سنوك فخرونية ) الهولندي- محمد رشيد رضا

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
شوال - 1329هـ
أكتوبر - 1911م

قال محمد رشيد رضا في مجلة المنار
:"عدو الإسلام الدكتور ( سنوك فخرونية ) الهولندي المنافق الذي ادعى
الإسلام ، وسمى نفسه عبد الغفار ، وأقام زمنًا في الأزهر ، وذهب إلى مكة فأقام
فيها يتجسس على المسلمين ، ثم أخرج منها بدلالة وكيل فرنسة السياسي في جدة ،
ثم جعلته هولنده مستشارها في معاملة المسلمين

-

الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
حالة المسلمين في جاوه والإصلاح

لا جرم أن من إخواننا الفضلاء قراء ( المنار ) من يحب أن يطلع على حالتنا
الحاضرة بجاوا ؛ لأن وشيجة الرحم الدينية بل والطينية لما تنفصل بعد بيننا وبينهم
طالما وددت أن أزيح الغشاء عن حالتنا الحاضرة ، حتى أصورها للقراء كما
هي ؛ لولا أن العي والحصر قد ختما على فمي ، وكدما رأس قلمي ، فلا أستطيع
أن أبدي من الأمر إلا قليلاً .
نعم .. وقد يعتورني بعض الخواطر فأقول : ما لي ولعصر يافوخي في تدوين
حالة تتعثر الأقلام خجلاً من تسطيرها ، ويتعلثم اللسان تنزهًا عن شرحها ، على أن
شأننا لا يخفى على من له أدنى اطلاع على شؤون الأمم ، وجمودنا العريق لا ينكره
من له أقل نظرة في سطح معترك الطوائف الحيوي .
ما كان في المخدع من أمرنا ... فإنه في المسجد الجامع
ومع هذا أجدني مرغمًا على القول بأن حالتنا سيئة ، وأراني مضطرًّا إلى
شرحها والشكوى منها ؛ بحكم العوامل التي تدفع المريض إلى الأنين والتأوه وشرح
مرضه إلى كل من يراه .
ولكن منا فئام هداهم الله يُحفظهم التنديد بحالتهم المحزنة ، ويغيظهم نصح
الناصحين ، وإصلاح المصلحين ، وعليه فقد أصبحنا جامدين مغرورين ( حشفًا
وسوء كيلة ) .
بماذا أبتدي وعلام أنتهي ؟ يقف بعض الجامدين هنا باهتًا مندهشًا أمام تلك
الكلمات ؛ التي ملستها أقلام الكتاب من كل أمة على صفحات الجرائد والمجلات ،
وصقلتها ألسن الخطباء على ذرى المنابر والمنصات ، حتى أصبحت والحمد لله
فيهم سلوة كل كئيب ، وعكازة كل خطيب .
هي تلك الكلمات التي يتبجح بها المتبجحون من الأمم الراقية بقولهم :
( عصر العلم ، عصر التقدم ) ... إلخ ، فترى الجامدين منا يحسبونها من قبيل
الأماني والأحلام ، حتى يدفعهم حسبانهم واندهاشهم الناشئين عن جمودهم وجهلهم
إلى تفنيد أولئك المتبجحين وتزييف أقوالهم ، ويا ليتهم قاسوا ما جهلوه وما استمحلته
عقولهم من وجود معان لتلك الألفاظ ، بما يشاهدونه ولا يشكون فيه مما اكتشفه العلم
الحديث من العجائب التي لم يحلموا بها ؛ لا هم ولا قومهم المحرومون من أسرار
الطبيعة والمنبوذون من علوم الكون :
إن تقدم رجال الغرب وعلومهم ومدنيتهم أعظم مما تتوهم ، وأضعاف ما قد
نعلم ، وإننا لم نر إلا النزر اليسير من بخار تلك المدنية العظيمة التي لا تحتمل
تصديق مثلها عقولنا الضعيفة ، ولو أنعم المنصف منا بصره وأعمل فكره في هذا
التقدم المادي والأدبي الذي أحرزته الأمم الغربية ومن ضارعها ، ثم كر بصره في
حالتنا الحاضرة ؛ لجزم جزمًا صارمًا بأنه مع صرف النظر عن كلمة الشهادتين
التي فضلناهم بها ، لم تكن نسبة حالنا إلى تقدمهم إلا كنسبة حال متوحشي نيام إلى
تمدننا ، وعلى هذا فلا نجد مسوغًا للوهم إذا هم عاملون بمثل ما نعامل به من هم
أحط أخلاقاً من الإهانة والاحتقار .
مهلاً مهلاً أيها القارئ ، ولا تعجل بالوثوب حفظك الله إلى تفنيدي وتكذيبي ؛
فإن الشواهد حاضرة ، والأدلة قائمة ، ولئن آلمك قولي ففي ما نحن عليه معاشر
الحضارة من التأخر والانحطاط ما هو أجدر بالتألم وأحرى بالتأسف ، وإن منا والله
أقوام لا يضيرهم الهون ، ولا تستفزهم الحمية ولا يؤلمهم القول .
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام
إن لبني الغرب في هذا العصر علمًا جمًّا ، وفكرًا دقيقًا ، وإدراكًا عاليًا ،
وهمة جزلة ، وأموالاً طائلة ، وممالك فسيحة ، ومستعمرات ذهبية ، وإن لهم من
نفع الإنسانية بل والبهيمية ما لا يستطيع هذا القلم الضئيل وصفه ، ولا تدرك
معلوماتنا كنهه .
ليس هذا هو موضوع القلم اليوم ، ولكني وددت لو أمثل للمغرورين من قومنا
بعض حال رجال أوربا ؛ فيقابلوا بينها وبين حالنا التي نظل شامخين بأنوفنا تيهًا
بها وغرورًا على أنفسنا وزورًا ! ! !
من آية وجهة أشرفت علينا معشر الحضارم لا تشاهد إلا منظرًا يصهر الفؤاد
ويذرف العيون ، ويفتت الأكباد ، ويرقق قلب الشامت .
أمور يضحك السفهاء منها ... ويبكي من مغبتها الحليم
أجل والله ، من آية وجهة ألقيت بصرك على مجموع العرب هنا ، تجدهم قد
أجادوا في تمثيل أدوار الهمجية الغابرة ، والجهالة الفاضحة ، وأحسنوا الارتطام في
حمأة التوحش ، وأطربوا الشامتين بغطيطهم الناشئ عن سباتهم العميق بل موتهم
الفظيع ، وإنه وأيم الحق لينبغي لإخواننا المصريين والسوريين والحجازيين
والمراكشيين وكل من الطوائف العربية ؛ أن يبعث بعضهم لبعض مسنون التعزية
في إخوانهم الحضارم الذين ذهبوا ضحية الجهل ، وفريسة الغرور ، وماتوا
مجاهدين في سبيل الدينار والدرهم .
أخذ الجمود من كبرائنا مأخذه ، وتمكن في نفوسهم اعتقاد أن كل جديد ضار ،
وأن العكوف على العادات القديمة أنفع ما كان وما يكون ، وأن ما سبقتنا إليه رجال
أوربا من الخير لا يجوز لنا فعله شرعًا . رسخ هذا الاعتقاد في قلوبهم ، وامتزج
بعقولهم وأرواحهم ، حتى صدهم عن استماع الدين ، وسدوا فجاج الإصلاح ،
ودفعوا في صدر الأمة ، حتى قهقروها عن التقدم ، زاعمين أن التحسين والتنظيم
وتسهيل وسائل التعليم مخل بالنسب الكريم أو الدين القويم ، ومعاذ الله أن يكونوا في
هذا من الصادقين ، فإن الفتن في الإصلاح شيء ، والدين والأنساب شيآن آخران .
بلغ من تعصب كبرائنا أن حظروا جعل المدارس على الطريقة الحديثة من
إقامة طاولات ومكتبات قدام التلاميذ ، توضع عليها أدواتهم ، وسرر يجلسون عليها
ولوح خشبي توضح فيه مشكلات المسائل ، وعدوا ذلك من المنكرات ، والواجب
تغييرها باليد لمن قدر عليهم ؛ لأن في هذا كما لا يخفى تشبهًا بالكفار ومجاراة
لأصحاب النار ، بل الواجب علينا أن نقشف مداركنا ونهين تلاميذنا ؛ فنجلسهم على
قاعة المدرسة مباشرة أو بواسطة حصير في هذه البلاد الندية ، حتى يصابوا
بمرض البيري بيري المخوف فيموتوا قريبًا ، وننفض أيدينا منهم نفض الأنامل من
تراب الميت ، وحينئذ نستريح من انتظار نفعهم في المستقبل .
كنا لما أن رأينا العجمة الجاوية تمكنت جيدًا في أولاد العرب هنا ، حتى إن
بعضهم لا يفهم لفظ الأعداد البسيطة بالعربية ، ورأينا الأوربيين يدأبون في نشر
لغتهم وعقائدهم الدينية بين أولاد الجاويين ، ويحاولون ردهم عن دينهم الإسلامي
الذي ما بقوا متمسكين إلا باسمه ، ورأينا إخواننا العرب جامدين سامدين لا يتألمون
ولا يتكلمون ، لما رأينا كل ذلك نهضنا على ما بنا بمساعدة بعض الإخوان ،
وفتحنا مدرسة لتعليم اللغة إجمالاً : فأولاً يدرس فيها إتقان الألفاظ وتركيبها ثم النحو
والصرف وغيرها من الفنون العربية ، ويدرس أيضًا فيها الجغرافية والتاريخ
الإسلامي والعقائد الإسلامية وطرفًا من اللغة الإنجليزية .
وقد باشرت التعليم العربي بنفسي ، فجعلت تعليمهم اللغة على أحسن الطرائق
الناجعة الرائجة في هذا العصر ؛ وهي طريقة برليتز الأمريكاني التي هي عبارة
عن نظر في المحسوسات والمشاهدات ، وعلم في العمليات ، ( انظر المنار م8 ج
22ص87 ) وهي أشبه شيء بطريقة تعلم الطفل لغة أبيه وأمه ؛ إذ يدرس التلميذ
الأفعال بالأعمال كأن يحمل الكتاب ويفتحه ، ثم يطبقه ويقوم ويذهب إلى اللوح
الأسود ويمسك الطباشير بيده ثم يكتب ، وتعرض على سمعه مشاهد الحياة اليومية ،
فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة ، يتزايد كل يوم عددها بسرعة عجيبة . وهذه
الطريقة هي بدون شك أحسن طريقة لتعليم اللغات ، فقد جربناها فوجدناها نافقة
نافعة ، كما شاهدنا تأثيرها فينا حينما تعلمنا اللغة الإنكليزية عليها ، وكما يشهد
المنصفون تأثيرها أيضًا في تلاميذنا الذين يطلبون العربية عندنا على خطتها ، بل
قد جربت هذه الطريقة في أجمل عواصم أوربا ، وما برحت مدارسها تتكاثر بتلك
الأصقاع حتى صارت اليوم تعد بالمئات ، وكلها أسفرت عن نجاح أكيد ، وارتقاء
عظيم ، واقتصاد في الوقت والمال ( انظر المنار ) وأما الذي تولى تعليم القسم
الإنجليزي فهو شاب من خيرة الناشئة العربية هنا ؛ وهو حضرة الأستاذ عبد
الرحمن القدسي المتخرج من مدرسة المعلمين بسنغافورة والحامل للشهادة .
ولكن مع كل هذا نرى الجامدين والمتعصين من قومنا العرب ؛ لم يرضهم
فعلنا ، بل قاموا يشتموننا ويقدحون في أعراضنا ، ويصادرون نهضتنا ، وينفرون
الناس عن مدرستنا ، في وقت نحن أحوج الناس فيه إلى مساعدتهم .
حقًّا أقول : إن للمنار هنا اليد الطولى في الإصلاح وترقية العقول ، وإحداث
هذه الحركة الفكرية في أدمغة الشبان ، فقد أثر معها أيما تأثير ما غذاها به من لبان
الغيرة ، وأنشقها إياه من نسيم النهضة ، وقذفه إليها من المعارف ، فالمنار اليوم هو
أنشودة النابتة هنا ومورد أنظارهم ؛ اعتمادًا على ما يرونه غير ما مرة على
صفحاته من ضروب الذكر للحضارم بجاوه ، فتارة نصحيًا ، ومرة موبخًا ، وأخرى
مثنيًا ، وطورًا باحثًا عن أحوالهم ، متفقدًا لأمورهم ، وكل هذا مالا تفعله معهم أية
جريدة أخرى ، فالنابتة بهذا لا تعد المنار إلا أكبر أستاذ وأشفق والد .
نعم .. ظهرت أيضًا شبه حركة عربية بسنغافوره محصورة في بعض
الأفراد ، فأنشأت منذ زمن غير بعيد جريدتين أو ثلاث ، ولكنها والحق يقال : إنما
هي حركة عدائية ، قام بها عباد الأهواء والأغراض بعضهم ضد بعض ، فياليت
تلك الجرائد التي نحن أحوج الناس إلى إرشاداتها العمومية ، واستنهاض الهمم إلى
المعالي ، والقيام بالمشروعات المفيدة ، عدلت خطتها ورجعت عن غيها إلى ما يعود
بالخير الجزيل على الحضارم وغيرهم .
ولكن من يسمع ما نقول وأنت ترى أولئك سادتنا وقادتنا : إما ساكتين أو
عاملين مثل تلك الأعمال ، ولا شك أن سمعة العنصر العربي هنا ستكون سيئة جدًا
حينما يطلع الملايو وغيرهم على جرائدنا وما ينشر فيها ، وعوائدنا وما ينجم عنها
فرحماك اللهم رحماك ، اللهم لا تشمت بنا عدوًّا ولا تسئ بنا صديقًا ، وأنزل
صاعقة من صواعق نقمتك على من قام عثرة في سبيل تقدم هذه الفئة المنكودة الحظ . آمين آمين .
... ... ... ... ... ... ... محمد بن هاشم طاهر
... ... ... ... ... ... مدرس العربية بفليمبغ سوماترا
( المنار )
كاتب هذه الرسالة من أذكى شبان الحضرميين المقيمين في تلك الجزائر ذهنًا ،
وأزكاهم نفسًا ، وأشهم غيره ؛ فهو يحب أن يعمل ويخذله شيوخ من قومه ، وأقوى
الخاذلين للإصلاح في تلك البلاد جاهًا وعضدًا الشيخ الهرم عثمان بن عقيل ، وقد
يسوء الكاتب أن نصرح بذلك ؛ لأنه من أسرته أو هو عمه كما أظن ، ونحن
نكره أن نذكر المفسدين في الأرض بأسمائهم لولا الضرورة .
كان المسلمون يكتبون إلينا في السنة الأولى والثانية والثالثة للمنار ( أي منذ
14 سنة ) مقالات في بيان ظلم هولنده وضغطها على العرب واضطهادها لهم ،
ويقولون : إن عونها عليهم هو واحد منه اسمه السيد عثمان بن عقيل ؛ لأنها جعلته
جاسوسًا عليهم ومستشارًا لها في أمورهم ، وما كنا ننشر شيئًا مما يكتبون لكراهتنا
الخوض في سيئات الأشخاص ؛ ولأننا كنا نظن أن ذلك الطعن في الرجل يوشك أن
يكون لهوى أو غرض أو منافسة ، وأما الضرورة التي دعتنا إلى التصريح باسمه
والتحذير منه بعد ذلك ؛ فهي ما رأيناه من رسائله التي يطبعها وينشرها بين
المسلمين في التنفير من الإصلاح والمصلحين ، الخبط والخلط في أحكام الدين ،
وتحريم العلوم والفنون والنظام ، وشبهته أن إنشاء المدارس المنتظمة وتعلم العلوم
الرياضية والطبيعية من التشبه بالإفرنج ، وهو حرام مطلقًا في اجتهاده الجهلي ،
وكذا يحرم عنده تعلم العلوم العربية والشرعية بطريقة جديدة وعلى هيئة صحية ؛
كما عليه العمل في مصر والآستانة وغيرها ، كل ذلك عنده من التشبه المحرم في
شرعه ، وليس منه تعليقه هو وسام هولنده على صدره ، وقد رسم فيه الصليب
علامة على خدمته له ولأهله ! ! فهكذا يقتل هؤلاء الجهال المسلمين باسم الإسلام ،
وقد زاد الطين بلة أن أنشأ بعض أنصاره جريدة في سنغافوره لعداوة الإصلاح
وأهله ، والتبجح بخرافاته ودجل دجال بيروت المعروف .
كان أول من سلط عثمان بن عقيل على إغواء المسلمين ومنعهم من أسباب
الترقي عدو الإسلام الدكتور ( سنوك فخرونية ) الهولندي المنافق الذي ادعى
الإسلام ، وسمى نفسه عبد الغفار ، وأقام زمنًا في الأزهر ، وذهب إلى مكة فأقام
فيها يتجسس على المسلمين ، ثم أخرج منها بدلالة وكيل فرنسة السياسي في جدة ،
ثم جعلته هولنده مستشارها في معاملة المسلمين فأعانه عثمان بن عقيل على ظلمهم
ومنعهم من الترقي ، وعلى اضطهاد العرب ، فكافأته هولنده بالمال وبوسام صليبي
يفتخر بوضعه على صدره ، فهكذا يكون أنصار الإسلام ! ! ولولا هذا المفسد
وأنصاره لتقدم الحضارمة هناك في العلم والعمل ، وأصلحوا تلك الجزائر كلها وكانوا
أئمة العلم والنور والهداية فيها ؛ لما أوتوه من الذكاء النادر ، ولا بد أن يزيل الله
هذه العقبات من طريقهم ، ويصدق رجاءنا فيهم ، فليعلم السيد محمد بن هاشم أن الله
لا بد أن يظهر دينه كما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأن ينصر حزبه
أنصار كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الدجالين والمنافقين ، ولتعلمن
نبأه بعد حين .
هذا ، وإننا نحث محبي العلم وأنصار اللغة العربية على إمداد مدرسة فليمبغ
بالكتب والمال ؛ لتكون ينبوعًا للترقي والإصلاح في تلك البلاد ، وقد علمنا أن
جمعية نشر اللغة الإنكليزية قد ساعدتها بالكتب التعليمية ، ألسنا نحن أولى بهذا
الخير وأحوج إليه .
__________
(14/761
 
ربيع أول - 1332هـ
فبراير - 1914م
الكاتب : كريستيان سنوك هرغرنج

الإسلام يقاوم نفوذ النصرانية

[*]

الإسلام في المستقبل سيكون نظير الدين الإسرائيلي يطبق نفسه على حاجات
العصر الحديث ولا يدع النصرانية تغلبه وتسلبه أبناءه .
( مقدمة للمترجم )
إن نشوء الإسلام في المستقبل سيعيد تاريخ الدين اليهودي الحديث بدرجة
مشابهة ، فالمبشرون بالإنجيل الذين لا يزالون يتوقعون انضمام كل الأديان إلى
النصرانية لا تتحقق أحلامهم فيما يتعلق بالإسلام ؛ لأن الدين الإسلامي سيظل دينًا
قويًّا نشيطًا نظير الدين اليهودي ، ويطبق نفسه نظير الدين اليهودي على حاجات
العصر المتغيرة .
هذا هو رأي الدكتور ( كريستيان سنوك هرغرنج ) الهولندي الذي قضى ربع
قرن يدرس القضايا الإسلامية وشريعة الإسلام وفلسفته .
ومما يقال عن هذا الأستاذ : إنه أكثر من خيالي ونبي متغرض ، فهو أعلم
علماء عصره في الإسلام ؛ لأنه لا يعرف تاريخ الإسلام وشريعته وفلسفته معرفة
دقيقة فقط ، ولكنه قضى ربع قرن يدرس الإسلام من وجه علاقته بالمؤسسات
الدينية والسياسية الأخرى .
وقد أرسلته جامعة ليدن - في هولندا على سبيل المبادلة -إلى الولايات
المتحدة للمرة الأولى ليلقي في أمهات كلياتها العلمية أربع محاضرات في نتائج درسه
الإسلام ، وقد فصّل في هذه المحاضرات زياراته لمكة ( مدينة الإسلام المقدسة ) ،
فإنه قضى ثمانية أشهر ضمن تلك المدينة المسورة وكان فيها عضوًا من بطانة
رجلٍ مسلم ، فأتمّ هناك الفرائض الدينية التي كان يقوم بها يوميًّا مائتا ألف من
حجاج مكة ، وتعهّد الجوامع هناك ، وسمع المحاضرات التي لم يكن يسمعها في
الزمن الماضي غير المسلمين ، وكم من قصة رويت عن نصارى أضلّوا الطريق ،
ويهود مغامرين قُتِلوا في مكة لاتهامهم بأنهم تجرؤوا على الدخول إلى المدينة
الإسلامية المقدسة ، وإذا لم تصدق هذه الأخبار فقد ثبت أن كثيرين غير المسلمين
طردوا من المدينة بإهانة عندما ظهر أنهم غير مسلمين .
ثم إن الدكتور هرغرنج ليس يعرف اللغة العربية فقط ؛ بل إنه قبل ذهابه إلى
مدينة الإسلام المقدسة قضى عدة سنين يدرس التاريخ الإسلامي ، وكانت معرفته
هذه للإسلام وسيلة استطاع بها أن يحافظ على تنكره مدة ثمانية أشهر قضاها في
مكة ، وبلغ منه أنه خدع الكلاب الشاردة التي تفرق المسلم عن غير المسلم لأنها
تعرفه بقوة الشم فتهاجمه وتفضح أمره .
وقد وضع الدكتور المذكور بعد إقامته في مكة فصلاً فيها وفي تاريخها وحياتها
العمومية الحاضرة يعتبر الكتابة الوحيدة التامة عن هذه المدينة المحمية .
وليس اهتمام هذا الدكتور بالإسلام اهتمام طالب علم فقط ، فقد قضى سبع
عشرة سنة في الهند الشرقية الهولندية مستشارًا لحكومة هولندا في المسائل المتعلقة
بإدارة سكان الهند الشرقية الوطنيين ، واستطاع بدرسه الإسلام درسًا عميقًَا واسعًا
أن يضع لهولندا السياسة التي تجري عليها مستعمراتها الإسلامية التي تحتوي على
نحو من خمسة وثلاثين مليونًا من أتباع النبي محمد .
ومن مضي سبع سنين عاد الدكتور إلى هولندا ليكون أستاذ اللغتين العربية
والسلافية في جامعة ليدن ، فقبل هذه الوظيفة على شرط أن يبقى مستشارًا عموميًّا
للحكومة في المسائل الإسلامية .
وزيادة على ذلك أنه ساح في أكثر البلدان الإسلامية ، وكان في خلال ربع
قرن مضى يراقب الحركات العاملة على إحداث تغيير ديني وسياسي في العالم
الإسلامي كله ، ولذلك كانت صورته التي صوّر بها حالة الإسلام الحاضرة ،
والطريقة التي جرى عليها في تتبع نشوئه في المستقبل ، أمرين خارجين عن
مألوف الذين يعتبرون أن الإسلام لا يزال بربريًّا في شكله الشرقي ، بل إنه يرى أن
الحواجز بين الشرق والغرب تتهدم بالتدريج تهدمًا يؤدي إلى امتزاجهما السريع في
خلال سنين تأتي .
وقد ألقى هذا الدكتور محاضرة بالأمس - في جامعة كولومبيا - في الإسلام
هذا ما قاله فيها :
( محاضرة الدكتور هرغرنج في الإسلام )
إن المدينة الإسلامية كانت في خلال ألف سنة مضت ترتفع إلى الدرجة
الحاضرة النهائية ، فمِن مضي ألف سنة اعتقد المسلمون أن أحوالهم الدينية راضية
تمام الرضى ، وكان المعتقد الديني عندهم مسألة مقررة ، وكان السواد الأعظم من
المسلمين يقولون بعصمة الدين الإسلامي ويقبلون حقيقته المكشوفة بدون ريب ،
نظير إجماع النصارى على عصمة الكنيسة الكاثوليكية . وكانت للإسلام شرائع
تتعلق بالحياة في كل أطوارها من شخصية وعمومية وفردية واجتماعية .
وعلى الجملة : إن الإسلام كله قام على استقلال المسلمين السياسي ، فقد كانوا
في دائرتهم الخصوصية أحرارًا مستقلين ، اعتبروا العالم كله ملكًا لهم ، فالذي لم يكن
لهم كان عليهم أن يفتحوه ، وبذلك كان حكم السيف ممكنًا إذا لم يكن محتملاً ؛ ولكن
ثبتت استحالته في الألف سنة التي مضت . ففي خلال القرن الماضي تعرى الإسلام
من استقلاله السياسي باعتداء الدول الأوروبية التدريجي عليه ، ونتج عن ذلك أن
الإسلام اضطر أن يعدل آراءه وأعماله ، وتأكد للمسلمين أنه يجب عليهم أن يحسبوا
حسابًا لما تفعله الأمم الأخرى وتحصل عليه .
وقد نجمت عن هذه الحالة مسألتان : الأولى منهما هي : هل يستطيع الإسلام
الذي يرشد حياة تابعيه وأفكارهم أن يجاري هذا التغيير عندما يفقد استقلاله السياسي
الذي قام عليه ؟
إن الذين درسوا القضايا الإسلامية استنتجوا أن القضايا الروحية ، متصلة تمام
الاتصال بالقضايا المادية في الدين الإسلامي ، بحيث إن سقوط الاستقلال السياسي
يستلزم سقوط الإسلام نفسه ، ولكني لا أوافقهم على هذا القول .
أما المسألة الثانية ، فهي أهم من الأولى وهي : هل إذا كان الإسلام قادرًا على
احتمال ذلك التغيير - كما أعتقد أنه قادر - يقدر أن يطبق نفسه على قضايا الحياة
الحديثة بطريقة يستطيع بها تابعوه بأن يكونوا في مقدمة الصفوف في ارتقاء العالم
ومدنيته ؟
هاتان هما المسألتان مع كل القضايا الأخرى المتفرعة عنهما ما أريد البحث
فيه على مسامع الأمريكيين رجاء أن أوقف الغربيين على الانقلاب العظيم الجاري
في العالم الشرقي ومجاري هذا الانقلاب .
( فشل محاولة تنصير المسلمين )
والأمر الجوهري في هذا الشأن هو الوجه المنظور فيه إلى قضية مستقبل
الإسلام ، فإذا نظرتم إليها بعيني المرسل النصراني الديني ؛ فلا بد أنكم تستنتجون
أنه لا يرجى شيء كثير من نشوء الإسلام ؛ لأن الإسلام قبل صيرورته كفؤًا يجب
عليه أن يتخذ النصرانية أولاً ؛ ولكن هذا هو أسوأ رأي يعول عليه ، وأنا مسرور
بقولي : إنه ليس رأيًا شاملاً ، فالمسلمون لا يقصدون أن يتنصّروا ، وقد احتاطوا
أعظم احتياط لهذا الأمر الذي أدركه كل المبشرين النصارى المتنورين في الأراضي
الإسلامية ، ففي الهند الشرقية الهولندية - حيث قضيت سبع عشرة سنة ملتصقًا
تمام الالتصاق بالمؤسسات الإسلامية - لا يقدر المرسل النصراني الديني أن يربح
تابعين لدينه ، نعم يوجد كثيرون من المدعوين مسلمين ولا سيّما سكان داخلية البلاد
الذين لم يتغلغل إليهم دين من الأديان . وقد ابتعدوا خطوة واحدة عن حالتهم الوثنية
الفطرية ، ولم يعد يصعب تنصيرهم ، وفي بعض جهات جاوه حيث انتشرت الديانة
الهندية سابقًا لم يجد المرسلون النصارى صعوبةً في تنصير قبائل برمتها .
ولكن أكثر دعاة النصارى الدينيين في البلاد الإسلامية المحضة - حيث
الإسلام تقليد قديم لا دين يُتدين به - يرون صعوبةً كبرى في تنصير المسلمين ،
وقد تحولوا عن التبشير بالمسيح إلى التهذيب والإعانة ، وما داموا جارين على هذه
الطريقة فالمسلمون مستعدّون لقبول ما يقدمونه لهم .
مثلاً إن الذي تقدمه كلية روبرت الأميركية في الآستانة يقبله كل مسلم ، وقد
كان للكلية المذكورة فضل كبير في نشر المعرفة والطرائق التي يعتبرها المسلمون
منتهى التقدم ؛ ولكن الكلية المشار إليها لم تحوّل مسلمًا واحدًا عن معتقده .
وقد حدّثت مؤخرًا أحد زملائي الفرنساويين الذي قضى عدة سنين في الجزائر ،
ولمعرفتي بتعصب المسلمين في شمالي إفريقيا سألته عن العمل التبشيري الذي
تقوم به الجمعيات الكاثوليكية الدينية المتعددة فقال : إنه عمل ناجح ولكن لا ذِكر
ألبتة للدين فيه .
هذا وإن هولندا تحكم على خمسة وثلاثين مليونًا من المسلمين ولم تعد تفكر
قط في هدايتهم وتنصيرهم , وكل ما أدركناه هو حاجتنا إلى تعليم هؤلاء الناس
الذين وكّلت أمورهم إلينا بطيّات الحوادث التاريخية ، وأدركنا أن أفضل شيء
لنفوسهم هو تطبيق دينهم الخاص ومؤسساتهم الخاصة على حاجات العصر الحاضر .
ولا أعتقد أبدًا أن الدين الإسلامي يسقط أمام النصرانية ؛ لأن المسلم يحتاط
أشد الاحتياط لمقاومة النفوذ النصراني ، فهو يعرف النصرانية التي ليست عنده
شيئًا جديدًا غير مألوفٍ ، فقد عرف أصلها وطريقة نشوئها وهو يعتبرها دينًا فسد
بالتدريج ، وأخيرًا نسخه وحي النبي محمد خاتم الأنبياء الموحى إليهم ؛ وبالتالي إنه
يعتبر النصرانية شيئًا مضى ، ويرى تديّنه بها خطوة إلى الوراء ، ومهما كان
التغيير الذي يقع على الإسلام في ربع القرن الجاري أو نصفه فإنه لا يكون تغييرًا
يتناول التدين بالنصرانية . إذ لا تدعو الضرورة في الإسلام إلى هذا الإصلاح .
***
( إضعاف الإسلام بالتربية والتعليم )
ولا يخفى أن كل من عاش في أراضي الإسلام لا ينكر أنه حدث في النصف
الأخير من القرن الماضي تغيير عظيم ، فقد اشتدت حاجة المسلمين إلى كل ما هو
ضروري للاشتراك في الحياة الحديثة التي تبعت دخول الغزاة الغربيين إلى الشرق ،
ولم يعد المسلمون المتنورون اليوم يكتفون بالتربية الإسلامية القديمة ، فهم يطلبون
أطباء حديثين وكيمياء حديثة ، وأحدث شيء في علم الحياة . وصاروا يطلبون
دروسًا اجتماعية في مدارسهم واللغات الحديثة والفن الحديث ، ولا يبالون مَن يقدم
لهم هذه الأشياء إذا قدمت لهم في غير صبغة دينية .
مرّ زمان كان فيه المسلم يعرف أخاه المسلم بألْف طريقة مختلفة : كأخلاقه
وطريقة معيشته ولباسه وأكله ، ولكن كل هذه المميزات أخذت تزول بالتدريج ؛ بل
إن المزية الوحيدة التي كان بها المسلم يقدر أن يعرف أخاه في الدين سيزيلها
التهذيب والتعليم ببقية معروفة من العقيدة الدينية .
وقد زالت عادات إسلامية قديمة كثيرة ، وأصبح كثير منها آخذًا الآن بالزوال ،
فزي اللباس الشائع الذي دخل من الغرب إلى الشرق يجعل تأدية الصلوات
الخمس الواجبة يوميًّا أمرًا مستحيلاً ، فلم يعد المسلم الشرقي يقدر اليوم أن يصلي
خمس مرات في اليوم بين شروق الشمس وغروبها ! ! وهو مضطر أن يشتغل
ثماني ساعات في اليوم . بل إنه لا يقدر أن يحافظ على مركزه في الصناعة
المنظمة التي يضطر إلى مزاولتها بالتدريج ويصوم سحابة النهار في شهر رمضان .
وقد كانت هذه الأمور قديمًا شرائع لا بد من العمل بها ؛ أمّا الآن فإنها تصير
أشياء لا يقدر أن يمارسها غير حجاج مكة والأئمة المتصوفين ؛ بل حدث تراخٍ في
كل شيء ، فقد ساد الإسلام في وقت من الأوقات وتناولت سيادته التجارة أيضًا ،
ولكن حفت به المشاكل بالتدريج ، نعم إن ضمان الحياة لا يزال عند المسلمين شكلاً
من أشكال المقامرة ؛ ولكن الربا في استثمار المال صار ممكنًا باعتباره قسمًا من
المقاولة الأصلية .
* * *
( درجة تأثير الأفكار الأوربية في المتعلمين )
تغلغلت الأفكار الأوروبية في كل جهة من الأراضي الإسلامية ، ولكن لم يجد
فيها الشعور الأوربي مركزًا ، ولهذا أتجرأ على القول بأن المسلمين سيستمرون على
دينهم مهما اتخذوا من التهذيب والمدنية الغربيين ، ففي كل المدارس الأوربية
الكبرى تجد كثيرين من الطلبة المسلمين ، وهم من فئة المتنورين الذين بواسطتهم
تحدث التغيرات الأولى في الإسلام ، وهؤلاء الشبان من أهل العلم في العالم ، فقد
درسوا العلوم الغربية بفروعها نظير خيرة طلبتنا الغربيين ، وهم لا يقومون بكل
الفرائض المطلوبة من المسلم الحقيقي ، لأنهم مثلنا في طرائق اللباس والمأكل
والمعيشة .
ولكن مجرى عقلهم لا يزال إسلاميًّا ، فقد كان بين تلاميذي طلاب مسلمون ،
وعندما كنت أتناول مباحثهم التي يكتبونها كنت أرى فيها مظاهر فكر إسلامي في
شكل مختلف كل الاختلاف عما يكتبه طلبتي الآخرون ، بل كنت دائمًا أعرف
الطالب المسلم من مباحثه .
ثم إنك ترى موقف المسلمين المتنورين تجاه شريعتهم وعقيدتهم القديمتين نفس
موقف المتنورين بين الإسرائيليين في العصر الحاضر ، وكلما عشت بين المسلمين
ازددت اعتقادًا أن الإسلام سيجري في نشوئه على الطريقة التي سلكها الدين
الإسرائيلي في تاريخه الحديث .
نعم إن الضغط الشديد الذي وقع على الدين الإسرائيلي لم يقع على الإسلام
فتفرُّق الإسرائيليين بين أمم الأرض اضطرهم إلى أن يطبقوا حياتهم على شرائع
غير شرائعهم ، وكذلك اضطر المسلمون إلى أن ينقحوا الطائفة الكبرى من شرائعهم
المسيطرة على حياة الفرد اليومية من جراء اتساع الأراضي التي احتلوها بالفتح ،
والمحايط المتعددة التي اضطّروا إلى العمل بموجبها .
***
( الإسلام واليهودية )
وبين الإسلام والدين الإسرائيلي تشابه عميق يزداد ظهورًا في مخالطة
المتنورين الإسرائيليين والمسلمين ، فالتوحيد هو قاعدة الدينين ، وليس الله تجاه
خدّامه في هذين الدينين إلا مشترع يرى كل قسم من حياة الرجل يحتاج إلى شريعة ،
ومن أجل ذلك صار درس الشريعة فيهما عاملاً مهمًّا ؛ ولكن الوجه الخيالي في
الدينين المذكورين انحط انحطاطًا عظيمًا ، وأخذ يقتصر على القائمين ضمن جدران
المدارس ، ولم تبق له علاقة قوية بحاجات الحياة الفعلية .
وقد صار تفسير الشريعة في الدين الإسرائيلي منوطًا بالحاخامين ، وما عدا
بعض مراسيم دينية خارجية ترى أكثر المتنورين الإسرائيليين مكتفين بحفظ العقائد
الأولية من دينهم ، أما عامة القوم فإنهم يضيفون إليها طائفة من الخرافات القديمة .
وترى الإسلام تاليًا تلو الدين الإسرائيلي . فخذِ القرآنَ مثلاً وانظر إلى التغيير
الذي حدث في خلال ثلاثة عشر قرنًا مضت على تأسيس الإسلام ، فالمسلم العربي
المولد لا يقدر أن يفهم آيات القرآن إلا بعد درس طويل .
ولا يخفى أن أكثر المسلمين يعتبرون القرآن كتابًا مغلقًا ، فقد كان في وقت من
الأوقات قوة إصلاحية في العالم ، وكان يقرؤه كل مؤمن ورِع ، أمّا اليوم فإن الأئمة
والعلمانيين يقرءونه بتجويد دون أن يتدبروا معناه ، حتى إن الكلمات التي يجودونها
حجة عليهم في أشياء يصنعونها كل يوم حتى خلال التجويد .
وسيقع أيضًا تغيير على الشرائع والمؤسسات الإسلامية فيحل درسها بالتدريج
محل ممارستها بالرغم من التقليد المقدّس الذي ينطق بأن المعرفة بدون عمل لا فائدة
منها ، وزد على ذلك أن الناشئة الإسلامية الناهضة لا تريد أن تكد ذهنها في درس
الشريعة الإسلامية ، كما هي تتعب رئاتها بتجويد الآيات القرآنية ، فإن هذا الأمر
سيقتصر على فئة خاصة من المسلمين ، كما هي الحال عند الإسرائيليين في الوقت
الحاضر .
ولكن ترك العادات القديمة والاعتراف بعدم اتفاق الشريعة القديمة مع حاجات
الحياة الحديثة لم يفهم منهما أن الإسرائيليين تركوا دينهم ، وكذلك لا يفهم منهما أن
الإسلام سينحط . نعم إن بين المسلمين المتنورين اليوم تعصبًا قليلاً ، ولكن في
صدورهم ميلاً قويًّا إلى التمسك بدين آبائهم وتطبيقه على الحاجات الحديثة ؛ بل إن
المسلمين المتنورين اليوم لم يعودوا يذكرون الجهاد ، ولكنهم يلفتون الأنظار إلى
إنماء التساهل واتساع المعرفة التي تتغلغل في كل جهة من جهات العالم الإسلامي .
وهاهنا أمر آخر هو أن المسلم المتنور يشعر نظير الإسرائيلي المتنور
بالرابطة الروحية التي تربطه إلى أخوته في الدين وهو لا يريد أن يقطع هذه
الرابطة .
نعم إن السواد الأعظم من المسلمين - ولا سيّما حيث النفوذ الأوربي لا يزال
خفيفًا - هم الآن حيث كانوا من مضي خمسمائة سنة ، وكذلك توجد فئة بين
الإسرائيليين لا تزال تمارس شريعة لم تصدم بالحياة الحديثة بعد ، وقد كان تطبيق
التقليد المقدس على حاجات المحيط المتغير ظاهرًا بأجلى مظهره في الدين
الإسرائيلي ، ولكن التشابه في نشوء الدينين الإسرائيلي والإسلامي يحمل الواحد على
أن يتوقع للإسلام نفس ما وقع في الدين الإسرائيلي .
ولا يمكن أن يقع انحطاط تدريجي في الإسلام ؛ لأنه توجد بواعث خارجية
تمنعه ، فالإسلام قوي ولم يضعف - لا سّيما في القران الماضي - وقلّت فيه
الانشقاقات الداخلية ، وزد على ذلك أن الإسلام يربح أكثر من النصرانية تابعين له من
الوثنيين . فالذي يصير مسلمًا لا يطلب منه شيء كثير ؛ إذ لا يوجد تقديس ولا
طقس ديني ولا تعليم طويل ، فكل ما يطلب منه أن يعترف بالله أنه كلي القوة ، ومِن
ثمَّ يتدرج إلى تعلم الفرائض الإسلامية الدينية ، وعندما يصير مسلمًا يتغير
مركزه الاجتماعي ، ولكن إذا تنصّر فإنه يبقى دون غيره ، ويظل المرسل الديني
غريبًا معلمًا متنحيًا عنه .
***
( الإسلام بمكة ومبلغ علم الخطيب به )
ولكني بإظهاري لكم هذه الصورة عن الإسلام ، والحوادث التي تدير مجراه لا
أقول إنه لا يوجد فيه كثير من التقاليد القديمة التي لا تصدّق ، ففي خلال الثمانية
الأشهر التي قضيتها في مكة كنت أحسبني مقيمًا في مدينة في القرن الثاني عشر أو
الثالث عشر . فهناك درست الشريعة الإسلامية بكل فروعها ، وكل أسرار الإسلام
في الأشهر الثمانية التي كانت فيها المدينة غاصّة بحجاجها البالغ عددهم مائتي ألف ،
ولا توجد تجارة في مكة غير نهب الحجاج فإن سكانها الوطنيين يسلبونهم كل ما
يكون معهم من مال بالبيع المغبون .
ولا شيء أدل على البداوة القديمة من مكة ، فهي تمثل الإسلام في العصور
القديمة فلا بيوت هناك . أما وسائل النور والحرارة والماء التي اعتدناها في العصر
الحاضر فهي هناك كما كانت في العصور المظلمة ، ولكن الذي لم يذهب إلى مكة ولا
أقام في بيت إسلامي فيها ودرس في جوامعها لا يقدر أن يفهم ، أو يجد صعوبة
شديدة في معرفة نشوء بلاد إسلامية .
وقد كثر التحدث حينًا بعد آخر عن مكة أنها ستفتح للعالم بالقوة ، ولكني لا
أرى شيئًا يدل على أن إنكلترا ستحاول فتح مكة ؛ لأنها إذا أقدمت على هذا الأمر
جلبت لنفسها اضطرابات كثيرة في الهند . ولذلك ستظل مكة عدة سنين مركز التقليد
الإسلامي .
وعلى الجملة ، إني أقول : إن نشوء الإسلام في القرن الجاري لا يكون شيئًا
باعثًا على الدهشة ؛ بل سيكون طبقًا للحركة العمومية التي تقرّب بين الأمم والأديان
دون زوال الاحترام للتقاليد المورثة عن السلف ، ولا بدّ للإسلام من الاتصال بالعالم
الغربي وسيفعل ذلك ، ولكن نقصه العظيم أو النقطة التي يحتاج فيها أشد الاحتياج إلى
اتخاذ الأفكار والمبادئ الأوربية هي موقفه تجاه نسائه ، وقد أخذ يتساهل في موقفه
نحوهن تساهلاً بطيئًا تدريجيا ، فالإسلام لا يمكن أن يرتقي ارتقاءً حقيقيًّا إلا إذا حرر
نساءه الراسفات في سلاسل التقاليد القديمة التي لا تنطبق على روح العصر
الحديثة ، التي هي روح الترقي الحقيقي . اهـ .
( المنار ) :
سنبين رأينا في هذه المحاضرة في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى .
__________
(*) ألقى الدكتور (كريستيان سنوك هرغرنج) الهولندي في أمريكا محاضرة في حال المسلمين الدينية والاجتماعية ومستقبلهم ، فترجمتها إلى العربية جريدة الهدى السورية التي تصدر في (نيويورك) ووضعت لها هذا العنوان ، وصدّرتها بمقدمة في ملخص سيرة الدكتور ، فنقلناها عنها مع تصحيح بعض الألفاظ لما فيها من العبر للمسلمين .
(17/210)
 
ربيع الآخر - 1332هـ
مارس - 1914م
الكاتب : محمد رشيد رضا

محاضرة الدكتور كريستيان سنوك هرغرنج
الهولندي في الإسلام ومستقبل المسلمين

وعَدْنَا أن نعلق شيئًا على هذه المحاضرة التي نشرناها في الجزء الماضي
ووفاءً بالوعد نقول :
( 1 ) يظهر من كلام الدكتور أنه اختبر المسلمين اختبارًا واسعًا قلّما يصل
إلى مثل غوره الأجنبي ، فهو قد أصاب في أكثر ما ذكره عنهم من رأي وخبر ، ولكنه
ما عرف حقيقة الإسلام وكنهه ، وأنَّى له أن يعرف ذلك ؟ ومِن أين يعرفه ؟
يقول : إنه درس الإسلام وعرف أصوله وفروعه من مكة المكرمة حيث أقام
ثمانية أشهر يتلقى عن بعض العلماء ! سبحان الله ! إن أهل مكة أقل أهل الأمصار
الإسلامية عنايةً بالعلم الديني وغيره ، ومَن يوجد فيها من المدرسين الغرباء ، فقلّما
يوجد فيهم أحد من المبرزين الأقوياء ، وإن وجد فيهم من يتقن بعض العلوم الشرعية ،
فهو لا يقرأ الدروس إلا على طريقة متأخري المسلمين العقيمة ، طريقة المناقشة في
عبارات بعض كتب المذاهب ، فالثمانية الأشهر لا تكفيه لقراءة عقيدة كالنسفية أو
السنوسية ، ونحوهما من كتب الكلام على مذهب الأشعرية ، ولا لقراءة باب
الطهارة والصلاة من متوسطات كتب الشافعية أو الحنفية . وعلم الكلام - الذي هو
علم فلسفة العقائد الإسلامية - يقول فيه الإمام الغزالي : إنه ليس من علوم الدين
وإنما هو حارس للعقيدة كالعسكر الذين يحرسون البلاد أو الحُجاج مثلاً ؛ بل نقول إننا
على سعة اختبارنا للعالم الإسلامي لا نعرف مكانًا في الأرض تبين فيه حقيقة الإسلام
التي يمثلها القرآن وسنة الرسول المتبعة وسيرة السلف الصالح ، من العقائد والأخلاق
والآداب ، والسياسة والإدارة والقضاء ، تبيانًا سالمًا من الشوائب والأوهام ، بحيث
تتلقى بسهولة في ثمانية أشهر أو أعوام ( وأرجو أن يوفق لهذا من يتخرجون في
مدرسة دار الدعوة والإرشاد ) .
( 2 ) اعترف هذا الدكتور الهولندي بأنه ادّعى الإسلام نفاقًا أو خداعًا
للمسلمين ليسبر غورهم وغور دينهم من حيث تأثيره في حياتهم المدنية والسياسية ،
وقد فعل مثل هذا غيره من أفراد الشعوب الأوربية أصحاب المستعمرات الإسلامية ،
كالفرنسيس والروس والإنكليز . ولو كان للمسلمين حكومات منظمة ، وجمعيات
إصلاحية عامة ، لَمَا تيسر لهؤلاء الجواسيس ما يتيسر لهم وأمر المسلمين فوضى .
وإننا نرى هؤلاء المستعمرين يراقبون كل غريب يدخل مستعمراتهم ولا سيّما إذا
كان مسلمًا . فلا يفوتهم من حركاته ولا أقواله شيء .
( 3 ) بيّن الدكتور أن الإسلام الديني كان قائمًا على أساس الإسلام
السياسي ، وأن المسلمين كانوا واثقين بدينهم راضين به إذ كانوا أحرارًا يرون أن
العالم كله ملك لهم بالفعل أو بالقوة ، عليهم أن يفتحوا منه ما لم يفتحوه . وهذا الذي
ذكره عن المسلمين هو الذي عليه الإفرنج الآن ، فهم يرون أن العالم كله ملك لهم ،
ولذلك يتفقون فيما بينهم على اقتسام الممالك المستقلة ؛ ثم ينفذون ذلك ، ولا مجال هنا
للبحث في تفصيل هذا وبيان مآخذه . ولكننا ننبه عقلاء القراء إلى الاعتبار بحالهم
السابقة وحال الأوربيين الحاضرة ، ثُم العبرة كل العبرة فيما رتبه هذا السياسي
الكبير على هذا وهو :
( 4 ) بيّن أن الأوربيين قد سلبوا المسلمين ذلك الاستقلال والحرية بالتدريج ،
فاضطر المسلمون إلى تعديل أفكارهم في الإسلام الديني بعد زوال الأساس الذي
بني عليه وهو الاستقلال السياسي ، ثم نقل أن بعض الساسة الأوربيين يرون أن
سقوط الإسلام الديني يتبع سقوطه السياسي ، فيزول الإسلام من الأرض ، وأنه
يخالفهم في ذلك ، ويرى أن الإسلام الديني لا يزول كما أنه لا يبقى كما كان في عهد
استقلاله والثقة به ، وسنذكر ملخص رأيه فيه والعبر لمن يعقل من المسلمين في
هذا كثيرة ، ومن أهمها غرور المفتونين من المسلمين الذين يظنون أنهم يحفظون
استقلالهم السياسي أو يؤسسون لهم استقلالاً جديدًا مع ترك الدين ، فإن هذا إذا جاز
في غير الإسلام لا يجوز فيه ؛ لأن جميع المقومات للأمة جعلها الإسلام إسلامية .
( 5 ) كما بين إزالة أوربا لاستقلال الإسلام السياسي بالاستيلاء على ممالكه
الواسعة ، بين تصرفها في إزالة استقلال أفراد المسلمين في أنفسهم ، بما بينه من
تغلغل الآراء الأوربية في أفكارهم ، وزلزلتها لكثير من مقوماتهم ومشخصاتهم الملية
التي يمتازون بها عن غيرهم ، وبها كانوا أمة واحدة ، وبيّن أن إزالة بعض
المميزات العادية كاللباس ، له دخل في إزالة المميزات الدينية كالصلاة ، فقال : إن
أداء الصلوات الخمس صار متعذرًا على المتفرنجين ، الذي يلبسون الزي الإفرنجي ،
( قال ) وسيتبعه الصيام . فجزم بأنهم يتركونه ، وبأن الشرائع التي كانت مقدسة
عامّة ستكون خاصّة بحُجاج مكة والمتصوفة .
وطالما نبّهنا المسلمين على ضرر هذا الانسلاخ من العادات والأخلاق بتقليد
الإفرنج ، وقد فطنا لهذه المسألة في أثناء اشتغالنا بطلب العمل بطرابلس الشام ، فكتبنا
في بحث الزي واللباس فصلاً طويلاً ينافيه أنه ليس للإسلام زي ديني خاص ، وأن
ضرر تغيير الزي سياسي اجتماعي ، وإنما يمسّ الدين ويكون محرمًا شرعًا لأسباب
عارضة ككونه ضيقًا يمنع من أداء الصلاة . ولكن جماهير المسلمين لا يزالون
بمعزلٍ عن فهم أمثال هذه التنبيهات والنصائح ، حتى إنه ليسخر بها من يعدّون
أنفسهم من الفلاسفة والسياسيين ، وإنما هم من السفهاء المفتونين .
( 6 ) ذكر من أثر سلطان الإسلام في أهله أن الآراء الأوربية على شدة
تغلغلها في أنفس المسلمين وتحويلها لعاداتهم وأفكارهم ، وتغييرها لشؤون حياتهم ،
لم تَقْوَ على محوِ الشعور الديني من قلوبهم ، حتى إنه كان يعرف تلاميذه المسلمين
من غيرهم بمجرد قراءته لمنشآتهم ؛ لأن روح الإسلام لا بد أن تتجلى في عبارتها .
( 7 ) يعلل الدكتور بهذا وغيره ما رآه ورواه من خذلان دعاة النصرانية
( المبشرين ) فيما يحاولون من تنصير المسلمين ؛ لأنهم يعرفون النصرانية ويعتقدون
أنها فسدت وأن الإسلام أرقى منها . وهذا القول الذي قاله صحيح ، وإن كان يجهله
من لم يكن له مثل علمه واختباره ، فنحن نعتقد أن أصل النصرانية صحيح ، وأنه
طرأ عليها التبديل والتغيير ، وإن الله أكمل دينه بالإسلام ، على سنته في النشوء
وترقي الاجتماع في الأقوام .
( 8 ) رأي الدكتور في مستقبل المسلمين - الذي أطال في بيانه - هو أنهم
يكونون مثل اليهود في زوال الملك والرضا بحكم الأوربيين وسيادتهم ، مع
المحافظة على شعور دينهم وبعض تقاليده مثلهم ، ومجاراة الإفرنج في سائر الشؤون
وإن كان فيها ترك أحكام الإسلام وآدابه . واستدل على ذلك بتحول أفكار المسلمين
عن الرضا بالتربية الدينية القديمة إلى لغات الأوربيين وعلومهم وتربيتهم .
( 9 ) يرى هذا الدكتور الهولندي ما يراه الفرنسيّون وغيرهم أن ما يراد
إدخاله على الإسلام من الآراء والأفكار التي يريدها دعاة النصرانية يجب أن يبث
في المسلمين باسم المدنية لا باسم الدين ، فحينئذٍ تقبل . وهذا ما تجري عليه فرنسا
في مستعمراتهم الإسلامية ؛ يعني أن المسلمين قد فتنوا باسم المدنية الأوربية
ومظاهرها ، فهم يقبلون من بابها كل شيء - وإن لم يوصل إليها - لا يميّزون بين
كفرٍ وإيمانٍ ، ولا بين ضارٍّ ونافعٍ . وأمّا ثقتهم بدينهم ورؤيتهم دين النصرانية دونه
فهما مما يحول دون قبولهم لشيء ما من دعاة النصرانية باسم النصرانية .
( 10 ) ملخص المحاضرة : إن أوربة أزالت استقلال الإسلام السياسي
وانتزعت ملك المسلمين من أيديهم بالتدريج ، وإنها شرعت في إزالة سائر مقوماتهم
ومشخصاتهم القومية التي كانوا بها أمة واحدة ، دينية وغير دينية ، حتى اللغات
والعادات وأركان الدين ، وإن أهل الرأي فيها مختلفون في دين الإسلام نفسه : هل
يمكن إزالته من الأرض بعد إسقاط الحكومات الإسلامية كلها أم لا ؟ فبعضهم يرون
إمكان ذلك فيبذلون الملايين لدعاة النصرانية لتنصير المسلمين . وبعضهم يرى
الإسلام لا يزول بالمرّة ، ولكن ينبغي أن تزال ثقة المسلمين به ، وأن يحولوا باسم
المدنية عن جميع ما يربط بعضهم ببعض حتى اللباس ، فبهذا يكونون فَعَلَة وزَرّاعًا
للسادة المالكين لبلادهم ، إذ لا يستغنون عنهم في استخراج خيرات الأرض ، وهذا
ما يسعى إليه قوم آخرون .
ومن العجائب أن محاضرة كهذه تترجمها جريدة سورية بالعربية ، وتجعل
عنوانها : ( مقاومة الإسلام لنفوذ النصرانية ) كأنه كَبُرَ عليها قول الخطيب : إن
المبشرين لا يستطيعون تنصير المسلمين ، فعدّت هذا من مقاومة الإسلام للنصرانية ،
وهكذا تقول بعض الجرائد القبطية هنا إذا قابل بعض المسلمين طعن المبشرين
بجزء من ألف جزء . فمتى يفهم المسلمون ومتى يعقلون ؟
( 11 ) نحن نسلم قول الكاتب وفاقًا لكثير من أحرار الإفرنج : إن أوربة قد
أزالت استقلال الإسلام السياسي ، ولا يصدنا عن هذا التسليم إبقاء أو بقاء خيال من
الاستقلال ضعيف في بعض البلاد ، يدير بعضه النفوذ الأوربي ظاهرًا وباطنًا أو
باطنًا فقط ، ولا وجود بعض الإمارات الصغيرة غير المنظمة التي يدور حولها
النفوذ الأوربي ولا يجد له الآن منفذًا للدخول في أحشائها ؛ كقلب جزيرة العرب ، ولو
كان عدد العقلاء الذين يفهمون هذه الحقيقة ولا يغترّون بخيال الاستقلال الرسمي أو
ظلاله مثلنا كثيرًا ، لكان نهوض الإسلام من سقوطه السياسي والديني قريبًا ، ولكن
جمهور المسلمين الأكبر كالأطفال الذين يظنون أن الصور المتحركة التي يرونها في
الملاعب تمثل الملوك والجيوش والوقائع - هي من الأحياء التي تتحرك وتعمل
بإرادتها .
ولو عرف الدكتور الحاذق النبه حقيقة الإسلام كما عرف أحوال المسلمين
الاجتماعية ، ولو دقق نظره بعد ذلك في شؤون المسلمين فضل تدقيق ، وقاس
حاضرهم الذي عرفه بماضيهم القريب المظلم وماضيهم البعيد المشرق - لَعلِم أن في
الإسلام قوةً كامنةً لم يكن لليهود مثلها ولا ما يقرب منها عندما زال ملكهم ، ولا قبل
ذلك ولا بعده . ولَعلِم أن هذه القوة لو وجدت مَن يحسن استخدامها والانتفاع بها
لأمكنه أن يملك بها الشرق كله ، أو يكون سيّده الأول ؛ ولكن من سوء حظ الشرق
لم يوجد في هذه القرون الأخيرة عقل نيّر أدرك هذا بقوة أشعته ولا همة عالية
أرادت أن تتصدى له ، إلا عقل نابليون الكبير وهمته ولكن حالت الأقدار بينه وبينه .
ولو عقل الدكتور السياسي هذا وخبره لأقنع دولته بأن تكون هي الدولة التي
تسود الشرق بالمسلمين ، ولو أقنعها لأمكنها ذلك ؛ وإن كان مسلمو بلادها أضعف مِن
غيرهم في قوتي العلم والعمل وفي المجد التالد والطارف . أَمَا لو فطن لمثل هذا
العمل فرنسة أو إنكلترا لكانت كل منهما أقدر عليه من غيرها .
فإذا ظلت هذه الدول تملك عشرات الملايين من المسلمين ، محجوبة عن
الحقيقة بما ضربه التاريخ دونه من حجب السياسة والدين ، فليس من البعيد أن
تفطن له دولة اليابان ، إن صح ما يظنه الأوربيون من أنهم قطعوا طرق الحياة كلها
على هذه البقايا من دول الإسلام .
وأما الإسلام الديني فهو لا يزداد إلا قوة وجدة مهما حل بالإسلام بالسياسي ،
وقد حفظ الدكتور منه شيئًا وغاب عنه أشياء : فإن كان بعض المتفرنجين قد تركوا
الصلاة والصيام ، ويظن هو - كما يظنون - أن الجماهير سيتبعونهم في هذا
الضلال افتتانًا بزخرف الشهوات المدنية ، وما تعبث بعقولهم الآراء الأوربية ، فليعلم
أن عدد المصلين يزيد ولا ينقص ، وأن هؤلاء المتفرنجين المفتونين سيرجع بعضهم
إلى الهدى ، وينبذ المسلمون البعض الآخر نبذ النوى ، وأن الإسلام دين المستقبل :
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ( فصلت : 53 ) .
(17/268)
 
عودة
أعلى