#إذا كنت تشكو من خفّةِ ضبطِ وإتقانِ ما تتعلّمه رغم طول الدّرس ودوام المراجعة
# إذا كنت تترقّى في سلّم العلم، ولكنّك لا تفتأ تسأل نفسك : هل من طريقة أنجعَ وأسرعَ في ارتقائه، ولعلّك لا زلت تجرّب أسلوبا بعد أسلوب ومنهاجا إثر منهاج
# إذا كانت التواريخ سرعان ما تختلط عليك، بعدما ظننتَ كلَّ الظنّ، أنّك جاوزت بها قنطرة النسيان
# إذا كنت تقرأ الحديث النبويّ فيحزنك أنّك تعجز عن تعيين من أخرجه، فكلّ أسماء المحدّثين من المغرب إلى خرسان تتراقص في ذهنك، مع أنّك كنت بالأمس القريب لا تُتعتع فيه
-> إذا كنت أحد هؤلاء فأرجو أن يكون في هذه السلسلة ما يشفي صدرك ويجلو همّك.
إلى عشّاق العلم والمعرفة، الذين لا يزيدهم ورودُ ينابيع العلم ومناهل المعرفة إلاّ ظمأ، ولا تزدادُ حرارة النهم الملتهب في صدورهم، مع كل كتاب وباب وفصل، إلاّ اتقادا، من يرون أنّ التّعلّم منهاج حياة، فهُمْ مع الكتاب حتى يواريهم التراب. أولئك القوم كمسافر ضارب في الأرض، شُقَّته بعيدة، بل لا مستقرّ لها، تتعاوره الفيافي الموحشة والوِهاد العوالي والنِّجاد الغوامض والحدائق الغنّاء والرّياض المُؤنسة. يطوي المراحل ويقطع الفلوات بين شدّ وخبب ودبيب، تتهاداه أراضٍ، منها المنبسطةُ الليّنةُ السهلةُ المسير، ومنها الصلبةُ الوعْرةُ التّي تُجهد السالك فيها، ومنها ذات منارات وأعلام تهدي السالكين، ومنها يهماءُ لا عَلَمَ ولا منارة فيها يُهتدى بها. وبدون أهبة وزاد ومعرفةٍ بالأرض يوشك أن ينقطع الطريق بالمسافر أو يضلَّ الجادّة، والموفّق من هداه الله وأعانه. سأسعى من خلال هذا العمل، أن أنعت لكم سبيلا هداني الله إليها، تختصر عليكم المفاوز وتهوّن عليكم مشقّة السير، تجزعُ بكم التنائف وترقى الجبال وتقطع الأودية وتخوض البحار، في رحلة التعلّم الطويلة، وأدلَّكم على زاد تحملونه معكم، هو أخفّ وزنا وأطيب مذاقا وأحسن غذاءا -إن شاء الله-. ليست هذه السلسلة نقلا لتجربتي الذاتيّة في ميدان التعلّم فلست من فرسانه ولم أطاعن فيه ما طاعن غيري من أهل العلم والفضل، ولكنّي ناقل لما أدّى إليه النّظر والتفكّر في آية من آيات الله، ألا وهي الإنسان، كما قال الحقّ -تبارك وتعالى- (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). ومع أنّ في تراثنا، معشر المسلمين، في هذا الباب ما تقرّ به الأعين، فلا زال بين أيدينا الكثير من الخفايا والأسرار المتعلّقة بالعقل وعمله وقدراته في مجال التعلّم في انتظار أن تُكتشف. وقد سَبَقَنا بنو الأصفر في هذا الميدان -كغيره من الميادين- بتطبيق المنهج التجريبيّ واستخلصوا نتائج قيّمة وحكما نافعة. غير أنّ الآخذ منّا بتلك النتائج والحكم قليلٌ، لذلك أسعى هنا أن أدني لكم ثمارها حتى يتسنى لكم قطافها والتلذّذ بها. وسأكشف لكم زيف بعض المسلّمات الرائجة في ميدان التعلّم وألفتُ انتباهكم إلى مكامن الخطأ والقصور في كثير من طرائقه ووسائله. سأتحرى تبسيطَ مواضيعِ غرضِنا ومسائلِه، وصياغتها بعبارةٍ سهلةٍ مبسّطةٍ، متنكِّبا ذكر التفاصيل العلميّة والبحثيّة والفنيّة، إلاّ ما يخدم غرضنا ولا يحيد بنا عن المقصود. ولكن لا يسعني إلاّ أن أرفُد كلامي بالإحالة على أصوله التي أُخذ منها، وإلاّ ما الذي يجعلك تطمئن لقولي وتركن لنصحي وتعطيه قدرا من اهتمامك ووقتك الثمين؟! ثمّ سأحرص على أن أشفع الشقَّ النظري بشقّ عمليّ عظيم الفائدة والنّفع، فلا بدّ من حشد القوّات والمعدّات اللازمة لوضع الخطّة حيّز التنفيذ، وإلاّ بقيت حبرا على ورق. ربمّا غلب في حديثي الكلامُ عن العلوم الشرعيّة وضربُ المثال بها، فيظنَّ الظانُّ أنّ السلسة تخصّ طلبة العلوم الشرعيّة دون غيرهم، فينسلّ أهل العلوم الماديّة والطبيعيّة، وتلاميذ المدارس والمعاهد وطلاّب الجامعات عبر أزرار الانتقال والروابط إلى شاشات أخرى. فليلتمسوا ليَ العذر فالرجل ابن بيئته، فإذا كنتُ من تلك الزاوية أنظر، فالمشهد أكبر من ذلك. سيجدُ عشّاق العلوم والمعارف على تنوّعها، في هذه السلسلة، ما يفرحهم ويثلج صدورهم -بإذن الله تعالى-. هذا، وما كان من حقّ في ما قلت وسأقول فمن الله وحده، وما كان فيه من خطأ أو زلل فمن نفسي ومن الشيطان، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
كتبه أبو حامد القطّان في ذي القعدة من سنة 1441 للهجرة
ملاحظة هامّة : الرجاء من المتابعين الامتناع عن المشاركة والتعليق حتّى اكتمال السلسلة، ليسهل الاستفادة منها. يمكنكم متابعة السلسلة على منصة تلغرام عبر هذا المعرف : Asmaae_Kollaha
كلّ العلوم والمعارف ترتكز على أساس من الحفظ والفهم، غير أنّ بعضَها يعتمد على الحفظ أكثرَ من الفهم (كالطب والتاريخ)، وبعضَها يعتمد على الفهم أكثرَ من الحفظ (كالرياضيات والبرمجة)، وبين أقصى الطرفين درجاتٌ متفاوتة جدا. يكمن أحد أبرز التحدّيات في العملية التعليميّة في تحقيق التوازن الصحيح بين الفهم والحفظ. وككلّ أمر يكتنفه طرفان، يفترق النّاس فيه ثلاث طوائف : أهل إفراط وأهل تفريط وأهل قصد. فيجنحُ أهل التفريط إلى الاعتماد على الحفظِ كوسيلة أساسيّة لضبط العلوم وإتقانِها، حتّى لو كان ذلك العلم يعتمد بقوّة على الفهم والتحليل والاستنباط. ويُعزى ذلك إلى أسباب أهمّها : - الإحساس القويّ بالضبط والإتقان الذي يمدّه الحفظ لصاحبه.
– خشية المُتعلّم من الارتكاز على فهمه بعيدا عن الألفاظ والمصطلحات والتعريفات الخاصة بالعلوم، خاصة في بدايات الطلب.
– صعوبة فهم بعض المسائل والفروع يدفع المتعلّم إلى تعطيل ملكة الفهم عنده والاتكال على ملكة الحفظ، طلبا لما تهواه النفس من الدَّعَة والرّاحة. - نمط شخصيّة المتعلّم. - التقليد المحض ومجاراة الأقران. أمّا أهل الإفراط فلا يرفعون بالحفظ رأسا، ويتكلون على الفهم وحده، وحجتهم أنّ الحفظ ليس إلاّ وسيلة للفهم، فإذا تحققت الغاية بأي وسيلة كانت، فلا ضير. وإنّما أُتي هؤلاء من ضعف إدراكهم للعلاقة بين الفهم والحفظ، فإنّ كلاّ منهما يمدّ قرينه ويحوطه. فلا غنى لطلاّب العلوم والمعارف عن حفظ يستمدون وينفقون منه في كلّ حين، وما أجمل أن يكون الطالب والعالم ضابطا مُستوثِقا غير مُجمجمٍ ولا مُرتعش، وما أقبح أنّ تكون سائر بضاعته : لعلّ وربما و"أو كما قال" و"إن لم تخنّي الذاكرة". أمّا أهل القصد فهم الذين هُدوا إلى حلّ المعادلة الصعبة، فخلطوا بين الفهم والحفظ دون إسراف ولا تقتير. ومن أعظم مقاصد هذه السلسلة أن "نعيّر" ميزان المتعلّم حتّى يسلم من الميل والطغيان.
كلّ العلوم والمعارف ترتكز على أساس من الحفظ والفهم، غير أنّ بعضَها يعتمد على الحفظ أكثرَ من الفهم (كالطب والتاريخ)، وبعضَها يعتمد على الفهم أكثرَ من الحفظ (كالرياضيات والبرمجة)، وبين أقصى الطرفين درجاتٌ متفاوتة جدا. يكمن أحد أبرز التحدّيات في العملية التعليميّة في تحقيق التوازن الصحيح بين الفهم والحفظ. وككلّ أمر يكتنفه طرفان، يفترق النّاس فيه ثلاث طوائف : أهل إفراط وأهل تفريط وأهل قصد. فيجنحُ أهل التفريط إلى الاعتماد على الحفظِ كوسيلة أساسيّة لضبط العلوم وإتقانِها، حتّى لو كان ذلك العلم يعتمد بقوّة على الفهم والتحليل والاستنباط. ويُعزى ذلك إلى أسباب أهمّها : - الإحساس القويّ بالضبط والإتقان الذي يمدّه الحفظ لصاحبه.
– خشية المُتعلّم من الارتكاز على فهمه بعيدا عن الألفاظ والمصطلحات والتعريفات الخاصة بالعلوم، خاصة في بدايات الطلب.
– صعوبة فهم بعض المسائل والفروع يدفع المتعلّم إلى تعطيل ملكة الفهم عنده والاتكال على ملكة الحفظ، طلبا لما تهواه النفس من الدَّعَة والرّاحة. - نمط شخصيّة المتعلّم. - التقليد المحض ومجاراة الأقران. أمّا أهل الإفراط فلا يرفعون بالحفظ رأسا، ويتكلون على الفهم وحده، وحجتهم أنّ الحفظ ليس إلاّ وسيلة للفهم، فإذا تحققت الغاية بأي وسيلة كانت، فلا ضير. وإنّما أُتي هؤلاء من ضعف إدراكهم للعلاقة بين الفهم والحفظ، فإنّ كلاّ منهما يمدّ قرينه ويحوطه. فلا غنى لطلاّب العلوم والمعارف عن حفظ يستمدون وينفقون منه في كلّ حين، وما أجمل أن يكون الطالب والعالم ضابطا مُستوثِقا غير مُجمجمٍ ولا مُرتعش، وما أقبح أنّ تكون سائر بضاعته : لعلّ وربما و"أو كما قال" و"إن لم تخنّي الذاكرة". أمّا أهل القصد فهم الذين هُدوا إلى حلّ المعادلة الصعبة، فخلطوا بين الفهم والحفظ دون إسراف ولا تقتير. ومن أعظم مقاصد هذه السلسلة أن "نعيّر" ميزان المتعلّم حتّى يسلم من الميل والطغيان.
إذا كانالتوازن بين الحفظ والفهم هو مفتاح المعادلة الصعبة، فكيف نظفر عمليا بذلك التوازن؟ أولا ينبغي أن نقرّر قاعدة جليلة هي : الفهم مقدّم على الحفظ منزلةً ووقتًا، هذا أصل جامع ينبغي أن لا نحيد عنه. إنمّا الحفظ خادم للفهم، ووراء الفهمِ غايات شتى، ولا ينبغي أن نحفظَ لمجرّد الحفظ. حتّى في القرآن المتعبَّدِ بتلاوته، أعظمُ المقاصد من تلاوته وسماعه، تدبّرُه والعملُ به، والحفظُ وسيلة لذلك. اسمع إلى ما يقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- : "لقد عِشنا بُرْهة من دهرنا وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلَّم حلالَها وحرامَها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فيَنْثُره نثْرَ الدَّقَل”. وممن ذكر هذه القاعدة برهان الإسلام الزرنوجي -رحمه الله- في كتابه القيّم "تعليمُ المتعلِّم طريقَ التعلُّمِ" فقال : "ولا يكتب المتعلّمُ شيئاً لا يفهمه، فإنه يورث كلالةَ الطّبع ويُذهبُ الفطنة ويضيّع أوقاته … قيل: حفظ حرفيْن، خير من سماع وقرين، وفهم حرفين خير من حفظ سطرين.”اهـ. وعليه فالتسلسل المنطقيّ هو أن تبدأ بفهم مادّة العلم، ثمّ تلجأ إلى الحفظ لصيانة ما فهمته من غائلة النسيان. ولهذه القاعدة شواذ وشوارد، ربمّا نأتي عليها أو على بعضها في المقام اللائق بها.
غير أنّ المعمول به عند كثير من المعلّمين والمتعلّمين هي إحدى خطّتين : الخطّة المعكوسة، أو خطّة التوازي. فالخطّة المعكوسة هي تقديم الحفظ على الفهم، كمن يحفظ المتن قبل أن يقرأ أو يسمع شرحه. وخطّة التوازي هي الفهم والحفظ في آن واحد، ومِثَالُه أن تجعل المتن أجزاءا، فتقرأَ أو تسمعَ شرحَ جزء ثمّ تحفظَه، ثمّ تنتقلَ إلى الجزء الذي يليه، وهكذا دواليك. ومع أنّ خطّة التوازي أحسن وأنجع من الخطّة المعكوسة، ولكنْ كلاهما قد يفضي إلى إسراف في الحفظ أو ما أسمّيه #الحفظ_الجائر. وحتّى لا أثقل عليكم بالكلام النظريّ المجرد فلأضرب لكم مثالا من علم النحو، ففي باب الإعراب من نظم العمريطي -رحمه الله- على المقدمّة الآجرُّومِيَّة، يسبك النّاظم علم هذا الباب في 5 شذرات فيقول : إِعْرَابُهُمْ تَغْييرُ آخِرِ الْكَلِمْ...........تَقْدِيراً أو لَفْظاً لِعَامِلٍ عُلِمْ أَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ فَلْتُعْتَبَرْ...............رَفْعٌ وَنَصْبٌ وَكَذَا جَزْمٌ وَجرْ وَالكُلُّ غَيْر الجَزمِ فِي الأَسمَا يَقَعْ.....وَكُلُّهَا فِي الْفِعْلِ وَالْخَفْضُ امْتَنَعْ وَسَائِرُ الأَسْمَاءِ حَيْثُ لاَ شَبَهْ........قَرَّبَهَا مِنَ الحُرُوْفِ مُعْرَبَهْ وَغَيْرُ ذِي الأَسْمَاء مَبْنِيُّ خَلاَ.........مُضَارِعٍ مِنْ كُلِّ نُونٍ قَدْ خَلاَ لا شكّ أنّها أبيات رائقة لناظم بارع -رحمه الله وغفر له-. لكن من تعلّم النحو، ومارسه ولو شيئا يسيرا، تراه ضابطا أشدّ الضبط للعلم المبثوث في هذا الباب، دون الحاجة إلا استدعاء الأبيات، بل لا يكاد محتوى هذا الباب يحتاج إلى تفكير (قد يستثنى من هذا حدّ الإعراب في البيت الأوّل) . فلو سألت المبتدئ في علم النحو : - ما أنواع الإعراب؟ لأجابك دون تلعثم : رفع وجرّ ونصب وجزم - ما أنواع الإعراب التي تعتري الاسم؟ لأجاب قبل أن تُتِمَّ السؤال : كلّها إلا الجزم - ما أنواع الإعراب التي تعتري الفعل؟ كلّها إلاّ الخفض - ما الأصل في الأسماء من حيث الإعراب والبناء؟ الإعراب إلاّ ما أشبه منها الحرف - ما الأصل في الأفعال من حيث الإعراب والبناء؟ البناء إلاّ ما أشبه منها الاسم إذا كان هذا المستوى من الضبط في حقّ المبتدئ من طلبة النحو، فهل تتصوّرون أنّ الطالب المتقدّم أو العالم سيحتاج إلى استدعاء محفوظه في هذا الباب من العلم سواء كان من نظم العمريطي أو الألفيّة أو غيرها؟! عمليّا لن يحتاج الطالب في مسيرته العلميّة إلى استدعاء شيء من هذا الباب، إلاّ البيت الأوّل ربما، وقس عليها أمثالها في كل علم وفي كل باب، فيهدر الطالب من وقته الكثير في ما لا طائل تحته. لا يمكن تفادي هذا #الحفظ_الجائر إلاّ بتطبيق قاعدة : الفهم مقدّم على الحفظ منزلةً ووقتًا. فكلا الخطتين : المعكوسة وخطّة التوازي، وهما الأكثر شيوعا بين طلبة العلم الشرعي خصوصا، لا تراعى فيهما هذه القاعدة حقّ المراعاة. قد لا تدركون حجم الخسائر إلاّ إذا تكلمنا بلغة الأرقام، لأنّي أعرف أنّ كثيرين لن يقتنعوا حتّى تلجمهم حجج لا قبل لهم بدفعها، لأن الإلف والعادة تحجب عنهم الصورة الحقيقيّة. سأتناول هذا الموضوع بتفصيل أكثر في الفصول القادمة -إن شاء الله-، خاصّة تلك التي تتحدّث عن الحافظ الشنقيطيّ الخارق.
لعلّ الطريقة الأكثر شيوعا لفهم وضبط ما نتعلّم من الكتب أو المعلّمين والشيوخ هو : التّكرار. ولست أعني هنا التكرار من أجل الاستظهار، وهو الذي نسمّيه "حفظا"، ولكن أعني التكرار من أجل الفهم والضبط. ينبئنا حدسُنا وذوقُنا أنه كلما كرّرنا الدرس أكثر أضحينا أضبط وأوعى لمسائله، وربما تلقّينا نصائح متواترة من جهات موثوقة عندنا باعتماد هذا الأسلوب. وهكذا ننفق الساعات الطوال في القراءة مرارا وتكرارا حتى يراودنا شعور بالرضا عن فهمنا وإتقاننا لطائفة العلم المعنيّة. غير أنّ هذا الشعورَ غالبا، شعورٌ زائف مُضلِّل لا يعكس الحقيقة. تثبت الأبحاث والتجارب أنّ هذا النوع من القراءة، ويسمّى القراءة السلبيّة، لا يبني الحفظ المتين طويل الأجل، ويعطي شعورا زائفا بالفهم والإتقان، بل لا تعدو فائدته "إرهاقَ العينين وعظامِ الرقبة”(1). وأنا أسمّيها قراءة الهذّ، لأنّها أقرب ما تكون لقراءة الرجل الذي قال له عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- "هذّا كهذّ الشعر"، حين أخبره أنّه يقرأ المفصّل في ركعة. قدرتك على الإتيان بألفاظ الكتاب أو الشيخ لا يعني أنّك فهمت فحوى الكلام وضبطت معناه. ولكن عادة ما تخدعنا عقولنا، أو نخدعها، فنمرّ على المسألة التي قرأناها مرارا -والتي لا نفهمها في الواقع-، ونشعر أنّه لا حاجة للوقوف عندها لأنّه لا حاجة أن نتعلّم ما لا نعلم!!! ثمّ إذا سُئلنا عن تلك المسألة أو اختُبرنا فيها ظهرَ عجزُنا وافتُضح جهلنا ورُحنا نجمجم ونتلعثم، كأنّ ما ظنّناه مقيّدا بزمام وثيق قد فكّ قيده وغاب في الأفق البعيد وحالت بيننا وبينه طبقة كثيفة من ضباب الجهل. في تجربة أجراها علماء جامعة واشنطن، قرأ مجموعة من الطلاّب مادة دراسية وأعادوا قراءتها على الفور، بينما قرأت مجموعة ثانية من الطلاب المادّة مرة واحدة فقط. اختُبرت المجموعتان اختبارًا فوريًا بعد القراءة، وكان أداء المجموعة التي قرأت مرتين أفضل قليلاً من المجموعة التي قرأت مرة واحدة. لكن في اختبار متأخر، تلاشت فائدة القراءة الفورية، وكان أداء المجموعة الأولى على نفس مستوى المجموعة الثانية التي قرأت المادة مرّة واحدة. (2) من عيوب قراءة الهذّ "تسطيح" المادّة العلميّة، أي جعل الدرس كلّه في مستوى واحد عند الطالب من ناحية الفهم والضبط، وهو ما يخالف الواقع في أغلب الأحيان. فإنّك ربما قرأت الدّرس فضبطتَ بعض مسائله من القراءة الأولى، وبقي بعضها عصيّا على الفهم حتى بعد القراءة العاشرة، وبين هذا وذاك درجات ودركات. وهكذا يغدو الدرس الواحد كأرض فيها وهاد ونجاد وأودية وجبال وقفار ورياض. فإذا راجعت الدرس جملة واحدة بطريقة القراءة السلبيّة، أنزلت شعبه المختلفة -من جهة الفهم- منزلة واحدة، ولا يمكن تفادي ذلك إلاّ بتجزئة الدّرس إلى أصغر وحدة ممكنة، وهو ما سنبيّن كيفَه في الجانب العمليّ من السلسلة. فالكيّس من أنزل كل مسألة من العلم منزلتها، وخصّها بمعاملة تليق بها، فإنّه يوفّر بذلك على نفسه وقتا وجهدا ثمينَين. والأمر ذاته يصدُقُ على الحفظ وسنعرض لذلك في موضعه بإذن الله. ومن الاستراتيجيّات التعليمّية الشائعة : التسطيروالتظليل (وضع سطر تحت الكلمات المفاتيح والعبارات الجامعة أو تظليلها بلون مغاير)، وهذه الاستراتيجيات لا تفوق التكرار كفاءة، ولا تُخرجُ مستعمِلها عن المنهج السلبيّ في التعلّم. هل يعني ذلك أنّ التكرار استراتيجية تعليميّة فاشلة مطلقا؟ الجواب : حتما لا، فحديثنا منصبّ على التكرار السلبيّ، وستفهم الفرق بينه وبين التكرار الإيجابيّ، الضروريّ للضبط والإتقان، قريبا إن شاء الله.
(1) العبارة من السفر النافع الماتع "المرقاة" للشيخ سليمان العبودي -حفظه الله ونفع به-. (2) مترجم من كتاب “Make it stick” من تأليف ثلاثة باحثين غربيين، وهو أحد أهمّ المراجع التي استفدت منها في إعداد هذه السلسلة، غير أنّه لم يترجم إلى العربيّة بعدُ.