الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد..
فإننا نعيش حياة الأزمات، لا أقول نعيش أزمة؛ بل هي أزمات.. أزمات يرى المرء نفسه في كثير من حالاتها الجدالية والنقائية واجبه السكوت؛ فالكلام فيها - وإن كان في ذاته حقا - ففي ظل وبيئة تلك الازمات يتحول إلى وقود يثير اللهب، لا يفاصل بين الحق والباطل، و‘ن السكوت والله لهو لهب آخر في القلب ربما يكون ألهب وأحرق.. فكيف لمن يرى الحق أن يسكت؟ .. ولكنه قدر الله.. هو الحكيم العليم.. وهو المطاع لا مطاع غيره.. فما كان لأنفسنا أت تحكم من هواها وإن رأت ما تراه حقا رؤيا العين.. فيا أيها السكوت خفف من حدتك فأنت ضيف ثقيل.
إن جل الامور التي يصمت المرء فيها إنما يصمت لما يعلمه من تلقي تلك التوجيهات أو الأمور على غير مرادها، أو على غير تصور صحيح لتطبيقها.
من تلك الأمور ما أصر وأدعو إليه - كمسلم - أنه لن يصلح أمر الأمة إلا بمنهج التربية الذي سلكه الوحي مع المؤمنين.. نعم، الوحي في كافة أشكال تنزلاته بغض النظر عن كونه قد كملت الأحكام بعدها.. وهذا هو المحك ومحور سوء الفهم لدى الكثير من الشباب المتحمسين.
إن اكتمال الدين هو في حق الدين كدين أنزله الله، ثم بعد ذلك يتحرك المؤشر التربوي قربا وبعدا عن هذا الدين الكامل، ومن هنا فلن تصلح اية مناهج تربوية سوى المنهج القرآني، بإجماله وتفصيله.
يظهر أثر ذلك في مثل شاب (ملتزم) يرى شابا آخر على قدر عظيم من الفسق، فيأخذه بكل العزائم، أو أنه يتغافل عن بعض صغائره ولكنه يوجهه ـ جملة ـ لترك كل ما هو عليه من الكبائر، وتكون النتيجة أن لا يستجيب الشاب وتقع النفرة. فإذا ناقشنا أخانا (الملتزم) في منهجه الدعوي مع الفاسقـ قال : هو يعلم أنه حرام فعليه أن يلتزم.
أقول: وإن صح ما قلت من قضية علم الفاسق بالإثم، فهو قضية منفصلة لا تفيد لزوم ما فعلت؛ بل إن المنهج التربوي الدعوي واحد، وهو موضح بكتاب الله تعالى وبتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم له مع أصحابه.
فإن قلت: ولكنه يقيم على كذا وكذا من الفجور.
قلت: وقد كان الصحابة يقيمون على شرب الخمور، حتى حرمها الله.
فإن قلت: ولكنها قبل التحريم كانت مباحة فلا شيء فيه في حقهم.
قلت: ولكنها حرمت في تأقيت محدد لم يستجب الله تعالى قبله للمؤمنين فيما رجوه بقلوبهم من التحريم أو فيما تحرجوه من الخمر حين سألوا عن الخمر وترجى البعض أن تحرم؛ لعلم الله تعالى أنهم لم يتهيئوا تربويا للحكم، وهذا هو الشاهد؛ هو السير ضمن منهج، وهو ما أطرحه للتطبيق والعمل. هذا مع الأخذ في الاعتبار ما كانت تحدثه الخمر من فساد في الهيئة والعبادة.
هذا هو المحك يا مشايخ.. أن تطبقوا المنهج بجرأة وواقعية، لا أن تأخذكم عواطفكم.. نعم قد كمل الدين.. وهذا في حقيقة ذات الدين.. ولكنه معدوم أو منقوص ـ بقدره ـ من قلوب البشرية إلا من رحم الله.. وحتى تختصروا على أنفسكم الوقت والطريق، وبعد تجارب كل تلك العقود، فلن يصلح الحال إلا بالمنهج القرآني الذي نخشى أن نطبقه واقعيا وعمليا، وتلك الخشية وذلك الترهب لو دقننا لوجدنا منبعهما العواطف غير المطمئنة على أصولها، بل هو التعلق العنيف بالأسباب وعدم الاطمئنان إلى حفظ الله تعالى لدينه.
وأراني قد أطلت التعليق.. فعذرا
وإلى المقطع التربوي من الظلال
******************
[align=center]يقول سيد قطب رحمه الله : [/align]
( وفي سياق قضية التشريع بالتحريم والتحليل , وفي خط التربية للأمة المسلمة في المدينة , وتخليصها من جو الجاهلية ورواسبها وتقاليدها الشخصية والاجتماعية , يجيء النص القاطع الأخير في تحريم الخمر والميسر مقرونين إلى تحريم الأنصاب والأزلام . أي إلى الشرك بالله .
( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ? وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين . ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات , ثم اتقوا وآمنوا , ثم اتقوا وأحسنوا , والله يحب المحسنين .. )
لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية , ومن التقاليد المتغلغلة في المجتمع الجاهلي . وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها , وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده . . فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف , ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون ; ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك ! وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها ! وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها [ كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها ! ] .. وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام . وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة , فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه . فالذي قدحه [ المعلى ] يأخذ النصيب الأوفر , وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه . وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها !
وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية ; ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية.
ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر , لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة ; فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغاثرة جهد ضائع . حاشا للمنهج الرباني أن يفعله ! إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى . عقدة العقيدة . بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذورة ; وإقامة التصور الإسلامي الصحيح . إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة . . بيّن للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق . وحين عرفوا إلههم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبة منهم هذا الإله الحق وما يكرهه . وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا ! أو يطيعوا أمرا ولا نهيا ; وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة . . إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة ; وما لم تنعقد هذه العقيدة أولا فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي . . إن مفتاح الفطرة البشرية ها هنا . وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية , وكلما كشف منها زقاق انبهمت أزقة ; وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب , وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد , وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك . . إلى ما لا نهاية . .
لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها , من هذه الرذائل والانحرافات . . إنما بدأ من العقيدة . . بدأ من شهادة أن لاإله إلا الله . . وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاما , لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية ! تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهملسلطانه . . حتى إذا خلصت نفوسهم لله ; وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله . . عندئذ بدأت التكالف - بما فيها الشعائر التعبدية - وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية . . بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال . لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أيا كان !
أو بتعبير آخر : لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد "الإسلام" . . بعد الاستسلام . . بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء . . بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب الى أمر الله رأي أو اختيار . . أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" تحت عنوان:"انحلت العقدة الكبرى " : " . . انحلت العقدة الكبرى . . عقدة الشرك والكفر . . فانحلت العقد كلها ; وجاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاده الأول , فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي ; وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى , فكان النصر حليفه في كل معركة . وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة , لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ; ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ; ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ; وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد . . نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم ; فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ; وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة " .
ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمرا مفاجئا . . فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة , المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها , والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها .
لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي:
كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . . .)فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر [ وهو المخمر ] في مقابل الرزق الحسن . . فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر .
ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر . قل:فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما). . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الاثم اكبر من النفع . إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع ; ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع .
ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب , وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون). . والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب ; ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة . وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب - وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين - وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي . وفيه - وهو أمر له وزنه في نفس المسلم - ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدها.
ثم كانت هذة الرابعة الحاسمة والأخيرة , وقد تهيأت النفوس لها تهيؤا كاملا فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان:
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء . فنزلت التي في البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر , قل:فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما). فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه , فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء , فنزلت التي في النساء: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . .)الآية . . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه , فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء . فنزلت التي في المائدة: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ; ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ?)فدعي عمر فقرئت عليه فقال:"انتهينا. انتهينا" . . [ أخرجه أصحاب السنن ].
ولما نزلت آيات التحريم هذه , في سنة ثلاث بعد وقعة أحد , لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة:"ألا أيها القوم . إن الخمر قد حرمت" . . فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها , وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه . . وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر !
والآن ننظر في صياغة النص القرآني ; والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه :
( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ? وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )
إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع:
( يا أيها الذين آمنوا . .
لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة ; ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى . . يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر:
( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان . .
فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف "الطيبات" التي احلها الله . وهي من عمل الشيطان . والشيطان عدو الإنسان القديم ; ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه , وتشمئز منه نفسه , ويجفل منه كيانه , ويبعد عنه من خوف ويتقيه !
وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق:
( فاجتنبوه لعلكم تفلحون) ..
ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس:
( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر, ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة.. ) ..
بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان , وغاية كيدة وثمرة رجسه . . إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد ( الذين آمنوًا عن ذكر الله وعن الصلاة) . . ويالها إذن من مكيدة !
وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون ان يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته . فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس . فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم , وبما تهيج من نزوات ودفعات . والميسر الذي يصحابها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات واحقاد ; إذا المقمور لابد ان يحقد على قامره الذي يستولى على ماله أمام عينيه , ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور . . إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء , مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة !
وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة , فلا يحتاجان إلى نظر . . فالخمر تنسي , والميسر يلهي , وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين ; وعالم القامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح !
وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب (الذين آمنوا)وتحفزها , يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي الله عنه وهو يسمع:
فهل أنتم منتهون ؟
فيجيب لتوه : "انتهينا . انتهينا" . .
ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير:
( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا. فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) ..
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله:طاعة الله وطاعة الرسول .. الإسلام . . الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول . . والحذر من المخالفة , والتهديد الملفوف:
( فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) ..
وقد بلغ وبين , فتحددت التبعة على المخالفين , بعد البلاغ المبين . .
إنه التهديد القاصم , في هذا الأسلوب الملفوف , الذي ترتعد له فرائص المؤمنين ! . . إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحدا إلا أنفسهم . لقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأدى ; ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم , وما هو بدافع عنهم عذابا - وقد عصوه ولم يطيعوه - ولقد صار أمرهم كله إلى الله سبحانه . وهو القادر على مجازاة العصاة المتولين
إنه المنهج الرباني يطرق القلوب , فتنفتح له مغاليقها , وتتكشف له فيها المسالك والدروب . .
ولعله يحسن هنا أن نبين ما هي الخمر التي نزل فيها هذا النهي:
أخرج أبو داود بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -:"كل مخمر خمر . وكل مسكر حرام .."
وخطب عمر - رضي الله عنه - على منبر النبي صلى الله عليه وسلم بمحضر جماعة من الصحابة فقال:"يا أيها الناس قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة:من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير . والخمر ما خامر العقل" . . [ ذكره القرطبي في تفسيره ].
فدل هذا وذلك على أن الخمر تشمل كل مخمر يحدث السكر . . وأنه ليس مقصورا على نوع بعينه . وأن كل ما أسكر فهو حرام . إن غيبوبه السكر - بأي مسكر - تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولا بالله في كل لحظة , مراقبا لله في كل خطرة . ثم ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيا في نماء الحياة وتجددها , وفي صيانتها من الضعف والفساد , وفي حماية نفسه وماله وعرضه , وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء . والفرد المسلم ليس متروكا لذاته وللذاته ; فعلية في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة . تكاليف لربه , وتكاليف لنفسه , وتكاليف لأهله , وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها , وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها . وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف . وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع , فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذة . إنما يسيطر دائما على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره . . وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه .
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات ; وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار . والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق , وأن يواجهوها , ويعيشوا فيها , ويصرفوا حياتهم وفقها , ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام . . إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة ; أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل , ووهن العزيمة , وتذاوب الإرادة . والإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة , وإطلاقها من قيود العادة القاهرة . . الإدمان . . وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وتحريم سائر المخدرات . . وهي رجس من عمل الشيطان . . مفسد لحياة الانسان .
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار ذات الخمر نجسة كبقية النجاسات الحسية . أو في اعتبار شربها هو المحرم . والأول قول الجمهور والثاني قول ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين . . وحسبنا هذا القدر في سياق الظلال .
وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات , وذكر فيها تحريم الخمر , ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة , مختلفتان في الباعث والهدف .
قال بعض المتحرجين من الصحابة: كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا:فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم [ أي قبل تحريمها ] .
وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه ; يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع , أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم ; وهي رجس من عمل الشيطان , ماتوا والرجس في بطونهم !
عنذئذ نزلت هذه الآية:
( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا , ثم اتقوا وأحسنوا , والله يحب المحسنين ) ..
نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرم لا يحرم ; وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله ; وأنه لا يحرم بأثر رجعي ; فلا عقوبة إلا بنص ; سواء في الدنيا أو في الآخرة ; لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم , وهي لم تحرم بعد , ليس عليهم جناح ; فإنهم لم يتناولوا محرما ; ولم يرتكبوا معصية . . لقدكانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية .
ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس: هل هو ناشى ء عن أمر الشارع - سبحانه - بتحريمها , أم إنه ناشى ء عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها . وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها , أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم . . فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي ! . . والله حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم , أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته , أو من ناحية مصلحة الجماعة . . فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله ; والطاعة لأمره واجبة , والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد:إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه !! فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر ; وما يراه علة قد لا يكون هو العلة .والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ , سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهارا للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام . . وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها , وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان ! إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية ؟ )
[align=center]ويقول كذلك ـ قطب ـ رحمه الله :[/align]
( لقد كان هذا القرآن ينشئ أمة جديدة . ينشئها من المجموعات المسلمة التي التقطها الإسلام من سفوح الجاهلية التي كانت تهيم فيها؛ ليأخذ بيدها في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة؛ وليسلمها - بعد أن تكمل نشأتها - قيادة البشرية؛ ويحدد لها دورها الضخم في هذه القيادة . .
ومن بين عوامل البناء تطهير ضمائر هذه الجماعة؛ وتطهير جو المجتمع الذي تعيش فيه؛ ورفع المستوى الخلقي والنفسي الذي تستوي عليه .
وحينما بلغت تلك الجماعة هذا المستوى؛ تفوقت في أخلاقها الفردية والاجتماعية؛ بقدر تفوقها في تصورها الاعتقادي؛ على سائر أهل الأرض . . وعندئذ صنع الله بها في الأرض ما قدر أن يصنعه؛ وأقامها حارسة لدينه ومنهجه؛ وقائدة للبشرية الضالة إلى النور والهدى؛ وأمينة على قيادة البشرية وإرشادها . .
وحينما تفوقت في هذه الخصائص تفوقت على كل أهل الأرض؛ فكانت قيادتها للبشرية أمراً طبيعياً وفطرياً؛ وقائماً على أسسه الصحيحة . . ومن هذا الوضع الممتاز تفوقت كذلك في العلم والحضارة والاقتصاد والسياسة . وكان هذا التفوق الأخير ثمرة للتفوق الأول في المستوى الاعتقادي والأخلاقي . وهذه هي سنة الله في الأفراد والجماعات . )
وبعد..
فإننا نعيش حياة الأزمات، لا أقول نعيش أزمة؛ بل هي أزمات.. أزمات يرى المرء نفسه في كثير من حالاتها الجدالية والنقائية واجبه السكوت؛ فالكلام فيها - وإن كان في ذاته حقا - ففي ظل وبيئة تلك الازمات يتحول إلى وقود يثير اللهب، لا يفاصل بين الحق والباطل، و‘ن السكوت والله لهو لهب آخر في القلب ربما يكون ألهب وأحرق.. فكيف لمن يرى الحق أن يسكت؟ .. ولكنه قدر الله.. هو الحكيم العليم.. وهو المطاع لا مطاع غيره.. فما كان لأنفسنا أت تحكم من هواها وإن رأت ما تراه حقا رؤيا العين.. فيا أيها السكوت خفف من حدتك فأنت ضيف ثقيل.
إن جل الامور التي يصمت المرء فيها إنما يصمت لما يعلمه من تلقي تلك التوجيهات أو الأمور على غير مرادها، أو على غير تصور صحيح لتطبيقها.
من تلك الأمور ما أصر وأدعو إليه - كمسلم - أنه لن يصلح أمر الأمة إلا بمنهج التربية الذي سلكه الوحي مع المؤمنين.. نعم، الوحي في كافة أشكال تنزلاته بغض النظر عن كونه قد كملت الأحكام بعدها.. وهذا هو المحك ومحور سوء الفهم لدى الكثير من الشباب المتحمسين.
إن اكتمال الدين هو في حق الدين كدين أنزله الله، ثم بعد ذلك يتحرك المؤشر التربوي قربا وبعدا عن هذا الدين الكامل، ومن هنا فلن تصلح اية مناهج تربوية سوى المنهج القرآني، بإجماله وتفصيله.
يظهر أثر ذلك في مثل شاب (ملتزم) يرى شابا آخر على قدر عظيم من الفسق، فيأخذه بكل العزائم، أو أنه يتغافل عن بعض صغائره ولكنه يوجهه ـ جملة ـ لترك كل ما هو عليه من الكبائر، وتكون النتيجة أن لا يستجيب الشاب وتقع النفرة. فإذا ناقشنا أخانا (الملتزم) في منهجه الدعوي مع الفاسقـ قال : هو يعلم أنه حرام فعليه أن يلتزم.
أقول: وإن صح ما قلت من قضية علم الفاسق بالإثم، فهو قضية منفصلة لا تفيد لزوم ما فعلت؛ بل إن المنهج التربوي الدعوي واحد، وهو موضح بكتاب الله تعالى وبتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم له مع أصحابه.
فإن قلت: ولكنه يقيم على كذا وكذا من الفجور.
قلت: وقد كان الصحابة يقيمون على شرب الخمور، حتى حرمها الله.
فإن قلت: ولكنها قبل التحريم كانت مباحة فلا شيء فيه في حقهم.
قلت: ولكنها حرمت في تأقيت محدد لم يستجب الله تعالى قبله للمؤمنين فيما رجوه بقلوبهم من التحريم أو فيما تحرجوه من الخمر حين سألوا عن الخمر وترجى البعض أن تحرم؛ لعلم الله تعالى أنهم لم يتهيئوا تربويا للحكم، وهذا هو الشاهد؛ هو السير ضمن منهج، وهو ما أطرحه للتطبيق والعمل. هذا مع الأخذ في الاعتبار ما كانت تحدثه الخمر من فساد في الهيئة والعبادة.
هذا هو المحك يا مشايخ.. أن تطبقوا المنهج بجرأة وواقعية، لا أن تأخذكم عواطفكم.. نعم قد كمل الدين.. وهذا في حقيقة ذات الدين.. ولكنه معدوم أو منقوص ـ بقدره ـ من قلوب البشرية إلا من رحم الله.. وحتى تختصروا على أنفسكم الوقت والطريق، وبعد تجارب كل تلك العقود، فلن يصلح الحال إلا بالمنهج القرآني الذي نخشى أن نطبقه واقعيا وعمليا، وتلك الخشية وذلك الترهب لو دقننا لوجدنا منبعهما العواطف غير المطمئنة على أصولها، بل هو التعلق العنيف بالأسباب وعدم الاطمئنان إلى حفظ الله تعالى لدينه.
وأراني قد أطلت التعليق.. فعذرا
وإلى المقطع التربوي من الظلال
******************
[align=center]يقول سيد قطب رحمه الله : [/align]
( وفي سياق قضية التشريع بالتحريم والتحليل , وفي خط التربية للأمة المسلمة في المدينة , وتخليصها من جو الجاهلية ورواسبها وتقاليدها الشخصية والاجتماعية , يجيء النص القاطع الأخير في تحريم الخمر والميسر مقرونين إلى تحريم الأنصاب والأزلام . أي إلى الشرك بالله .
( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ? وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين . ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات , ثم اتقوا وآمنوا , ثم اتقوا وأحسنوا , والله يحب المحسنين .. )
لقد كانت الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من معالم الحياة الجاهلية , ومن التقاليد المتغلغلة في المجتمع الجاهلي . وكانت كلها حزمة واحدة ذات ارتباط عميق في مزاولتها , وفي كونها من سمات ذلك المجتمع وتقاليده . . فلقد كانوا يشربون الخمر في إسراف , ويجعلونها من المفاخر التي يتسابقون في مجالسها ويتكاثرون ; ويديرون عليها فخرهم في الشعر ومدحهم كذلك ! وكان يصاحب مجالس الشراب نحر الذبائح واتخاذ الشواء منها للشاربين وللسقاة ولأحلاس هذه المجالس ومن يلوذون بها ويلتفون حولها ! وكانت هذه الذبائح تنحر على الأنصاب وهي أصنام لهم كانوا يذبحون عليها ذبائحهم وينضحونها بدمها [ كما كانت تذبح عليها الذبائح التي تقدم للآلهة أي لكهنتها ! ] .. وفي ذبائح مجالس الخمر وغيرها من المناسبات الاجتماعية التي تشبهها كان يجري الميسر عن طريق الأزلام . وهي قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة , فيأخذ كل منهم نصيبه منها بحسب قدحه . فالذي قدحه [ المعلى ] يأخذ النصيب الأوفر , وهكذا حتى يكون من لا نصيب لقدحه . وقد يكون هو صاحب الذبيحة فيخسرها كلها !
وهكذا يبدو تشابك العادات والتقاليد الاجتماعية ; ويبدو جريانها كذلك وفق حال الجاهلية وتصوراتها الاعتقادية.
ولم يبدأ المنهج الإسلامي في معالجة هذه التقاليد في أول الأمر , لأنها إنما تقوم على جذور اعتقادية فاسدة ; فعلاجها من فوق السطح قبل علاج جذورها الغاثرة جهد ضائع . حاشا للمنهج الرباني أن يفعله ! إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى . عقدة العقيدة . بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذورة ; وإقامة التصور الإسلامي الصحيح . إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة . . بيّن للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق . وحين عرفوا إلههم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبة منهم هذا الإله الحق وما يكرهه . وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا ! أو يطيعوا أمرا ولا نهيا ; وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة . . إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة ; وما لم تنعقد هذه العقيدة أولا فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي . . إن مفتاح الفطرة البشرية ها هنا . وما لم تفتح بمفتاحها فستظل سراديبها مغلقة ودروبها ملتوية , وكلما كشف منها زقاق انبهمت أزقة ; وكلما ضاء منها جانب أظلمت جوانب , وكلما حلت منها عقدة تعقدت عقد , وكلما فتح منها درب سدت دروب ومسالك . . إلى ما لا نهاية . .
لذلك لم يبدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها , من هذه الرذائل والانحرافات . . إنما بدأ من العقيدة . . بدأ من شهادة أن لاإله إلا الله . . وطالت فترة إنشاء لا إله إلا الله هذه في الزمن حتى بلغت نحو ثلاثة عشر عاما , لم يكن فيها غاية إلا هذه الغاية ! تعريف الناس بإلههم الحق وتعبيدهم له وتطويعهملسلطانه . . حتى إذا خلصت نفوسهم لله ; وأصبحوا لا يجدون لأنفسهم خيرة إلا ما يختاره الله . . عندئذ بدأت التكالف - بما فيها الشعائر التعبدية - وعندئذ بدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية . . بدأت في الوقت الذي يأمر الله فيطيع العباد بلا جدال . لأنهم لا يعلمون لهم خيرة فيما يأمر الله به أو ينهى عنه أيا كان !
أو بتعبير آخر : لقد بدأت الأوامر والنواهي بعد "الإسلام" . . بعد الاستسلام . . بعد أن لم يعد للمسلم في نفسه شيء . . بعد أن لم يعد يفكر في أن يكون له إلى جانب الى أمر الله رأي أو اختيار . . أو كما يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" تحت عنوان:"انحلت العقدة الكبرى " : " . . انحلت العقدة الكبرى . . عقدة الشرك والكفر . . فانحلت العقد كلها ; وجاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاده الأول , فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي ; وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى , فكان النصر حليفه في كل معركة . وقد دخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم كافة , لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ; ولا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى ; ولا يكون لهم الخيرة من بعد ما أمر أو نهى . حدثوا الرسول عما اختانوا أنفسهم ; وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد . . نزل تحريم الخمر والكؤوس المتدفقة على راحاتهم ; فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة والأكباد المتقدة ; وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة " .
ومع هذا فلم يكن تحريم الخمر وما يتصل بها من الميسر أمرا مفاجئا . . فلقد سبقت هذا التحريم القاطع مراحل وخطوات في علاج هذه التقاليد الاجتماعية المتغلغلة , المتلبسة بعادات النفوس ومألوفاتها , والمتلبسة كذلك ببعض الجوانب الاقتصادية وملابساتها .
لقد كانت هذه هي المرحلة الثالثة أو الرابعة في علاج مشكلة الخمر في المنهج الإسلامي:
كانت المرحلة الأولى مرحلة إطلاق سهم في الاتجاه حين قال الله سبحانه في سورة النحل المكية: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . . .)فكانت أول ما يطرق حس المسلم من وضع السكر [ وهو المخمر ] في مقابل الرزق الحسن . . فكأنما هو شيء والرزق الحسن شيء آخر .
ثم كانت الثانية بتحريك الوجدان الديني عن طريق المنطق التشريعي في نفوس المسلمين حين نزلت التي في سورة البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر . قل:فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما). . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ما دام الاثم اكبر من النفع . إذ أنه قلما يخلو شيء من نفع ; ولكن حله أو حرمته إنما ترتكز على غلبة الضر أو النفع .
ثم كانت الثالثة بكسر عادة الشراب , وإيقاع التنافر بينها وبين فريضة الصلاة حين نزلت التي في النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون). . والصلاة في خمسة أوقات معظمها متقارب ; ولا يكفي ما بينها للسكر ثم الإفاقة . وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشراب - وخاصة عادة الصبوح في الصباح والغبوق بعد العصر أو المغرب كما كانت عادة الجاهليين - وفيه كسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي . وفيه - وهو أمر له وزنه في نفس المسلم - ذلك التناقض بين الوفاء بفريضة الصلاة في مواعيدها والوفاء بعادة الشراب في مواعيدها.
ثم كانت هذة الرابعة الحاسمة والأخيرة , وقد تهيأت النفوس لها تهيؤا كاملا فلم يكن إلا النهي حتى تتبعه الطاعة الفورية والإذعان:
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال:اللهم بين لنا في الخمر بيانا شفاء . فنزلت التي في البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر , قل:فيهما إثم كبير ومنافع للناس , وإثمهما أكبر من نفعهما). فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه , فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء , فنزلت التي في النساء: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . .)الآية . . فدعي عمر - رضي الله عنه - فقرئت عليه , فقال:اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء . فنزلت التي في المائدة: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ; ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ?)فدعي عمر فقرئت عليه فقال:"انتهينا. انتهينا" . . [ أخرجه أصحاب السنن ].
ولما نزلت آيات التحريم هذه , في سنة ثلاث بعد وقعة أحد , لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة:"ألا أيها القوم . إن الخمر قد حرمت" . . فمن كان في يده كأس حطمها ومن كان في فمه جرعة مجها , وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه . . وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر !
والآن ننظر في صياغة النص القرآني ; والمنهج الذي يتجلى فيه منهج التربية والتوجيه :
( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة , فهل أنتم منتهون ? وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين )
إنه يبدأ بالنداء المألوف في هذا القطاع:
( يا أيها الذين آمنوا . .
لاستجاشة قلوب المؤمنين من جهة ; ولتذكيرهم بمقتضى هذا الإيمان من الالتزام والطاعة من جهة أخرى . . يلي هذا النداء الموحي تقرير حاسم على سبيل القصر والحصر:
( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان . .
فهي دنسة لا ينطبق عليها وصف "الطيبات" التي احلها الله . وهي من عمل الشيطان . والشيطان عدو الإنسان القديم ; ويكفي أن يعلم المؤمن أن شيئا ما من عمل الشيطان لينفر منه حسه , وتشمئز منه نفسه , ويجفل منه كيانه , ويبعد عنه من خوف ويتقيه !
وفي هذه اللحظة يصدر النهي مصحوبا كذلك بالإطماع في الفلاح - وهي لمسة أخرى من لمسات الإيحاء النفسي العميق:
( فاجتنبوه لعلكم تفلحون) ..
ثم يستمر السياق في كشف خطة الشيطان من وراء هذا الرجس:
( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر, ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة.. ) ..
بهذا ينكشف لضمير المسلم هدف الشيطان , وغاية كيدة وثمرة رجسه . . إنها إيقاع العداوة والبغضاء في الصف المسلم - في الخمر والميسر - كما أنها هي صد ( الذين آمنوًا عن ذكر الله وعن الصلاة) . . ويالها إذن من مكيدة !
وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون ان يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته . فما يحتاج الإنسان إلى طول بحث حتى يرى أن الشيطان يوقع العداوة والبغضاء - في الخمر والميسر - بين الناس . فالخمر بما تفقد من الوعي وبما تثير من عرامة اللحم والدم , وبما تهيج من نزوات ودفعات . والميسر الذي يصحابها وتصاحبه بما يتركه في النفوس من خسارات واحقاد ; إذا المقمور لابد ان يحقد على قامره الذي يستولى على ماله أمام عينيه , ويذهب به غانما وصاحبه مقمور مقهور . . إن من طبيعة هذه الأمور أن تثير العداوة والبغضاء , مهما جمعت بين القرناء في مجالات من العربدة والانطلاق اللذين يخيل للنظرة السطحية أنهما أنس وسعادة !
وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة , فلا يحتاجان إلى نظر . . فالخمر تنسي , والميسر يلهي , وغيبوبة الميسر لا تقل عن غيبوبة الخمر عند المقامرين ; وعالم القامر كعالم السكير لا يتعدى الموائد والأقداح والقداح !
وهكذا عندما تبلغ هذه الإشارة إلى هدف الشيطان من هذا الرجس غايتها من إيقاظ قلوب (الذين آمنوا)وتحفزها , يجيء السؤال الذي لا جواب له عندئذ إلا جواب عمر رضي الله عنه وهو يسمع:
فهل أنتم منتهون ؟
فيجيب لتوه : "انتهينا . انتهينا" . .
ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير:
( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا. فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) ..
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله:طاعة الله وطاعة الرسول .. الإسلام . . الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول . . والحذر من المخالفة , والتهديد الملفوف:
( فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) ..
وقد بلغ وبين , فتحددت التبعة على المخالفين , بعد البلاغ المبين . .
إنه التهديد القاصم , في هذا الأسلوب الملفوف , الذي ترتعد له فرائص المؤمنين ! . . إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحدا إلا أنفسهم . لقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأدى ; ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم , وما هو بدافع عنهم عذابا - وقد عصوه ولم يطيعوه - ولقد صار أمرهم كله إلى الله سبحانه . وهو القادر على مجازاة العصاة المتولين
إنه المنهج الرباني يطرق القلوب , فتنفتح له مغاليقها , وتتكشف له فيها المسالك والدروب . .
ولعله يحسن هنا أن نبين ما هي الخمر التي نزل فيها هذا النهي:
أخرج أبو داود بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -:"كل مخمر خمر . وكل مسكر حرام .."
وخطب عمر - رضي الله عنه - على منبر النبي صلى الله عليه وسلم بمحضر جماعة من الصحابة فقال:"يا أيها الناس قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة:من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير . والخمر ما خامر العقل" . . [ ذكره القرطبي في تفسيره ].
فدل هذا وذلك على أن الخمر تشمل كل مخمر يحدث السكر . . وأنه ليس مقصورا على نوع بعينه . وأن كل ما أسكر فهو حرام . إن غيبوبه السكر - بأي مسكر - تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولا بالله في كل لحظة , مراقبا لله في كل خطرة . ثم ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيا في نماء الحياة وتجددها , وفي صيانتها من الضعف والفساد , وفي حماية نفسه وماله وعرضه , وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء . والفرد المسلم ليس متروكا لذاته وللذاته ; فعلية في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة . تكاليف لربه , وتكاليف لنفسه , وتكاليف لأهله , وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها , وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها . وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف . وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع , فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذة . إنما يسيطر دائما على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره . . وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه .
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات ; وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار . والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق , وأن يواجهوها , ويعيشوا فيها , ويصرفوا حياتهم وفقها , ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام . . إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة ; أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل , ووهن العزيمة , وتذاوب الإرادة . والإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة , وإطلاقها من قيود العادة القاهرة . . الإدمان . . وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وتحريم سائر المخدرات . . وهي رجس من عمل الشيطان . . مفسد لحياة الانسان .
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار ذات الخمر نجسة كبقية النجاسات الحسية . أو في اعتبار شربها هو المحرم . والأول قول الجمهور والثاني قول ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين . . وحسبنا هذا القدر في سياق الظلال .
وقد حدث أنه لما نزلت هذه الآيات , وذكر فيها تحريم الخمر , ووصفت بأنها رجس من عمل الشيطان أن انطلقت في المجتمع المسلم صيحتان متحدتان في الصيغة , مختلفتان في الباعث والهدف .
قال بعض المتحرجين من الصحابة: كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر . . أو قالوا:فما بال قوم قتلوا في أحد وهي في بطونهم [ أي قبل تحريمها ] .
وقال بعض المشككين الذين يهدفون إلى البلبلة والحيرة . . هذا القول أو ما يشبهه ; يريدون أن ينشروا في النفوس قلة الثقة في أسباب التشريع , أو الشعور بضياع إيمان من ماتوا والخمر لم تحرم ; وهي رجس من عمل الشيطان , ماتوا والرجس في بطونهم !
عنذئذ نزلت هذه الآية:
( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات . ثم اتقوا وآمنوا , ثم اتقوا وأحسنوا , والله يحب المحسنين ) ..
نزلت لتقرر أولا أن ما لم يحرم لا يحرم ; وأن التحريم يبدأ من النص لا قبله ; وأنه لا يحرم بأثر رجعي ; فلا عقوبة إلا بنص ; سواء في الدنيا أو في الآخرة ; لأن النص هو الذي ينشى ء الحكم . . والذين ماتوا والخمر في بطونهم , وهي لم تحرم بعد , ليس عليهم جناح ; فإنهم لم يتناولوا محرما ; ولم يرتكبوا معصية . . لقدكانوا يخافون الله ويعملون الصالحات ويراقبون الله ويعلمون أنه مطلع على نواياهم وأعمالهم . . ومن كانت هذه حاله لا يتناول محرما ولا يرتكب معصية .
ولا نريد أن ندخل بهذه المناسبة في الجدل الذي أثاره المعتزلة حول الحكم بأن الخمر رجس: هل هو ناشى ء عن أمر الشارع - سبحانه - بتحريمها , أم إنه ناشى ء عن صفة ملازمة للخمر في ذاتها . وهل المحرمات محرمات لصفة ملازمة لها , أم إن هذه الصفة تلزمها من التحريم . . فهو جدل عقيم في نظرنا وغريب على الحس الإسلامي ! . . والله حين يحرم شيئا يعلم - سبحانه - لم حرمه . سواء ذكر سبب التحريم أو لم يذكر . وسواء كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم , أو لعلة تتعلق بمن يتناوله من ناحية ذاته , أو من ناحية مصلحة الجماعة . . فالله سبحانه هو الذي يعلم الأمر كله ; والطاعة لأمره واجبة , والجدل بعد ذلك لا يمثل حاجة واقعية . والواقعية هي طابع هذا المنهج الرباني . . ولا يقولن أحد:إذا كان التحريم لصفة ثابتة في المحرم فكيف أبيح إذن قبل تحريمه !! فلا بد أن لله - سبحانه - حكمة في تركه فترة بلا تحريم . ومرد الأمر كله إلى الله . وهذا مقتضى ألوهيته - سبحانه - واستحسان الإنسان أو استقباحه ليس هو الحكم في الأمر ; وما يراه علة قد لا يكون هو العلة .والأدب مع الله يقتضي تلقي أحكامه بالقبول والتنفيذ , سواء عرفت حكمتها أو علتها أم ظلت خافية . . والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
إن العمل بشريعة الله يجب أن يقوم ابتداء على العبودية . . على الطاعة لله إظهارا للعبودية له سبحانه . . فهذا هو الإسلام - بمعنى الاستسلام . . وبعد الطاعة يجوز للعقل البشري أن يتلمس حكمة الله - بقدر ما يستطيع - فيما أمر الله به أو نهى عنه - سواء بين الله حكمته أم لم يبينها , وسواء أدركها العقل البشري أم لم يدركها - فالحكم في استحسان شريعة الله في أمر من الأمور ليس هو الإنسان ! إنما الحكم هو الله . فإذا أمر الله أو نهى فقد انتهى الجدل ولزم الأمر أو النهي . . فأما إذا ترك الحكم للعقل البشري فمعنى ذلك أن الناس هم المرجع الأخير في شرع الله . . فأين مكان الألوهية إذن وأين مكان العبودية ؟ )
[align=center]ويقول كذلك ـ قطب ـ رحمه الله :[/align]
( لقد كان هذا القرآن ينشئ أمة جديدة . ينشئها من المجموعات المسلمة التي التقطها الإسلام من سفوح الجاهلية التي كانت تهيم فيها؛ ليأخذ بيدها في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة؛ وليسلمها - بعد أن تكمل نشأتها - قيادة البشرية؛ ويحدد لها دورها الضخم في هذه القيادة . .
ومن بين عوامل البناء تطهير ضمائر هذه الجماعة؛ وتطهير جو المجتمع الذي تعيش فيه؛ ورفع المستوى الخلقي والنفسي الذي تستوي عليه .
وحينما بلغت تلك الجماعة هذا المستوى؛ تفوقت في أخلاقها الفردية والاجتماعية؛ بقدر تفوقها في تصورها الاعتقادي؛ على سائر أهل الأرض . . وعندئذ صنع الله بها في الأرض ما قدر أن يصنعه؛ وأقامها حارسة لدينه ومنهجه؛ وقائدة للبشرية الضالة إلى النور والهدى؛ وأمينة على قيادة البشرية وإرشادها . .
وحينما تفوقت في هذه الخصائص تفوقت على كل أهل الأرض؛ فكانت قيادتها للبشرية أمراً طبيعياً وفطرياً؛ وقائماً على أسسه الصحيحة . . ومن هذا الوضع الممتاز تفوقت كذلك في العلم والحضارة والاقتصاد والسياسة . وكان هذا التفوق الأخير ثمرة للتفوق الأول في المستوى الاعتقادي والأخلاقي . وهذه هي سنة الله في الأفراد والجماعات . )