سلسلة آيات ووقفات
آيات ووقفات (الحلقة الأولى)
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد فإنني أتشرف أيه الإخوة أن أتوقف معكم في تفسير بعض الآيات، ولآ أدعي أنني عالماً ، ولكن حسبي أن أجمع ما قاله العلماء ، وأضعه بين أيديكم ، بشرح عصري، وعبارات سهلة جلية، واسلوب مبسط ، ولعدم تفرغ الكثير منا لهذا الأمر ، وانشغالهم عن الجلوس في المكتبة سواء في المنزل ، أو خارجه، لذلك أحسست أن حاجة الأمة لتناول بعض معاني الآيات في أسطر قليلة في الصحيفة التي ضمت بين صفحاتها نور إيماني، وإشراقه مضيئة للحق ، وأهله ، وبصيص من الأمل لعل الله أن ينفع أمتنا بما نقول ونسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبن كثير رحمه الله في تفسير البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) افتتح بها الصحابة كتاب الله واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل ، وجاء في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم . أخرجه الحاكم في مستدركه.قال السعدي :أي أبتدئ بكل أسم لله تعالى ، وقد جاء في الحديث في صحيح البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه أن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً(1). وهكذا يتبين لنا أن هذا الفضل العظيم الذي منَّ الله به على عباده ، وأحسن إليهم بتعليمهم أياه ومن منا لا يريد أن لا يضره الشيطان ولا يضر أولاده، ولكن كثيراً من الناس يغفلون عن هذه التعاليم الربانية ، وعن هذا الهدي النبوي الذي أرشدنا إليه الرحمة المهداة للبشرية فحظ من أخذ من معينه ، ويا حسرة من أعرض عنه. (الرحمن الرحيم) قال السعدي :هما اسمان مشتقان من الرحمة والرحمن مشدد وفيه المبالغة أشد من الرحيم ، ونفهم من هذا أنه تعالى ذو الرحمة العظيمة التي وسعت كل شي، وعمت كل حي. قال ابن عباس : هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر أي أكثر رحمة. وهكذا يتبين لنا أن البسملة أمر له شأن عظيم ، وكذلك أسماءه الحسنى ومنها الرحمن والرحيم حينما تضاف إليها تكون ذا معنى أشمل وأوضح ، وعليه فإن على المسلم أن يكون متنبهاً لهذا الأمر ، وأن لا يغفل عن البسملة في أي شأن من شئون حياته.
الوقفات
1- البسملة شأنها عظيم في كل أمر.
2- ورد في الحديث أن سترنا عن أعين الجن قول بسم الله.
3- الحث على البسملة عند الجماع لكي نتجنب ذرية أبليس الذي أقسم بالذات الإلهية ليشارك آدم في ذريته وفي أموالهم ، فكم نرى والعياذ باله من الشباب الذي يكره الحق ، ومنغمس في الشهوات، وكم نرى من غرق في أوحال الربا والتي شاركهم أبليس في تلك الأموال وأضلهم عن طريق الهدى والصلاح.
4- كل عبد من عباد الله يرجوا الرحمة من الله عز وجل ، و قد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لن يدخل أحداً الجنة بعمله ، قالوا حتى أنت يا رسول الله قال حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته.
____________________
(1) صحيح البخاري (141). صحيح مسلم (1434).
_____________________________________
آيات ووقفات (الحلقة الثانية)
الحمد لله رب العالمين
الله عز وجل أنزل هذه السورة العظيمة، وفيها من الألفاظ العقائدية، والبلاغة الربانية، وتهذيب ألسننا ، وتعليم أنفسنا ، وخضوع أرواحنا لله عز وجل ، فعلمنا كيف الأدب مع الله ، فالحمد والثناء أولاً ، ثم الدعاء، وفيها أقسام التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبية، وتوحيد العبادة(الإلوهية) ، وتوحيد الأسماء والصفات، فلنتمعن في آياتها ، ونبحر في معانيها، ونستشف بعض أسرارها، ونغرف من منابعها الرقراقة، قال الله تعالى ( الحمد لله) وتعني هذه الكلمة الثناء على ربنا الله بصفات الكمال، والشكر لله خالصاً دون سائر ما يعبد من دونه. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ(2).
فلله الحمد والشكر والثناء الحسن على أكبر نعمة أنعم علينا بأن أنزل على رسوله قرأناً نتلوه ، ومنهجاً ننهجه، وعلماً ننهل منه، وشفاءً للأسقام، ونوراً للأفهام، وانشراحاً للصدور، ونوراً في القبور ، وشفيعاً لقارئه، وحجة للعبد أو عليه نسأل الله أن يجعله حجة لنا وقائدنا إلى الفردوس الأعلى من الجنة.
وقوله (رب العالمين ) فمعناها هو الرب المربي جميع العالمين ، وهم الذين أعد الله لهم النعم العظيمة ، والالاء الجسيمة، التي تستقيم بها الحياة، وتنعم بها البشرية، ونعمه كذلك على العالم الآخر عالم الجن، الذي يشاطر البشر في قوله تعالى ( سنفرغ لكم أيه الثقلان) وقول ( يا معشر الإنس والجن) وقول ( وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون) قهم مكلفون تماماً كالبشر ، فأيضاً لهم أرزاقهم ونعائم الله عليهم لا ينكر ذلك إلا كافر، فهم أيضاً من العالمين الذين ذكرهم الله في الآية، قال ابن كثير رحمه الله : ففي رواية سعيد بن جبير وعكرمة وعن ابن عباس : أي رب الجن والأنس . وقال الفراء وأبو عبيد: العالم عبارة عما يعقل وهم الأنس والجن والملائكة والشياطين. قال السعدي رحمه الله : للتربية الربانية نوعان عامة وخاصة ، فالعامة هي خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا، أما الخاصة فهي تربيته لأوليائه ، فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه. وهكذا يتبين لنا معنى من المعاني العظيمة، التي يقر الله فيها أن الفضل له والمنة علينا إذ أنه هو ربنا المربي لنا، والمعلم لنا، والهادي لنا، والذي أخرجنا بفضله وإحسانه من الظلمات إلى النور، وهدانا إلى صراطه المستقيم ، فهو الرب المعبود، والإله المألوه الذي تعبده هذه العوالم من الأنس والجن والملائكة والشياطين، و لكن الكثير من الناس لا يعترفون برب العالمين كالملاحدة وغيرهم من أصحاب العقائد الأرضية، الشيطان رغم عصيانه وتمرده على الله إلا أنه لا ينكر بأن الله هو رب العالمين ولكنه حينما تمرد وعصى أمر الله بالسجود لآدم أخرجه الله من جنته، وحل عليه غضب الرب ،ولكنه يعترف ويقر بان الله هو رب العالمين ولا ينكر هذا ، قال الله تبارك وتعالى ( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) وهذا لا ينكره أحد بأنه هو المعبود، أما الملحدين والعياذ بالله من حالهم فهم ينكرون الرب تبارك وتعالى فيقولون لا إله والحياة مادة. وتدل هذه الآية دلالة واضحة على إنفراد الله بالخلق وتدبيره لهم وإنعامه عليهم وهو سبحانه له كمال الغنى، والعباد مفتقرون إليه لقوله تعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) (1).
الوقفات
1- فضل سورة الفاتحة وأنها لا صحة لصلاة المرء إلا بها.
2- الرب سبحانه وتعالى هو المربي لنا بنعمه ومنها نعمة الإسلام الذي هدانا إليه بفضله وإحسانه.
3- التربية الربانية لنا حيث علمنا ربنا كيف نتأدب معه سبحانه فنحمده ونثني عليه ثم ندعوه.
________________
(2) صحيح : الألباني في صحيح الجامع (5563).
(1) سورة فاطر 15.
___________________________
آيات ووقفات (الحلقة الثالثة)
ننتقل الآن إلى المرحلة الثانية ، والجانب الآخر من هذه السورة، والذي نتعرف فيها على أسرار جديدة، وحكم عديدة، فبعدما علمنا الله عز وجل كيف نحمده ونثني عليه ، فيذكر لنا صفاته العظيمة، وهي الرحمة ، قال الله سبحانه وتعالى (الرحمن الرحيم) شرحت معناها في الحلقة الأولى ،ثم قال سبحانه (مالك يوم الدين) هو الملك المتصرف في عباده، ويظهر ملكه وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه ، وحكمه وعدله، في يوم الدين وهو يوم القيامة ، يوم الحساب على الأعمال التي قدمها العباد إما خيراً ، وإما شراً والعياذ بالله من سوء المنقلب. وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟" (2). الله أكبر هناك اليوم الفصل ، هناك تستوي البشرية ، فلا فرق بين راع ومرعي، ولا شريف ووضيع، ولا سيد وعبد، ولا غني وفقير، ولا خادم ومخدوم، الجميع سواسية في الحساب والجزاء ،يأخذ كل مظلوم حقه من ظالمه، الله هو الملك في هذا الكون ، ولكنه يتجلى ملكه في يوم القيامة بحكمه وعدله وقضائه، ويرون العباد كل ذلك مشاهدة ، قال تعالى (لقد كنت في غفلة من هذا فبصرك اليوم حديد).
الوقفات
1- ذكر الله سبحانه صفتين عظيمتين الرحمن والرحيم.
2- ذكر الله سبحانه ملكه وعظمته المتجلية في يوم الدين فلا ينفع ملوك الأرض ملكهم، ولن ينفع أي مخلوق مخلوق آخر بل الجميع تحت حكم ملك الملوك سبحانه وتعالى.
3- إثبات أن لله يد سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث ، ونثبت ذلك من غير تأويل(3) ، ولا تكييف(4) ، ولا تشبيه (5)، ولا تعطيل.
4- هذه الآيات تشعرنا بهول الموقف بين يدي الرب عز وجل، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ولكنه كما جاء في الحديث يخفف على المؤمنين كصلاة أحدكم .(6)
__________________
(2) صحيح : البخاري (7413) ، مسلم (2788). قال القاضي عياض في شرح هذا الحديث "في هذا الحديث يقبض ويطوي ، كله بمعنى الجمع، لأن السموات مبسوطة ، وألأرضين مدحوة وممدودة ، ثم يرجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة وتبديل الأرض غير الأرض والسموات ، فعاد كله إلى ضم بعضها إلى بعض ، ورفعها وتبديلها بغيرها.
(3) أي نفسرها كما نشاء.
(4) أي نقول كيف او نسأل عن كيفيتها.
(5) أي نشبهها بأيدينا مثلاً ، بل نقول (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). أنظر كتاب شرح العقيدة الواسطية- لمحمد بن عثيمين رحمه الله.
(6) أي قدر مدة وقوف المؤمنين يخفف حتى يصير مقدار صلاة فريضة في هذه الدنيا فلله الحمد والمنة.
______________________________________
آيات ووقفات (الحلقة الرابعة)
إياك نعبد وإياك نستعين
وننتقل الآن إلى المرحلة التربوية الربانية التي لفتنا الرب إليها، فكيف نستغيث به، وكيف نذكر أنفسنا ، ونذلها بين يديه، وكيف نبتهل إليه بصالح أعمالنا، إنها حقاً تربية عظيمة ، يذكرنا بها الرب جل وعلا، ويهذب نفوسنا بالتعلق به، واللجوء إليه لهذا قال سبحانه وكأنه يقول قولوا يا عبادي : (إياك نعبد وإياك نستعين) أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين بأحد سواك، وهذه التربية الربانية، من أجل السعادة الإنسانية، وإلا فالله عز وجل هو الغني ونحن الفقراء إليه، ولكنه سبحانه يربينا ، ويعلمنا كي تقوم علينا الحجة، فلا يلوم العبد بعد هذه التربية إلا نفسه، لأنه عرف طريق الحق، وطريق الضلال، وعرف الظلمات والنور، والشقاء والحبور، وما علمنا بتلك الأقوال والأفعال، وأرسل رسوله ، وانزل كتابه، إلا لكي نتبع المنهج الرباني الذي ارتضاه لعباده كي ننال مرضاته، ونصل إلى حبه ومغفرته، فمن للمسلمين من ناصر في حروبهم مع من اعتدى عليهم، وخرب دورهم ، وأهلك الحرث والنسل، من المستعان في قضاء الحوائج؟ وتفريج الكربات؟ وشفاء المرضى؟ والرحمة بالأموات؟ من يتولى تلك الشئون كلها غير الله الواحد القهار، علَّمنا ربنا كيف تكون العبادة لله وحده ، فهو الخالق الرازق، الناصر، المدبر للأمور كلها ، ومجيب المضطرين، وكاشف البلايا والمصائب، فتكون له وحده العبادة، والاستعانة جزء من العبادة فالعبادة أسم جامع لكمال المحبة لله والخضوع له والخوف منه.
الوقفات
1- الاستعانة جزء من العبادة ، ونوع من أنواعها الكثيرة ، فمن صرف نوعاً منها لغير الله فقد أشرك بالله عز وجل ، وكما هو معلوم (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
2- التربية الربانية أعظم حافزاً لنا للوصول إلى العمل الصالح الذي نعمله مخلصين فيه لوجه الله (1)عز وجل.
3- كمال الخضوع والاستغاثة بالعمل الصالح وتقرير العبودية الخالصة لله وحده جاءت كلها في هذه الآية.
________________
(1) قال الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله ومعنى يعمل المسلم العمل لوجه الله أي ليدخل الجنة فيرى وجه الله انتهى كلامه. وهذا معروف والدليل قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) ، وقال سبحانه (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) قال المفسرون الزيادة أي النظر إلى وجه الله عز وجل.، وقال سبحانه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون ) فرؤية المؤمنين لله ستكون حقيقة وشرفاً للمؤمنين ، ومن لا يؤمن بهذا فقد كفر. (كتاب شرح رياض الصالحين).
_____________________________________
آيات ووقفات (الحلقة الخامسة)
اهدنا الصراط المستقيم
وهذه لمحة أخرى من التربية الربانية لعباده المؤمنين كيف يكونون في جميع أحوالهم خاضعين لله، متذللين لعظمته، وناكسي رؤوسهم بين يديه، فماذا علمهم أن يقولوا بعدما أثنوا عليه وحمدوه وأجلَّوه؟ وقرروا أنهم عبيدٌ له وحده، لا يعبدون إلا الله، ولا يستعينون إلا به، أمرهم بأن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم، أي يارب اهدنا طريق الحق المبين ، طريق الهدى والصلاح ، طريق المغفرة والرحمة، الطريق المؤدي لرضا الرب وعفوه، وهو دين الإسلام. فما أحوجنا إلى هداية الله، وما أحوجنا إلى تعلم ديننا، وأركانه ووسائل الخير التي تدلنا على رضا ربنا، ما أحوجنا أن نعرف صراط الله المستقيم، ونعرف كيف سلكه الذين من قبلنا من السلف الصالح ، ما أحوج الأمة اليوم أن تعيش حياة الصالحين ، الذين أرادوا الخير فعملوه، وأرادوا السلام فحققوه، وأردوا الكرامة فنالوها، وذلك لأنهم اتبعوا ما يرضي الله فرضي الله عنهم، قال تعالى (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ، إنهم الذين سكبوا دمائهم في سبيل الله إرضاء لله ، ونشراً لدينه ، وليس كما يقول المستشرقون بأنهم نشروا الدين بالسيف ، فالسيف لا يدخل الإيمان في القلوب، ولكنهم عرضوا على رؤساء الكفار من فارس والروم، عرضوا عليهم أن يسمحوا لهم بتعليم الناس دين الإسلام، أو أن يدفعوا الجزية ، أو الحرب ، فكانت خياراتهم المتكبرة المتغطرسة دائماً تنادي بالحرب، فكان لهم ما اختاروه ، وماذا كانت النتيجة؟ هزمهم الله ، ونصر المؤمنين ، حتى وصل الإسلام إلى بقاع كثيرة من العالم، وهناك دول تدين بالإسلام اليوم لم ينتشر فيها الإسلام عن طريق معارك ، بل انتشر بأخلاق التجار المسلمين ، وهذه صفات العباد الصالحين الذين كانوا أمثلة رائعة في التحلي بالإسلام ديناً ، وخلقاً . قال السعدي رحمه الله "فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط فالهداية إلى الصراط لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علماً وعملاً".
الوقفات
1- تقرير ضعف وافتقار العبد لهداية الله، فكما قال ابن رواحه فوالله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا.
2- وجوب مسألة الله الهداية والصلاح لقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
3- تربية الله للمؤمنين أعظم مسألة ، وهي مسألته سبحانه الهداية والثبات على الصراط المستقيم ، وهو الإسلام فلله الحمد والمنة أن هدانا إلى الإسلام حيث نعبد الله وحده بدون وسطاء أو أولياء بيننا وبينه.
______________________________
آيات ووقفات (الحلقة السادسة)
صراط الذين أنعمت عليهم
ننتقل الآن إلى معرفة جديدة، وصفة مجيدة، لأي صراط يريد ربنا أن نسلكه، وأي هدى يريدنا أن نتبعه، وأي سلوك يريدنا سلوكه، هل هو سلوك عبدة البقر، أو سلوك عبدة العجل ، أو الساجدين لصنم العذراء مريم ، او صنم المسيح ، كما يزعمون، أو للصليب ، أو للكاهن، أي صراط يا رب تريد أن نتبعه ، هل هو سبيل عبدة بوذا، أو عبدة النار ، أو عبدة الشمس ، قال الله عز وجل (صراط الذين أنعمت عليهم) وهم النبيون والصديقون والصالحون، وقال وكيع هم المسلمون.الله أكبر آية واضحة المعالم، دقيقة اللفظ، محددة الهوية، آية توقظ القلوب، وتحفز الهمم، و تنور الأبصار، وتجلي الغشاوة ، آية تدفع المرء للتنافس مع إخوانه كي يصل إلى ما وصل إليه هؤلاء، آية تحرك الإيمان، وتجعل صاحب القلب السليم يزيد يقيناً بفضل الله، والغافل تجعله يصحوا من غفلته، ويندم لخطيئته، لقد علمنّا الله في هذه الآية أن هناك سبيل واحد يقودنا لرضاه سبحانه وتعالى ألا وهو سبيل المؤمنين الموحدين العبادة لله وحده لا شريك له، وهم النبيون من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، ومن تبعهم وصدقهم واتبع منهجهم، أما الذين يعتقدون أن ما يسمى في عصرنا الحاضر مسيحيون (والحقيقة أن الله سماهم نصارى) لزعمهم إتباعهم للمسيح عيسى ، فهم غير متبعي عيسى عليه الصلاة والسلام، والمسلمين هم حقيقة متبعي دين عيسى عليه السلام،لأن عيسى عليه السلام كان يدعوا لعبادة الله الواحد الأحد، ولكن كتب النصارى حرفت، وعقيدتهم تبدلت، وسير أنبياء الله شوهت، حيث قالوا زعماً منهم أن عيسى هو أبن الله ، وهذا زعم باطل ، وعقيدة باطلة، وإشراك بالله، وطمس لحقيقة التوحيد، فهم مشركون بالله ، حائدون عن الطريق القويم، والصراط المستقيم، قال تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وقال سبحانه يؤنب عيسى عليه السلام وهو سبحانه أعلم (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) فقال عيسى منكراً هذا الأمر( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم) وهذا بطبيعة الحال سيكون سؤالاً موجها لعيسى عليه السلام أمام تلك الملايين من البشر الذين أعدهم الله من أهل الظلال كما سيأتي في الآية القادمة. أما اليهود فهم الذين أفسدوا عقائد الناس، لحبهم للربا، وتمردهم وعصيانهم لأوامر الله ، فكانوا يشوهون في توراتهم الرب عز وجل (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) وكانوا يشوهون سمعة الأنبياء، ويتهمونهم بالزنا والجرائم التي لا تليق بالناس الأسوياء فضلاً عن الأنبياء، فقد اتهموا مريم العذراء بالزنا ، والقصة معروفة حين برأها الله بكلام أبنها عيسى في المهد، وقد قالوا عن نبي الله لوط أنه ضاجع ابنتيه بعدما شرب الخمر وسكر، ولا يزال الكثير يعتقد أن هذه آية من آيات الإنجيل ، وهذا والعياذ بالله من الجهل وإلا كيف يليق أن يتكلم الرب بهذا الكلام ، أو يصف أحد أنبيائه بهذه الصفة، ويؤمنون بقناعة وجود هذا ، ولما أرادوا أن يخرج نبي الله الذي وعدهم ربهم بخروجه من مكة ، زوجوا بناتهم للعرب في مكة ، وجنوب الجزيرة ، وفي المدينة المنورة وغيرها كي تأتي الرسالة مرة أخرى من بني إسرائيل، و يكون النبي من سلالتهم ، ولكن الله نزع الرسالة منهم لعدم كفاءتهم، لها ولشدة إعراضهم عن أوامر الله، فكانت الرسالة لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو يأتي نسبه من إسماعيل أبن إبراهيم وأمه هاجر ، ولم يأتي هذه المرة نبي من بشارة الله لإبراهيم وهو أبنه إسحق الذي ينحدر من سلالته كل اليهود ، لذلك حقد اليهود على نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام، حتى أتى المنافقين وعلى رأسهم عبد الله ابن أبي أبن سلول الذي أسلم نفاقاً ، وحرف المفاهيم الإسلامية ، حتى غلا في الخلافة فقال بفرضية وجوب أحقيتها لآل البيت حتى افترقت الأمة فأصبح سنة وشيعة ، وتمزق الصف الإسلامي، وظهرت الفرق المختلفة ، وتفرعت ، ولكن بقي المؤمنون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم أهل السنة والجماعة بقوا على الحق المبين، والصراط المستقيم.
الوقفات
1- تعليم الرب لنبيه وأمة محمد التهذب في السؤال الموجه للرب سبحانه وتعالى ، وهو الهداية للصراط المستقيم.
2- تعليم الرب لنا عن طريق نبيه أوصاف الذين أنعم الله عليهم قال تعالى (أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً) فهذه تفسر قوله تعالى أنعمت عليهم.
3- تبين هذه الآية نعمة الله وفضله و هدايته لعباده الصالحين وحثهم على سلوك مسالكهم للنجاة يوم القيامة والخلود في الجنة.
_______________________________________
آيات ووقفات ( الحلقة السابعة)
غير المغضوب عليهم ولا الضالين
بعدما بين الله لنا صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وعرفنا أن لا نجاة لنا إلا بإتباع منهجهم ، وسلوك مسلكهم، جاءت هذه الآية بالصفة الأخرى والجانب الثاني ، النقيض تماماً لأهل الهدى والحق، فالمغضوب عليهم هم اليهود ، فلم يتعظوا بالمواعظ، ولم يقروا بنعم الله عليهم، ولم يحترموا أنبيائهم ، بل ظاهروهم بالعداء ، وبارزوهم بالحرب، وجزوا رأسي نبي الله زكريا، وأبنه يحيى عليهما السلام، ولما نجا الله موسى من البحر ورأوا أناس يعبدون أصناماً لهم ، سألوا موسى أن يجعل لهم آلهة مثلهم، وأرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسحره لبيد بن الأعصم بأثر من شعره ورماه بمشطه في بئر ذروان، وسممته اليهودية في ذراع الشاة الذي ظلت تلك الغدرة تضايقه عليه الصلاة والسلام حتى مات، وذلك ليموت عليه الصلاة والسلام شهيداً ، ويكون قدوة لنا في الشهادة، تلك الأعمال وتلك السبل كانت سبباً في غضب الله على اليهود ، وحل بهم ذلك الغضب لأسباب كثيرة سنجدها إن شاء الله في بقية السور، أما (الضالين) فهم النصارى الذين ضلوا عن دينهم ، واتبعوا أهوائهم، فالكثير منهم يعرف أن دين الإسلام هو دين الحق ، وأن محمد خاتم النبيين خصوصاً في زماننا هذا الذي كثرت فيه الكتب ، والمعارف ، واختلطت الشعوب ببعضها، وانتشر العلم في مجالات كثيرة، وأصبح الذي في المشرق يعرف ماذا يحدث في المغرب ، عن طريق وسائل الإعلام ، والكتب والاتصالات، ولكنهم أعرضوا عن كل ذلك تعصباً لتأريخهم الأسود ، الذي جاء بالكوارث، والمصائب على المسلمين ، فهم لا يرون أن يدخلوا دين الإسلام فهو يحرمهم من كبريائهم، وزعاماتهم ، وشهواتهم، فالإسلام في نظر الكثير منهم عائقاً أمام الكثير من الشهوات التي يريدون أن يفصلوا بين دين الله وبين شئون الحياة فصلاً تاماً ، فالربا يؤيدونه، والزنا لا حكم ولا حد على من فعله، واللواط حرية شخصية ، وهناك المنظمات واللجان ، والمحاكم التي تعقد الزواج للوطيين ، نعوذ بالله من الضلال.
قال ابن كثير في معنى الآية : أي غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق.
الوقفات
1- تقرير غضب الله على اليهود لتمردهم على أوامر الله وقتل أنبياءه.
2- التحذير من سلوك أو إتباع نهج اليهود والنصارى، ولقد جاء في آيات عدة حرصهم على إضلالنا كقوله تعالى (وودوا لو تكفرون) وقال سبحانه (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم) وقال سبحانه (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) فهذه الآيات تكشف لنا مكائدهم وإراداتهم الحثيثة على إفساد عقيدتنا النقية الصحيحة.
3- تقرير ضلال النصارى فاليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه، والنصارى ضلوا الطريق وجهلوه لكنهم لا يعذرون الآن مع الانفتاح العالمي ، وثورة الاتصالات ، وتواصل الشعوب، وانتشار وسائل الإعلام، فأصبحت تلك الوسائل كلها حجة عليهم ، لأن فيها إشارات وبرامج ، ومواقع دينية بلغات مختلفة تنشر دين الإسلام.
4- الحق هو ما جاء به الأنبياء كلهم ، ولكن اليهود هم من تسبب في إلحاق التحريف في التوراة والإنجيل ، ففسدت عقائدهم ، وحفظ الله القرآن الكريم.
______________________________________
آيات ووقفات (الحلقة الثامنة)
سورة البقرة
ألم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين (2)
ألم الله العالم بمعناها، وقال المفسرون أن تلك الحروف التي جاءت في مقدمة بعض السور، إنما هي تعجيز لكفار قريش الذين لم يؤمنوا بالقرآن الكريم ، وكذبوا به ، بل حتى أنهم كانوا يقفون في الطرقات ويحذرون الناس أن لا يستمعوا لمحمد ، ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه) كانت تلك هي الأساليب العدوانية، والسلوكيات الشائنة، والأعمال القبيحة التي استقبلوا بها محمد وأصحابه ، وعملوا كل فضيع، واقترفوا كل شنيع، ومزقوا جلود العبيد بالسياط، لأنهم وحدوا الله عز وجل، وأتبعوا سبيل الرشاد، لأنهم خرجوا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فيقول الله هذه الأحرف تعجيزاً لهم ، إن كنتم تقولون إن هذا القرآن أساطير الأولين ( فأتوا بسورة من مثله) فاستخدموا مثل هذه الأحرف ، وأتوا بكتاب مثله، وذلك تعجيزاً لهم ولن يستطيعوا قال تعالى( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ) وقال سبحانه ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) لقمان 27. لذلك فالله عز وجل أنزل هذا الكتاب معجزة خارقة، وهداية باهرة ، وشفاء لما في الصدور، ونوراً وبهاء، ويقيناً وضياء، طمأنينة لقلوب المؤمنين، وتعريف لهم بوعد الله ووعيده.ثم قال الله تعالى عن كتابه العزيز (ذلك الكتاب ) أي هذا الكتاب وهو القرآن ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الكتاب الذي شرح الله به صدور العباد، وعرف الناس بأنه الوحي المنزل من الله عز وجل، فأسلموا ، واهتدوا ، لا ريب فيه ولا شك ، فهو الحق المبين نزله الله على نبيه محمد بواسطة الملك جبريل عليه السلام قال تعالى ( وقرأنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً) وقال سبحانه ( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) البقرة97. وهذا دليل على تنزيل القرآن ، وتلقين جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أمياً لا يكتب ، ولكنه يحفظ القرآن حينما يسمعه من جبريل ، إلى أن جمع القرآن في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي عهد الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، فلله الحمد والمنة، وقوله تعالى هدى للمتقين فيه إقرار من الرب تبارك وتعالى على أن هذا القرآن هدىً للمتقين ، سبحان الله وهل المتقي يحتاج هداية، فهو مهتدي ولكن أقول إن الإنسان مهما بلغ من قوة الإيمان، ودرجات الإحسان، وثقل الميزان بالدرجات، فهو ليس بمعصوم ، وليس منزه من الخطأ والمعصية، بل هو معرض لكل ذلك، لذلك فإن الإيمان يزيد وينقص عند المسلم، فذكرنا الله سبحانه في هذه الآية أن من أخذ بتعاليم القرآن ، ورفع به رأسه استفاد من هدايته ، وكان تقياً متبعاً لأوامر ربه ، ومجتنباً لنهيه. قال السعدي فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية، ولن الهداية نوعان : هداية البيان، وهداية التوفيق، فالمتقون حصلت لهم الهدايتان وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق ، وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ليست هداية حقيقية تامة.لذلك فالتقوى أمرها عظيم، فبها تتهذب النفس ، وتستقيم الروح، وبها تعرف النفس قدر خالقها، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : و التقوى أن يعمل الرجل بطاعة الله على نور من الله يرجو رحمة الله وأن يترك معصية الله على نور من الله يخاف عذاب الله ولا يتقرب إلى الله إلا بأداء فرائضه ثم بأداء نوافله قال تعالى ( وما تقرب إلي عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه .. الحديث )(1). إذاً التقوى ركيزة من ركائز العمل الصالح ، وهي الدافع والحافز لكل عمل فيه الخير ، وترك الإثم ، وعلى ذلك يكون المسلم طوال حياته إن كان يريد سعادة الدارين، قال تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) ، وكذلك قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن 16 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ولا يعاقب من لم يتق وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهؤلاء إنما قالوا هذا لأن القدرية والمعتزلة وغيرهم قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل لتكون صالحة للضدين الفعل والترك وأما حين الفعل فلا يكون إلا الفعل فزعموا أو من زعم منهم أنه حينئذ لا يكون قادرا لأن القادر لا بد أن يقدر على الفعل والترك وحين الفعل لا يكون قادرا على الترك فلا يكون قادرا وأما أهل السنة فإنهم يقولون لا بد أن يكون قادرا حين الفعل ثم أئمتهم قالوا ويكون أيضا قادرا قبل الفعل وقالت طائفة منهم لا يكون قادرا إلا حين الفعل وهؤلاء يقولون إن القدرة لا تصلح للضدين عندهم فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل وهي مستلزمة له لا توجد بدونه إذ لو صلحت للضدين على وجه البدل أمكن وجودها مع عدم أحد الضدين والمقارن للشيء مستلزم له لا يوجد مع عدمه فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع وما قالته القدرية فهو بناء على أصلهم الفاسد وهو أن إقدار الله المؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان بل يقولون إن إعانته للمطيع والعاصي سواء ولكن هذا بنفسه رجح الطاعة وهذا بنفسه رجح المعصية كالوالد الذي أعطى كل واحد من ابنيه سيفا فهذا جاهد به في سبيل الله وهذا قطع به الطريق أو أعطاهما مالا فهذا أنفقه في سبيل الله وهذا أنفقه في سبيل الشيطان وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع المؤمن نعمة دينية خصه بها دون الكافر وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات 7 فبين أنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فالقدرية(1) تقول هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق أو هو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين ولهذا قال أولئك هم الراشدون والكفار ليسوا راشدين وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام 125 ، و قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم فكل من كان أتقى كان أفضل مطلقا وإذا تساوى اثنان في التقوى استويا في الفضل سواء كانا أو أحدهما غنيين أو فقيرين أو أحدهما غنيا والآخر فقيرا وسواء كانا أو أحدهما عربيين أو أعجميين أو قرشيين أو هاشميين أو كان أحدهما من صنف والآخر من صنف آخر وإن قدر أن أحدهما له من سبب الفضيلة ومظنتها ما ليس للآخر فإذا كان ذاك قد أتى بحقيقة الفضيلة كان أفضل ممن لم يأت بحقيقتها وإن كان أقدر على الإتيان بها فالعالم خير من الجاهل وإن كان الجاهل أقدر على تحصيل العلم والبر أفضل من الفاجر وإن كان الفاجر أقدر على البر ، والمؤمن الضعيف خير من الكافر القوى وإن كان ذاك يقدر على الإيمان أكثر من المؤمن القوي وبهذا تزول شبه كثيرة تعرض في مثل هذه الأمور(2).
وقال ابن تيمية أيضاً : " أن التقوى وتصفية القلب من اعظم الأسباب على نيل العلم لكن لا بد من الاعتصام بالكتاب والسنة في العلم والعمل ولا يمكن ان احدا بعد الرسول يعلم ما اخبر به الرسول من الغيب بنفسه بلا واسطة الرسول ولا يستغني احد في معرفة الغيب عما جاء به الرسول وكلام الرسول مبين للحق بنفسه ليس كشف احد ولا قياسه عيارا عليه فما وافق كشف الانسان وقياسه وافقه وما لم يكن كذلك خالفه بل ما يسمى كشفا وقياسا هو مخالف للرسول فهذا قياس فاسد وخيال فاسد وهو الذي يقال فيه نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي(3). وقد تكلم في فضل التقوى الكثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين، وصنفت فيها المصنفات، وأرجوا أن تكون اتضحت معانيها في هذه الجمل.
الوقفات
1- عرفنا الرب سبحانه وتعالى على أن القرآن الكريم هو الكتاب الذي لا شك ولا مرية بأنه منزل من الله على نبيه محمد.
2- إخبار الله سبحانه وتعالى أن المؤمنين المتقين هم الذين يهتدون بكتاب الله.
3- من شك أو أعتقد أن هناك تشريع أو قانون(4) ، أو حكم أفضل مما جاء في القرآن فقد كفر لقوله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).
_____________________________
(1) القدرية : الذين يجعلون أفعال العبد خارجة عن قدرة الله وخلقه وملكه.
(2) منهاج السنة النبوية 3/42.
(3) الرد على المنطقيين 1/511.
(4) كالذين ينادون بالتعددية الحزبية في الحكم، والديمقراطية ، والانتخابات وغيرها كل ذلك مخالف للإسلام لأن حكم الإسلام يكون عن مبايعة أهل الحل والعقد ، ومجلس شورى المسلمين ، باختيار من هو أهلٌ للحكم الإسلامي الذي يكون من خيار القوم من العلماء المخلصين لدينهم ورعاياهم فيتم مبايعته، وليس كما ينادي البعض بالمشاركة من جميع الأطراف والمذاهب والنحل.
_______________________________________
آيات ووقفات (الحلقة التاسعة)
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
وهذه هي الصفة الثانية التي أمتدح الله بها عبده المؤمنين ، الأتقياء الأوفياء، فوصفهم بأنهم (يؤمنون بالغيب) والغيب كل ما غاب من الأشياء غير المشاهدة، والتصديق التام بما أخبرت به الرسل، ولا يشاهد بالحس ، فهذا الفرق بين المسلم والكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله (1) فالمؤمن يؤمن بصفات الله ووجودها ويتيقنها، حتى لو لم يفهم كيفيتها. ثم قال (ويقيمون الصلاة) ويكون إقامتها بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها، هذه إقامة الصلاة، وليس مجرد أدائها، وهذا هو الفرق ، والتفاضل بين المؤمنين في تلك الميزة ، التي خص الله بها عباده المتقين، لهذا وجب على المسلم أن يؤدي الصلاة، ويقيمها مع جماعة المسلمين بكامل أركانها وشروطها كي ينال الأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت) (2). ثم قال سبحانه (ومما رزقناهم ينفقون) ومعناها من ما رزقناهم أي ينفقون النفقات الواجبة كالزكاة، والنفقة على الأهل، وكذلك النفقات المستحبة في أوجه الخير، لهذا جاء بمن التبعيضية أي جزء بسيط من أموالكم، ولكنه خير كثير. وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوَّه أو فصيله (3). وعن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل" (4). وفي هذين الحديثين دلالة واضحة جلية عن فضل الصدقة، ولو بالشيء اليسير، ولو علم أصحاب الأموال بتلك المنزلة العالية، والثواب الجزيل ، والعطاء العظيم ، من الرب الرحيم، وبلوغ الجنة بالعمل اليسير مثل الصدقة لما بخلوا بأموالهم التي والله أنهم سيحاسبون عليها من أين أتت وفيما أنفقت، فمن أنفقها في سبل الخير، وتجهيز الغزاة في سبيل الله، وإغاثة الفقراء ، وإطعام الجياع، أو المساهمة في طباعة الكتب الطيبة، ودعم مراكز الدعوة، والمدارس الدينية في أنحاء العالم ، كل ذلك من أعظم القربات إلى الله (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما نقص مال من صدقة).
الوقفات
1- تقرير الإيمان بالغيب ويكون بالتصديق التام بكل ما أخبرت به الرسل مما لم نشاهدهم من الجنة والنار ، و حياة البرزخ في القبر، وعذاب القبر والنار، ونعيم المؤمنين الأبرار، ودقة الصراط ، ونعيم الجنة، وسعة الكرسي، وكبر راس الكافر، وعمق قعر جهنم، وأنهار الجنة، وغساق النار وغيرها.
2- إن أداء الصلاة يكون في إقامة أركانها شروطها وواجباتها وليس في السجود والركوع دونما خشوع وسكينة ، وتكون إقامتها في بيوت الله مع جماعة المسلمين.
3- الزكاة فريضة وركن من أركان الإسلام من تركها كفر، وقد عرفنا في السيرة النبوية كيف أن الصديق الخليفة أبا بكر رضي الله عنه قاتل المرتدين الكفار الذين تركوا دفع الزكاة، قال له عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا قلوها عصموا مني دمائهم.. الحديث) فقال القائد المظفر، الخليفة الراشد أبا بكر : " والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" وقال " والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه" فالمؤمنين الصادقين يدفعون الزكاة ، وكذلك يتصدقون على المحتاجين المعوزين.
___________________
(1) من كلام السعدي رحمه الله بتصرف.
(2) صحيح : البخاري (8) ، مسلم (16).
(3) صحيح : مسلم (1014) ومعنى فلوَّه أي المهر الصغير، وفصيلة أي البعير المفصول عن أمه. قال القاضي عياض عبر باليمين هنا عن جهة القبول والرضا إذ الشمال بضده في هذا قال: المراد بكف الرحمن هنا ويمينه كف الذي تدفع إليه الصدقة، وإضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة فيها لله عز وجل. قال : وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجبل أن المراد بذلك تعظيم أجرها وتضعيف ثوابها، قال : ويصح أن يكون على ظاهره ، وأن تعظم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان، وهذا الحديث نحو قول الله تعالى (يمحق الله الربا ويربي الصدقات).
(4) صحيح : مسلم (1016). قال النووي رحمه الله وفيه الحث على الصدقة، وشق التمرة نصفها وجانبها، وأنه لا يمتنع منها لقلتها وأن قليلها سبب للنجاة من النار.
__________________________________________________
آيات ووقفات (الحلقة العاشرة)
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون
بعدما قرأنا ، وعرفنا صفات المؤمنين الذين امتدحهم الرب جل وعلا، بأنهم يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة، ويدفعون أموالهم في سبل الخير من زكاة ، أو صدقة، أتى الله بهذه الآية ، وفيها صفات أخرى ، تقرب إلى أفهامنا صفات أهل الحق الذين أحبوا الله ، وأحبهم الله،فهم المؤمنين الذين يؤمنون بالكتاب الذي أنزل الله عليك، والحكمة (السنة النبوية) التي علمك الله إياها، كما قال سبحانه وتعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تعلم ) (1). وهذه لمحة أخرى، وصفة فضلى ، وخلة حميدة، يتصف بها عباد الله المتقين ، الذين يؤمنون بكتاب الله المجيد، ومعاني آياته، ومعالم هداياته، ومقاصد عباراته، يؤمنون بأن هذا القرآن هو كلام الله الرب العظيم الذي أوحاه إلى نبيه عن طريق جبريل عليهما الصلاة والسلام، لذلك فهم يعظمون آياته ، ويدرسون معانيها، ويقدسون أسرارها، ويحكمون بموجبها، ويتعاملون مع الخلق وفقاً لتعاليمها، على منهج أهل السنة والجماعة، ويؤمنون كذلك بالحكمة وهي السنة النبوية المتمثلة في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقواله فلا علم للمؤمنين بكيفية الصلاة، وصفات الركوع والسجود، وكم ركعات الصلوات، وكيفية الوضوء، ومتى أوقات الصلوات إلا بفهم صحيح للأحاديث النبوية، والهدي النبوي الذي كان حاضراً مع الصحابة يعلمهم تلك الأمور كلها، وكان يقول صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، فمن لا يؤمن بذلك ويتبع سبيلاً غير هذا ، ويؤمن بالقرآن ولا يؤمن بالحكمة فهو كافر ، لانتفاء إيمانه بالهدي النبوي قولاً وعملاً. وكذلك يقتضي إيمان أولئك المتقين الإيمان بالكتب السماوية المنزلة من الله سبحانه على أنبيائه الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، قال تعالى (وما أنزل من قبلك ) ويتضمن هذا الإيمان بجميع الكتب ، وجميع النبيين ، وهذه صفة أخرى لعباد الله المتقين ، وذلك لتصديقهم بنزول تلك الكتب ، وبعثة أولئك الرسل إلى قومهم، أما نبي الله محمد فقد بعثه الله للناس أجمعين قال تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (2). لذا فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله إلى جميع البشر.
ومن صفات المؤمنين المتقين أيضاً أنهم (وبالآخرة هم يوقنون) أي إنهم يؤمنون باليوم الآخر وما فيه من الجزاء والنكال، والثواب والعقاب، والسعادة والشقاء، وأصحاب النعيم، وأشقياء الجحيم، والآتيان بجهنم، وسجود الأنبياء، وذلة العصاة، وتبيض الوجوه المؤمنة، وتسود الوجوه الكافرة، يؤمنون برؤية الله، ويكلمهم الله سبحانه من غير ترجمان، كل بلغته ويقرهم بأعمالهم، ويؤمنون بتطاير الصحف ، فتؤخذ باليمين أو بالشمال، أو من وراء الظهور ، فلما أيقنوا بحدوث ذلك من إخبار الله لنا ورسوله في القرآن والسنة ، ولما عرفوا واستيقنت قلوبهم (3) بحدوث كل ذلك ، كان ذلك ركناً ركيناً من أركان الإيمان الستة، وأضحى من أعظم الدوافع للقيام بالأعمال الصالحة رهبة ورغبة لما عند الله.
الوقفات
1- تقرير الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من جميع البشر ، فلا حجة اليوم لأحد فالأغلبية الآن من الناس يعرف أو يسمع عن دين الإسلام.
2- تقرير الإيمان بالكتب السماوية كلها، بأنها أنزلت في وقت ما على أنبياء الله، ولكن هل بقيت على حالها، هل ما في أيدي اليهود والنصارى الآن من كتب هل هي نفس الكتب السماوية المنزلة، كلا فالقرآن يكذب زيفهم ويكفر منهجهم، في قوله ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون).
3- وجوب الإيمان بالآخرة وما فيها يقيناً وتلك صفة من صفات المؤمنين.
_________________
(1) سورة آل عمران 113.
(2) سورة الأنبياء 107.
(3) قال السعدي رحمه الله واليقين : هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك الموجب للعمل.
______________
آيات ووقفات (الحلقة الحادية عشر)
إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (7)
خلق الله عز وجل الإنسان ، وأعطاه الحواس كي تدرك ما ينفعه فيأخذ به، ويترك ما يضره ويبتعد عنه ، فمن استمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و عرف الحق ، وبلاغة القرآن ، واهتدى بهديه، أفلح ونجا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، والعرب كان معلوم لديهم الشعر، فكان بمثابة الإعلام في عصرنا الحاضر، وكان مهماً جداً في نظرهم، فلما سمعوا القرآن عرفوا بأن ذلك ليس شعراً ، وليس بطلاسم المشعوذين والسحرة، وإن فيه من البيان العظيم، والفصاحة البليغة، واخبار الأمم السابقة، لذلك أسلم الكثير ممن فتح الله على قلوبهم، وأنار بصائرهم ، أما الذين أعرضوا عن سماع الحق، وتولوا عن مخالطة الصحابة الذين اعتبروهم في زعمهم صابئة لأنهم تركوا دين آبائهم ، وانخرطوا في دين لم تعترف به قلوب كفار قريش كفراً وجحوداً ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألم على حالهم ، وهو الرحمة المهداة للبشرية ، صلى الله عليه وسلم ، ولكنه كان يسليه ربه ويقول له (إنما عليك البلاغ) ويقول سبحانه (إنك لا تهدي من أحببت) ويقول سبحانه ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون أهواءهم ) (1). ويقول سبحانه ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) (2). لذلك جاءت هذه الآية في شدة المعترك بين الحق والباطل، وبين نصرة الحق وأهله، ودحض الباطل وأهله ، وكانت الفرقان بينهما ، فجاء فيها وصف هؤلاء الكفار المعاندين لدين الله ، وأعني هنا أن كفار قريش كانوا وثنيين يعبدون الأصنام ، وهي في واقع الأمر كانت صوراً منحوتة في الصخور لرجال صالحين كانوا يعبدون الله على دين الحنيفية ، دين إبراهيم عليه السلام، ولكن مع طول الأمد ، وغواية الشيطان لهم ، أخذوا يعتقدون فيها وأنها تقربهم إلى الله ببركة أصحابها الصالحين، فأخذوا يقربون القرابين لها ، ويعبدونها مع الله ، فأصبحوا بذلك مشركين ، فمنهم من أسلم مع النبي ، ومنهم من بقي على كفره وعناده، فقال الله سبحانه وتعالى (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) أي الأمر عندهم سيَّان لأنهم لم ترد قلوبهم سماع الحق ولا إتباعه.
الوقفات
1- الكفر هو الغطاء الذي يغطي القلب فهؤلاء مغطاة قلوبهم عن الحق.
2- مهمة الرسل البلاغ فقط ، وفي هذا درس للدعاة لدين الله.
3- الران الذي على قلوب الكفار من شدة إعراضهم عن دين الله جعل قلوبهم منكرة للحق مقبلة على الباطل فأصبحت الأمور لديها متشابهة سواء دعيت وأنذرت أم لم تنذر فلن تفتح للإيمان.
______________
(1) سورة القصص : 50.
(2) سورة فاطر: 8.
_____________
آيات ووقفات (الحلقة الأولى)
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد فإنني أتشرف أيه الإخوة أن أتوقف معكم في تفسير بعض الآيات، ولآ أدعي أنني عالماً ، ولكن حسبي أن أجمع ما قاله العلماء ، وأضعه بين أيديكم ، بشرح عصري، وعبارات سهلة جلية، واسلوب مبسط ، ولعدم تفرغ الكثير منا لهذا الأمر ، وانشغالهم عن الجلوس في المكتبة سواء في المنزل ، أو خارجه، لذلك أحسست أن حاجة الأمة لتناول بعض معاني الآيات في أسطر قليلة في الصحيفة التي ضمت بين صفحاتها نور إيماني، وإشراقه مضيئة للحق ، وأهله ، وبصيص من الأمل لعل الله أن ينفع أمتنا بما نقول ونسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبن كثير رحمه الله في تفسير البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) افتتح بها الصحابة كتاب الله واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل ، وجاء في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم . أخرجه الحاكم في مستدركه.قال السعدي :أي أبتدئ بكل أسم لله تعالى ، وقد جاء في الحديث في صحيح البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه أن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً(1). وهكذا يتبين لنا أن هذا الفضل العظيم الذي منَّ الله به على عباده ، وأحسن إليهم بتعليمهم أياه ومن منا لا يريد أن لا يضره الشيطان ولا يضر أولاده، ولكن كثيراً من الناس يغفلون عن هذه التعاليم الربانية ، وعن هذا الهدي النبوي الذي أرشدنا إليه الرحمة المهداة للبشرية فحظ من أخذ من معينه ، ويا حسرة من أعرض عنه. (الرحمن الرحيم) قال السعدي :هما اسمان مشتقان من الرحمة والرحمن مشدد وفيه المبالغة أشد من الرحيم ، ونفهم من هذا أنه تعالى ذو الرحمة العظيمة التي وسعت كل شي، وعمت كل حي. قال ابن عباس : هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر أي أكثر رحمة. وهكذا يتبين لنا أن البسملة أمر له شأن عظيم ، وكذلك أسماءه الحسنى ومنها الرحمن والرحيم حينما تضاف إليها تكون ذا معنى أشمل وأوضح ، وعليه فإن على المسلم أن يكون متنبهاً لهذا الأمر ، وأن لا يغفل عن البسملة في أي شأن من شئون حياته.
الوقفات
1- البسملة شأنها عظيم في كل أمر.
2- ورد في الحديث أن سترنا عن أعين الجن قول بسم الله.
3- الحث على البسملة عند الجماع لكي نتجنب ذرية أبليس الذي أقسم بالذات الإلهية ليشارك آدم في ذريته وفي أموالهم ، فكم نرى والعياذ باله من الشباب الذي يكره الحق ، ومنغمس في الشهوات، وكم نرى من غرق في أوحال الربا والتي شاركهم أبليس في تلك الأموال وأضلهم عن طريق الهدى والصلاح.
4- كل عبد من عباد الله يرجوا الرحمة من الله عز وجل ، و قد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لن يدخل أحداً الجنة بعمله ، قالوا حتى أنت يا رسول الله قال حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته.
____________________
(1) صحيح البخاري (141). صحيح مسلم (1434).
_____________________________________
آيات ووقفات (الحلقة الثانية)
الحمد لله رب العالمين
الله عز وجل أنزل هذه السورة العظيمة، وفيها من الألفاظ العقائدية، والبلاغة الربانية، وتهذيب ألسننا ، وتعليم أنفسنا ، وخضوع أرواحنا لله عز وجل ، فعلمنا كيف الأدب مع الله ، فالحمد والثناء أولاً ، ثم الدعاء، وفيها أقسام التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبية، وتوحيد العبادة(الإلوهية) ، وتوحيد الأسماء والصفات، فلنتمعن في آياتها ، ونبحر في معانيها، ونستشف بعض أسرارها، ونغرف من منابعها الرقراقة، قال الله تعالى ( الحمد لله) وتعني هذه الكلمة الثناء على ربنا الله بصفات الكمال، والشكر لله خالصاً دون سائر ما يعبد من دونه. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ(2).
فلله الحمد والشكر والثناء الحسن على أكبر نعمة أنعم علينا بأن أنزل على رسوله قرأناً نتلوه ، ومنهجاً ننهجه، وعلماً ننهل منه، وشفاءً للأسقام، ونوراً للأفهام، وانشراحاً للصدور، ونوراً في القبور ، وشفيعاً لقارئه، وحجة للعبد أو عليه نسأل الله أن يجعله حجة لنا وقائدنا إلى الفردوس الأعلى من الجنة.
وقوله (رب العالمين ) فمعناها هو الرب المربي جميع العالمين ، وهم الذين أعد الله لهم النعم العظيمة ، والالاء الجسيمة، التي تستقيم بها الحياة، وتنعم بها البشرية، ونعمه كذلك على العالم الآخر عالم الجن، الذي يشاطر البشر في قوله تعالى ( سنفرغ لكم أيه الثقلان) وقول ( يا معشر الإنس والجن) وقول ( وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون) قهم مكلفون تماماً كالبشر ، فأيضاً لهم أرزاقهم ونعائم الله عليهم لا ينكر ذلك إلا كافر، فهم أيضاً من العالمين الذين ذكرهم الله في الآية، قال ابن كثير رحمه الله : ففي رواية سعيد بن جبير وعكرمة وعن ابن عباس : أي رب الجن والأنس . وقال الفراء وأبو عبيد: العالم عبارة عما يعقل وهم الأنس والجن والملائكة والشياطين. قال السعدي رحمه الله : للتربية الربانية نوعان عامة وخاصة ، فالعامة هي خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا، أما الخاصة فهي تربيته لأوليائه ، فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه. وهكذا يتبين لنا معنى من المعاني العظيمة، التي يقر الله فيها أن الفضل له والمنة علينا إذ أنه هو ربنا المربي لنا، والمعلم لنا، والهادي لنا، والذي أخرجنا بفضله وإحسانه من الظلمات إلى النور، وهدانا إلى صراطه المستقيم ، فهو الرب المعبود، والإله المألوه الذي تعبده هذه العوالم من الأنس والجن والملائكة والشياطين، و لكن الكثير من الناس لا يعترفون برب العالمين كالملاحدة وغيرهم من أصحاب العقائد الأرضية، الشيطان رغم عصيانه وتمرده على الله إلا أنه لا ينكر بأن الله هو رب العالمين ولكنه حينما تمرد وعصى أمر الله بالسجود لآدم أخرجه الله من جنته، وحل عليه غضب الرب ،ولكنه يعترف ويقر بان الله هو رب العالمين ولا ينكر هذا ، قال الله تبارك وتعالى ( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين) وهذا لا ينكره أحد بأنه هو المعبود، أما الملحدين والعياذ بالله من حالهم فهم ينكرون الرب تبارك وتعالى فيقولون لا إله والحياة مادة. وتدل هذه الآية دلالة واضحة على إنفراد الله بالخلق وتدبيره لهم وإنعامه عليهم وهو سبحانه له كمال الغنى، والعباد مفتقرون إليه لقوله تعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) (1).
الوقفات
1- فضل سورة الفاتحة وأنها لا صحة لصلاة المرء إلا بها.
2- الرب سبحانه وتعالى هو المربي لنا بنعمه ومنها نعمة الإسلام الذي هدانا إليه بفضله وإحسانه.
3- التربية الربانية لنا حيث علمنا ربنا كيف نتأدب معه سبحانه فنحمده ونثني عليه ثم ندعوه.
________________
(2) صحيح : الألباني في صحيح الجامع (5563).
(1) سورة فاطر 15.
___________________________
آيات ووقفات (الحلقة الثالثة)
ننتقل الآن إلى المرحلة الثانية ، والجانب الآخر من هذه السورة، والذي نتعرف فيها على أسرار جديدة، وحكم عديدة، فبعدما علمنا الله عز وجل كيف نحمده ونثني عليه ، فيذكر لنا صفاته العظيمة، وهي الرحمة ، قال الله سبحانه وتعالى (الرحمن الرحيم) شرحت معناها في الحلقة الأولى ،ثم قال سبحانه (مالك يوم الدين) هو الملك المتصرف في عباده، ويظهر ملكه وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه ، وحكمه وعدله، في يوم الدين وهو يوم القيامة ، يوم الحساب على الأعمال التي قدمها العباد إما خيراً ، وإما شراً والعياذ بالله من سوء المنقلب. وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟" (2). الله أكبر هناك اليوم الفصل ، هناك تستوي البشرية ، فلا فرق بين راع ومرعي، ولا شريف ووضيع، ولا سيد وعبد، ولا غني وفقير، ولا خادم ومخدوم، الجميع سواسية في الحساب والجزاء ،يأخذ كل مظلوم حقه من ظالمه، الله هو الملك في هذا الكون ، ولكنه يتجلى ملكه في يوم القيامة بحكمه وعدله وقضائه، ويرون العباد كل ذلك مشاهدة ، قال تعالى (لقد كنت في غفلة من هذا فبصرك اليوم حديد).
الوقفات
1- ذكر الله سبحانه صفتين عظيمتين الرحمن والرحيم.
2- ذكر الله سبحانه ملكه وعظمته المتجلية في يوم الدين فلا ينفع ملوك الأرض ملكهم، ولن ينفع أي مخلوق مخلوق آخر بل الجميع تحت حكم ملك الملوك سبحانه وتعالى.
3- إثبات أن لله يد سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث ، ونثبت ذلك من غير تأويل(3) ، ولا تكييف(4) ، ولا تشبيه (5)، ولا تعطيل.
4- هذه الآيات تشعرنا بهول الموقف بين يدي الرب عز وجل، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ولكنه كما جاء في الحديث يخفف على المؤمنين كصلاة أحدكم .(6)
__________________
(2) صحيح : البخاري (7413) ، مسلم (2788). قال القاضي عياض في شرح هذا الحديث "في هذا الحديث يقبض ويطوي ، كله بمعنى الجمع، لأن السموات مبسوطة ، وألأرضين مدحوة وممدودة ، ثم يرجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة وتبديل الأرض غير الأرض والسموات ، فعاد كله إلى ضم بعضها إلى بعض ، ورفعها وتبديلها بغيرها.
(3) أي نفسرها كما نشاء.
(4) أي نقول كيف او نسأل عن كيفيتها.
(5) أي نشبهها بأيدينا مثلاً ، بل نقول (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). أنظر كتاب شرح العقيدة الواسطية- لمحمد بن عثيمين رحمه الله.
(6) أي قدر مدة وقوف المؤمنين يخفف حتى يصير مقدار صلاة فريضة في هذه الدنيا فلله الحمد والمنة.
______________________________________
آيات ووقفات (الحلقة الرابعة)
إياك نعبد وإياك نستعين
وننتقل الآن إلى المرحلة التربوية الربانية التي لفتنا الرب إليها، فكيف نستغيث به، وكيف نذكر أنفسنا ، ونذلها بين يديه، وكيف نبتهل إليه بصالح أعمالنا، إنها حقاً تربية عظيمة ، يذكرنا بها الرب جل وعلا، ويهذب نفوسنا بالتعلق به، واللجوء إليه لهذا قال سبحانه وكأنه يقول قولوا يا عبادي : (إياك نعبد وإياك نستعين) أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين بأحد سواك، وهذه التربية الربانية، من أجل السعادة الإنسانية، وإلا فالله عز وجل هو الغني ونحن الفقراء إليه، ولكنه سبحانه يربينا ، ويعلمنا كي تقوم علينا الحجة، فلا يلوم العبد بعد هذه التربية إلا نفسه، لأنه عرف طريق الحق، وطريق الضلال، وعرف الظلمات والنور، والشقاء والحبور، وما علمنا بتلك الأقوال والأفعال، وأرسل رسوله ، وانزل كتابه، إلا لكي نتبع المنهج الرباني الذي ارتضاه لعباده كي ننال مرضاته، ونصل إلى حبه ومغفرته، فمن للمسلمين من ناصر في حروبهم مع من اعتدى عليهم، وخرب دورهم ، وأهلك الحرث والنسل، من المستعان في قضاء الحوائج؟ وتفريج الكربات؟ وشفاء المرضى؟ والرحمة بالأموات؟ من يتولى تلك الشئون كلها غير الله الواحد القهار، علَّمنا ربنا كيف تكون العبادة لله وحده ، فهو الخالق الرازق، الناصر، المدبر للأمور كلها ، ومجيب المضطرين، وكاشف البلايا والمصائب، فتكون له وحده العبادة، والاستعانة جزء من العبادة فالعبادة أسم جامع لكمال المحبة لله والخضوع له والخوف منه.
الوقفات
1- الاستعانة جزء من العبادة ، ونوع من أنواعها الكثيرة ، فمن صرف نوعاً منها لغير الله فقد أشرك بالله عز وجل ، وكما هو معلوم (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
2- التربية الربانية أعظم حافزاً لنا للوصول إلى العمل الصالح الذي نعمله مخلصين فيه لوجه الله (1)عز وجل.
3- كمال الخضوع والاستغاثة بالعمل الصالح وتقرير العبودية الخالصة لله وحده جاءت كلها في هذه الآية.
________________
(1) قال الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله ومعنى يعمل المسلم العمل لوجه الله أي ليدخل الجنة فيرى وجه الله انتهى كلامه. وهذا معروف والدليل قوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) ، وقال سبحانه (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) قال المفسرون الزيادة أي النظر إلى وجه الله عز وجل.، وقال سبحانه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون ) فرؤية المؤمنين لله ستكون حقيقة وشرفاً للمؤمنين ، ومن لا يؤمن بهذا فقد كفر. (كتاب شرح رياض الصالحين).
_____________________________________
آيات ووقفات (الحلقة الخامسة)
اهدنا الصراط المستقيم
وهذه لمحة أخرى من التربية الربانية لعباده المؤمنين كيف يكونون في جميع أحوالهم خاضعين لله، متذللين لعظمته، وناكسي رؤوسهم بين يديه، فماذا علمهم أن يقولوا بعدما أثنوا عليه وحمدوه وأجلَّوه؟ وقرروا أنهم عبيدٌ له وحده، لا يعبدون إلا الله، ولا يستعينون إلا به، أمرهم بأن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم، أي يارب اهدنا طريق الحق المبين ، طريق الهدى والصلاح ، طريق المغفرة والرحمة، الطريق المؤدي لرضا الرب وعفوه، وهو دين الإسلام. فما أحوجنا إلى هداية الله، وما أحوجنا إلى تعلم ديننا، وأركانه ووسائل الخير التي تدلنا على رضا ربنا، ما أحوجنا أن نعرف صراط الله المستقيم، ونعرف كيف سلكه الذين من قبلنا من السلف الصالح ، ما أحوج الأمة اليوم أن تعيش حياة الصالحين ، الذين أرادوا الخير فعملوه، وأرادوا السلام فحققوه، وأردوا الكرامة فنالوها، وذلك لأنهم اتبعوا ما يرضي الله فرضي الله عنهم، قال تعالى (رضي الله عنهم ورضوا عنه) ، إنهم الذين سكبوا دمائهم في سبيل الله إرضاء لله ، ونشراً لدينه ، وليس كما يقول المستشرقون بأنهم نشروا الدين بالسيف ، فالسيف لا يدخل الإيمان في القلوب، ولكنهم عرضوا على رؤساء الكفار من فارس والروم، عرضوا عليهم أن يسمحوا لهم بتعليم الناس دين الإسلام، أو أن يدفعوا الجزية ، أو الحرب ، فكانت خياراتهم المتكبرة المتغطرسة دائماً تنادي بالحرب، فكان لهم ما اختاروه ، وماذا كانت النتيجة؟ هزمهم الله ، ونصر المؤمنين ، حتى وصل الإسلام إلى بقاع كثيرة من العالم، وهناك دول تدين بالإسلام اليوم لم ينتشر فيها الإسلام عن طريق معارك ، بل انتشر بأخلاق التجار المسلمين ، وهذه صفات العباد الصالحين الذين كانوا أمثلة رائعة في التحلي بالإسلام ديناً ، وخلقاً . قال السعدي رحمه الله "فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط فالهداية إلى الصراط لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علماً وعملاً".
الوقفات
1- تقرير ضعف وافتقار العبد لهداية الله، فكما قال ابن رواحه فوالله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا.
2- وجوب مسألة الله الهداية والصلاح لقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
3- تربية الله للمؤمنين أعظم مسألة ، وهي مسألته سبحانه الهداية والثبات على الصراط المستقيم ، وهو الإسلام فلله الحمد والمنة أن هدانا إلى الإسلام حيث نعبد الله وحده بدون وسطاء أو أولياء بيننا وبينه.
______________________________
آيات ووقفات (الحلقة السادسة)
صراط الذين أنعمت عليهم
ننتقل الآن إلى معرفة جديدة، وصفة مجيدة، لأي صراط يريد ربنا أن نسلكه، وأي هدى يريدنا أن نتبعه، وأي سلوك يريدنا سلوكه، هل هو سلوك عبدة البقر، أو سلوك عبدة العجل ، أو الساجدين لصنم العذراء مريم ، او صنم المسيح ، كما يزعمون، أو للصليب ، أو للكاهن، أي صراط يا رب تريد أن نتبعه ، هل هو سبيل عبدة بوذا، أو عبدة النار ، أو عبدة الشمس ، قال الله عز وجل (صراط الذين أنعمت عليهم) وهم النبيون والصديقون والصالحون، وقال وكيع هم المسلمون.الله أكبر آية واضحة المعالم، دقيقة اللفظ، محددة الهوية، آية توقظ القلوب، وتحفز الهمم، و تنور الأبصار، وتجلي الغشاوة ، آية تدفع المرء للتنافس مع إخوانه كي يصل إلى ما وصل إليه هؤلاء، آية تحرك الإيمان، وتجعل صاحب القلب السليم يزيد يقيناً بفضل الله، والغافل تجعله يصحوا من غفلته، ويندم لخطيئته، لقد علمنّا الله في هذه الآية أن هناك سبيل واحد يقودنا لرضاه سبحانه وتعالى ألا وهو سبيل المؤمنين الموحدين العبادة لله وحده لا شريك له، وهم النبيون من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، ومن تبعهم وصدقهم واتبع منهجهم، أما الذين يعتقدون أن ما يسمى في عصرنا الحاضر مسيحيون (والحقيقة أن الله سماهم نصارى) لزعمهم إتباعهم للمسيح عيسى ، فهم غير متبعي عيسى عليه الصلاة والسلام، والمسلمين هم حقيقة متبعي دين عيسى عليه السلام،لأن عيسى عليه السلام كان يدعوا لعبادة الله الواحد الأحد، ولكن كتب النصارى حرفت، وعقيدتهم تبدلت، وسير أنبياء الله شوهت، حيث قالوا زعماً منهم أن عيسى هو أبن الله ، وهذا زعم باطل ، وعقيدة باطلة، وإشراك بالله، وطمس لحقيقة التوحيد، فهم مشركون بالله ، حائدون عن الطريق القويم، والصراط المستقيم، قال تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وقال سبحانه يؤنب عيسى عليه السلام وهو سبحانه أعلم (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) فقال عيسى منكراً هذا الأمر( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم) وهذا بطبيعة الحال سيكون سؤالاً موجها لعيسى عليه السلام أمام تلك الملايين من البشر الذين أعدهم الله من أهل الظلال كما سيأتي في الآية القادمة. أما اليهود فهم الذين أفسدوا عقائد الناس، لحبهم للربا، وتمردهم وعصيانهم لأوامر الله ، فكانوا يشوهون في توراتهم الرب عز وجل (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) وكانوا يشوهون سمعة الأنبياء، ويتهمونهم بالزنا والجرائم التي لا تليق بالناس الأسوياء فضلاً عن الأنبياء، فقد اتهموا مريم العذراء بالزنا ، والقصة معروفة حين برأها الله بكلام أبنها عيسى في المهد، وقد قالوا عن نبي الله لوط أنه ضاجع ابنتيه بعدما شرب الخمر وسكر، ولا يزال الكثير يعتقد أن هذه آية من آيات الإنجيل ، وهذا والعياذ بالله من الجهل وإلا كيف يليق أن يتكلم الرب بهذا الكلام ، أو يصف أحد أنبيائه بهذه الصفة، ويؤمنون بقناعة وجود هذا ، ولما أرادوا أن يخرج نبي الله الذي وعدهم ربهم بخروجه من مكة ، زوجوا بناتهم للعرب في مكة ، وجنوب الجزيرة ، وفي المدينة المنورة وغيرها كي تأتي الرسالة مرة أخرى من بني إسرائيل، و يكون النبي من سلالتهم ، ولكن الله نزع الرسالة منهم لعدم كفاءتهم، لها ولشدة إعراضهم عن أوامر الله، فكانت الرسالة لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو يأتي نسبه من إسماعيل أبن إبراهيم وأمه هاجر ، ولم يأتي هذه المرة نبي من بشارة الله لإبراهيم وهو أبنه إسحق الذي ينحدر من سلالته كل اليهود ، لذلك حقد اليهود على نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام، حتى أتى المنافقين وعلى رأسهم عبد الله ابن أبي أبن سلول الذي أسلم نفاقاً ، وحرف المفاهيم الإسلامية ، حتى غلا في الخلافة فقال بفرضية وجوب أحقيتها لآل البيت حتى افترقت الأمة فأصبح سنة وشيعة ، وتمزق الصف الإسلامي، وظهرت الفرق المختلفة ، وتفرعت ، ولكن بقي المؤمنون أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم أهل السنة والجماعة بقوا على الحق المبين، والصراط المستقيم.
الوقفات
1- تعليم الرب لنبيه وأمة محمد التهذب في السؤال الموجه للرب سبحانه وتعالى ، وهو الهداية للصراط المستقيم.
2- تعليم الرب لنا عن طريق نبيه أوصاف الذين أنعم الله عليهم قال تعالى (أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً) فهذه تفسر قوله تعالى أنعمت عليهم.
3- تبين هذه الآية نعمة الله وفضله و هدايته لعباده الصالحين وحثهم على سلوك مسالكهم للنجاة يوم القيامة والخلود في الجنة.
_______________________________________
آيات ووقفات ( الحلقة السابعة)
غير المغضوب عليهم ولا الضالين
بعدما بين الله لنا صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وعرفنا أن لا نجاة لنا إلا بإتباع منهجهم ، وسلوك مسلكهم، جاءت هذه الآية بالصفة الأخرى والجانب الثاني ، النقيض تماماً لأهل الهدى والحق، فالمغضوب عليهم هم اليهود ، فلم يتعظوا بالمواعظ، ولم يقروا بنعم الله عليهم، ولم يحترموا أنبيائهم ، بل ظاهروهم بالعداء ، وبارزوهم بالحرب، وجزوا رأسي نبي الله زكريا، وأبنه يحيى عليهما السلام، ولما نجا الله موسى من البحر ورأوا أناس يعبدون أصناماً لهم ، سألوا موسى أن يجعل لهم آلهة مثلهم، وأرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسحره لبيد بن الأعصم بأثر من شعره ورماه بمشطه في بئر ذروان، وسممته اليهودية في ذراع الشاة الذي ظلت تلك الغدرة تضايقه عليه الصلاة والسلام حتى مات، وذلك ليموت عليه الصلاة والسلام شهيداً ، ويكون قدوة لنا في الشهادة، تلك الأعمال وتلك السبل كانت سبباً في غضب الله على اليهود ، وحل بهم ذلك الغضب لأسباب كثيرة سنجدها إن شاء الله في بقية السور، أما (الضالين) فهم النصارى الذين ضلوا عن دينهم ، واتبعوا أهوائهم، فالكثير منهم يعرف أن دين الإسلام هو دين الحق ، وأن محمد خاتم النبيين خصوصاً في زماننا هذا الذي كثرت فيه الكتب ، والمعارف ، واختلطت الشعوب ببعضها، وانتشر العلم في مجالات كثيرة، وأصبح الذي في المشرق يعرف ماذا يحدث في المغرب ، عن طريق وسائل الإعلام ، والكتب والاتصالات، ولكنهم أعرضوا عن كل ذلك تعصباً لتأريخهم الأسود ، الذي جاء بالكوارث، والمصائب على المسلمين ، فهم لا يرون أن يدخلوا دين الإسلام فهو يحرمهم من كبريائهم، وزعاماتهم ، وشهواتهم، فالإسلام في نظر الكثير منهم عائقاً أمام الكثير من الشهوات التي يريدون أن يفصلوا بين دين الله وبين شئون الحياة فصلاً تاماً ، فالربا يؤيدونه، والزنا لا حكم ولا حد على من فعله، واللواط حرية شخصية ، وهناك المنظمات واللجان ، والمحاكم التي تعقد الزواج للوطيين ، نعوذ بالله من الضلال.
قال ابن كثير في معنى الآية : أي غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق.
الوقفات
1- تقرير غضب الله على اليهود لتمردهم على أوامر الله وقتل أنبياءه.
2- التحذير من سلوك أو إتباع نهج اليهود والنصارى، ولقد جاء في آيات عدة حرصهم على إضلالنا كقوله تعالى (وودوا لو تكفرون) وقال سبحانه (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم) وقال سبحانه (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) فهذه الآيات تكشف لنا مكائدهم وإراداتهم الحثيثة على إفساد عقيدتنا النقية الصحيحة.
3- تقرير ضلال النصارى فاليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه، والنصارى ضلوا الطريق وجهلوه لكنهم لا يعذرون الآن مع الانفتاح العالمي ، وثورة الاتصالات ، وتواصل الشعوب، وانتشار وسائل الإعلام، فأصبحت تلك الوسائل كلها حجة عليهم ، لأن فيها إشارات وبرامج ، ومواقع دينية بلغات مختلفة تنشر دين الإسلام.
4- الحق هو ما جاء به الأنبياء كلهم ، ولكن اليهود هم من تسبب في إلحاق التحريف في التوراة والإنجيل ، ففسدت عقائدهم ، وحفظ الله القرآن الكريم.
______________________________________
آيات ووقفات (الحلقة الثامنة)
سورة البقرة
ألم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين (2)
ألم الله العالم بمعناها، وقال المفسرون أن تلك الحروف التي جاءت في مقدمة بعض السور، إنما هي تعجيز لكفار قريش الذين لم يؤمنوا بالقرآن الكريم ، وكذبوا به ، بل حتى أنهم كانوا يقفون في الطرقات ويحذرون الناس أن لا يستمعوا لمحمد ، ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه) كانت تلك هي الأساليب العدوانية، والسلوكيات الشائنة، والأعمال القبيحة التي استقبلوا بها محمد وأصحابه ، وعملوا كل فضيع، واقترفوا كل شنيع، ومزقوا جلود العبيد بالسياط، لأنهم وحدوا الله عز وجل، وأتبعوا سبيل الرشاد، لأنهم خرجوا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فيقول الله هذه الأحرف تعجيزاً لهم ، إن كنتم تقولون إن هذا القرآن أساطير الأولين ( فأتوا بسورة من مثله) فاستخدموا مثل هذه الأحرف ، وأتوا بكتاب مثله، وذلك تعجيزاً لهم ولن يستطيعوا قال تعالى( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ) وقال سبحانه ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) لقمان 27. لذلك فالله عز وجل أنزل هذا الكتاب معجزة خارقة، وهداية باهرة ، وشفاء لما في الصدور، ونوراً وبهاء، ويقيناً وضياء، طمأنينة لقلوب المؤمنين، وتعريف لهم بوعد الله ووعيده.ثم قال الله تعالى عن كتابه العزيز (ذلك الكتاب ) أي هذا الكتاب وهو القرآن ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الكتاب الذي شرح الله به صدور العباد، وعرف الناس بأنه الوحي المنزل من الله عز وجل، فأسلموا ، واهتدوا ، لا ريب فيه ولا شك ، فهو الحق المبين نزله الله على نبيه محمد بواسطة الملك جبريل عليه السلام قال تعالى ( وقرأنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً) وقال سبحانه ( قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) البقرة97. وهذا دليل على تنزيل القرآن ، وتلقين جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أمياً لا يكتب ، ولكنه يحفظ القرآن حينما يسمعه من جبريل ، إلى أن جمع القرآن في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي عهد الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، فلله الحمد والمنة، وقوله تعالى هدى للمتقين فيه إقرار من الرب تبارك وتعالى على أن هذا القرآن هدىً للمتقين ، سبحان الله وهل المتقي يحتاج هداية، فهو مهتدي ولكن أقول إن الإنسان مهما بلغ من قوة الإيمان، ودرجات الإحسان، وثقل الميزان بالدرجات، فهو ليس بمعصوم ، وليس منزه من الخطأ والمعصية، بل هو معرض لكل ذلك، لذلك فإن الإيمان يزيد وينقص عند المسلم، فذكرنا الله سبحانه في هذه الآية أن من أخذ بتعاليم القرآن ، ورفع به رأسه استفاد من هدايته ، وكان تقياً متبعاً لأوامر ربه ، ومجتنباً لنهيه. قال السعدي فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية، ولن الهداية نوعان : هداية البيان، وهداية التوفيق، فالمتقون حصلت لهم الهدايتان وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق ، وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ليست هداية حقيقية تامة.لذلك فالتقوى أمرها عظيم، فبها تتهذب النفس ، وتستقيم الروح، وبها تعرف النفس قدر خالقها، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : و التقوى أن يعمل الرجل بطاعة الله على نور من الله يرجو رحمة الله وأن يترك معصية الله على نور من الله يخاف عذاب الله ولا يتقرب إلى الله إلا بأداء فرائضه ثم بأداء نوافله قال تعالى ( وما تقرب إلي عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه .. الحديث )(1). إذاً التقوى ركيزة من ركائز العمل الصالح ، وهي الدافع والحافز لكل عمل فيه الخير ، وترك الإثم ، وعلى ذلك يكون المسلم طوال حياته إن كان يريد سعادة الدارين، قال تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) ، وكذلك قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن 16 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ولا يعاقب من لم يتق وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهؤلاء إنما قالوا هذا لأن القدرية والمعتزلة وغيرهم قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل لتكون صالحة للضدين الفعل والترك وأما حين الفعل فلا يكون إلا الفعل فزعموا أو من زعم منهم أنه حينئذ لا يكون قادرا لأن القادر لا بد أن يقدر على الفعل والترك وحين الفعل لا يكون قادرا على الترك فلا يكون قادرا وأما أهل السنة فإنهم يقولون لا بد أن يكون قادرا حين الفعل ثم أئمتهم قالوا ويكون أيضا قادرا قبل الفعل وقالت طائفة منهم لا يكون قادرا إلا حين الفعل وهؤلاء يقولون إن القدرة لا تصلح للضدين عندهم فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل وهي مستلزمة له لا توجد بدونه إذ لو صلحت للضدين على وجه البدل أمكن وجودها مع عدم أحد الضدين والمقارن للشيء مستلزم له لا يوجد مع عدمه فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع وما قالته القدرية فهو بناء على أصلهم الفاسد وهو أن إقدار الله المؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان بل يقولون إن إعانته للمطيع والعاصي سواء ولكن هذا بنفسه رجح الطاعة وهذا بنفسه رجح المعصية كالوالد الذي أعطى كل واحد من ابنيه سيفا فهذا جاهد به في سبيل الله وهذا قطع به الطريق أو أعطاهما مالا فهذا أنفقه في سبيل الله وهذا أنفقه في سبيل الشيطان وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع المؤمن نعمة دينية خصه بها دون الكافر وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات 7 فبين أنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فالقدرية(1) تقول هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق أو هو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين ولهذا قال أولئك هم الراشدون والكفار ليسوا راشدين وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام 125 ، و قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم فكل من كان أتقى كان أفضل مطلقا وإذا تساوى اثنان في التقوى استويا في الفضل سواء كانا أو أحدهما غنيين أو فقيرين أو أحدهما غنيا والآخر فقيرا وسواء كانا أو أحدهما عربيين أو أعجميين أو قرشيين أو هاشميين أو كان أحدهما من صنف والآخر من صنف آخر وإن قدر أن أحدهما له من سبب الفضيلة ومظنتها ما ليس للآخر فإذا كان ذاك قد أتى بحقيقة الفضيلة كان أفضل ممن لم يأت بحقيقتها وإن كان أقدر على الإتيان بها فالعالم خير من الجاهل وإن كان الجاهل أقدر على تحصيل العلم والبر أفضل من الفاجر وإن كان الفاجر أقدر على البر ، والمؤمن الضعيف خير من الكافر القوى وإن كان ذاك يقدر على الإيمان أكثر من المؤمن القوي وبهذا تزول شبه كثيرة تعرض في مثل هذه الأمور(2).
وقال ابن تيمية أيضاً : " أن التقوى وتصفية القلب من اعظم الأسباب على نيل العلم لكن لا بد من الاعتصام بالكتاب والسنة في العلم والعمل ولا يمكن ان احدا بعد الرسول يعلم ما اخبر به الرسول من الغيب بنفسه بلا واسطة الرسول ولا يستغني احد في معرفة الغيب عما جاء به الرسول وكلام الرسول مبين للحق بنفسه ليس كشف احد ولا قياسه عيارا عليه فما وافق كشف الانسان وقياسه وافقه وما لم يكن كذلك خالفه بل ما يسمى كشفا وقياسا هو مخالف للرسول فهذا قياس فاسد وخيال فاسد وهو الذي يقال فيه نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي(3). وقد تكلم في فضل التقوى الكثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين، وصنفت فيها المصنفات، وأرجوا أن تكون اتضحت معانيها في هذه الجمل.
الوقفات
1- عرفنا الرب سبحانه وتعالى على أن القرآن الكريم هو الكتاب الذي لا شك ولا مرية بأنه منزل من الله على نبيه محمد.
2- إخبار الله سبحانه وتعالى أن المؤمنين المتقين هم الذين يهتدون بكتاب الله.
3- من شك أو أعتقد أن هناك تشريع أو قانون(4) ، أو حكم أفضل مما جاء في القرآن فقد كفر لقوله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).
_____________________________
(1) القدرية : الذين يجعلون أفعال العبد خارجة عن قدرة الله وخلقه وملكه.
(2) منهاج السنة النبوية 3/42.
(3) الرد على المنطقيين 1/511.
(4) كالذين ينادون بالتعددية الحزبية في الحكم، والديمقراطية ، والانتخابات وغيرها كل ذلك مخالف للإسلام لأن حكم الإسلام يكون عن مبايعة أهل الحل والعقد ، ومجلس شورى المسلمين ، باختيار من هو أهلٌ للحكم الإسلامي الذي يكون من خيار القوم من العلماء المخلصين لدينهم ورعاياهم فيتم مبايعته، وليس كما ينادي البعض بالمشاركة من جميع الأطراف والمذاهب والنحل.
_______________________________________
آيات ووقفات (الحلقة التاسعة)
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
وهذه هي الصفة الثانية التي أمتدح الله بها عبده المؤمنين ، الأتقياء الأوفياء، فوصفهم بأنهم (يؤمنون بالغيب) والغيب كل ما غاب من الأشياء غير المشاهدة، والتصديق التام بما أخبرت به الرسل، ولا يشاهد بالحس ، فهذا الفرق بين المسلم والكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله (1) فالمؤمن يؤمن بصفات الله ووجودها ويتيقنها، حتى لو لم يفهم كيفيتها. ثم قال (ويقيمون الصلاة) ويكون إقامتها بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها، هذه إقامة الصلاة، وليس مجرد أدائها، وهذا هو الفرق ، والتفاضل بين المؤمنين في تلك الميزة ، التي خص الله بها عباده المتقين، لهذا وجب على المسلم أن يؤدي الصلاة، ويقيمها مع جماعة المسلمين بكامل أركانها وشروطها كي ينال الأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت) (2). ثم قال سبحانه (ومما رزقناهم ينفقون) ومعناها من ما رزقناهم أي ينفقون النفقات الواجبة كالزكاة، والنفقة على الأهل، وكذلك النفقات المستحبة في أوجه الخير، لهذا جاء بمن التبعيضية أي جزء بسيط من أموالكم، ولكنه خير كثير. وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوَّه أو فصيله (3). وعن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل" (4). وفي هذين الحديثين دلالة واضحة جلية عن فضل الصدقة، ولو بالشيء اليسير، ولو علم أصحاب الأموال بتلك المنزلة العالية، والثواب الجزيل ، والعطاء العظيم ، من الرب الرحيم، وبلوغ الجنة بالعمل اليسير مثل الصدقة لما بخلوا بأموالهم التي والله أنهم سيحاسبون عليها من أين أتت وفيما أنفقت، فمن أنفقها في سبل الخير، وتجهيز الغزاة في سبيل الله، وإغاثة الفقراء ، وإطعام الجياع، أو المساهمة في طباعة الكتب الطيبة، ودعم مراكز الدعوة، والمدارس الدينية في أنحاء العالم ، كل ذلك من أعظم القربات إلى الله (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما نقص مال من صدقة).
الوقفات
1- تقرير الإيمان بالغيب ويكون بالتصديق التام بكل ما أخبرت به الرسل مما لم نشاهدهم من الجنة والنار ، و حياة البرزخ في القبر، وعذاب القبر والنار، ونعيم المؤمنين الأبرار، ودقة الصراط ، ونعيم الجنة، وسعة الكرسي، وكبر راس الكافر، وعمق قعر جهنم، وأنهار الجنة، وغساق النار وغيرها.
2- إن أداء الصلاة يكون في إقامة أركانها شروطها وواجباتها وليس في السجود والركوع دونما خشوع وسكينة ، وتكون إقامتها في بيوت الله مع جماعة المسلمين.
3- الزكاة فريضة وركن من أركان الإسلام من تركها كفر، وقد عرفنا في السيرة النبوية كيف أن الصديق الخليفة أبا بكر رضي الله عنه قاتل المرتدين الكفار الذين تركوا دفع الزكاة، قال له عمر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا قلوها عصموا مني دمائهم.. الحديث) فقال القائد المظفر، الخليفة الراشد أبا بكر : " والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" وقال " والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه" فالمؤمنين الصادقين يدفعون الزكاة ، وكذلك يتصدقون على المحتاجين المعوزين.
___________________
(1) من كلام السعدي رحمه الله بتصرف.
(2) صحيح : البخاري (8) ، مسلم (16).
(3) صحيح : مسلم (1014) ومعنى فلوَّه أي المهر الصغير، وفصيلة أي البعير المفصول عن أمه. قال القاضي عياض عبر باليمين هنا عن جهة القبول والرضا إذ الشمال بضده في هذا قال: المراد بكف الرحمن هنا ويمينه كف الذي تدفع إليه الصدقة، وإضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة فيها لله عز وجل. قال : وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجبل أن المراد بذلك تعظيم أجرها وتضعيف ثوابها، قال : ويصح أن يكون على ظاهره ، وأن تعظم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان، وهذا الحديث نحو قول الله تعالى (يمحق الله الربا ويربي الصدقات).
(4) صحيح : مسلم (1016). قال النووي رحمه الله وفيه الحث على الصدقة، وشق التمرة نصفها وجانبها، وأنه لا يمتنع منها لقلتها وأن قليلها سبب للنجاة من النار.
__________________________________________________
آيات ووقفات (الحلقة العاشرة)
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون
بعدما قرأنا ، وعرفنا صفات المؤمنين الذين امتدحهم الرب جل وعلا، بأنهم يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة، ويدفعون أموالهم في سبل الخير من زكاة ، أو صدقة، أتى الله بهذه الآية ، وفيها صفات أخرى ، تقرب إلى أفهامنا صفات أهل الحق الذين أحبوا الله ، وأحبهم الله،فهم المؤمنين الذين يؤمنون بالكتاب الذي أنزل الله عليك، والحكمة (السنة النبوية) التي علمك الله إياها، كما قال سبحانه وتعالى (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تعلم ) (1). وهذه لمحة أخرى، وصفة فضلى ، وخلة حميدة، يتصف بها عباد الله المتقين ، الذين يؤمنون بكتاب الله المجيد، ومعاني آياته، ومعالم هداياته، ومقاصد عباراته، يؤمنون بأن هذا القرآن هو كلام الله الرب العظيم الذي أوحاه إلى نبيه عن طريق جبريل عليهما الصلاة والسلام، لذلك فهم يعظمون آياته ، ويدرسون معانيها، ويقدسون أسرارها، ويحكمون بموجبها، ويتعاملون مع الخلق وفقاً لتعاليمها، على منهج أهل السنة والجماعة، ويؤمنون كذلك بالحكمة وهي السنة النبوية المتمثلة في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقواله فلا علم للمؤمنين بكيفية الصلاة، وصفات الركوع والسجود، وكم ركعات الصلوات، وكيفية الوضوء، ومتى أوقات الصلوات إلا بفهم صحيح للأحاديث النبوية، والهدي النبوي الذي كان حاضراً مع الصحابة يعلمهم تلك الأمور كلها، وكان يقول صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، فمن لا يؤمن بذلك ويتبع سبيلاً غير هذا ، ويؤمن بالقرآن ولا يؤمن بالحكمة فهو كافر ، لانتفاء إيمانه بالهدي النبوي قولاً وعملاً. وكذلك يقتضي إيمان أولئك المتقين الإيمان بالكتب السماوية المنزلة من الله سبحانه على أنبيائه الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، قال تعالى (وما أنزل من قبلك ) ويتضمن هذا الإيمان بجميع الكتب ، وجميع النبيين ، وهذه صفة أخرى لعباد الله المتقين ، وذلك لتصديقهم بنزول تلك الكتب ، وبعثة أولئك الرسل إلى قومهم، أما نبي الله محمد فقد بعثه الله للناس أجمعين قال تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (2). لذا فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله إلى جميع البشر.
ومن صفات المؤمنين المتقين أيضاً أنهم (وبالآخرة هم يوقنون) أي إنهم يؤمنون باليوم الآخر وما فيه من الجزاء والنكال، والثواب والعقاب، والسعادة والشقاء، وأصحاب النعيم، وأشقياء الجحيم، والآتيان بجهنم، وسجود الأنبياء، وذلة العصاة، وتبيض الوجوه المؤمنة، وتسود الوجوه الكافرة، يؤمنون برؤية الله، ويكلمهم الله سبحانه من غير ترجمان، كل بلغته ويقرهم بأعمالهم، ويؤمنون بتطاير الصحف ، فتؤخذ باليمين أو بالشمال، أو من وراء الظهور ، فلما أيقنوا بحدوث ذلك من إخبار الله لنا ورسوله في القرآن والسنة ، ولما عرفوا واستيقنت قلوبهم (3) بحدوث كل ذلك ، كان ذلك ركناً ركيناً من أركان الإيمان الستة، وأضحى من أعظم الدوافع للقيام بالأعمال الصالحة رهبة ورغبة لما عند الله.
الوقفات
1- تقرير الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من جميع البشر ، فلا حجة اليوم لأحد فالأغلبية الآن من الناس يعرف أو يسمع عن دين الإسلام.
2- تقرير الإيمان بالكتب السماوية كلها، بأنها أنزلت في وقت ما على أنبياء الله، ولكن هل بقيت على حالها، هل ما في أيدي اليهود والنصارى الآن من كتب هل هي نفس الكتب السماوية المنزلة، كلا فالقرآن يكذب زيفهم ويكفر منهجهم، في قوله ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون).
3- وجوب الإيمان بالآخرة وما فيها يقيناً وتلك صفة من صفات المؤمنين.
_________________
(1) سورة آل عمران 113.
(2) سورة الأنبياء 107.
(3) قال السعدي رحمه الله واليقين : هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك الموجب للعمل.
______________
آيات ووقفات (الحلقة الحادية عشر)
إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (7)
خلق الله عز وجل الإنسان ، وأعطاه الحواس كي تدرك ما ينفعه فيأخذ به، ويترك ما يضره ويبتعد عنه ، فمن استمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و عرف الحق ، وبلاغة القرآن ، واهتدى بهديه، أفلح ونجا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، والعرب كان معلوم لديهم الشعر، فكان بمثابة الإعلام في عصرنا الحاضر، وكان مهماً جداً في نظرهم، فلما سمعوا القرآن عرفوا بأن ذلك ليس شعراً ، وليس بطلاسم المشعوذين والسحرة، وإن فيه من البيان العظيم، والفصاحة البليغة، واخبار الأمم السابقة، لذلك أسلم الكثير ممن فتح الله على قلوبهم، وأنار بصائرهم ، أما الذين أعرضوا عن سماع الحق، وتولوا عن مخالطة الصحابة الذين اعتبروهم في زعمهم صابئة لأنهم تركوا دين آبائهم ، وانخرطوا في دين لم تعترف به قلوب كفار قريش كفراً وجحوداً ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألم على حالهم ، وهو الرحمة المهداة للبشرية ، صلى الله عليه وسلم ، ولكنه كان يسليه ربه ويقول له (إنما عليك البلاغ) ويقول سبحانه (إنك لا تهدي من أحببت) ويقول سبحانه ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون أهواءهم ) (1). ويقول سبحانه ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) (2). لذلك جاءت هذه الآية في شدة المعترك بين الحق والباطل، وبين نصرة الحق وأهله، ودحض الباطل وأهله ، وكانت الفرقان بينهما ، فجاء فيها وصف هؤلاء الكفار المعاندين لدين الله ، وأعني هنا أن كفار قريش كانوا وثنيين يعبدون الأصنام ، وهي في واقع الأمر كانت صوراً منحوتة في الصخور لرجال صالحين كانوا يعبدون الله على دين الحنيفية ، دين إبراهيم عليه السلام، ولكن مع طول الأمد ، وغواية الشيطان لهم ، أخذوا يعتقدون فيها وأنها تقربهم إلى الله ببركة أصحابها الصالحين، فأخذوا يقربون القرابين لها ، ويعبدونها مع الله ، فأصبحوا بذلك مشركين ، فمنهم من أسلم مع النبي ، ومنهم من بقي على كفره وعناده، فقال الله سبحانه وتعالى (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) أي الأمر عندهم سيَّان لأنهم لم ترد قلوبهم سماع الحق ولا إتباعه.
الوقفات
1- الكفر هو الغطاء الذي يغطي القلب فهؤلاء مغطاة قلوبهم عن الحق.
2- مهمة الرسل البلاغ فقط ، وفي هذا درس للدعاة لدين الله.
3- الران الذي على قلوب الكفار من شدة إعراضهم عن دين الله جعل قلوبهم منكرة للحق مقبلة على الباطل فأصبحت الأمور لديها متشابهة سواء دعيت وأنذرت أم لم تنذر فلن تفتح للإيمان.
______________
(1) سورة القصص : 50.
(2) سورة فاطر: 8.
_____________