سليمان وداود عليهما السلام ( 1).... يصوم يوما ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى

إنضم
31/08/2004
المشاركات
112
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
العمر
63
الإقامة
فلسطين
الموقع الالكتروني
http
داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام عليهما السلام (1)
يصوم يوماً ويفطر يوماً.. ولا يفر إذا لاقى!!


طارق مصطفى حميدة
مركز نون للدراسات القرآنية


يلفت الانتباه في عدد من الأحاديث النبوية الشريفة، الإشادة بنبي الله داود عليه السلام، على نحو خاص وجعله الأنموذج والمثل الأعلى للمسلمين، وبالذات فيما يتعلق بالجانب التعبدي التطوعي من حيث قيام الليل وصيام النهار والتسبيح، وتلاوة كتاب الله تعالى والتغني به، والأهم في كل ذلك ــــــ بحسب ما أرى ـــــــ الارتباط والتلازم الوثيقان بين هذا التعبد من جهة وبين قيام داود عليه السلام بوظيفته خليفةً مجاهداً، فضلا عن أن القصص القرآني بشأن داود وسليمان عليهما السلام قد أبرز الفضل الرباني لهذين الرسولين الكريمين على أكثر من صعيد.
والنية متجهة بإذنه تعالى، إلى الاقتباس من أنوار الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، في هذه المقالات، حول هذين الرسولين العظيمين مبتدئاً بداود عليه السلام.

ففي الصحيحين وغيرهما، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: بَلَغَ النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، أَنِّي أَصُومُ أَسْرُدُ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِمّا أَرْسَلَ إلَيَّ وإمّا لَقِيتُهُ، فَقالَ: ( أَلَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ وَلا تُفْطِرُ، وَتُصَلِّي اللَّيْلَ؟ فلا تَفْعَلْ، فإنَّ لِعَيْنِكَ حَظًّا، وَلِنَفْسِكَ حَظًّا، وَلأَهْلِكَ حَظًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ، وَصُمْ مِن كُلِّ عَشَرَةِ أَيّامٍ يَوْمًا، وَلَكَ أَجْرُ تِسْعَةٍ)، قالَ: إنِّي أَجِدُنِي أَقْوى مِن ذلكَ، يا نَبِيَّ اللهِ، قالَ: ( فَصُمْ صِيامَ داوُدَ عليه السَّلامُ)، قالَ: وَكيفَ كانَ داوُدُ يَصُومُ يا نَبِيَّ اللهِ؟، قالَ: ( كانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلا يَفِرُّ إذا لاقى)، قالَ: مَن لي بهذِه، يا نَبِيَّ اللهِ؟.

لوحظ في هذا الحديث الشريف وغيره أيضاً، كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه بالتقويم والتصويب نزوع عدد من الصحابة الكرام للاستغراق التام في الشعائر التعبدية التطوعية من قيام وصيام إلى درجة الرهبنة، كما رأينا في قصة الرهط الثلاثة الذين قال أحدهم إنه يصوم الدهر ولا يفطر، وقال الآخر إنه يقوم الليل ولا يرقد، وقال الثالث إنه لا يتزوج النساء، فبين لهم الرسول سنته التي لا يحل لأحد أن يرغب عنها: أنه يصوم ويفطر، ويقوم ويرقد، ويتزوج النساء، وكذلك قصة سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما.
لكن ميزة هذا الحديث الذي بين أيدينا هو توجيه الأنظار إلى عبادة نبي الله داود عليه السلام دون سواه من الرسل الكرام، ذلك أن دين الله تعالى لا ينحصر بالشعائر التعبدية، حيث أكد حديث ( بُني الإسلام على خمس) أن هذه العبادات العظيمة، على أهميتها، ليست هي كل الإسلام بل هي أركانه وقواعده التي يقوم عليها بناؤه العظيم، وهو الخلافة في الأرض بكل ما تقتضيه من عمارة لها وإقامة للشريعة وما يستلزم ذلك من أعمال ونشاطات وحقوق وعلاقات، وما دام الحديث عن الخلافة فإن داود عليه السلام قد جعله الله خليفة بنص القرآن الكريم، وذلك يعني أن الاستغراق في الشعائر التعبدية هو تعطيل للغاية التي لأجلها استخلف الإنسان في الأرض.
وكأن القيام والصيام مقصودان لغيرهما بمعنى أن يكونا زاداً وعوناً للمسلم على أداء وظيفته ودوره المنوط به، كما في قوله تعالى ( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)، فإن زادا عن حدهما ضاع المقصد وحصل النقص وووقع الخلل والفساد، وفي بعض روايات هذا الحديث أنه لا صام من صام الدهر، ولا أفضل من صوم داود ولا من صلاته، وأن داود وهو على تلك السُّنة من العبادة كان لا يخلف الوعد، وهو معنى عظيم يلفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، أن مداومة القيام أو الصيام ستضعف صاحبها عن أداء واجباته، والوفاء بوعوده والتزاماته، وإضاعة حقوق مَن حوله، لا بل إنه عما قريب لن يقوى حتى على العبادة التي أراد المداومة عليها.
إن الخلافة في الأرض تقتضى المجاهدة الدائمة مع الكفر والظلم وإن مواصلة الصيام إضعاف للمسلم عن الصمود والثبات في وجه الأعداء، وقد روى أبو سعيد الخدري أنه كان مع النبي عليه السلام في جيش الفتح في رمضان ولما دنوا من مكة قالَ لهم عليه الصلاة والسلام:(إنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، والْفِطْرُ أَقْوى لَكُمْ، فأفْطِرُوا) رواه مسلم.

وفي ختام هذا الحديث حين يرشده الرسول عليه السلام إلى صيام داود، يسأل عبد الله بن عمرو: وَكيفَ كانَ داوُدُ يَصُومُ؟ يا نَبِيَّ اللهِ، قالَ: ( كانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلا يَفِرُّ إذا لاقى)، قالَ: مَن لي بهذِه يا نَبِيَّ اللهِ؟). وهذه العبارة ( من لي بهذه يا نبي الله؟) موافقة للنبي عليه السلام أن سرد الصيام إضعاف عن مجاهدة الأعداء ولن يستطيع الجمع بين الفضيلتين بهذه الطريقة إلا على طريقة داود عليه السلام.
وقتل داود جالوت

لكن حديث النبي عن داود أنه يصوم يوما ويفطر يوما، ( ولا يفر إذا لاقى)، يوجب علينا أن نتوقف عنده ملياً وننعم النظر فيه؛ لأنه كما سنكتشف ونفاجأ، يشكل واحدة من أبرز معالم شخصية داود عليه السلام، ذلك أن أول مشهد نتعرف فيه على هذا النبي الكريم هو مشهد قتله قائد الكفار جالوت، ( وقتل داود جالوت)، وهي عبارة جدُّ مكتنزة تستدعي شيئاً من البسط والتوضيح.
في قصة طالوت وجالوت الواردة في سورة البقرة، لا نجد ذكراً لداود عليه السلام إلا في الآية الأخيرة منها؛ لا في حوار ملأ بني إسرائيل مع نبيهم، ولا نكوصهم بعد كتابة القتال عليهم، ولا حين اعتراضهم على مُلك طالوت، ولا في سقوط الغالبية العظمى منهم في امتحان الشرب من النهر، لكننا من خلال هذا المشهد الأخير الذي لمع فيه نجم داود، بل سطعت شمسه عليه السلام، نستطيع بإذن الله أن نتخيل الكثير مما كان قبلها بأثر رجعي.

نستطيع أن نتوقع أن مجيء الملأ إلى النبي لتعيين ملك يقودهم للقتال في سبيل الله، كان بسبب وجود حراك مجتمعي يتشوق للجهاد ويتحرق للقتال في سبيل الله، وأن داود عليه السلام كان في الطليعة من هذا الحراك، ونستطيع أن نتوقع كذلك، أن داود عليه السلام لم ينكص عندما فرض القتال ولم يعترض على ملك طالوت بل بادر إلى الانحياز إليه واتباعه، وعندما قال طالوت لجنوده: ( إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم)، نستطيع أن نتوقع ودون أدنى شك، أن داود عليه السلام كان من القلة القليلة التي أخذت بالعزيمة فلم تطعم من الماء، ولم تقبل حتى برخصة الغرفة الواحدة، وعندما برزوا لجالوت وجنوده، وقال غالب جيش طالوت: ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)؛ نستطيع أن نتوقع، متيقنين، أن داود عليه السلام كان من الذين يظنون أنهم ملاقو الله فقالوا لرفقائهم: ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)، وأن هذا الصبر الذي برز في شخصية داود عليه السلام عند النهر وفي المعركة، كان نتاج تربية طويلة من القيام والصيام اللذين يشكلان زاداً ووقوداً وعونا، ولا يقفان عامل إعاقة ولا توهين وإضعاف.

ويتجلى وصف داود أنه لا يفر إذا لاقى، أكثر ما يتجلى، في قتله قائد الكفار جالوت، ومعنى ذلك أن داود عليه السلام قد وضع نصب عينيه منذ بداية المعركة، بل قبل ذلك بكثير، أن يستهدف رأس الكفر، وأنه قد استعد لذلك نفسياً، وهو يعلم تماماً أن الوصول إلى قائد الجيش دونه المخاطر والأهوال، ومع ذلك لا يكون منه عليه السلام إلا كل الجسارة والإقدام، حتى يمكّنه الله تعالى من رأسه على مرأى ومشهد من جند الإيمان وجند الكفر، ودع عنك مزاعم المقاليع، فإنها خيالات مريضة لقوم جبناء لا قبل لهم بالقتال والمواجهة، أرادوا أن يُسقطوا على داود من نقائصهم، وأن ينتقصوا من مناقبه بدعوى أنه فعل ذلك ليفوز بابنة طالوت ويرث الملك بعده، وأن الأمر تم عن بُعد برمية مقلاع، ولا مستند لمثل هذه الأقاويل في كتاب ولا سنة.
 
عودة
أعلى