ميادة بنت كامل الماضي
New member
- إنضم
- 28/05/2006
- المشاركات
- 34
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
الأخوة والأخوات الكرام سبق أن بينت طريقتي في تقسيم سورة الزمر حسب موضوعات كل ثمن من الأثمان التي تستغرقها السورة. وقد أرفقت تخطيط هيكلي لموضوعات السورة. وفيما يلي متابعة لتفسير سورة الزمر.
[align=center]الجزء(23)- الحزب (2)- تتمة الربع الثالث
الموضوعات الرئيسة:[/align]
[align=center]أولاً: الآيات: 1- 3
مصدر القرآن الكريم، والأمر بالعبادة الخالصة لله تعالى، ونفي ادّعاءات المشركين وتهديدهم[/align]
من قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) }.
المفردات اللغوية:
تنزيل الكتاب: أي هذا القرآن تنزيل من الله لا من غيره. العزيز: أي في مُلكه وسلطانه. الحكيم: إمَّا بمعنى: الحاكم؛ فالقرآن حاكم على معارضيه بالحُجَّة، وحاكم على غيره من الكتب السماوية بما فيه من التفصيل والبيان، وإمَّا بمعنى: المُحكِم المتقِن في صنعه وتدبير خلقه؛ فالقرآن مشتمل على البيان الذي لا يحتمل الخطأ، وإمَّا بمعنى الموصوف بالحكمة؛ فالقرآن مشتمل على الحكمة كاتِّصاف منزِّله بها جل جلاله. بالحق: الباء للملابسة؛ أي مُتَلَبِّساً بالحق: وهو مطابقة الواقع لجميع أخباره، فالواقع تابع لأخباره. مخلصاً له الدين: أي مفرداً إيّاه بالعبادة، خالياً من الشرك والرياء. ألا لله الدين الخالص: ألا: أداة استفتاح تفيد التنبيه، أي لله وحده خالص العبادة لا يُشاركه في ذلك أحد سواه. أولياء: أي شركاء وهي الأصنام. ليقربونا إلى الله زلفى: أي قربى بمعنى: تقريباً لنا عند الله. لا يهدي: لا يوفِّق للاهتداء إلى الحقّ. كاذب: أي في زعمه أنَّ الآلهة تقرِّبه إلى الله كفّار: أي شديد الكفر بعبادته غير الله.
المعنى الإجمالي:
يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن وجلالة من تكلّم به ونزل منه، وأنّه نزل من الله الذي وصْفه الألوهية للخلق، المتَّصِف بجميع صفات العَظَمَة والكمال، فهو العزيز الغالب لكلِّ شيء، الذي ذلَّ له كل شيء، وقهر بعزَّته كل مخلوق، الحكيم في خلقه وأمره وتدبيره، الذي يضع الأشياء في مواضعها المناسبة، فما أنزله إلا بمحض مشيئته ومقتضى حكمته؛ فقال تبارك وتعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
ثمَّ بيَّن الله تعالى أنَّه نزَّل هذا الكتاب الكريم على أشرف الخلْق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنَّه أنزله مُتلبِّساً بالحق مشتملاً عليه لهداية الخلق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فهو الحق في أخباره الصادقة، وأحكامه العادلة، فكل ما دلَّ عليه فهو أعظم أنواع الحق؛ فقال تبارك وتعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}.
ولمّا كان هذا الكتاب الكريم نازلاً من الحقّ، مشتملاً على الحق، عظُمت فيه النعمة وجلَّت، ووجب القيام بشكرها، وذلك بإخلاص الدين لله، لهذا جاء الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن أخلص لله جميع دينك، وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم بوجوب إخلاص الدين لله بشرائعه الظاهرة والباطنة؛ الإسلام والإيمان والإحسان، وذلك بأن يُفرد الله وحده بها، ويُقصد بها وجهه تعالى؛ فقال تعالى:{ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}.
وتوحيد الله وإخلاص الدِّين له ليس كلمةٌ تُقال باللسان _ كما هي حال كثير من الخلق إلا من رحم الله _ إنما هو منهاج حياة كامل؛ فالقلب يعتقد ويوحِّد الله ويدين له وحده بالعبادة والمحبَّة والانقياد, فالله وحده هو القويّ القاهر فوق عباده، والعباد ضِعافٌ مهازيل لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً، والله وحده هو المانح المانع؛ لأنّه الغنيّ وهم الفقراء.
فإذا ما وحَّد القلب الله حقَّ التوحيد بثَّه إلى الجوارح فنطقت كلّها بتوحيد الله؛ فاللسان يوحّد أن لا إله إلا الله، وكذلك اليد والسمع والبصر وجميع الجوارح، فتبدو آثار هذا التوحيد في التصورات والمشاعر، كما تبدو في السلوك والتصرّفات، ولهذا يأتي مباشرة قوله تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} كلمات مدويَّة عالية في تعبير مجلجل بأداة الاستفتاح (ألا)، وفي أسلوب القصر: (لله الدين الخالص)، لتقرِّر الآيات الكريمات ما سبق وأكَّدته من وجوب الإخلاص لله وحده بالعبادة والطاعة.
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك وذمٌّ لمن أشرك، فهو تعالى وحده الذي يجب اختصاصه بالدِّين، والعبادة والطَّاعة يجب أن تكون له، فهو سبحانه لا يقبل من العمل إلاّ ما أخلص فيه العامل له وحده لا شريك له؛ لأنه أغنى الشركاء عن الشرك المُفسد للقلوب والأرواح، والدنيا والآخرة.
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ذلك الذي يُصلح القلوب ويزكِّيها ويُطهِّرها، لا رياء ولا محبَّة ولا طاعة لمخلوق إلا فيما يُرضي الخالق، فكما أنّ لله تعالى الكمال كلّه، وله التّفضُّل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدِّين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدِّين الذي ارتضاه سبحانه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه، وأمرهم به؛ لأنه متضمِّن للتألُّه له في حبِّه، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، في تحصيل مطالب عباده.
وإذا كان رأس العبادة الإخلاص لله، نهى عن الشرك وأخبر بذمّ من أشركوا به ونفى حجّتهم؛ فقال تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فقد احتجّوا بأنهم يتولّون الأصنام بعبادتهم ودعائهم معتذرين عن أنفسهم قائلين: ما نعبدهم إلا ليُقرِّبونا إلى الله تقريباً، ولترفع حوائجنا له وتشفع لنا عنده وإلا فنحن نعلم أنّها لا تخلق ولا ترزق ولا تملك من الأمر شيئاً، فأخبر تعالى أنَّ عبادتهم مردودة عليهم، وهدّدهم بأنّه سيحكم بين الخلائق يوم القيامة ويفصل في خلافاتهم، وسيجزي بعدله كلاً بما يستحقّه من إنعام وتكريم أو شقاء وتعذيب؛ فقال تبارك وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
ثمّ استأنف الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} لِيُثير في نفوس السامعين سؤالاً عن مصير حالهم في الدنيا من جرّاء اتخاذهم أولياء من دونه، وليعمّ الكلام كلّ كافر كذّاب، فيكون الجواب بأنّ الله لا يهدي من هو كاذب كفّار؛ أي: يذرهم في ضلالهم ويمهلهم إلى يوم الجزاء بعد أن بيّن لهم الدين فخالفوه، وأتتهم الآيات فجحدوها وكفروا بها، فأنَّى لهم الهدى وقد سدُّوا على أنفسهم الباب، وعوقبوا بأن طبع على قلوبهم، فهم لا يُؤمنون.[/size]
هداية الآيات:
1ً. بيان علو مرتبة القرآن وجلالة شأنه وأهمية نزوله؛ حيث ذكر تعالى تنزيل الكتاب، وأتبع ذلك بعض أسمائه الحسنى المتضمِّنة لصفاته العليا فقال: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. قال ابن سعدي رحمه الله: الكلام وصف المتكلم، والوصف يتبع الموصوف، فكما أن الله تعالى الكامل من كل وجه الذي لا مثيل له، فكذلك كلامه كامل من كل وجه لا مثيل له، فهذا وحده كافٍ في وصف القرآن، دالٍّ على مرتبته.
2ً. تقرير النبوة المحمديّة؛ لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ}.
3ً. تقرير التوحيد، والأمر بإخلاص العبادة لله من جميع أنواع الشرك كبيرها وصغيرها؛ لقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}. وقوله تبارك وتعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
4ً. بيان أنَّ الدين الخالص من شوائب الشرك وغيره هو لله تعالى، وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص الذي أمر به؛ لقوله تبارك وتعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
5ً. أنَّ دعاء الشفعاء، واتِّخاذ المعبودات من دون الله وسائط من أصول كفر الكفَّار؛ لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.
6ً. كل عبادة لا تكون لله وحده فهي مردودة على أصحابها غير مقبولة ولو قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى.
7ً. بيان فساد قياس المشركين الذين اتخذوا الأصنام شفعاء لترفع حوائجهم لله وتشفع لهم عنده، كما أنّ الملوك لا يوصل إليهم إلا بوجهاء وشفعاء ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم، ويتعطَّفونهم ويمهدون لهم الأمر؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. قال ابن سعدي رحمه الله تعالى: " هذا القياس من أفسد الأقيسة؛ لأنه يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق، مع ثبوت الفرق العظيم عقلاً، ونقلاً، وفطرة؛ فإن الملوك إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم؛ لأنهم لا يعلمون أحوالهم فيحتاجون إلى مَن يعلِّمهم بأحوالهم، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة فيحتاج من يعطفهم عليه ويسترحمه لهم، ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء ويخافون منهم فيقضون حوائج من توسطوا لهم مراعاة لهم ومداراة لخواطرهم.
وهم أبضاً فقراء قد يمنعون لما يخشون من الفقر. وأمَّا الرَّبُّ تعالى فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها ولا يحتاج إلى مَن يخبره بأحوال رعيته وعباده، وهو سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، لا يحتاج إلى أحد من خله يجعله راحماً لعباده، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم، وهو الذي يحثُّهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته، وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدون لأنفسهم.
وهو الغنيُّ الذي له الغنى التَّام المطلق الذي لو اجتمع الخلق من أوَّلهم لآخرهم في صعيد واحد فسألوه فأعطى كلاً منهم ما سأل وتمنَّى لم ينقصوا من غناه شيئاً. وجميع الشفعاء يخافونه فلا يشفع أحد إلا بإذنه، وله الشفاعة كلها. فبهذه الفروق يُعلم جهل المشركين به، وسفههم العظيم، وشدَّة جراءتهم عليه. ويُعلم أيضاً الحكمة في كون الشرك لا يغفره الله تعالى؛ لأنه يتضمَّن القدح في الله سبحانه وتعالى" . ا.هـ
فوائد في العقدية مستنبطة من الآيات الكريمات:
- بيان علو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}، والنزول معلوم أنه لا يكون إلا من أعلى؛ وفي ذلك ردّ على من يقول أن الله تعالى في كل مكان.
- قوله تعالى {مِنَ اللَّهِ} فيه دلالة على أن القرآن الكريم كلام الله، والإنزال من الله على قسمين:
أ) أعياناً قائمة بنفسها، فهذه مخلوقة؛ كقوله تعالى:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}، وقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، وقوله تعالى: { يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا}.
ب) أوصاف لا تقوم إلا بغيرها، وهذه غير مخلوقة؛ كالقرآن الكريم، فهو كلام لا يقوم إلا بالغير.
- أن الشرك نوعان: شرك أكبر؛ كهذا الذي في الآية الكريمة، وشرك أصغر لا يخرج من الملّة؛ كالرياء. وقد فصَّل أبو البقاء الشرك على النحو التالي:
1- شرك الاستقلال: أي إثبات إلهين مستقلين، كإله الخير وإله الشرّ عند المجوس.
2- شرك التبعيض: وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى.
3- شرك التقريب، وهو عبادة غير الله ليقرِّب إلى الله زلفى، كشرك متقدِّمي الجاهليَّة.
4- شرك التقليد، وهو عبادة غير الله تبعاً للغير، كشرك متأخريّ الجاهليَّة.
5- شرك الأسباب، وهو إسناد التأثير للأسباب، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم في ذلك.
6- شرك الأغراض، وهو العمل لغير الله.
- إثبات الأسماء التالية لله تعالى: {الْعَزِيزِ - الْحَكِيمِ}، وما تضمَّنته من صفات وأثر: فالعزيز: ذو العزة، والعزة لله تعالى أنواع: عزة قدر، وعزة قهر، وعزة امتناع. والحكيم: ذو الحكم، والحكمة، والإحكام.
- الهداية المنفية في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} هي هداية التوفيق، لا هداية الإرشاد؛ فالمراد نفي عناية الله بهم؛ أي العناية التي بها تيسير الهداية عليهم حتى يهتدوا.
فوائد أصولية مستنبطة من الآيات الكريمات:
*يؤخذ من مفهوم قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وجوب الإخلاص لله تعالى في العبادة، ووجوب النية فيها، ولا عبادة بدون نية صحيحة.
*يؤخذ من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أن الحكم إذا عُلِّق بوصف زاد بازدياده ونقص بنقصانه؛ فكلما توغَّل العبد في الكذب على الله جل جلاله، وفي الكفر به ازداد غضب الله تعالى عليه، وازداد بُعْد الهداية الإلهية عنه.
*ويؤخذ منها: أن الإخلاص في العبادة والطاعة يؤدي إلى الثبات على طريق الهدى.
[align=center]ثانياً: الآيات 4 – 7[/align]
[align=center]تنزيه الله تعالى عن الولد والشريك، وإقامة البراهين الدّالّة على وحدانيته،
وكمال غناه، وقدرته، وعلمه، وإحاطته[/align]
من قوله تعالى: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (1) }.
إلى قوله تعالى: { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ.......(7) }.
المفردات اللغوية:
لو أراد الله أن يتَّخذ ولداً: أي كما زعم ذلك مَن زعمه مِن سفهاء الخلق. لاصطفى: لاختار. سبحانه: أي تنزَّه عمَّا ظنُّ به الكافرون، أو نسبه إليه الملحدون. القهار: أي الشديد الغلَبَة لكلّ شيء لا يغلبه شيء، ولا يصرفه عن إرادته. خلق السموات والأرض بالحق: أي خلقهما وما فيهما من المكونات ملتبسة بالحق والصواب، مشتملة على الحكم والمصالح فما خلقهما عبثاً ولا باطلا. يكور الليل على النهار: أي: يدخل كلاً منهما على الآخر، والتكوير: اللف على الجسم المستدير، ومنه كوَّر العمامة والمَتاع: أي ألقى بعضه على بعض. وسخَّر الشمس والقمر: أي ذلَّلهما وجعلهما منقادين للعمل على ما جعل لهما من نظام السير. الغفَّار: الساتر لذنوب عباده برحمته. خلقكم من نفس واحدة: أي: آدم عليه السلام . ثم جعل منها زوجها: هي حواء التي خلقت من ضلع آدم عليه السلام. وأنزل لكم من الأنعام: أي خلقها لكم بقدر نازل منه, والأنعام: الإبل والبقر والغنم _ الضأن والمعز. ثمانية أزواج: ثمانية أصناف؛ أي جعل من كل صنف من الإبل والبقر والضأن والمعز ذكراً وأنثى. خلقاً من بعد خلق: أي طوراً بعد طور، بالتدريج من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام مكسوة لحماً. في ظلمات ثلاث: هي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. فأنّى تُصرفون: استفهام إنكاري للتعجب؛ أي تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره، أو تصرفون عن الحق بعد هذا البيان. غنيٌّ عنكم: أي غير مفتقر لكم، فلا يضره كفركم كما لا ينتفع بطاعتكم. ولا يرضى لعباده الكفر: لكمال إحسانه ورحمته بهم. وإن تشكروا يرضه لكم: أي إن توحِّدوا الله وتخلصوا له الدِّين يرضى لكم ذلك ويثيبكم عليه. ولا تزر وازرة وزر أخرى: أي لا تحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى. عليم بذات الصدور: أي بما تضمره القلوب وتستره.
وجه الربط:
لمَّا أخبر الله تبارك وتعالى بالحُكم بين أولئك الذين اتخذوا من دونه أولياء، وهدّدهم بعدم التوفيق والاهتداء بعد أن حجبوا أنفسهم عن أنوار الهداية، احتجَّ تعالى عليهم بأنهم كاذبون كفَّارون في زعمهم البنوّة له سبحانه وقصد إلى إبطال شركهم ببيان استحالة اتِّخاذ الشريك في حقِّه سبحانه، مع إقامة الأدلَّة الدَّالَّة على ذلك.
المعنى الإجمالي:
استأنف الحقّ جل جلاله كلامه بقوله: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} لتحقيق الحقّ، وإبطال القول بأنّ الملائكة بنات الله، أو كما قال النصارى أنّ (عيسى) ابن الله، وقال اليهود أنّ (عزير) ابن الله - تعالى الله عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً - ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقّه سبحانه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجاً أوليّاً.
ولو أراد الله أن يكون له ولد – كما زعم ذلك من زعمه من سفهاء الخلق – لاصطفى من مخلوقاته الذي يشاء اختياره، واختصّه لنفسه وجعله بمنزلة الولد، ولم يكن له حاجة إلى اتخاذ الصاحبة، ولكنّه سبحانه منزّه عمّا ظنّ به الكافرون أو نسبه إليه الملحدون، ولهذا نزَّه سبحانه نفسه عن ذلك بقوله: { سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} فهو تبارك وتعالى الواحد الأحد الفرد الصمد، القهّار لجميع العالم العلويّ والسفليّ، الذي قهر الأشياء فدانت له وذلّت وخضعت، ووحدته تعالى وقهره متلازمان، فالواحد لا يكون إلا قهاراً، والقهار لا يكون إلا واحداً، وذلك ينفي الشركة له من كل وجه.
ثمّ لمّا أبان الله سبحانه تعالى كونه منزّهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً قهّاراً أعقبه ببيان الأدلَّة الدَّالة على الوحدانية وكمال القدرة وكمال الاستغناء عن أحد من خلقه، فذكر بعض الآيات الكريمات في تقرير التوحيد بذكر الأدلّة والبراهين التي لا تدع للشكّ مجالاً في نفوس العقلاء، فذكر ثلاثة أدلّة: خلق السموات والأرض وما فيهما من العوالم، وتذليل الشمس والقمر لقدرته، وتسييرهما في نظام ومسار دقيقين، وخلق الإنسان الأول وتشعيب الخلق منه، وخلق ثمانية أزواج من أنواع الأنعام ذكراً وأنثى.
الدليل الأول وأقسامه من العالم العلوي: أ- قوله تعالى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} فيخبر سبحانه أنّه أبدع وأوجد العالَم العلويَّ من السموات والأرض إبداعاً قائماً على الحقِّ والصواب، لأغراض ضرورية وحِكم ومصالح، فلم يخلقهما باطلاً وعبثاً، وجعلهما في أبدع نظام. وهذا يدلُّ على وجود الإله القادر، وعلى استحالة أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد، فهو واحد، كامل القدرة، كامل الاستغناء عن غيره.
ب- قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي يُغشي كلاً منهما الآخر، حتى يُذهب ضوءه أو ظلمته، أو يجعلهما متعاقبين متتابعين، يطلب كل منهما الآخر طلباً حثيثا، كقوله تعالى: { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} (الأعراف:54) { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} (الحديد:6).
ج- ثمّ بيّن كيفية تصرفه في السموات والأرض، فقال تبارك وتعالى: { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} أي: سخّر الشمس والقمر تسخيراً منظماً وسيراً مقنناً إلى مدة معلومة ووقت معيَّن في علم الله تعالى، وهو انتهاء الدنيا وانقضاء هذه الدار وخرابها، فيُخرب الله آلاتها وشمسها وقمرها، ويُنشئ الخلق نشأة جديدة ليستقرّوا في دار القرار؛ الجنّة أو النّار.
وذيَّل تعالى الآية الكريمة بأداة التنبيه (ألا) للتنبيه على شرف ما دخلت عليه، والتنويه به، وللدَّلالة على المراد، وهو: إثبات كمال القدرة الإلهية مع الترغيب في طلب المغفرة، فقال: {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أي تنبَّهوا أنَّ مَن خلق هذا العالم بأجرامه العظيمة قادر على الانتقام ممن عاداه، فهو الذي لا يُغالب، القاهر لكل شيء، الذي لا يستعصي عليه شيء، ومع هذا فهو ساتر لذنوب عباده، غفّار لمن عصاه ثمّ تاب وأناب إليه.
ومن تلك اللَّفتة إلى آفاق الكون الكبير ينتقل الحقّ جلّ جلاله إلى لمسة في أنفس العباد؛ مشيراً إلى آية الحياة القريبة منهم في أنفسهم وفي الأنعام المسخّرة لهم، وهذا هو: الدليل الثاني وأقسامه من العالَم السفلي:
أ- قوله تعالى: { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي خلقكم أيّها النّاس على اختلاف أجناسكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة، هي آدم عليه السلام ، ثمّ جعل من جنسها زوجها، وهي حواء، ثمّ شعّب الخلق منهما، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء:1) وهذا الجزء من الدليل في عالَم الأرض مشتمل كما هو واضح على أدلَّة ثلاثة.
ب- قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}فقد استدلّ سبحانه بما خلقه من الأنعام بعد الاستدلال بخلق الإنسان؛ لأنّ المخاطبين بالقرآن يومئذٍ قوام حياتهم بالأنعام ولا تخلوا الأمم من الحاجة إلى الأنعام كل حين، والأنعام الثمانية هي المذكورة في سورة الأنعام: { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} (الأنعام:143) وقوله تعالى: {وَمِنَ الْإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} (الأنعام:144).
ج- قوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} أي يبتدئ خلقكم ويقدِّره في بطون أمهاتكم في مراحل متعاقبة متدرجة من نطفة إلى علقة إلى مضغة ثم يتكون العظام، ثم تكسى العظام باللحم والعروق والأعصاب، ثم تنفخ فيه الروح، فيصير إنساناً خلقاً آخر في أحسن تقويم. وتكون مراحل خلق الإنسان في ظلمات أغشية ثلاثة هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، ثم ظلمة المشيمة.
ثمَّ ذيَّل هذه الآية الكريمة كالآية السابقة بما تشير إلى الهدف وهو: الإيمان بالموجد الخالق المنشئ، فقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الإنسان هو الربُّ المربِّي لكم، الذي له الملك الحقيقي المطلق في الدنيا والآخرة، الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو، ولا يشاركه أحد فيه، فلا تنبغي العبادة إلا له، فكيف تعبدون معه غيره، مع ما يوجب استحقاقه لها، وكيف تعدلون عن الحق بعد هذا البيان.
وبعد أن بيَّن الحق جل جلاله بالأدلَّة القطعة وجوب الإيمان به ووجوب الإخلاص في عبادته، أعلم عباده أنَّ كفرهم به لا يضرُّه أبداً؛ لأنَّه هو الغنيُّ عمَّا سواه من المخلوقات، فقال تبارك وتعالى: { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} وهذا كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
ثمَّ ذكر تعالى أنه لكمال إحسانه بعباده لا يرضى لهم الكفر، لما يسببه لهم من شقاء وخسران، كما أنهم إن آمنوا وشكروا يرضى لهم ذلك، لرحمته بهم، فيثيبهم أحسن ثواب، ويجزيهم أحسن جزاء، قال تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}.
ثمَّ أعلن تعالى مبدأ المسؤولية الفردية في الدنيا والآخرة الذي هو من مفاخر الإسلام، فقال تبارك وتعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس عن نفس شيئاً من الآثام والذنوب، بل كل إنسان مطالب بأمر نفسه وعمله من خير أو شرّ، وهي كقوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر:38) ، وقوله تعالى: { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور:21). والجزاء على قدر العمل، فقال تعالى: { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي مآلكم ومصيركم إلى ربكم يوم القيامة، فيخبركم بأعمالكم من خير وشرّ، إنه خبير بما تضمره القلوب وتستره، فلا تخفى عليه خافية.
هداية الآيات:
1- بيان بطلان الشرك، والتنديد بالمشركين؛ لقوله عز وجل:{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}.
2- وجوب تنزيه الله تبارك وتعالى عن كل ما وصفه به الكافرون الجاحدون؛ لقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ}.
3- إثبات خلق السموات والأرض، وأنه سبحانه خلقهما بالحق، ولم يخلقهما باطلاً أو عبثا؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}. ويترتَّب على هذه الفائدة الردّ على الفلاسفة والطبائعيين الذين يقولون بقدم العالَم، وأنه أزلي، فقوله تعالى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي أوجدهما من العدم.
4- أن خلق السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر، وخلق الإنسان في أصله، وخلق ثمانية أزواج من الأنعام، دليل على وجود الله وكمال قدرته واستغنائه عن الصاحبة والولد.
5- دلَّ تكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل على كروية الأرض ودورانها حول نفسها.
6- دلّ تسخير الشمس والقمر بالطلوع والغروب لمنافع العباد، وجريانهما في فلكهما إلى يوم القيامة، على كمال قدرة الله ودِقَّة نظامه ومراعاته مصالح العباد؛ {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً}.
7- بيان أهمية معرفة أسماء الله تعالى وصفاته؛ لقوله: { أَلَا} وهي أداة للتنبيه على شرف ما دخلت عليه، والتنويه به؛ {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
8- التنبيه على أنَّ الله تعالى عزيز غالب، غفَّار ستير لذنوب خلقه برحمته، وفي هذا جمع بين الرهبة والرغبة؛ لقوله تعالى: {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}، فالرهبة من الله العزيز الغالب، والرغبة في إخلاص العبادة والطاعة لله.
9- دلَّ قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} على الأصل الإنساني الواحد؛ أي خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألوانكم وألسنتكم من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام ، ثم جعل منها زوجها، وهي حواء، ثم شعَّب منهما الخلق.
10- بيان أنَّ الله الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم مربيكم، وهو المالك الواحد الأحد؛ لقوله تعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
11- النداء الصارخ في تسفيه الذين اتَّخذوا من دون الله أولياء؛ لقوله تعالى: { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
12- بيان غنى الله تعالى عن خلقه، وافتقار جميع الخلق إليه؛ لقوله تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ}.
13- الشكر في قوله تعالى: { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} بمعنى الإسلام؛ لأنها جاءت في مقابلة الكفر؛ في قوله تعالى: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}.
14- من مفاخر الإسلام ومبادئه الكبرى تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية؛ لقوله تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وذلك يدفع إلى العمل، ويمنع الخمول والكسل، ويخلِّص الناس من فكرة النصارى بإرث الخطيئة، ويفتح باب الأمل لبناء الإنسان نفسه ومجده والاعتماد على نفسه دون تأثر بأفعال الآخرين، وذلك غاية التكريم الإلهي للإنسان.
15- بيان شمول علم الله جل جلاله وإحاطته بالكليَّات والجزئيّات، وبالكبائر والصغائر، وبالفعل الحاصل والقول المقول، وبما يسبقه من نيَّة وحديث نفس وعزمٍ وهمٍّ، وغير ذلك من مراحل تكوين الفعل والقول؛ لقوله تعالى: { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
16- الإشارة إلى أنّ القلب هو الذي عليه مدار الصلاح؛ لأن الحساب على ما في القلب؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
فوائد في العقيدة مستنبطة من الآيات الكريمات:
- إثبات صفة الإرادة لله جل جلاله؛ لقوله: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ}، وإرادة الله تعالى على قسمين:إرادة كونية، وإرادة شرعية، وهي التي ترادف المحبَّة، والفرق بينهما: أنَّ الإرادة الكونية يلزم وقوعها، وتتعلَّق فيما يحبَّه الله تعالى وفيما لا يحبُّه، أمَّا الإرادة الشرعيَّة فلا يلزم وقوعها، وهي متعلِّقة فيما يحبَّه الله.
- إثبات المشيئة لله؛ لقوله: { لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، والمشيئة قسم واحد، وهي ترادف الإرادة الكونية.
- إثبات الربوبية لله جل جلاله، وما يستلزمه من إثبات الألوهية؛ لقوله: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
- دلَّ قوله تعالى: { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} على إثبات البعث والقيامة، وبيان كمال عدالة الله تعالى.
- إثبات صفة الرضا لله تعالى؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، والرضا من صفات الله جل جلاله الفعلية التي يفعلها متى شاء، إذا شاء، كيف شاء. وكلُّ صفة متعلِّقة بمشيئة الله فهي صفة فعليَّة، وأفعاله الفعلية سبحانه مقرونة بالحكمة. وفي ذلك ردٌّ على أهل التعطيل الذين يحرفون هذه الصفة بإرادة الثواب، أو الثواب.
- أنه لا تلازم بين الإرادة والرضا، وجهه قوله تعالى: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}، مع أنه أخبر في آيات كثيرة أن الكفر واقع بإرادته، فقد يريد الله شيئاً، لكن لا يرضى به، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله خلق إبليس، وهو لا يرضاه، وقد يرضى ما لا يريده، فهو يريد من كلِّ أحدٍ الشكر له تعالى، ولكنه هل أراده؟ والجواب لا؛ لأنه لو أراده لوقع.
- إثبات الأسماء التالية لله جل جلاله وما تتضمّنه من صفات وحُكْم: {اللَّهُ}،{الْوَاحِدُ}،{الْقَهَّارُ}،{الْغَفَّارُ} {الْغَنِيّ}.
فوائد أصولية:
* الشرط في قوله تعالى: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} لا يلزم وقوعه ولا جوازه، بل هو محال، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادّعوه وزعموه، فهذا من باب الشرط، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لمقصد المتكلم.
* بيان تناسب خاتمة الآية بما يناسب سياقها في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} بعد قوله تعالى: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} عملاً بالقاعدة الأصولية المعروفة. فناسب ختم الآية باسم الله {الْوَاحِدُ}؛ "لأنه لو كان له ولد لاقتضى أن يكون شبيهاً له في وحدته؛ لأنه بعضه وجزء منه. وناسب ختم الآية باسم الله {الْقَهَّارُ}؛ لأنه لو كان له ولد لم يكن مقهوراً، ولكان له إدلال على أبيه، ومناسبة منه، فوحدته تعالى وقهره متلازمان، فالواحد لا يكون إلا قهاراً، والقهار لا يكون إلا واحداً، وذلك ينفي الشركة من كل وجه". ا.هـ (تفسير السعدي بتصرف)
[align=center]الجزء(23)- الحزب (2)- تتمة الربع الثالث
الموضوعات الرئيسة:[/align]
[align=center]أولاً: الآيات: 1- 3
مصدر القرآن الكريم، والأمر بالعبادة الخالصة لله تعالى، ونفي ادّعاءات المشركين وتهديدهم[/align]
من قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) }.
المفردات اللغوية:
تنزيل الكتاب: أي هذا القرآن تنزيل من الله لا من غيره. العزيز: أي في مُلكه وسلطانه. الحكيم: إمَّا بمعنى: الحاكم؛ فالقرآن حاكم على معارضيه بالحُجَّة، وحاكم على غيره من الكتب السماوية بما فيه من التفصيل والبيان، وإمَّا بمعنى: المُحكِم المتقِن في صنعه وتدبير خلقه؛ فالقرآن مشتمل على البيان الذي لا يحتمل الخطأ، وإمَّا بمعنى الموصوف بالحكمة؛ فالقرآن مشتمل على الحكمة كاتِّصاف منزِّله بها جل جلاله. بالحق: الباء للملابسة؛ أي مُتَلَبِّساً بالحق: وهو مطابقة الواقع لجميع أخباره، فالواقع تابع لأخباره. مخلصاً له الدين: أي مفرداً إيّاه بالعبادة، خالياً من الشرك والرياء. ألا لله الدين الخالص: ألا: أداة استفتاح تفيد التنبيه، أي لله وحده خالص العبادة لا يُشاركه في ذلك أحد سواه. أولياء: أي شركاء وهي الأصنام. ليقربونا إلى الله زلفى: أي قربى بمعنى: تقريباً لنا عند الله. لا يهدي: لا يوفِّق للاهتداء إلى الحقّ. كاذب: أي في زعمه أنَّ الآلهة تقرِّبه إلى الله كفّار: أي شديد الكفر بعبادته غير الله.
المعنى الإجمالي:
يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن وجلالة من تكلّم به ونزل منه، وأنّه نزل من الله الذي وصْفه الألوهية للخلق، المتَّصِف بجميع صفات العَظَمَة والكمال، فهو العزيز الغالب لكلِّ شيء، الذي ذلَّ له كل شيء، وقهر بعزَّته كل مخلوق، الحكيم في خلقه وأمره وتدبيره، الذي يضع الأشياء في مواضعها المناسبة، فما أنزله إلا بمحض مشيئته ومقتضى حكمته؛ فقال تبارك وتعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
ثمَّ بيَّن الله تعالى أنَّه نزَّل هذا الكتاب الكريم على أشرف الخلْق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنَّه أنزله مُتلبِّساً بالحق مشتملاً عليه لهداية الخلق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فهو الحق في أخباره الصادقة، وأحكامه العادلة، فكل ما دلَّ عليه فهو أعظم أنواع الحق؛ فقال تبارك وتعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}.
ولمّا كان هذا الكتاب الكريم نازلاً من الحقّ، مشتملاً على الحق، عظُمت فيه النعمة وجلَّت، ووجب القيام بشكرها، وذلك بإخلاص الدين لله، لهذا جاء الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن أخلص لله جميع دينك، وادع الخلق إلى ذلك، وأعلمهم بوجوب إخلاص الدين لله بشرائعه الظاهرة والباطنة؛ الإسلام والإيمان والإحسان، وذلك بأن يُفرد الله وحده بها، ويُقصد بها وجهه تعالى؛ فقال تعالى:{ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}.
وتوحيد الله وإخلاص الدِّين له ليس كلمةٌ تُقال باللسان _ كما هي حال كثير من الخلق إلا من رحم الله _ إنما هو منهاج حياة كامل؛ فالقلب يعتقد ويوحِّد الله ويدين له وحده بالعبادة والمحبَّة والانقياد, فالله وحده هو القويّ القاهر فوق عباده، والعباد ضِعافٌ مهازيل لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً، والله وحده هو المانح المانع؛ لأنّه الغنيّ وهم الفقراء.
فإذا ما وحَّد القلب الله حقَّ التوحيد بثَّه إلى الجوارح فنطقت كلّها بتوحيد الله؛ فاللسان يوحّد أن لا إله إلا الله، وكذلك اليد والسمع والبصر وجميع الجوارح، فتبدو آثار هذا التوحيد في التصورات والمشاعر، كما تبدو في السلوك والتصرّفات، ولهذا يأتي مباشرة قوله تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} كلمات مدويَّة عالية في تعبير مجلجل بأداة الاستفتاح (ألا)، وفي أسلوب القصر: (لله الدين الخالص)، لتقرِّر الآيات الكريمات ما سبق وأكَّدته من وجوب الإخلاص لله وحده بالعبادة والطاعة.
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك وذمٌّ لمن أشرك، فهو تعالى وحده الذي يجب اختصاصه بالدِّين، والعبادة والطَّاعة يجب أن تكون له، فهو سبحانه لا يقبل من العمل إلاّ ما أخلص فيه العامل له وحده لا شريك له؛ لأنه أغنى الشركاء عن الشرك المُفسد للقلوب والأرواح، والدنيا والآخرة.
{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ذلك الذي يُصلح القلوب ويزكِّيها ويُطهِّرها، لا رياء ولا محبَّة ولا طاعة لمخلوق إلا فيما يُرضي الخالق، فكما أنّ لله تعالى الكمال كلّه، وله التّفضُّل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدِّين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدِّين الذي ارتضاه سبحانه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه، وأمرهم به؛ لأنه متضمِّن للتألُّه له في حبِّه، وخوفه، ورجائه، والإنابة إليه، في تحصيل مطالب عباده.
وإذا كان رأس العبادة الإخلاص لله، نهى عن الشرك وأخبر بذمّ من أشركوا به ونفى حجّتهم؛ فقال تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فقد احتجّوا بأنهم يتولّون الأصنام بعبادتهم ودعائهم معتذرين عن أنفسهم قائلين: ما نعبدهم إلا ليُقرِّبونا إلى الله تقريباً، ولترفع حوائجنا له وتشفع لنا عنده وإلا فنحن نعلم أنّها لا تخلق ولا ترزق ولا تملك من الأمر شيئاً، فأخبر تعالى أنَّ عبادتهم مردودة عليهم، وهدّدهم بأنّه سيحكم بين الخلائق يوم القيامة ويفصل في خلافاتهم، وسيجزي بعدله كلاً بما يستحقّه من إنعام وتكريم أو شقاء وتعذيب؛ فقال تبارك وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
ثمّ استأنف الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} لِيُثير في نفوس السامعين سؤالاً عن مصير حالهم في الدنيا من جرّاء اتخاذهم أولياء من دونه، وليعمّ الكلام كلّ كافر كذّاب، فيكون الجواب بأنّ الله لا يهدي من هو كاذب كفّار؛ أي: يذرهم في ضلالهم ويمهلهم إلى يوم الجزاء بعد أن بيّن لهم الدين فخالفوه، وأتتهم الآيات فجحدوها وكفروا بها، فأنَّى لهم الهدى وقد سدُّوا على أنفسهم الباب، وعوقبوا بأن طبع على قلوبهم، فهم لا يُؤمنون.[/size]
هداية الآيات:
1ً. بيان علو مرتبة القرآن وجلالة شأنه وأهمية نزوله؛ حيث ذكر تعالى تنزيل الكتاب، وأتبع ذلك بعض أسمائه الحسنى المتضمِّنة لصفاته العليا فقال: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. قال ابن سعدي رحمه الله: الكلام وصف المتكلم، والوصف يتبع الموصوف، فكما أن الله تعالى الكامل من كل وجه الذي لا مثيل له، فكذلك كلامه كامل من كل وجه لا مثيل له، فهذا وحده كافٍ في وصف القرآن، دالٍّ على مرتبته.
2ً. تقرير النبوة المحمديّة؛ لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ}.
3ً. تقرير التوحيد، والأمر بإخلاص العبادة لله من جميع أنواع الشرك كبيرها وصغيرها؛ لقوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}. وقوله تبارك وتعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
4ً. بيان أنَّ الدين الخالص من شوائب الشرك وغيره هو لله تعالى، وما سواه من الأديان فليس بدين الله الخالص الذي أمر به؛ لقوله تبارك وتعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
5ً. أنَّ دعاء الشفعاء، واتِّخاذ المعبودات من دون الله وسائط من أصول كفر الكفَّار؛ لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.
6ً. كل عبادة لا تكون لله وحده فهي مردودة على أصحابها غير مقبولة ولو قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى.
7ً. بيان فساد قياس المشركين الذين اتخذوا الأصنام شفعاء لترفع حوائجهم لله وتشفع لهم عنده، كما أنّ الملوك لا يوصل إليهم إلا بوجهاء وشفعاء ووزراء يرفعون إليهم حوائج رعاياهم، ويتعطَّفونهم ويمهدون لهم الأمر؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. قال ابن سعدي رحمه الله تعالى: " هذا القياس من أفسد الأقيسة؛ لأنه يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق، مع ثبوت الفرق العظيم عقلاً، ونقلاً، وفطرة؛ فإن الملوك إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم؛ لأنهم لا يعلمون أحوالهم فيحتاجون إلى مَن يعلِّمهم بأحوالهم، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة فيحتاج من يعطفهم عليه ويسترحمه لهم، ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء ويخافون منهم فيقضون حوائج من توسطوا لهم مراعاة لهم ومداراة لخواطرهم.
وهم أبضاً فقراء قد يمنعون لما يخشون من الفقر. وأمَّا الرَّبُّ تعالى فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها ولا يحتاج إلى مَن يخبره بأحوال رعيته وعباده، وهو سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، لا يحتاج إلى أحد من خله يجعله راحماً لعباده، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ووالديهم، وهو الذي يحثُّهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته، وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدون لأنفسهم.
وهو الغنيُّ الذي له الغنى التَّام المطلق الذي لو اجتمع الخلق من أوَّلهم لآخرهم في صعيد واحد فسألوه فأعطى كلاً منهم ما سأل وتمنَّى لم ينقصوا من غناه شيئاً. وجميع الشفعاء يخافونه فلا يشفع أحد إلا بإذنه، وله الشفاعة كلها. فبهذه الفروق يُعلم جهل المشركين به، وسفههم العظيم، وشدَّة جراءتهم عليه. ويُعلم أيضاً الحكمة في كون الشرك لا يغفره الله تعالى؛ لأنه يتضمَّن القدح في الله سبحانه وتعالى" . ا.هـ
فوائد في العقدية مستنبطة من الآيات الكريمات:
- بيان علو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}، والنزول معلوم أنه لا يكون إلا من أعلى؛ وفي ذلك ردّ على من يقول أن الله تعالى في كل مكان.
- قوله تعالى {مِنَ اللَّهِ} فيه دلالة على أن القرآن الكريم كلام الله، والإنزال من الله على قسمين:
أ) أعياناً قائمة بنفسها، فهذه مخلوقة؛ كقوله تعالى:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}، وقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، وقوله تعالى: { يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا}.
ب) أوصاف لا تقوم إلا بغيرها، وهذه غير مخلوقة؛ كالقرآن الكريم، فهو كلام لا يقوم إلا بالغير.
- أن الشرك نوعان: شرك أكبر؛ كهذا الذي في الآية الكريمة، وشرك أصغر لا يخرج من الملّة؛ كالرياء. وقد فصَّل أبو البقاء الشرك على النحو التالي:
1- شرك الاستقلال: أي إثبات إلهين مستقلين، كإله الخير وإله الشرّ عند المجوس.
2- شرك التبعيض: وهو تركيب الإله من آلهة كشرك النصارى.
3- شرك التقريب، وهو عبادة غير الله ليقرِّب إلى الله زلفى، كشرك متقدِّمي الجاهليَّة.
4- شرك التقليد، وهو عبادة غير الله تبعاً للغير، كشرك متأخريّ الجاهليَّة.
5- شرك الأسباب، وهو إسناد التأثير للأسباب، كشرك الفلاسفة والطبائعيين ومن تبعهم في ذلك.
6- شرك الأغراض، وهو العمل لغير الله.
- إثبات الأسماء التالية لله تعالى: {الْعَزِيزِ - الْحَكِيمِ}، وما تضمَّنته من صفات وأثر: فالعزيز: ذو العزة، والعزة لله تعالى أنواع: عزة قدر، وعزة قهر، وعزة امتناع. والحكيم: ذو الحكم، والحكمة، والإحكام.
- الهداية المنفية في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} هي هداية التوفيق، لا هداية الإرشاد؛ فالمراد نفي عناية الله بهم؛ أي العناية التي بها تيسير الهداية عليهم حتى يهتدوا.
فوائد أصولية مستنبطة من الآيات الكريمات:
*يؤخذ من مفهوم قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وجوب الإخلاص لله تعالى في العبادة، ووجوب النية فيها، ولا عبادة بدون نية صحيحة.
*يؤخذ من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أن الحكم إذا عُلِّق بوصف زاد بازدياده ونقص بنقصانه؛ فكلما توغَّل العبد في الكذب على الله جل جلاله، وفي الكفر به ازداد غضب الله تعالى عليه، وازداد بُعْد الهداية الإلهية عنه.
*ويؤخذ منها: أن الإخلاص في العبادة والطاعة يؤدي إلى الثبات على طريق الهدى.
[align=center]ثانياً: الآيات 4 – 7[/align]
[align=center]تنزيه الله تعالى عن الولد والشريك، وإقامة البراهين الدّالّة على وحدانيته،
وكمال غناه، وقدرته، وعلمه، وإحاطته[/align]
من قوله تعالى: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (1) }.
إلى قوله تعالى: { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ.......(7) }.
المفردات اللغوية:
لو أراد الله أن يتَّخذ ولداً: أي كما زعم ذلك مَن زعمه مِن سفهاء الخلق. لاصطفى: لاختار. سبحانه: أي تنزَّه عمَّا ظنُّ به الكافرون، أو نسبه إليه الملحدون. القهار: أي الشديد الغلَبَة لكلّ شيء لا يغلبه شيء، ولا يصرفه عن إرادته. خلق السموات والأرض بالحق: أي خلقهما وما فيهما من المكونات ملتبسة بالحق والصواب، مشتملة على الحكم والمصالح فما خلقهما عبثاً ولا باطلا. يكور الليل على النهار: أي: يدخل كلاً منهما على الآخر، والتكوير: اللف على الجسم المستدير، ومنه كوَّر العمامة والمَتاع: أي ألقى بعضه على بعض. وسخَّر الشمس والقمر: أي ذلَّلهما وجعلهما منقادين للعمل على ما جعل لهما من نظام السير. الغفَّار: الساتر لذنوب عباده برحمته. خلقكم من نفس واحدة: أي: آدم عليه السلام . ثم جعل منها زوجها: هي حواء التي خلقت من ضلع آدم عليه السلام. وأنزل لكم من الأنعام: أي خلقها لكم بقدر نازل منه, والأنعام: الإبل والبقر والغنم _ الضأن والمعز. ثمانية أزواج: ثمانية أصناف؛ أي جعل من كل صنف من الإبل والبقر والضأن والمعز ذكراً وأنثى. خلقاً من بعد خلق: أي طوراً بعد طور، بالتدريج من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام مكسوة لحماً. في ظلمات ثلاث: هي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. فأنّى تُصرفون: استفهام إنكاري للتعجب؛ أي تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره، أو تصرفون عن الحق بعد هذا البيان. غنيٌّ عنكم: أي غير مفتقر لكم، فلا يضره كفركم كما لا ينتفع بطاعتكم. ولا يرضى لعباده الكفر: لكمال إحسانه ورحمته بهم. وإن تشكروا يرضه لكم: أي إن توحِّدوا الله وتخلصوا له الدِّين يرضى لكم ذلك ويثيبكم عليه. ولا تزر وازرة وزر أخرى: أي لا تحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى. عليم بذات الصدور: أي بما تضمره القلوب وتستره.
وجه الربط:
لمَّا أخبر الله تبارك وتعالى بالحُكم بين أولئك الذين اتخذوا من دونه أولياء، وهدّدهم بعدم التوفيق والاهتداء بعد أن حجبوا أنفسهم عن أنوار الهداية، احتجَّ تعالى عليهم بأنهم كاذبون كفَّارون في زعمهم البنوّة له سبحانه وقصد إلى إبطال شركهم ببيان استحالة اتِّخاذ الشريك في حقِّه سبحانه، مع إقامة الأدلَّة الدَّالَّة على ذلك.
المعنى الإجمالي:
استأنف الحقّ جل جلاله كلامه بقوله: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} لتحقيق الحقّ، وإبطال القول بأنّ الملائكة بنات الله، أو كما قال النصارى أنّ (عيسى) ابن الله، وقال اليهود أنّ (عزير) ابن الله - تعالى الله عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً - ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقّه سبحانه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجاً أوليّاً.
ولو أراد الله أن يكون له ولد – كما زعم ذلك من زعمه من سفهاء الخلق – لاصطفى من مخلوقاته الذي يشاء اختياره، واختصّه لنفسه وجعله بمنزلة الولد، ولم يكن له حاجة إلى اتخاذ الصاحبة، ولكنّه سبحانه منزّه عمّا ظنّ به الكافرون أو نسبه إليه الملحدون، ولهذا نزَّه سبحانه نفسه عن ذلك بقوله: { سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} فهو تبارك وتعالى الواحد الأحد الفرد الصمد، القهّار لجميع العالم العلويّ والسفليّ، الذي قهر الأشياء فدانت له وذلّت وخضعت، ووحدته تعالى وقهره متلازمان، فالواحد لا يكون إلا قهاراً، والقهار لا يكون إلا واحداً، وذلك ينفي الشركة له من كل وجه.
ثمّ لمّا أبان الله سبحانه تعالى كونه منزّهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً قهّاراً أعقبه ببيان الأدلَّة الدَّالة على الوحدانية وكمال القدرة وكمال الاستغناء عن أحد من خلقه، فذكر بعض الآيات الكريمات في تقرير التوحيد بذكر الأدلّة والبراهين التي لا تدع للشكّ مجالاً في نفوس العقلاء، فذكر ثلاثة أدلّة: خلق السموات والأرض وما فيهما من العوالم، وتذليل الشمس والقمر لقدرته، وتسييرهما في نظام ومسار دقيقين، وخلق الإنسان الأول وتشعيب الخلق منه، وخلق ثمانية أزواج من أنواع الأنعام ذكراً وأنثى.
الدليل الأول وأقسامه من العالم العلوي: أ- قوله تعالى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} فيخبر سبحانه أنّه أبدع وأوجد العالَم العلويَّ من السموات والأرض إبداعاً قائماً على الحقِّ والصواب، لأغراض ضرورية وحِكم ومصالح، فلم يخلقهما باطلاً وعبثاً، وجعلهما في أبدع نظام. وهذا يدلُّ على وجود الإله القادر، وعلى استحالة أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد، فهو واحد، كامل القدرة، كامل الاستغناء عن غيره.
ب- قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي يُغشي كلاً منهما الآخر، حتى يُذهب ضوءه أو ظلمته، أو يجعلهما متعاقبين متتابعين، يطلب كل منهما الآخر طلباً حثيثا، كقوله تعالى: { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} (الأعراف:54) { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} (الحديد:6).
ج- ثمّ بيّن كيفية تصرفه في السموات والأرض، فقال تبارك وتعالى: { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} أي: سخّر الشمس والقمر تسخيراً منظماً وسيراً مقنناً إلى مدة معلومة ووقت معيَّن في علم الله تعالى، وهو انتهاء الدنيا وانقضاء هذه الدار وخرابها، فيُخرب الله آلاتها وشمسها وقمرها، ويُنشئ الخلق نشأة جديدة ليستقرّوا في دار القرار؛ الجنّة أو النّار.
وذيَّل تعالى الآية الكريمة بأداة التنبيه (ألا) للتنبيه على شرف ما دخلت عليه، والتنويه به، وللدَّلالة على المراد، وهو: إثبات كمال القدرة الإلهية مع الترغيب في طلب المغفرة، فقال: {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أي تنبَّهوا أنَّ مَن خلق هذا العالم بأجرامه العظيمة قادر على الانتقام ممن عاداه، فهو الذي لا يُغالب، القاهر لكل شيء، الذي لا يستعصي عليه شيء، ومع هذا فهو ساتر لذنوب عباده، غفّار لمن عصاه ثمّ تاب وأناب إليه.
ومن تلك اللَّفتة إلى آفاق الكون الكبير ينتقل الحقّ جلّ جلاله إلى لمسة في أنفس العباد؛ مشيراً إلى آية الحياة القريبة منهم في أنفسهم وفي الأنعام المسخّرة لهم، وهذا هو: الدليل الثاني وأقسامه من العالَم السفلي:
أ- قوله تعالى: { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي خلقكم أيّها النّاس على اختلاف أجناسكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة، هي آدم عليه السلام ، ثمّ جعل من جنسها زوجها، وهي حواء، ثمّ شعّب الخلق منهما، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء:1) وهذا الجزء من الدليل في عالَم الأرض مشتمل كما هو واضح على أدلَّة ثلاثة.
ب- قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}فقد استدلّ سبحانه بما خلقه من الأنعام بعد الاستدلال بخلق الإنسان؛ لأنّ المخاطبين بالقرآن يومئذٍ قوام حياتهم بالأنعام ولا تخلوا الأمم من الحاجة إلى الأنعام كل حين، والأنعام الثمانية هي المذكورة في سورة الأنعام: { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} (الأنعام:143) وقوله تعالى: {وَمِنَ الْإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} (الأنعام:144).
ج- قوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} أي يبتدئ خلقكم ويقدِّره في بطون أمهاتكم في مراحل متعاقبة متدرجة من نطفة إلى علقة إلى مضغة ثم يتكون العظام، ثم تكسى العظام باللحم والعروق والأعصاب، ثم تنفخ فيه الروح، فيصير إنساناً خلقاً آخر في أحسن تقويم. وتكون مراحل خلق الإنسان في ظلمات أغشية ثلاثة هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، ثم ظلمة المشيمة.
ثمَّ ذيَّل هذه الآية الكريمة كالآية السابقة بما تشير إلى الهدف وهو: الإيمان بالموجد الخالق المنشئ، فقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الإنسان هو الربُّ المربِّي لكم، الذي له الملك الحقيقي المطلق في الدنيا والآخرة، الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو، ولا يشاركه أحد فيه، فلا تنبغي العبادة إلا له، فكيف تعبدون معه غيره، مع ما يوجب استحقاقه لها، وكيف تعدلون عن الحق بعد هذا البيان.
وبعد أن بيَّن الحق جل جلاله بالأدلَّة القطعة وجوب الإيمان به ووجوب الإخلاص في عبادته، أعلم عباده أنَّ كفرهم به لا يضرُّه أبداً؛ لأنَّه هو الغنيُّ عمَّا سواه من المخلوقات، فقال تبارك وتعالى: { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} وهذا كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجِنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
ثمَّ ذكر تعالى أنه لكمال إحسانه بعباده لا يرضى لهم الكفر، لما يسببه لهم من شقاء وخسران، كما أنهم إن آمنوا وشكروا يرضى لهم ذلك، لرحمته بهم، فيثيبهم أحسن ثواب، ويجزيهم أحسن جزاء، قال تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}.
ثمَّ أعلن تعالى مبدأ المسؤولية الفردية في الدنيا والآخرة الذي هو من مفاخر الإسلام، فقال تبارك وتعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفس عن نفس شيئاً من الآثام والذنوب، بل كل إنسان مطالب بأمر نفسه وعمله من خير أو شرّ، وهي كقوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر:38) ، وقوله تعالى: { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور:21). والجزاء على قدر العمل، فقال تعالى: { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي مآلكم ومصيركم إلى ربكم يوم القيامة، فيخبركم بأعمالكم من خير وشرّ، إنه خبير بما تضمره القلوب وتستره، فلا تخفى عليه خافية.
هداية الآيات:
1- بيان بطلان الشرك، والتنديد بالمشركين؛ لقوله عز وجل:{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}.
2- وجوب تنزيه الله تبارك وتعالى عن كل ما وصفه به الكافرون الجاحدون؛ لقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ}.
3- إثبات خلق السموات والأرض، وأنه سبحانه خلقهما بالحق، ولم يخلقهما باطلاً أو عبثا؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}. ويترتَّب على هذه الفائدة الردّ على الفلاسفة والطبائعيين الذين يقولون بقدم العالَم، وأنه أزلي، فقوله تعالى: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي أوجدهما من العدم.
4- أن خلق السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر، وخلق الإنسان في أصله، وخلق ثمانية أزواج من الأنعام، دليل على وجود الله وكمال قدرته واستغنائه عن الصاحبة والولد.
5- دلَّ تكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل على كروية الأرض ودورانها حول نفسها.
6- دلّ تسخير الشمس والقمر بالطلوع والغروب لمنافع العباد، وجريانهما في فلكهما إلى يوم القيامة، على كمال قدرة الله ودِقَّة نظامه ومراعاته مصالح العباد؛ {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً}.
7- بيان أهمية معرفة أسماء الله تعالى وصفاته؛ لقوله: { أَلَا} وهي أداة للتنبيه على شرف ما دخلت عليه، والتنويه به؛ {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
8- التنبيه على أنَّ الله تعالى عزيز غالب، غفَّار ستير لذنوب خلقه برحمته، وفي هذا جمع بين الرهبة والرغبة؛ لقوله تعالى: {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}، فالرهبة من الله العزيز الغالب، والرغبة في إخلاص العبادة والطاعة لله.
9- دلَّ قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} على الأصل الإنساني الواحد؛ أي خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألوانكم وألسنتكم من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام ، ثم جعل منها زوجها، وهي حواء، ثم شعَّب منهما الخلق.
10- بيان أنَّ الله الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم مربيكم، وهو المالك الواحد الأحد؛ لقوله تعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
11- النداء الصارخ في تسفيه الذين اتَّخذوا من دون الله أولياء؛ لقوله تعالى: { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
12- بيان غنى الله تعالى عن خلقه، وافتقار جميع الخلق إليه؛ لقوله تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ}.
13- الشكر في قوله تعالى: { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} بمعنى الإسلام؛ لأنها جاءت في مقابلة الكفر؛ في قوله تعالى: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}.
14- من مفاخر الإسلام ومبادئه الكبرى تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية؛ لقوله تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وذلك يدفع إلى العمل، ويمنع الخمول والكسل، ويخلِّص الناس من فكرة النصارى بإرث الخطيئة، ويفتح باب الأمل لبناء الإنسان نفسه ومجده والاعتماد على نفسه دون تأثر بأفعال الآخرين، وذلك غاية التكريم الإلهي للإنسان.
15- بيان شمول علم الله جل جلاله وإحاطته بالكليَّات والجزئيّات، وبالكبائر والصغائر، وبالفعل الحاصل والقول المقول، وبما يسبقه من نيَّة وحديث نفس وعزمٍ وهمٍّ، وغير ذلك من مراحل تكوين الفعل والقول؛ لقوله تعالى: { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
16- الإشارة إلى أنّ القلب هو الذي عليه مدار الصلاح؛ لأن الحساب على ما في القلب؛ لقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
فوائد في العقيدة مستنبطة من الآيات الكريمات:
- إثبات صفة الإرادة لله جل جلاله؛ لقوله: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ}، وإرادة الله تعالى على قسمين:إرادة كونية، وإرادة شرعية، وهي التي ترادف المحبَّة، والفرق بينهما: أنَّ الإرادة الكونية يلزم وقوعها، وتتعلَّق فيما يحبَّه الله تعالى وفيما لا يحبُّه، أمَّا الإرادة الشرعيَّة فلا يلزم وقوعها، وهي متعلِّقة فيما يحبَّه الله.
- إثبات المشيئة لله؛ لقوله: { لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، والمشيئة قسم واحد، وهي ترادف الإرادة الكونية.
- إثبات الربوبية لله جل جلاله، وما يستلزمه من إثبات الألوهية؛ لقوله: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
- دلَّ قوله تعالى: { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} على إثبات البعث والقيامة، وبيان كمال عدالة الله تعالى.
- إثبات صفة الرضا لله تعالى؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، والرضا من صفات الله جل جلاله الفعلية التي يفعلها متى شاء، إذا شاء، كيف شاء. وكلُّ صفة متعلِّقة بمشيئة الله فهي صفة فعليَّة، وأفعاله الفعلية سبحانه مقرونة بالحكمة. وفي ذلك ردٌّ على أهل التعطيل الذين يحرفون هذه الصفة بإرادة الثواب، أو الثواب.
- أنه لا تلازم بين الإرادة والرضا، وجهه قوله تعالى: { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}، مع أنه أخبر في آيات كثيرة أن الكفر واقع بإرادته، فقد يريد الله شيئاً، لكن لا يرضى به، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله خلق إبليس، وهو لا يرضاه، وقد يرضى ما لا يريده، فهو يريد من كلِّ أحدٍ الشكر له تعالى، ولكنه هل أراده؟ والجواب لا؛ لأنه لو أراده لوقع.
- إثبات الأسماء التالية لله جل جلاله وما تتضمّنه من صفات وحُكْم: {اللَّهُ}،{الْوَاحِدُ}،{الْقَهَّارُ}،{الْغَفَّارُ} {الْغَنِيّ}.
فوائد أصولية:
* الشرط في قوله تعالى: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} لا يلزم وقوعه ولا جوازه، بل هو محال، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادّعوه وزعموه، فهذا من باب الشرط، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لمقصد المتكلم.
* بيان تناسب خاتمة الآية بما يناسب سياقها في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} بعد قوله تعالى: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} عملاً بالقاعدة الأصولية المعروفة. فناسب ختم الآية باسم الله {الْوَاحِدُ}؛ "لأنه لو كان له ولد لاقتضى أن يكون شبيهاً له في وحدته؛ لأنه بعضه وجزء منه. وناسب ختم الآية باسم الله {الْقَهَّارُ}؛ لأنه لو كان له ولد لم يكن مقهوراً، ولكان له إدلال على أبيه، ومناسبة منه، فوحدته تعالى وقهره متلازمان، فالواحد لا يكون إلا قهاراً، والقهار لا يكون إلا واحداً، وذلك ينفي الشركة من كل وجه". ا.هـ (تفسير السعدي بتصرف)