بسم الله الرحمن الرحيم فهذه تأملات في (سورة الإنسان) طلب مني أخي المفسر الأديب الأريب د.عبدالرحمن الشهري أن أضعها بين أيديكم ، فما لمثلي مع مثله إلا الإجابة : قال الإمام البخاري في صحيحه : باب تفسير سورة (الإنسان الدهر) وهي مشهورة بهذين الاسمين في كثير من كتب الحديث والتفسير فهي ـ والله أعلم ـ سورة الإنسان والزمن (الدهر) ،
[mark=#33FF00]هي ترسم لنا منهجاً منظِماً لحياتنا وتذكرنا به (صبيحة كل جمعة)[/mark]
فإذا أردت أن تخطط لحياتك لتحقق أعلى المكتسبات في أقل الأزمنة ، فاعرف عن نفسك أربعة : 1- امكاناتها ، قدراتها ، نقاط القوة والضعف فيها . 2- ثم حدد نقطة النهاية (الغاية) قبل تحديد البداية . 3- وسائلك الواجبة والمكملة ، وضرورة تنوعها . 4- التحديات والعوائق ، وكيف تتغلب عليها ؟ على هذه الركائز الأربع فيما يظهر لي تلتف آيات هذه السورة العظيمة
[mark=#66FF00]أما أولها[/mark]: فقد بدأت به "الدهر" وخَتمت ، فهي حين استهلت تبين للإنسان كيف يختط "السبيل" بدأت بتعداد جوانب "الضعف" و "القوة" لديه ، فقبل أن تخطو في حياتك لأي أمر ذي بال ، كان علمياً أو دعوياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً ، قبل أن تقول : "نعم" أو "لا" ؛ أجب على هذا السؤال : من أنت ؟ ما قُدراتك ؟ أين تكمن "قوتك" وأين يختبئ "ضعفك" ؟ لابد لك من معرفة تامة بنفسك ، تأمل الضعف في : 1- (لم يكن شيئاً) هو عدمٌ أوجدته (نا) العظمة في (إنا خلقنا) . 2- (من نطفة) (أمشاج) خليط من ماء الزوجين مع الدم . 3- (نبتليه) هناك ابتلاء وبلوى تنتظره لم يُخير في وقوعها ولا في زمانها ومكانها وحالها . أما القوة ففي : (سميعاً بصيرا) ، (هديناه السبيل) وضحنا له الطريق ورزقناه ما يستعين به على سلوكه . بقي هل يستثمر جوانب قوته وينكسر لخالقه اعترافاً بضعفه ، أم يعمى فيتكبر ؟ (إما شاكرا وإما كفورا) وخُتمت السورة بنفس المعنى ، تأكيد اجتماع الضعف والقوة في الإنسان ، لكنّ قوته طارئةٌ موهوبةٌ ، للعبد مشيئة (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) لكنها تابعة لا مستقلة (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)
جزاك الله خيراً يادكتور عصام على هذه الوقفات الإيمانية الرائعة ، أسأل الله الفتاح أن يفتح عليك بالمزيد من التدبر والفهم للقرآن العظيم ، وآمل أن تواصل عرض هذه الركائز القرآنية فنحن بإنتظارها لنتفيأ ظلالها قبل حلول شهر رمضان المبارك ..
بعض الإخوة حين يقرأ هذه التأملات يظن أنها عفو الخاطر ، وبحكم معرفتي بالشيخ عصام فإنني أؤكد وبقوة على أن ما يطرحه ههنا إنما هو بعد تأملات دامت عدة سنوات ، بعضها قد يصل إلى عشر سنوات ، فلا تستغربوا هذا الإبداع ـ وشهادتي في شيخي مجروحة ـ لكنني أحببتُ تسطير هذه الشهادة لله ثم للإخوة ليفيدوا ويسددوا ، فهذا كتاب الله ، وهو بحر لا ساحل له، وإذا كان العلم ـ كما قال شيخنا العثيمين رحمه الله في أول منظومته في القواعد الفقهية ـ :
وبعدُ فالعلم بحور زاخرة == لن يبلغ الكادح فيه آخره
فكيف بكلام الرب جل وعلا!!
أسأل الله تعالى أن يفتح على أخي وشقيق روحي أبي عبدالرحمن ، وأن يبلغنا وإياه رمضان ، ومغفرة الرحمن ...
سر ، فنحن متابعون ومستفيدون .
الركيزة الثانية : حدد نقطة النهاية (الغاية) قبل تحديد البداية
تأمل كيف انتقلت السورة من بيان أدوات القدرة (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ) إلى الغاية التي سيبلغها : (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) واستمر هذا في السورة ، حتى استوفت هذه الركيزة أكثر من نصف آياتها (16) آية من بين (31) : (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا) [mark=#00FF00]لا بد من وضوح الغاية التي ترومها تماماً كالشمس كاشِحَة فكل ما قبلها يُبنى عليها[/mark] فمن أين تبدأ ؟ وأي الوسائل لك أنجع ؟ وما الأساليب التي بك أرفق ؟ وما مراحل "السبيل" ؟ وما هو لازم كل مرحلة ؟ وما العوائق المحتملة ؟ وغيرها كثير ،، كل ذلك لن تستطيع جوابه حتى تعقد العزائم على غاية تركض وتمشي وتزحف إليها ، وبين الناس من تفاوت الهمم في تحديد الغايات ما لا ينقضي العجب منه فنفوس سمت فتعلقت بالعرش وأخرى غُمست في أُتون الحُش فمن جعل غايته داراً كأسها (كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) فسيصل إليها بأسباب ووسائل ، ومن جعل مرامه (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) فهيهات لن يصل إليها بمجرد تلك الوسائل .
ولذا تبقى النهاية (الغاية) دوماً هي الأهم فالبداية هي في تحديد النهاية ، وبعد هذا تأتي تبعاً كل تفاصيل حياة "الإنسان"
،،،،،
فتح الله لك فتوح العارفين شينا الفاضل د. عصام وجزاك خيراً على هذه التأملات القرآنية البديعة.
وصدق أخي الدكتور عمر فيما قال فهذه التأملات لا تأتي عفو الخاطر فهذا القرآن لا يُخرِج كنوزه ولآلئه إلا غطّاس ماهر. جعلكم الله جميعاً من المتدبرين لكتاب الله تعالى والمستخرجين لهذه الكنوز التي تعصى على قارئ القرآن العادي.
تعديل يسير : "وبين الناس من تفاوت الهمم في الغايات مفاوزُ تبيد فيها الطيرُ الأوابد فَمِن همة سمت فتعلقت بالعرش ، لأخرى تتمرغ كلَّ يومٍ في اُتون الحُش ، فمَن جعل غايته (مزَاجُهَا كَافُورًا) فسيصل إليها بأسباب ووسائل ، ومن جعل مرامَه (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) فهيهات لن يصل إليها إلا بانقطاع الأنفاس واحتراق الأنامل"
هذا تعليق مليح من تعليقات شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ على هذه السورة ـ والذي لم ينشر من قبل ـ ، وهو تعليق في غير مظنته ، إذ هو جزء من تعليقه على صحيح مسلم (كتاب الجمعة) ، أهديه للشيخ عصام ، إذ يقول رفع الله درجته في المهديين:
"بسط في ذكر الثواب أهل الخير والبر، وأوجز في ذكر عقاب المجرمين لسببين: السبب الأول: أن الكافرين لم يذكر منهم إلا عملًا واحدًا: ﴿[FONT=QCF_P578]ﯳ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﯴ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﯵ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﯶ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﯷ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﯸ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﯹ[/FONT]﴾ [الإنسان:3]، ثم قال: ﴿[FONT=QCF_P578]ﯻ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﯼ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﯽ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﯾ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﯿ[/FONT][FONT=QCF_P578]ﰀ[/FONT]﴾ [الإنسان:4]، ولا بسط في عملهم، وأما أهل الشكر الأبرار فإن الله ذكر عنهم أعمالًا: ﴿[FONT=QCF_P579]ﭙ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭚ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭛ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭜ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭝ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭞ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭟ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭠ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭡ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭢ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭣ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭤ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭥ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭦ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭧ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭨ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭩ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭪ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭫ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭬ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭭ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭮ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭯ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭰ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭱ[/FONT][FONT=QCF_P579]ﭲ[/FONT]﴾ [الإنسان:7-9] إلى آخره، فذكر أعمالًا، فكان من المناسب أن يبسط في جزائهم. السبب الثاني: الترغيب ينبغي فيه البسط حتى يحث النفوس على فعل ما يكون سببًا موصلًا إلى هذا الثواب الجزيل، جعلنا الله وإياكم من الأبرار" انتهى.
[mark=#FFFF00]الركيزة الثالثة : وسائلك الواجبة والمكملة ، وضرورة تنوعها .[/mark]
لقد نوع الله سبحانه من الوسائل في "الإنسان" وهي إشارة جلية لضرورة تنوعها في حياتك لتحقيق ما تصبو إليه ، فمنها : 1) وسائل لأداء حقه سبحانه على هذا الإنسان . (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) (7) (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) (25) (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) (26) 2) ومنها حق للإنسان على الإنسان : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (8) ومن تأمل في هذه الوسائل ؛ وجد منها الواجب (يوفون بالنذر) ومنها المستحب (وسبحه ليلا طويلا) ، ومنها اللازم في كل وقت (ويخافون يوما) ومنها المؤقت بزمن (بكرة وأصيلا) ومنها ما هو خاص بالليل ومنها في النهار ، ومنها عبادة قلبية (يخافون) ومنها بدنية (فاسجد) ولسانية (فسبحه) ، ومنها ما أمر الله به ابتداء (واذكر) ومنها ما أوجبه العبد على نفسه (يوفون) . وأمعنْ حفظك الله النظر في الاقتصار على الإطعام في "الإنسان" حين ذُكر حق الإنسان على الإنسان ، واستحضر معها آية المدثر (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) وآية الحاقة (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) وآية الغاشية والفجر والماعون . إنها الإنسانية في الدين الخاتم في أرقى مشاعرها حين لا يكون للاختلاف في الدين والعقيدة فضلا عن اللون والعرق والجنسية أيُّ أثر على بذل ضروريات الحياة للإنسان من طعام وشراب وأمن ومأوى ، والطعام المقدم هنا ليس هو الفضلة ولا الفُتات ، بل هو طعام محبب تتطلع إليه نفوس (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) ، علماً بأن الأسير في زمنه صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا كافراً محارباً عدواً لله ورسوله ، فكيف بالسجين الكافر المسالم ؟ وكيف بالمسلم ؟؟ ثم كيف إذا كان سجنه إنما هو بتأويل محتمل أو ظلم بواح ؟؟! 3) وهناك وسائل مشتركة خصّ الله منها اثنتين فقط بالذكر في "الإنسان"وهما الصبر والقرآن : -(وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) (12) (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) (24) -(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) (23) وهذا الصبر أمره عجب فقد قدمه الله في (القرآن) على القرآن والصلاة والتقوى والتوكل والاستغفار والنصر والثبات في مواطن متعددة ، والصلاة في القرآن لا تكاد تُسبق فلما اقترنت بالصبر قُدم عليها في آيتين كلاهما في البقرة (استعينوا بالصبر والصلاة) ، وفي "الإنسان" كُرر الصبر مرتين بينما القرآن مرة واحدة ، لأن ما من فضيلة في دين أو دنيا إلا والصبر سُلمها ، ولا ضدها إلا وثوب الصدر قد تعارّ عنها . ولذا أُثر عن علي رضي الله عنه أنه قال :ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا قطع الرأس بار الجسم ، ألا لا إيمان لمن لا صبر له . فإن ركبت الصبر أيها "الإنسان" ، وكان دليلك القرآن ، فالموعد تحت قُبة عرش الرحمن .
وتأمل كيف تكرر التأكيد على حضور الغاية مع الوسيلة : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (9) (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) (10) [mark=#00FF00](الله) (القيامة) (الجنة) (النار) غايات لا يجوز أن تغيب عن قلب وعقل وسمع وبصر المربي والمتربي في كل مراحل الطريق ومهما اختلفت الوسائل . [/mark]
[mark=#FFFF00]الركيزة الرابعة : التحديات والعوائق ، وكيف يتغلب عليها ؟ [/mark] ذكرت "الإنسان" عائقين شاهقين كل واحد منهما يعوق دون الوصول للمأمول ، فأولها : عدوك الذي يحيط بك وهما نوعان : آمر بالإثم أو بالكفر (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) (24) ، والنص على (الإثم) فيه تنبيه إلى أسلوب قذرٍ قد يستخدمه أعداء الإيمان والنجاح ، فهم إذا رأوا "الإنسان" الجاد في حياته السائرَ لغايته وعجزوا عن حَرفه عن طريقه ؛ نثروا زخارف الإثم بين يديه وحفروا حبائل المال والنساء بين قدميه ، لعل أن أحدها يكرفسه ، فهم إن لم يحرفوا وجهه ؛ فلا أقل عندهم من تلطيخ ثيابه . و(مِن) في (مِنْهُمْ) للتبعيض ، لأن لكل واحد منهم من الحذق في جانب من جوانب الصد عن الغاية ما ليس للآخر ، فهذا (يهدد) وذاك (يُرغب) والثالث (يُداهن) والرابع (يشوه) والخامس (مُشفق) ... ، ستواجه ألوانا من المثبطين والمعوقين وبعضهم صادقُ النصحِ لكن أخطأ موضع القدم . فـالأمر الرباني لتجاوز هذه العقبة (لا تطع) ، كل هؤلاء مع اختلاف مقاصدهم ووسائلهم وأساليبهم ، الجواب لهم جميعاً : (لا) . وثانيهما : عدوك الذي بين جنبيك ، وهو نفسك إن تعلقت بالدنيا . وهذا العائق إن سمحت ببنائه في فؤادك فهيهات الوصول لغايتك ، فهو سد عالٍ مُصمَت لن تظهر عليه ولن تستطيع له نقبا ، وله شقان (يُحِبُّونَ) و (يَذَرُونَ) ولنتأمل هذه الآية العظيمة : (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) (27) (إن) مؤكِدة (هؤلاء) ولم يقل "هم" لما في الإشارة في مثل هذا السياق من معنى التسفيه ، (يحبون) فالمشكلة في أصلها قلبية "حب"وهي سبب انقطاعهم دون بلوغ آمالهم ، (العاجلة) اغتروا بالمكسب القريب الحقير فألهاهم عن مواصلة المسير ، (يذرون) ماضيها وَذَرَ وهو لا يطلق إلا فيما لا يعتد به ، قال الراغب : يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به ، وصيغة المضارع في (يذرون) تقتضي أنهم مستمرون على ذلك وأن ذلك متجدد فيهم ومتكرر ، (وراءهم) خلف ظهورهم لعدم المبالاة ، فهم يمشون وقد عكسوا الطريق فبدل أن تكون الغاية أمامهم يركضون لها ، جعلوها خلف ظهورهم وركضوا عنها ، فبالله متى يصل هؤلاء ؟
وعلاج هذا التيه لا يكون إلا هنا في "الإنسان" (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) ، فهذه هي حقيقة الإنسان ، وهذا مبدأ وختام حياته ، وهذه وسائله وعوائقه ، فلم يبق إلا (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) .
[mark=#00FF00] ياربنا اجعل "سورة الإنسان" حجة لنا لا علينا ،، [/mark]