإعراض عن الدنيا، أوضح أنَّ الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونوَّر القلوب.
المعنى الإجمالي:

ينبّه سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمات إلى أنه لا يستوي المهتدي المهدي الموفق للإسلام والحق ومن هو قاسي القلب، البعيد عن الحق، فقال تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} أي أفمن وسَّع الله صدره للإسلام، فقبله واهتدى بهديه، وتلقّى أحكام الله، وعمل بشرائعه فامتثل أوامره واجتنب نواهيه، منشرحاً قرير العين، {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي فهو على بصيرة من أمره وهداية ويقين، كمن جعل صدره ضيِّقا حرجاً فلم يقبل الإسلام ولم يدخل فيه، وقسا قلبه لسوء اختياره وغفلته وجهالته، فطبع الله عليه، وعاش على الكفر والشرك والمعاصي فهو يعيش على ظلمة الكفر ودَخَن الذنوب وعَفَن الفساد والشر، ونظير هذا قوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}.
ثمّ توعَّد سبحانه وتعالى أصحاب القلوب القاسية ذاكراً عقابه لهم للدلالة على الكلام المحذوف الذي قُدِّر، فقال تبارك وتعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي فالعذاب الشديد لمن لا تلين قلوبهم عند ذكر الله، وتلاوة كتابه، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم، وهذا أسوأ حال العبد إذا كان يهلك بالدواء ويضل بالهدى، فسماع القرآن الأصل فيه أن يلين القلوب الصالحة للحياة، فإذا كانت القلوب ميتة غير قابلة للحياة زادها سماع القرآن موتاً وقسوة، ويدلّ على هذا تذييل الآية الكريمة بقوله تعالى:{أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي أولئك قساة القلوب في ضلال واضح عن الحق، وغواية ظاهرة لكلّ الناس، فهدايتهم متعذّرة إذا كان الدواء يزيد في علتهم، وآيات الهداية تزيد في ضلالتهم.

من هداية الآية الكريمة:
1ً. بيان تفاضل الناس في قبول الحق، وأنّ منهم مَن يقبل الحق بانشراح، ومنهم ليس كذلك.
2ً. أنّ مَن شرح الله صدره للإسلام فقبل الحق فهو على نور من الله، وأنّ مَن قسا قلبه من ذكر الله فهو في ضلال واضح.
3ً. أنَّ مَن شرح الله صدره للإسلام فإنَّ له ربوبية وعناية خاصة من ربِّه؛ لقوله تعالى:{فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}، والربوبية نوعان: ربوبية عامة، كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وربوبية خاصة، كهذه الآية الكريمة، وقد اجتمع النوعان في قوله تعالى حكاية عن سحرة آل فرعون: {قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(48) }.
4ً. الوعيد الشديد لمن قسا قلبه من ذكر الله؛ لقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}.
5ً. أنه ينبغي للإنسان إذا رأى قسوة من قلبه أن يُسرع بعلاجه؛ ليسلم من هذه الوعيد الشديد.
6ً. بيان أن القلوب قلبان: قلوب قابل للهداية، وآخر غير قابل لها – والعياذ بالله-، فإذا قال قائل: كيف يكون الشيء الواحد مؤثراً لنتيجتين متباينتين؟ والجواب: أنّ هذا ممكن وذلك لاختلاف المحلِّ الوارد عليه هذا الشيء، فمثلاً التمر يأكله رجلان، أحدهما يكون له دواءً، والآخر يكون له داءً عليه. وكذلك الماء يجري على الأرض، فأرض تقبله وتشربه وتنتفع به، وأخرى يَسحُّ عليها ولا تنتفع به، وهكذا ذكر الله يرد على القلب اللين فينتفع به، وعلى القلب القاسي فيزداد قسوة ، نسأل الله الهداية والنور.
7ً. أن مَن قست قلوبهم من ذكر الله قد انغمسوا انغماساً تامّاً في الضلال؛ لقوله تعالى: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} وجهه: أنّ حرف (في) للظرفية، والظرف محيط بالمظروف؛ فكأن هؤلاء انغمروا في الضلال وأحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه.


[align=center]سادساً: الآيات {23- 31}[/align]
صفات القرآن الكريم:(*أحسن الحديث *كتاباً *متشابهاً *مثاني)، وأثره في قلوب المهتدين: آية {23}،وبيان أحوال الضالين في المآل، وتذكيرهم بمصير الأمم المكذبة من قبلهم: الآيات{24، 25، 26} وإقامة الحجة عليهم بضرب الأمثال لهم في القرآن المنَزَّل عليهم بلسانٍ عربيٍّ: الآيات{27، 28، 29}،وأنّ مصير الخلائق إلى الله يوم القيامة، وأنّه سبحانه يفصل بينهم بحكمه العادل: الآيات{30، 31}.
قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23)أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ(24)كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ(25)فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(26)وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(28)ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(29)إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ(31) }.
المفردات اللغوية:
أحسن الحديث: أي: القرآن، وأحسن اسم تفضيل من الحُسن، والحُسن يتضمَّن: حُسن الأسلوب، و حُسن الموضوع، ويشمل قوله تعالى: "أحسن الحديث" هذا وهذا؛ أي أحسن في أسلوبه، وأحسن في موضوعه؛ فألفاظه أفصح الألفاظ، وأوضحها؛ ومعانيه أجلّ المعاني؛ وأخباره أصدق الأخبار، وأنفعها في العبرة؛ وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها، وأقومها بمصالح العباد. كتاباً: أي مكتوباً، والقرآن الكريم مكتوب في ثلاثة مواضع: في اللوح المحفوظ، وفي صحف الملائكة، وفي الصحف التي في أيدي الناس. متشابها: أي يشبه بعضه بعضاً في حُسن النظم، وصحة المعنى، والإحكام، والإعجاز، وفي حُسن الإئتلاف، وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه. مثاني: جمع مُثنَّى، من التثنية، والقرآن تثنَّى فيه القصص، والوعد والوعيد، وصفات أهل الجنة، وأهل النار، وتثنَّى فيه أسماء الله الحسنى، فالمثاني أن يُقْرن المعنى وما يقابله. تقشعرُّ منه: أي ترتعد وتضطرب خوفاً عند ذكر الوعيد، أو عند ذكر النار، أو ما يوجب الخوف والفزع كذكر ما حلَّ بالأقوام السابقة من العذاب. يخشون ربهم: أي يخافونه مع العلم بعظمته وجلاله؛ لأن الخشية لا تكون إلا بعلم؛ قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28). وقد فرَّق العلماء بين الخشية والخوف من وجوه: 1_ أن الخشية تكون مقرونة بعلم، أما الخوف فقد يكون بوهم 2_ أن الخشية تكون من عظمة المخشيّ وإن كان الخاشي عظيماً، أما الخوف فيكون من ضعف الخائف وإن كان المَخوف منه غير عظيم. تلين: أي تطمئن وتهدأ وتسكن بعد القشعريرة. إلى ذكر الله: عند ذكْر الله، وعند تلاوة آياته المثاني. ذلك هدى الله: يحتمل أن يكون المشار إليه: ما حصل لهم من الخشية، وعلى هذا فالهداية هنا هداية التوفيق، ويحتمل أن يكون المشار إليه هو: الكتاب الذي هو أحسن الحديث، أي ذلك القرآن هدى الله، أي دليل هدى الله، فتكون الهداية هداية الدلالة. يهدي به من يشاء: أي اهتدى به من شاء الله، وكفر به من شاء ضلاله. ومن يضلل الله: أي خذله ولم يشأ هديه. فما له من هاد: أي ليس له مَن يخلصه من الضلال، ويهديه إلى الحق. أفمن يتقي: الاستفهام للنفي الإنكاري، والجواب محذوف، والمعنى لا يستوي من يتقي بوجهه سوء العذاب مع مَن أمن من العذاب بدخول الجنة، والاتقاء: تكلّف الوقاية وهي الصون والدفع، والمراد أنه يجعل وجهه كالترس يقي به سوء العذاب. وقيل للظالمين: أي كفار مكة وأمثالهم. ذوقوا ما كنتم تكسبون: أي ذوقوا وبال وجزاء كسبكم الشرّ والفساد. كذَّب الذين من قبلهم: أي
كذَّبوا رسلهم في إتيان العذاب. فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون: من جهة لا تخطر ببالهم أن العذاب يأتيهم منها. فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا: أي مسَّهم الله الذُلَّ والهوان حتى كأنهم ذاقوه وطعموه بمذاقاتهم، كالقتل، والمسخ، والسبي، والصاعقة، والخسف، وغير ذلك. لو كانوا يعلمون: أي لو كان المكذبون يعلمون عذاب الآخرة ما كذَّبوا. ولقد ضربنا للناس: أي بيّنا للناس، والجملة مؤكدة بمؤكدات ثلاثة، وهي اللام، وقد، والقسم المقّدر؛ أي والله لقد ضربنا للناس. فإن قال قائل: لماذا يؤكِّد الله هذا وهو أمر معلوم، والغالب أن التأكيد إنما يُصار إليه للحاجة إليه: والجواب: أن التأكيد قد يكون للحاجة إليه عندما يكون المخاطَب شاكّاً أو منكراً، وقد يكون التأكيد لبيان أهمية المُؤَكَد وإن لم يكن ثّمَّ إنكار أو تردد، ومنه هذه الآية الكريمة. من كل مثل: أي من كل شَبَه ونظير. لعلَّهم يتذكرون: أي يتعظون، ولعل هنا للتعليل، وهو أحد معانيها، ومن معانيها: الترجي، مثل: لعل الحبيب قادم، ومن معانيها: الإشفاق، مثل: لعل الحبيب هالك، ومن معانيها التوقُع، كقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (الطلاق:1). غير ذي عوج: أي لا اختلال فيه بوجه من الوجوه، ولا لبْس ولا اختلاف. ضرب الله مثلاً: للمشرك والموحّد. متشاكسون: متنازعون مختلفون لسوء أخلاقهم وطباعهم. سَلَماً: سالمِاً خالصاً لمالكه من الشركاء. هل يستويان مثلاً: الاستفهام للنفي، وإذا جاء الاستفهام في موضع النفي فإنه يكون مشرباً بمعنى التحدي؛ أي لا يستوي العبد المملوك لجماعة، والعبد الواحد، فإن الأول يحتار فيمن يخدم من أسياده إذا طلبوه، وهو مثل للمشرك، والثاني للموحّد. الحمد لله: أي كل المحامد له وحده سبحانه؛ لكمال صفاته، وكمال إنعامه. بل أكثرهم لا يعلمون: بل: للإضراب الانتقالي، والمراد بأكثرهم: أي أكثر الناس، وانتفاء العلم هنا لانتفاء لازمه؛ وهو: العمل والامتثال، فأكثر الناس في جهل لا يعرفون الحق، وفي غيٍّ لا يقبلون الحق، ولا يعملون به. إنك ميّت وإنهم ميتون: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ أي إنك يا محمد ميت، وهم كذلك ميتون، والميِّت: (بتشديد الياء) تقال لمن سيقع به الموت، والميْت (بالتخفيف) مَن وقع به الموت، أي بعد فراقه الحياة. ثم إنكم: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومَن عانده، وكفر به. تختصمون: تحتكمون للقضاء فيما حدث بينكم.

وجه الربط:

لمَّا توعَّد الله تعالى أصحاب القلوب القاسية، وبيَّن أنهم في ضلال واضح، فكأنَّما أثار ذلك في نفوس السامعين تساؤلاً عن وجه قسوة قلوب أولئك المبعدين الضالين من ذكر الله، أخبر سبحانه وبحمده عن صفات كتابه الكريم الذي أنزله على أكرم المرسلين مبيِّناً أنَّ قساوة قلوب الضالين من سماع القرآن إنّما هي لِرَيْنٍ في قلوبهم وعقولهم لا لنقص في هدايته، وهذا كما قال تعالى في سورة البقرة: {هُدىً لِلْمُتَّقِين}(البقرة:2).
وهذه الآية عود على بداية السورة الكريمة للتنويه بهذا القرآن الكريم المنزَّل من لدُن حكيم عزيز، كما قال تعالى في افتتاحها: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(1)إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}؛ فلمَّا ذكر هنالك أنّه منزَّل من حكيم عزيز، وأنّه أنزله بالحق مشتملاً عليه، ناسب هنا أن يثني على هذا الكتاب ويذكر بعض صفاته، ويبيِّن أثره في قلوب أولي الألباب المهتدين.

وهناك وجه آخر ذكره ابن سعدي رحمه الله تعالى فقال: أنه لما أخبر تعالى عن الممدوحين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كأنه قيل: هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي الألباب، قيل: نعم، أحسنه ما نصَّ عليه تعالى بقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ...}.

المعنى الإجمالي:
بعد أن توعَّد الله تبارك وتعالى أصحاب القلوب القاسية، بيَّن سبحانه أنّ القرآن الكريم يُلَيِّن قلوب الذين يخشون ربهم، ولذلك مدح جلَّ جلاله كتابه (القرآن العظيم) المُنزَل على رسوله الكريم؛ لأنَّ الله ذو الجلال والإكرام هو الذي أنزله؛ مما دلَّ على رفعة شأنه وفخامة منزلته، فقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فقد وصفه تعالى بصفات منها:
* الوصف الأول: أنَّه أحسن الحديث، فأحسن الحديث كلام الله، وأحسن الكتب المنزلة من كلام الله هذا القرآن، لما فيه من الخيرات والبركات والمنافع العامّة والخاصّة، وإذا كان هو الأحسن عُلم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه أجل المعاني، وأخباره أصدق الأخبار وأنفعها في العبرة؛ لمِا اشتملت عليه من المعاني النافعة والجامعة لأصول الإيمان، والتشريع، والتنبيه على عِظم العوالم والكائنات، وعجائب تكوين الإنسان، والعقل، وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها، وأقومها بمصالح العباد، ومن كونه بثَّ الآداب، واستدعى العقول للنظر والاستدلال الحقّ، ومن كونه مصدِّقاً لما تقدّمه من كتب الله ومهيمناً عليها، وفي إسناد إنزاله إلى الله استشهاد على حسنه حيث نزَّله العليم بنهاية محاسن الأخبار والذكر.
وقد سُميَّ القرآن حديثاً في مواضع كثيرة كقوله تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}(الكهف:6)، وقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:185) .
*الوصف الثاني: أنه {كِتَابًا} أي مجموعُ كلامٍ مرادٌ تلاوته وتدبّره والاستفادة منه، وهو مكتوب في ثلاثة مواضع: في اللوح المحفوظ، وفي صحف الملائكة، وفي الصحف التي في أيدي الناس.
*الصفة الثالثة: أنّه {مُتَشَابِهًا} أي متشابهة أجزاؤه، متماثلة في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه، فآيات القرآن متشابهة في الحُسن والبلاغة بحيث تبلغ أقصى ما تحتمله أشرف لغة للبشر، وهي اللغة العربية، وبذلك كان معجزاً لكل بليغ عن أن يأتي بمثله، حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه حتى في معانيه الغامضة ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم.
*الصفة الرابعة كونه: {مَثَانِيَ} أي تثنّى فيه القصص وتتردَّد، وتتكرر فيه المواعظ والأحكام من أوامر ونواهٍ، ووعد ووعيد، وصفات أهل الجنة وأهل النار، وتثنَّى فيه أسماء الله وصفاته، ويثنَّى في التلاوة فلا يمّلُّ سامعه، ولا يسأم قارئه.
قال ابن سعدي رحمه الله: "وهذا من جلالته وحُسنه، فإنه تعالى لما علم احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب، المكملة للأخلاق، جعل تلك المعاني للقلوب بمنزلة الماء لسقي الأشجار، فكما أن الأشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت، بل ربما تلفت، وكلما تكرر سقيها حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة، فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كلام الله تعالى عليه، وأنه لو تكرر عليه المعنى مرّة واحدة في جميع القرآن، لم يقع منه موقعا، ولم تحصل النتيجة منه". ا.هـ
*الصفة الخامسة: أنّه {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قال ابن كثير رحمه الله: "هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف" ا.هـ . فإن القرآن الكريم يشتمل على معانٍ تثير في قلوب المؤمنين الذين يخافون ربهم؛ لعلمهم به وتعظيمهم له، روعة ورهبة وجلالة لما فيها من الموعظة التي تَوْجَل منها القلوب، فاقشعرار الجلود كناية عن وجل القلوب الذي تلزمه قشعريرة في الجلد غالباً. ثم إذا سمعوا آيات الرحمة سكنت واطمأنت قلوبهم {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}.
قال ابن كثير رحمه الله: لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه: (أحدها) أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات. (الثاني) أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن {خروا سجداً وبكياً} بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال تبارك وتعالى: {والذين إذا ذكِّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً} أي لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها بل مصغين إليها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.
(الثالث) أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة رضي اللّه عنهم عند سماعهم كلام اللّه تعالى تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر اللّه، لم يكونوا يتصارخون، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك.
وقال السدي: {إلى ذكر اللّه} أي إلى وعد اللّه. ولمَا تلا قتادة رحمه اللّه قوله تعالى: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه} قال: هذا نعت أولياء اللّه، نعتهم اللّه عزَّ وجلَّ بأن تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر اللّه، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان.
وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تبارك وتعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قال فقلت لها: إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خر أحدهم مغشياً عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ومرَّ ابن عمر برجل من أهل العراق ساقطاً فقال: ما بال هذا ؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله سقط، قال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط! وقال ابن عمر: إن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وذكر عن ابن سيرين: الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن؟ فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطاً رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه فهو صادق.

ثمّ أخبر الله تعالى أنّ هذا القرآن الذي هو أحسن الحديث هدى الله يهدي به من يشاء هدايته ويوفقه للإيمان، فقال تعالى: {ذلك هدى اللّه يهدي به من يشاء من عباده} ، ويحتمل أن يكون المعنى أنَّ ما حصل لهم من الصفات التي ذكرها الله تعالى من تأثير القرآن فيهم هداية منه سبحانه لعباده، وهو من جملة فضله وإحسانه عليهم، ومن كان على خلاف ذلك، فهو ممن أضله اللّه؛ فقال تعالى: {ومن يضلل اللّه فما له من هاد}؛ لأنه لا طريق يوصل إليه إلا توفيقه، والتوفيق بالإقبال على كتابه، فمن خذله الله عن الإيمان بالقرآن فلا مرشد له.
وكما أنَّ أحوال المهتدين تختلف عن أحوال الضالين في الحال، كذلك أحوالهم تختلف في المصير والمآل؛ فقال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي أفمن يتقحَّم نار جهنم، فلا يجد ما يتقي به سوى وجهه، لتقي العذاب الشديد يوم القيامة، كمن هو آمن لا يعتريه شيء من المخاوف أو المكروه، ولا يحتاج إلى اتِّقاء المخاوف، بل هو سالم من كل سوء، مطمئن في جنة الله؟! وحُذف الجواب لدلالة ما بعده عليه، كما سبق معنا مثله، وهذا كقوله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(تبارك:22).
حينئذ يقال للظالمين أنفسهم بالكفر أو الشرك والمعاصي في الدنيا توبيخاً وتقريعاً: ذوقوا وبال ما كنتم تكسبون في الحياة الدنيا من كفر وفجور؛ قال تعالى: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.
ولمَّاَ ذكر سبحانه وتعالى ما أعدّ لهؤلاء الظالمين من سوء العذاب في الآخرة، قال تبارك وتعالى محذِّراً مكذِّبي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحلَّ بهم ما حلَّ بمن قبلهم من الأقوام السابقة: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} أي كذب الذين من قبل هؤلاء الـمشركين من قُريش أقوام من القرون الماضية المكذبة للرسل، كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، كذّبوا رسلهم، فماذا كانت عاقبتهم؟ { فَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعَرُونَ} أي أهلكهم اللّه بذنوبهم فجاءهم عذابه من جهة لا يترقبون إتيان العذاب منها ليكون ذلك أوجع للمعذَّب، وذلك عند أمنهم وغفلتهم، فما كان لهم من اللّه من واق، فقوم أتاهم من جهة السماء بالصواعق، وقوم أتاهم من جهة الجو مثل ريح عاد، وقوم أتاهم من تحتهم بالزلازل والخسف مثل قوم لوط، وقوم أتاهم من نبع الماء من الأرض مثل قوم نوح، وقوم عمَّ عليهم البحر مثل قوم فرعون، قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فعجل الله لهؤلاء الأمـم الذين كذّبوا رسلهم الهوان فـي الدنـيا, والعذاب قبل الآخرة, ولـم ينظِرهم إذ عتوا عن أمر ربهم بما أنزل بهم من العذاب والنكال، قال تعالى:{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي أذاقهم الله بهذا العذاب الدنيوي الذلَّ والهوان، وتشفي المؤمنين منهم، فليحذر المخاطبون من ذلك فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، والذي أعده اللّه جلَّ جلاله لهم في الآخرة من العذاب الشديد، أعظم مما أصابهم في الدنيا، ولهذا قال تعالى:{وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ} أي ولعذاب الله إياهم فـي الآَخرة إذا أدخـلهم النار, فعذّبهم بها, أشد وأنكى وأعظم من العذاب الذي عذّبهم به فـي الدنـيا, كونه في غاية الشِّدَّة والدَّوام.
ولمَّا كان مَن عَلِم أنّ فعله يورث نكالاً كفَّ عنه، بيَّن الله حال هؤلاء المكذبين؛ فقال:{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كانوا يعلمون أنّ ما حلَّ بهم سببه تكذيبهم رسلهم لاتعظوا به وآمنوا.
ولمَّا ذكر الله سبحانه وتعالى صفات القرآن بقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ذكر هنا خواصَّ أخرى للقرآن: هي أنه يضرب فيه الأمثال للناس لهدايتهم؛ حيث جعل لهم في القرآن الكريم من أمثال الأمم السابقة في إيمانها وتكذيبها، وصلاحها وفسادها، ونجاتها وخسرانها، وتوطئة لمثلٍ سيضربه سبحانه وتعالى للمؤمن الموحّد والكافر المشرك، وكل ذلك بقرآن عربي لا لبس فيه ولا اختلاف؛ فقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(28) } أي لقد بيَّنا للناس في هذا القرآن من جميع الأمثال مما يحتاجون إليه في أمر دينهم، ومن أمثال القرون الخالية تخويفاً لهم وتحذيراً، والمثل يقرّب المعنى إلى الذهن، لعلهم يعلمون فيعملون، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:43) ، وأنزله تعالى قرآناً عربيّاً مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف، لعلهم يتقون ربهم، ويرتدعون عن غيهم.
ووصف تبارك وتعالى القرآن بصفات ثلاث: هي كونه قرآناً أي متلوّاً في المحاريب إلى قيام الساعة، كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر:9)، وكونه عربيَّاً بلسانٍ عربيّ مبين، أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته، كما قال سبحانه:قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}(الإسراء:88)، وكونه غير ذي عوج، أي بريء من التناقض، كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} ( اننساء:82)، وفعل ذلك سبحانه لعلهم يتقون ما حذَّر الله من بأسه وسطوته.
ثمَّ ذكر تعالى مثلاً للمؤمن الموحد والكافر المشرك، فقال تبارك وتعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} أي يضرب الله تعالى المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبدٍ يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه، وهو بينهم موزّع، ولكلٍّ منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف، وهو بينهم حائر لا يستقرّ على نهج ولا يستقيم على طريق، ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتعارضة لسوء أخلاقهم وطباعهم، كل له رأي وحاجة، فإذا طلب كل واحد من السادة من هذا العبد شيئاً أو حاجة، فماذا يفعل، وكيف يرضي جميع الشركاء؟ كذلك المشرك في عبادته آله متعددة لا يتمكن من إرضاء جميع تلك الآلهة.
وضرب الله مثلاً آخر للمؤمن الموحد بحالة عبد يملكه سيّد واحد، لا يشاركه فيه غيره، فإذا طلب منه شيئاً لبَّاه دون ارتباك ولا حيرة، وهذا كالمسلم الذي لا يعبد إلا الله، ولا يسعى لإرضاء غير ربّه، فهل يكون في طمأنينة أم في حيرة؟ هذان المملوكان هل يستويان صفة وحالاً؟ لا يستوي هذا وهذا، فكذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فأين هذا من هذا؟
ولمَّا كان هذا المثل جليَّاً واضحاً، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فحمد نفسه عزَّ وجلَّ لكماله وجلاله، وكمال صفاته وإنعامه، ومن كمال إنعامه أنه يضرب الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، مع أنه عزَّ وجلَّ غني عنهم، والحمد لله على ظهور الدلائل والبينات الدّالة على وحدانيته، بل أكثر الناس لا يعلمون أنه وحده المستحق للعبادة، فهم من فرط جهلهم يشركون به غيره.
وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال، فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى؛ لأن بصره أبداً معلّقٌ بنجم واحد على الأفق لا يلتوي به الطريق؛ ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوّة والرزق، ومصدراً واحداً للنفع والضرّ، ومصدراً واحداً للمنح والمنع، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد، يستمد منه وحده، ويعلق يديه بحبل واحد يشدُّ عروته، ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره، ويعبد إلهاً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعله، وماذا يغضبه فيتقيه.. وبذلك تتجمّع طاقته وتتوحد، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض، متطلّع إلى إله واحد في السماء..
ونظراً لجهل أكثر الناس بالحق وعدم انتفاعهم بهذا المثل، أخبر تعالى تهديداً بالموت بأن مصير الخلائق كلهم إلى الله، وهناك يتقاضون بين يديه سبحانه وتعالى، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ(31) }أي إنك أيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) ستموت، وهم سيموتون، فالموت نهاية كل حيّ، ولا يتفرّد بالبقاء إلا الله، ثم يحصل التقاضي عند الله فيما اختلفتم فيه من أمور الدنيا والدين معاً.

من هداية الآيات:
1ً. إثبات أن القرآن الكريم نزل من عند الله؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.
2ً. بيان أنَّ القرآن الكريم أحسن الحديث؛ لأنه كلام الله تعالى؛ لقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.
3ً. بيان أنَّ القرآن الكريم مكتوب؛ لقوله تعالى: {كِتَابًا}. والقرآن الكريم مكتوب في ثلاثة مواضع: في اللوح المحفوظ، وفي صحف الملائكة، وفي الصحف التي في أيدي الناس.
4ً. بيان أنَّ القرآن الكريم متشابه؛ لقوله تعالى: {مُتَشَابِهًا}. فإذا قيل كيف نجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(آل عمران:7) حيث جعل سبحانه وبحمده القرآن الكريم في هذه الآية نوعان: محكماً، ومتشابهاً، وفي آية الزمر نوعاً واحداً: متشابهاً، والجواب: أنّ التشابه المذكور في سورة الزمر غير المتشابه المذكور في آل عمران؛ فالتشابه المذكور في الزمر يعني به التشابه في الكمال وحسن النظم والجودة، فجعله هنا كله متشابهاً؛ لأنه قال: {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} وهو سور وآيات، والجميع يشبه بعضه بعضاً كما ذكرنا، والتشابه المذكور في آل عمران هو اشتباه معناه على فهوم كثير من الناس وخفاؤه عليهم، ولا يزول هذا الاشتباه إلا بردّها إلى المحكم، فجعل التشابه لبعضه. وقد ذكر سبحانه وتعالى أيضاً أنَّ القرآن كله محكم؛ لقوله تعالى: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} فصار القرآن كله محكم، وكله متشابه، وبعضه محكم، وبعضه متشابه؛ فوصفه بالإحكام كله: أي كله محكم مُتقَن لا يتناقض، ووصفه كله متشابه: أي يشبه بعضه بعضاً في الكمال والجودة، ووصفه بأن بعضه محكم وبعضه متشابه: أي أن بعضه واضح المعنى، وبعضه خفيّ المعنى.
5ً. بيان أنّ القرآن الكريم قد بلغ في البلاغة غايتها وأكملها؛ لقوله تعالى: {مَثَانِيَ}. ويتفرَّع على هذه الفائدة أن على الداعي والواعظ أن يأتي بالترغيب والترهيب في خطابه للناس.
6ً. بيان أنَّ الذي يتأثر بالقرآن هو المؤمن؛ لقوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. ويتفرَّع على هذه الفائدة أن الشخص إذا رأى من نفسه أنه على غير تلك الحال فليعلم أن إيمانه ضعيف؛ لأن هذا الخبر خبر الله عزَّ وجلَّ فلا يمكن أن يتخلّف مخبره، فكل مؤمن يقشعر جلده مما يسمع من القرآن الكريم في الوعيد وإذا لم يكن كذلك، فذلك دليل على ضعف الإيمان. 7ً. بيان أن ذكر الله عزَّ وجلَّ سبب للين القلوب وسكونها؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. ويشهد لهذا قوله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد:28).
8ً. بيان مِنَّة الله تعالى على هؤلاء الذين تقشعر جلودهم عند ذكر الله ثم تلين قلوبهم بالهداية؛ لقوله تعالى:{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ}.
9ً. بيان أنّ مَن يضلّه الله فلا هادي له؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. فإن قال قائل: أفلا يوجب لنا هذا الحكم أن نقف عن دعوة الناس إلى الحق؟ والجواب: لا يوجب، ولكن إذا دعونا أحداً إلى الحق ولكنه لم يقبل، فلا ينبغي أن نهلك أنفسنا من أجله، ولكن علينا الاستمرار في دعوتهم.
10ً. انتفاء الاستواء بين مَن هو في العذاب، ومَن هو في النعيم؛ {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
11. أنَّ الله يعذِّب الكافرين بعدله سبحانه، وأنّ الجزاء من جنس العمل؛ لقوله تعالى:{ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.
12. أنَّ عذاب الدنيا قد يصيب الله به بعض الظلمة زيادة خزي لهم وذلّ، وأنَّ عذاب الآخرة هو الجزاء؛ لقوله تعالى: {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ}.
13. أنَّ عذاب الآخرة أكبر؛ {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ} فهو أشد كيفية من عذاب الدنيا، وأشد كمية؛ لأنه أبدي.
14. بيان أنَّ القرآن تبياناً لكل شيءٍ، ومن هذا البيان ضرب الأمثال؛ لأنها تقرِّب المعنى؛ وتضع المعقول بصورة المحسوس؛ لقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ}.
15. بيان رحمة الله تبارك وتعالى بالعباد؛ حيث بيَّن لهم هذا البيان التامّ.
16. بيان عربية القرآن الخالصة، وأنه ليس فيه لفظ أعجمي؛ لقوله تعالى: {قُرْآَنًا عَرَبِيًّا}.
17. بيان كمال اعتدال القرآن واستقامته، وأنه ليس فيه خلل ولا نقص بوجه من الوجوه؛ {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}.
18. انتفاء استواء حال المشرك والموحّد، فالمشرك في حيرة وتعب، والموحّد في راحة وهدوء بال؛ لقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}؛ وجهه: أن الاستفهام في الآية للنفي؛ أي لا يستويان.
19. أنَّ فهم المعنى معين على التقوى؛ لقوله تعالى أولاً: {قُرْآَنًا عَرَبِيًّا}، ثم قال: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
20. أنَّ الحكمة في ضرب الأمثال للناس هي أن تكون ذكرى وعِظة لهم ليتقوا ربهم، ويرتدعوا عن غيهم؛ لقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(28) }. وقدَّم تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} على: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}؛ لأنّ التذكُر متقدِّم على الاتقاء؛ لأنه إذا اتَّعظ به وفهم معناه؛ حصل الاتقاء والاحتراز.
21. أنَّ الله تعالى مستحقٌّ للحمد؛ لكمال توحيده، وأن الحمد المطلق له وحده سبحانه؛ لقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}.
22. بيان أن أكثر بني آدم لا يعلمون الحقائق على ما هي عليها، وإن علموها لم ينتفعوا بها؛ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. ويتفرّع على هذا التحذير من الجهل، والغيّ، وأن على الإنسان أن يطلب العلم، ويعمل به.
23. تقرير أن كل نفس ذائقة الموت؛ لقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. وهذه الآية لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
24. إنذار المكذبين بأنّ لهم موعداً مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الاختصام يوم القيامة؛ لقوله تعالى: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}.
25. بيان أنَّ الخلق يختصمون عند الله يوم القيامة، وأنَّ أهل الشرك والكفر خصوم لأهل التوحيد والإيمان في الآخرة كما هم خصوم لهم في الدنيا.

فوائد عقدية مستنبطة من الآيات الكريمات:
* بيان أن القرآن كلام الله؛ وجه ذلك أنه نازل من عند الله تعالى.
* إثبات علوّ الله تعالى؛ وجه ذلك: إذا كان القرآن كلام الله ووصفه، وأنه منزَّل من عنده؛ دلّ أنّ المتكلّم به عالٍ. وعلوّ الله تعالى على قسمين: علوّ صفة، وهذه اتفق عليها أهل السنة، وأهل البدعة. وعلوّ ذات، وهذه اختُلِف فيها؛ فأهل السنة يؤمنون أنّ الله تعالى عالٍ فوق خلقه بذاته، وأهل التعطيل أنكروا ذلك، ثم انقسموا إلى قسمين فالحرورية الجهمية قالوا: أنه تعالى بذاته في كل مكان، فوق السموات، وفي السموات، وفي الأرض، وفي البيوت، وفي المساجد، وفي الأسواق، وفي كل شيء، حتى توصلت الحال في بعضهم إلى أنهم قالوا: أنه حالٌُّ بذاته حتى في الأجسام. وهؤلاء هم الذين فتحوا الباب لحلول الاتحاد. والقسم الثاني قالوا: إن الله تعالى لا يوصف بعلوٍّ ولا نزول؛ فهو ليس فوق العالم ولا تحته، ولا متصل بالعلم ولا منفصل عنه، ولا داخل العالم ولا خارجه، وهذا تعطيل محضّ، حتى قال بعض العلماء: لو قيل لنا صفوا العدم، لما وجدنا أدقَّ من هذا الوصف!! ولهذا قال محمود بن سباكتكفين رحمه الله لابن فَوْرَك: بيِّن لنا ربك إن كنت تصفه بهذا الوصف! أين الرب الذي تعبده؟!! فسكت ولم يُجب.
* إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ}؛ فالباء للسببية.
* إثبات أن الهداية بمشيئة الله؛ لقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ}، وهذا يدلّ على أنَّ فعل العبد واقع بمشيئة الله؛ كقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28)وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29) }(التكوير).
وهذا أيضاً وقع فيه خلاف بين ثلاث طوائف:
طائفتان متطرفتان، وطائفة معتدلة؛ فالطائفتان المتطرفتان إحداهما قالت: إن الإنسان يشاء عمله ولا علاقة لله تعالى به، أي الإنسان حر يتصرف كيف يشاء ولا علاقة لله عزَّ وجلَّ به، فهو يُضلّ نفسه، أو يهدي نفسه، قالوا: ولولا ذلك لكان تعذيب الله عزَّ وجلَّ للعاصي ظُلماً! وثوابه للطائع عبثاً! وهؤلاء هم القدرية؛ لأنهم ينكرون قَدَر الله عزَّ وجلَّ فيما يتعلق بفعل العبد.
وأما المتطرفون الآخرون فقالوا: أن الإنسان لا مشيئة له، ولا قدرة له، ولا اختيار له في فعله، بل هو مُجبر عليه، عاجز عن المخالفة! وأن تعذيب الله عزَّ وجلَّ للظالم ليس ظلماً، وإن كان الظالم يفعل بغير اختياره؛ لأن تعذيب الله عزَّ وجلَّ له تصرف في ملكه، والله عزَّ وجلَّ يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه!وهؤلاء هم الجبرية؛ لأنهم يرون أن العبد مجبر على عمله.
وأما أهل السنة والجماعة فإنهم توسطوا في ذلك فقالوا:
نحن نثبت أن الأدلة الدالة على أن كل شيء واقع بمشيئة الله تعالى، ونثبت الأدلة الدالة على أن للإنسان اختياراً، وإرادة، وبذلك جمعوا بين الأدلة: ففعل العبد واقع بمشيئته، لكن مشيئته واقعة تحت مشيئة الله تعالى، فإذا شئتُ أنا شيئاً فإنني أعلم أن الله شاءه، ولا أعلم أن الله شاءه إلا بعد أن يقع؛ إذ أنَّ قضاء الله مكتوم، وأنا في نفس الوقت لي حرية أن أشاء ما شئت، ومشيئتي هذه كانت بمشيئة الله عزَّ وجلَّ ، ويدل لهذا أن الإنسان أحياناً يعزم على فعل شيء وبينما هو متجه له إذ انتقضت عزيمته، وهذا مُدرك واقع. وقد قيل لأعرابي: بما عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم، وصرف الهمم. ولهذا لمَّا قال تعالى حكاية عن المشركين: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}، أبطل الله سبحانه قولهم، فقال: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}(النحل: 35) ، وقال في آية أخرى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}(الأنعام: 148). وهي كما أنها باطلة شرعاً فهي أيضاً باطلة عقلاً؛ لأن هؤلاء لم يكونوا يعلموا أنّ الله قضى عليهم بعبادة الأصنام إلا بعد عبادتها، فلماذا لم يعدلوا عن عبادة الأصنام ويقدّروا أنّ الله قضى عليهم بترك عبادتها؟!
* إثبات العِلل والحِكم في أفعال الله تعالى وشرعه، وفي ذلك ردّ على الجهمية وأشباههم ممن أنكروا حكمة الله؛ لقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}. وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
فائدة مسلكية مستنبطة من الآيات الكريمات:
*ينبغي للإنسان أن يطلب الهداية من الله وحده؛ لقوله تعالى:{يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ}، وأنه لا ينبغي له أن يعتمد على نفسه فيهلِك، بل يتجه إلى ربه ويعتمد عليه في طلب الهداية منه سبحانه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو الهادي المهدي يستفتح فيقول: "اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اخْتُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بنا نحن؟!
*ينبغي للمعلِّم غيره أن يُكثر له من ضرب الأمثال التي تعينه على فهم المعنى؛ لأن هذا هو أسلوب القرآن. وهذا كقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.

وهكذا ينتهي الجزء الثالث والعشرون، ليبدأ الجزء الرابع والعشرون في حزبه الأول لسورة الزمر.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
 
شكر الله للأخت الفاضلة ميادة الماضي , هذا الجهد المتميز , ونأمل منها المواصلة .
 
د . أحمد حفظك الله وشكر لك .. ما كان من فضل فهو من الله وحده إليه أرفع حمدي وشكري .

وسأواصل تلبية لرغبتك، بوركت وبورك فيك.
 
عودة
أعلى