سلسلة انهيار شرفات الاستشراق (2) /سورة العلق

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36


انهيار شرفات الاستشراق على طريق السور المكية "سورة العلق"
بقلم طارق منينة​
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ .(العلق 1:5)
لقد جاء الوحي الالهي بهذه الكلمات الاولى القليلة، ليعلنها للناس في التوقيت نفسه الذي أُعطى فيه الرسول النبوة والكتاب، وهي بذلك تكون قد افتتحت طريقا جديدا لانقاذ البشرية مع بقية الوحي القرآني وتوجيهات الرسول محمد، ما انتج حضارة قيمة علمية بفضل الله ثم بالوعي الفريد الذي فهم به المسلمون اشارات القرآن ومغزى آياته وشرائعه.
هذه حقيقة يرفضها الغرب الذي أخذ مفاتيح هذه القراءة القرانية ونتائجها الحضارية وانتج بها جوانب من حضارته العلمية، الا انه غيّر من مسار كثير من القواعد العقلية والقيمية التي تعلمها من مراكز العلم في الاندلس وغيرها، وانطلق يخبط خبطاً عشوائياً بلا قيم صحيحة ولاتصور آمن في تعامله مع الكون والانسان واعلن تمرده على الدين كله. وكان الاسلام قد علّمه التمرد على خرافات الكهنوت وانحرافات اللاهوت واساطير الناسوت وطغيان الملك والجبروت وتحالفه مع الاقطاع، واعطاه في الحصص الاندلسية والدروس الصقلية مفاتيح علوم الكون وقواعدها المنهجية بل وعلوم العقل والاجتماع، لكنه ابى بعد ان استوى عوده وانتصر على الكنيسة ان يقبل ( أصل ومنشأ) الاصول التي تعلمها في بلاد صقلية والاندلس وغيرها من بلاد المسلمين، بل وصل الامر الى حد التنكر لمصدر افاقته العقلية والعلمية بل ومحركه الاول في الثورة على الكنيسة وكهنوته المقدس واستغلاله للانسان، وتراجع الى الارسطية والرومانية!
وللاسف فإن كثيرا من العلمانيين العرب تشابهت قلوبهم وعقولهم مع هذا الغرب وتنكر كثير منهم لفضل الاسلام على حضارة الغرب وعلى العالم ورموا الرسول بمفتريات ( شاكر النابلسي نموذجا في كتابيه (لو لم يظهر الاسلام) و(المال والهلال))، بل راح بعضهم يكيل الاتهامات للاسلام نفسه بانه سبب الشقاء واساس البلاء مثل صادق جلال العظم في كتابه (نقد الفكر الديني) واخيرا في (ذهنية التحريم) و(ما بعد ذهنية التحريم)، وانه يجب التخلص منه بتجاوزه فيمكن الاحتفاظ به كفلكلور كما قال فؤاد زكريا (نموذجا مركزيا!)، والتحرر من نصوصه والتخلص من عقائده مثل ما قال نصر ابو زيد وكتابه (نقد النص) و(النص-السلطة-الحقيقة)، ومد نسبه الى الاسطورة وافرازات الوثنيات القديمة كما قال سيد القمني وكتابه (الاسطورة والتراث نموذجا)، واراحة الشرق والغرب من شرائعه وثوابته وعقائده بارجاعها الى مصادر اسطورية، وفضح ما اطلق عليه الاعيبها، الا انه يجب الاحتفاظ بالخيال الديني ولو كان وهما لانه لايمكن نفي الدين مطلقا (!!) كما قال محمد اركون وهاشم صالح، الا ان كلمات الله شاهدة بالحق والتاريخ يشهد بفرادة هذا الدين وانتاجه الحضاري العظيم.
لقد رفعت كلمات الوحي الاولى من قيمة الانسان وتبعتها ايات السور المكية والمدنية تعلن تكريم الله للانسان واعتباره خليفة في الارض وان الله منحه خواص نفسية وعقلية ومادية وروحية للبحث في سنن الله الكونية وقوانينه السماوية والارضية لتتسع مداركه في فهم الحكمة الالهية والاستفاده من ذلك في عمرانه الارض واجتماعه البشري وتطوره المادي والروحي.
لم تكن الايات الخمس الاولى هي المعنية فقط بالقراءة (اقرأ) وانما الوحي كله بدءاً من اللحظة التي جاء بها جبريل عليه السلام بهذه الايات الخمس مفتتحا بها مرحلة جديدة من تاريخ البشرية تتغير بها كافة العلاقات والانظمة وتنقلب بها كافة السلطات والاوضاع التي كانت سائدة وضاغطة على الانسان ومخيبة لطموحاته ومكبلة لعقله وروحه ومستعبده لانسانيته ومذلة لكرامته.
ذكر الله الانسان بالتكريم الاول وبصورة من صور طوره الاول "العلق" كما ربط ذلك بالعلم، ولذلك دعته الايات القرانية الى التفكر فيما سيقرأ من ايات وعلامات واعلانات وتشريعات ووعود! لم يكن النبي محمد كما اخبر الله عزوجل وهو الصادق في خبره الصادق في وعده يدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن الله عزوجل دعاه الى القراءة والاقراء والفهم والتفهيم والذكر والتذكير، فكرمه باشارات اولية الى كرامة خلق الله الانسان كمخلوق فريد يمكنه استخدم وسيلة القلم لتسجيل ملاحظاته الروحية والمادية والتعامل مع قضاء الله وسننه وامره وشرعه.
لقد أُمر رسول الله بأن يكون القارئ الاول للقران وأُعلم ان هذه القراءة قراءة تكريمية الهية مرتبطة بالعلم واداواته وطبيعة بحثه من العلق والذرة الى الفلك والمجرة، كما اتضح من القراءات التالية التي قرأها جبريل على النبي وقرأها النبي على الامة فكانت خير القراءات واعظم الفتوحات التي شاهد العالم نتائجها الروحية والمادية. وفي التمهيد الى ذلك هدم القران كافة انواع الاساطير والخرافات التي احيطت بالكواكب والنجوم حتى نزع عنها الهابة البدائية التي رسختها حضارات الوثنية العالمية واثناء ذلك كان القران نفسه يدعو الى التعامل مع الكواكب والنجوم على انها مسخرة للانسان، فكان هدم اساطير الامم تمهيدا لنظرة جديدة للانسان والكون والطبيعة وسنن الله في الكون والتاريخ والاجتماع البشري.
وكما لم تمض الامور في مكة بلا اشواك او اطلاق اتهامات من قريش، فكذلك لما وجدت المسيحية الغربية واليهود سرعة انتشار الاسلام واخلاقه الآسرة واقبال الناس عليه؛ اطلقت اتهامات واخترعت اساطير استفادت منها العلمانية، فزادت عليها واخترعت اساطيرها عن الرسول والرسالة. وفيما يأتي سنعرض كيف حاول المستشرقون والعلمانيون تلفيق التهم ضد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ونستبق ذلك بعرض قول للمستشرقية الألمانية زيغرد هونكه من كتابها (الإبل على بلاد قيصر)،المولودة عام 1913م وقد توفيت في شهر يونيو عام 1999م أي قبل بداية القرن ال21 بعام واحد بل بشهور قليلة، قالت عن بعض أسباب التشويه لصورة النبي في الغرب:" وكان ذلك الخوف يرجع إلى قوة الجذب التي يتمتع بها الإسلام ، ذلك المنافس الخطير الذي انتشر بصورة مثيرة للفزع، ولقد كانت هناك أسباب عديدة دفعت الكنيسة إلى أن تسدل ستارا حديديا بين الشرق والغرب، منها القلق إزاء تلك التأثيرات المستمرة غير المباشرة للعرب وإزاء قوة الجذب التي يتمتع بها دينهم- الذي إعتنقه طواعية وبأعداد كبيرة من فتح الإسلام بلادهم- بالإضافة إلى حيرتها إزاء التعلق الشديد من جانب المسلمين بدينهم واستعدادهم لبذل انفسهم رخيصة في سبيله، وليس آخرا فإن الكنيسة كانت تخشى من تقاليد العدو المحيرة وثرواته الضخمة وإنجازاته العديدة التي يمكن أن تحدث تأثيرا خطيرا... ولم يقتصر الأمر عند حد تلك العزلة المكانية، فقد أسدلت الكنيسة أيضا ستارا حديديات فكريا على عقول مواطني الغرب، لأنها كانت تعتبر أن المسيحي وحده هو الإنسان الذي يتمتع بكافة الحقوق الإنسانية، وهو من إختارته العناية الإلهية ... لذلك فإنهم عملوا على تصوير أعدائهم في صورة شياطين وعبدة شياطين، وكان تشويه الحقائق على هذه الصورة التي بلغت حد الدعاية الظالمة كفيلا بأن يجعل الناس تصدق مايلصق بعدوهم من سوء... ولقد كان ذلك الخوف هو الذي دفع الكنيسة إلى تصوير محمد صلى الله عليه وسلم على أنه المسيح الدجال أو أحد الهراطقة والصنم الذي تقدم له الأضاحي البشرية"(الإبل على بلاط قيصر ،نقله إلى العربية د. حسام الشيمي ،مكتبة العبيكان،2001م، ط1،ص 37-38)
 
عودة
أعلى